الفصل الثالث
وأول ما ينبغي أن نتبينه لنستطيع الإجابة عن هذا السؤال هو طبيعة هذه الحكومة التي حكمت المسلمين منذ أسست الدولة حين هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة إلى أن قتل عمر واستخلف عثمان، فقد يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن هذه الحكومة، أو بعبارة أدق أن نظام الحكم في هذا العهد القصير، قد كان نظامًا ثيوقراطيًّا يعتمد قبل كل شيء وبعد كل شيء على الدين. ولما كان الدين في هذه البيئة الخاصة دينًا سماويًّا منزلًا، فقد يظن أصحاب هذا الرأي أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأنًا في هذا السلطان، ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه، أو يعترضوا عليه، أو ينكروا منه قليلًا أو كثيرًا. وقد يخيل إلى الذين يذهبون هذا المذهب أن من أصرح الدلائل على ذلك وأصدقها، أن النبي هو الذي أسس هذه الدولة بأمر من الله عز وجل، فالله أمره أن يهاجر إلى المدينة، والله دعا المسلمين من أهل مكة إلى أن يهاجروا معه، والله أوحى إلى النبي بمجملات ومفصلات من الحكم، والله قال في سورة النجم: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ.
والله أمر المسلمين أن يطيعوا الله ورسوله، وبين لهم أنهم لن يؤمنوا حتى يُحكموا النبي فيما شجر بينهم، وقد يضيفون إلى ذلك أن أبا بكر كان خليفة رسول الله، وأن عمر كان خليفة أبي بكر؛ فقد تنزل الحكم إذن من النبي إلى هذين الإمامين الراشدين، والنبي إنما تلقى السلطان من الله عز وجل؛ فنظام الحكم إذن في هذا العهد إنما هو النظام التيوقراطي الإلهيُّ لا أكثر ولا أقل. ولا أشك في أن هذا الرأي أبعد الآراء عن الصواب؛ فقد كان الإسلام وما زال دينًا قبل كل شيء وبعد كل شيء، وجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا وفي الآخرة بما بين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولًا، وبتصديق النبي ثانيًا، وبتوخي الخير في السيرة بعد ذلك، ولكنه لم يسلبهم حريتهم ولم يملك عليهم أمرهم كله، وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم، ولم يُحْصِ عليهم كل ما ينبغي أن يفعلوا، وكل ما ينبغي أن يتركوا، وإنما ترك لهم عقولًا تستبصر، وقلوبًا تستذكر، وأذن لهم في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصالح الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا.
وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر، ولو قد كان الحكم متنزلًا من السماء لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه لم يشاور فيه أحدًا ولم يؤامر فيه وليًّا من أوليائه، فكيف والله يقول له: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. ومن قبل هذه الآية التي نزلت فيما نزل من القرآن بعد محنة أحُد، قبل النبي مشورة أصحابه في غزوة بدر حين نزل بهم منزلًا فسأله بعضهم: أعن أمر من الله نزل بهم هذا المنزل، أم هو الرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والمكيدة. فأشير عليه حينئذ أن يمضي بالمسلمين عن هذا المنزل الذي لم يكن يلائم خطط الحرب حتى ينزل بهم في المنزل الملائم قريبًا من الماء. ثم قبل رأي أصحابه بعد وقعة بدر فيما كان من أمر الأسرى، وتعرض في ذلك لما أصابه من اللوم الذي نزل به القرآن في قول الله عز وجل: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. وكان النبي يرى حين بلغه سير قريش إليه في وقعة أحد أن يقيم في المدينة ولا يخرج بأصحابه للقاء قريش بالعراء، وأن يَذُودَ قريشًا إن هاجمت المدينة، ولكن أصحابه، والأنصار منهم خاصة، ألحوا في الخروج إلى عدوهم، فنزل النبي عند رأيهم، ثم دخل ليلبس لَأْمته، وندم المسلمون أثناء ذلك لأنهم استكرهوا رسول الله على ما لم يحب، فلما خرج إليهم في سلاحه اعتذروا إليه واستأذنوه في الرجوع إلى رأيه، فأبى ومضى على عزيمته. ولو كان الحكم إلهيًّا يتنزل دائمًا من السماء لما استطاع المسلمون أن يستكرهوا رسول الله على ما لا يريد، ولما قبل النبي منهم ذلك مهما تكن الظروف. وعن المشورة والاعتماد على رأي أصحابه صدر النبي حين أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
ففي هذه المواطن كلها وفي مواطن أخرى شاور النبي أصحابه وقبِل رأيهم عن رضًا، أو نزل عند رأيهم إيثارًا لرضاهم، فلما كان يوم الحديبية شاور النبي أصحابه بعد أن عرضت عليه قريش ما عرضت من الرجوع عن مكة عامَهُ ذاك دون أن يزور البيت، فكره أصحابه إجابة قريش إلى ما طلبت، وألحَّ النبي في ذلك، وضاق بعض أصحابه بهذا الإلحاح، حتى قال له عمر: لِمَ نُعطي الدَّنِيَّة في ديننا؟! هنالك ظهر الغضب في وجه النبي، وقال: أنا رسول الله وعبده. فعلم المسلمون أن الأمر ليس أمر مشورة ومفاوضة، وإنما هو أمر قد نزل به الوحي من السماء، فتابوا إلى الله وثابوا إلى نبيهم، وأنزل الله في ذلك: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا إلى آخر الآية.
ولو أردنا أن نستقصي المواطن التي شاور فيها النبي أصحابه لطال بنا الحديث إلى أبعد مما نريد. ولكن في هذه الأحداث اليسيرة التي رويناها ما يكفي لإثبات أن الحكم في أيام النبي لم يكن يتنزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما الوحي كان يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل. وربما كان من أصدق الأدلة وأقطعها على ما نذهب إليه أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيمًا مجملًا أو مفصلًا، وإنما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ورسم لهم حدودًا عامة، ثم ترك لهم تدبير أمورهم كما يحبون على ألا يتعدوا هذه الحدود، وأن النبي نفسه لم يرسم بِسُنَّتِهِ نظامًا معينًا للحكم ولا للسياسة، ولم يستخلف على المسلمين أحدًا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب حين ثقل عليه المرض، وإنما أمر أبا بكر فصلى بالناس، وقال المسلمون بعد ذلك: رضيه رسول الله لأمور ديننا فما يمنعنا أن نرضاه لأمور دنيانا؟! ولو قد كان للمسلمين نظام سياسي منزل من السماء لرسمه القرآن أو لبين النبي حدوده وأصوله، ولفرض على المسلمين الإيمان به والإذعان له في غير مجادلة ولا مناضلة ولا مماراة.
وأخرى تدل على أن نظام الحكم في أيام النبي وصاحبيه لم يكن إلهيًّا منزلًا من السماء، وهي البيعة التي سنها رسول الله للمسلمين حتى في أيامه هو، والناس جميعًا يعلمون أنه استنفر أصحابه لوقعة بدر ولم يأمرهم بها أمرًا، وإنما دعاهم إليها ورغبهم فيها ووعدهم بأمر الله إحدى الحسنيين، وكان العهد بينه وبين الأنصار ألا يخرجهم لقتال، وأن يدافعوا عنه إذا تعرض للأذى، فلما كانت غزوة بدر شاور أصحابه وانتظر أن يُدلوا إليه بآرائهم، ولم يمض بهم إلى القتال حتى قال له زعماء الأنصار: لو سلكت بنا هذا البحر لاتبعناك، فعرف أنهم يرضون أن يخرجوا معه للقتال. والناس جميعًا يعلمون أنه لم يأمر أصحابه بقتال قريش حين بلغه أنها مكرت بعثمان يوم الحديبية، وإنما ندبهم لذلك فبايعوه على الموت، ولو قد شاء أحدهم ألا يبايع لكان له مخرج، ولكنهم بايعوه جميعًا؛ لأنهم كانوا يؤمنون به وبالله الذي أرسله ويستجيبون إذا دعاهم. وقد أنزل الله في هذه البيعة من سورة الفتح: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. وفي القرآن آيات كثيرة تُرَغِّبُ المؤمنين في الجهاد وتدعوهم إليه، وتذكر الذين تخلفوا عن الجهاد فعذرهم الله ورسوله، والذين تخلفوا وتكلفوا الأعذار فلم يقبل منهم، ولكن النبي مع ذلك لم يعاقبهم ولم يعرض لهم بما يكرهون، وإنما ترك أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء تاب عليهم.
وليس أقل من هذا خطرًا أن أمر الخلافة كله قام على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقدًا بين الحاكمين والمحكومين، يعطي الخلفاء على أنفسهم العهد أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل، وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي ما وسعهم ذلك، ويعطي المسلمون على أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا.
وما من شك في أن خليفة من خلفاء المسلمين ما كان ليفرض نفسه وسلطانه عليهم فرضًا، إلا أن يعطيهم عهده ويأخذ منهم عهدهم، ثم يمضي فيهم الحكم بمقتضى هذا العقد المتبادل بينه وبينهم. ومن أجل ذلك لم يورث السلطان عن النبي وراثة؛ لم يرثه عنه أهل بيته، ولم يرثه عنه أبو بكر نفسه، وإنما تلقى هذا السلطان من الجماعة التي بايعته به وائتمنته عليه، ثم لم يرث أبناء أبي بكر عنه الخلافة، ولم يرثها عنه عمر نفسه، وما كان استخلاف أبي بكر لعمر إلا مشورة على المسلمين، وآية ذلك أن عهد أبي بكر لم ينفذ ولم يصبح عمرُ خليفة إلا بعد أن بايعه المسلمون رضًا برأي أبي بكر وقبولًا لمشورته، وآية ذلك أيضًا أن عثمان خرج بعهد أبي بكر إلى الناس مختومًا وأبو بكر لم يمت بعد، فقال لهم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم؛ لأنهم كانوا يثقون بأبي بكر ويرضون رأيه ويرون أنه لهم ناصح وبهم رءوف. ولم يرث أبناء عمر عنه الخلافة، وكره عمر أن تكون الخلافة بعده في أحد من ولده، وأشرك ابنه عبد الله في الشورى على ألا يكون له في الأمر شيء، ومن أجل ذلك أيضًا سخط عامَّة المسلمين على توريث السلطان في أيام معاوية، وقال قائلهم: إنه جعلها هرقلية أو كسروية. فإذا دل هذا كله على شيء، فإنما يدل على أن الحكم أيام النبي لم يكن مفروضًا من السماء لا رأي للناس فيه. وإذا كان الأمر كذلك أيام النبي الذي كان يتنزل عليه الوحي، فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه بعد أن تقطع عن الناس خبر السماء.
والذين يظنون أن نظام الحكم في هذا الصدر من حياة المسلمين كان إلهيًّا، يُخدعون عن رأيهم هذا بما يجدون في أحاديث الخلفاء وخطبهم، وفي أحاديث الناس عنهم وإليهم من ذكر الله وأمره وسلطانه وطاعته؛ يحسبون أن هذا كله يدل على أن نظام الحكم منزل من السماء، مع أنه لا يدل في حقيقة الأمر إلا على شيء يسير خطير في وقت واحد، وهو أن الخلافة عهد بين المسلمين وخلفائهم، وأن الله أمر المسلمين بأن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا سواء أكان هذا العهد متصلًا بشئون الحكم، أم متصلًا بالعلاقات الخارجية، أم متصلًا بما يكون بين الأفراد من العهود والمواثيق؛ فالله يأمر باحترام العهود، والله شاهد على ضمائر الناس حين يوفون بالعهود أو ينكثونها، والله يثيب من وفى بالعهد ويعاقب من نكثه عقابًا شديدًا.
فليس بين الإسلام وبين المسيحية مثلًا فرق من هذه الناحية؛ فالإسلام دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوجه إلى الخير ويصد عن الشر، ويريد أن تقوم أمور الناس على العدل وتبرأ من الجور، ثم يخلي بعد ذلك بينهم وبين أمورهم يدبرونها كما يرون ما داموا يرعون هذه الحدود. ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه، ولأمر ما قال عيسى عليه السلام للذين جادلوه من بني إسرائيل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» وما أشك في أن عيسى عليه السلام لم يرد أن يعطي ما لقيصر لقيصر بغير حقه، أو أن تقوم الصلة بين قيصر وبين الناس على الظلم والجور والخوف.
وسنرى في غير هذا الموضع من هذا الحديث أن من المسلمين من أنكر على بعض العمال أيام عثمان قولهم: إن ما كان يأتي من الفيء ويجنى من الخراج مال الله، وقالوا: هو مال المسلمين، وتعرضوا في سبيل ذلك لبعض الأذى. ولو قد فهم المسلمون نظام الحكم في ذلك الصدر من حياتهم على أنه نظام إلهي، لما أنكروا أن يقال مال الله؛ لذلك اعتذر معاوية من هذا التعبير حين أُنكِر عليه، بأن الناس وما ملكوا لله، فهم عباد الله ومالهم مال الله.
لم يكن نظام الحكم إذن أيام النبي تيوقراطية مقدسة، وإنما كان أمرًا من أمور الناس، يقع فيه الخطأ والصواب، ويتاح للناس أن يعرفوا منه وأن ينكروا وأن يرضوا عنه ويسخطوا عليه.
ويظن آخرون أن نظام الحكم أيام النبي وصاحبيه قد كان نظامًا ديمقراطيًّا، وهذا تَجَوُّزٌ في الألفاظ وخروج بها عن الدقائق من معانيها. وقد ينبغي أن نتبين معنى الديمقراطية بالدقة قبل أن نقول إن نظام الحكم هذا كان أو لم يكن ديمقراطيًّا. والديمقراطية لفظ يدل به على حكم الشعب بالشعب وللشعب، أي على أن يختار الشعب حكامه اختيارًا حرًّا، ويراقبهم مراقبة حرة؛ ليتبين أنهم يحكمونه لمصلحته هو لا لمصلحتهم هم، ويعزلهم إن لم يرض عن حكمهم ولم يطمئن إلى الثقة بهم.
كذلك فهمت الديمقراطية في العصور القديمة عند اليونان، وكذلك تُفهم الديمقراطية في العصور الحديثة عند الأمم التي تصطنع هذا النظام، على اختلاف مع ذلك في فهم كلمة الشعب؛ فهذه الكلمة كانت تضيق في أيام اليونان مثلًا، حتى لا تدل إلا على جماعة ضئيلة من المواطنين لهم وحدهم جميع الحقوق يستوون فيها أمام القانون، على حين لا تستمتع الكثرة الكثيرة من هذه الحقوق بشيء ولا تساهم من أمور الحكم بنصيب. وكان هذا اللفظ يتسع بعد الثورة الفرنسية إلى حيث يشمل عددًا ضخمًا من المواطنين يكون لهم الاستمتاع بالحقوق السياسية، ولكنه لا يشملهم جميعًا؛ فهو محدد بملك مقدار من المال، أو أداء مقدار معين من الضرائب، أو تحصيل قدر معين من الثقافة. ثم اتسع في آخر القرن الماضي حتى شمل المواطنين جميعًا من الرجال منذ يبلغون الرشد، ثم اتسع في هذا القرن حتى شمل المواطنين من الرجال والنساء منذ يبلغون الرشد. وللديمقراطية بعد ذلك، سواء أكانت ضيقة أم واسعة، نظم مقررة تكفل استمتاع الشعب بحقوقه واختياره لحكامه ومراقبته لهؤلاء الحكام.
فإذا فهمت الديمقراطية على هذا المعنى الدقيق، فليس من شك في أن نظام الحكم في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطيًّا؛ فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق، وليس الشعب هو الذي اختار النبي ليبلغه رسالات ربه وليقيم الأمر فيه بالقسط والعدل، ولكن الله أرسل رسوله فاتبعه من اتبعه وخالف عنه من خالف عنه، وإذا قلنا إن الذين اتبعوا النبي من أصحابه قد اختاروه ليكون لهم حاكمًا، فهم لم يختاروه على النحو الذي يُختار عليه الحكام في النظام الديمقراطي، وهم لم يكونوا يراقبونه ولا يحاسبونه، وإنما كان النبي يستشيرهم فيشيرون عليه، وكانوا يشيرون عليه حسبة أحيانًا، وكان يقبل منهم أو لا يقبل. وليس من الدقة في شيء أن يقال إن حكم أبي بكر وعمر قد كان حكمًا ديمقراطيًّا بالمعنى التدقيق، فليس كل المسلمين قد اختاروا أبا بكر وعمر لأمر الخلافة، وإنما اختارهما فريق بعينه من المسلمين، وهم أولو الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، على ما كان بينهم في ذلك من اختلاف أول الأمر.
ولم يُستأمر العرب الذين مات النبي وهم مسلمون من أهل مكة والطائف والبادية في اختيار أبي بكر أو عمر، وإنما اختارهما أهل المدينة فسمع لهما سائر المسلمين وأطاعوا؛ ولذلك لم يكن غريبًا قول من قال من أصحاب الردَّة:
ثم لم يكن للشعب، بل لم يكن لهذا الفريق من المهاجرين والأنصار، نظام معين مقرر محدد يراقبون به سيرة الخلفاء ويحاسبونهم على ما يأتون وما يدعون، وإنما كان الخلفاء يستشيرونهم فيشيرون عليهم؛ يستشيرونهم مجتمعين حينًا ومتفرقين حينًا آخر. وكان لمن شاء من المهاجرين والأنصار أن يشير على الخليفة حسبة، فيقبل الخليفة منه أو لا يقبل؛ وإذن فلم يكن نظام الحكم في ذلك الصدر من حياة المسلمين نظامًا ديمقراطيًّا بمعناه الدقيق في الفقه الدستوري عند القدماء أو المحدثين.
فإذا أطلق لفظ الديمقراطية على هذا المعنى العام الذي يفهم منه حاجة الحكام إلى رضا الشعب عنهم وثقة الشعب بهم، وأخذ الحكام أنفسهم بأن يسيروا في الشعب سيرة تقوم على العدل والمساواة، وتبرأ من التسلط والاستعلاء؛ فأنت تستطيع أن تقول: إن نظام الحكم في الصدر الأول للإسلام قد كان نظامًا ديمقراطيًّا بهذا المعنى العام الذي ليس له مقاييس ولا معايير ولا حدود، وسترى أثر ذلك فيما عرض للمسلمين من أمور الفتنة أيام عثمان.
وقوم آخرون قد يظنون أن نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام قد كان نظام السلطان الفردي العادل، فلم يكن للنبي ولا لصاحبيه من بعده شركاء في الحكم، وإنما كان لهم من أصحابهم مشيرون لا يلزمون بمشورتهم أحدًا. ولكن النبي وصاحبيه كانوا على ذلك يتوخون العدل ولا يتوخون غيره. وهذا النحو من التفكير يقرِّب نظام الحكم إلى حد ما من النظام الذي عرفه الرومان أيام الملوك والقياصرة؛ فقد كان ملوك روما وقياصرتها لا يتوارثون الحكم حتمًا، وإنما يُنتخب أكثرهم له انتخابًا، وكان أحدهم إذا انتخب ولي الأمر حياته كلها إلا أن تخلعه منه ثورة أو انتقاض. وكل ما يكون من الفرق بين هذا النظام الروماني وبين النظام الإسلامي أيام النبي وصاحبيه، هو أن العدل كان وحده قوام الحكم فيما عرف المسلمون من هذا النظام؛ على حين كان ملوك الرومان وقياصرتهم يتجاوزون العدل والقسط في كثير من الأحيان. وليس هذا الرأي أكثر دقة من الرأيين السابقين.
فنحن نعلم أن قد كان للدين سلطانه في اختيار الملوك والقياصرة عند الرومان، وفيما يكون من سيرة هؤلاء الملوك والقياصرة. ولكن الفرق بين النظام الروماني والإسلامي، هو الفرق بين دين ودين، كما أنه الفرق بين جنس وجنس وبين بيئة وبيئة؛ فلم يكن للدين الذي سيطر على ملوك الرومان خاصة وعلى قياصرتهم إلى حد ما، من النقاء والسمو ما يشبه نقاء الديانات السماوية من قريب أو بعيد. إنما كان دين الرومان يقوم على العيافة والزجر واستطلاع ضمائر الغيب بطرق نقرؤها الآن فنبتسم لها ونضحك منها، وكان تطور الشعب الروماني من حياته الساذجة الأولى إلى حياته المعقدة مباعدًا كل البعد لتطور الشعب العربي من جاهليته إلى إسلامه؛ فقد كان التطور الروماني ماديًّا، إن صح هذا التعبير، نشأ من تقدم الحضارة قليلًا قليلًا؛ على حين كان التطور العربي معنويًّا، نشأ من تغير النفس العربية بتأثير الإسلام، فكأنه كان تطورًا من داخل إلى خارج، تغيرت النفس العربية فتغيرت الحياة المادية للعرب؛ على حين كان التطور الروماني من خارج إلى داخل، تغيرت ظروف الرومان الخارجية فتطورت نفوس الرومان وضمائرهم.
والبيئتان من بعد ذلك مختلفتان بمقدار ما يكون الاختلاف بين إيطاليا والحجاز: فليس غريبًا ألا يكون هناك تشابه بين نظام الحكم الروماني أيام الملوك وأيام القياصرة، ونظام الحكم في الصدر الأول للإسلام.
وأكاد أتصور تشابهًا بعيدًا أو قريبًا بين نظام الحكم الروماني أيام الجمهورية ونظام الحكم الإسلامي بعد وفاة النبي؛ فقد كان الرومانيون يختارون قناصلهم على نحو يوشك أن يشبه اختيار المسلمين لخلفائهم، وإلى شيء من ذلك نحا الأنصار حين قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. ثم كان سلطان القنصل بعد اختياره يشبه في عمومه وشموله سلطان الخلفاء، إلا أن سلطان القنصل كان موقوتًا بسنة واحدة، وكان سلطان الخلفاء يمتد مدى الحياة بعد اختيار الخليفة، وكان سلطان القنصل مقيدًا بالقوانين التي تصدرها جماعة الشعب والقرارات التي يصدرها مجلس الشيوخ، كما كان سلطان الخليفة مقيدًا بالحدود التي رسمها الدين، وبما يرى كبار الصحابة من رأي، وبما تميل إليه أو تنحرف عنه عامَّة المسلمين. ولكن هذه كلها وجوه للتشابه يظهر فيها التكلف والتصنع والإبعاد، فإذا أضفنا إليها مظاهر الحكم التي كانت تحيط بالقنصل ولم يكن يحيط منها بالخليفة شيء. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض النظم التي اقتضتها ظروف الجمهورية الرومانية لتقييد سلطان القنصل وحماية العامة من تحكمه، كنظام الزعماء الذين كانت الدهماء تنتخبهم ليكفوا عنها جور القنصل إن همَّ القنصل بشيء من الجور — أقول: إذا أضفنا هذه الفروق إلى وجوه الشبه تلك المتكلفة، كان من الواضح أن ليس هناك صلة قريبة أو بعيدة بين نظام الحكم العربي في ذلك العهد القصير وبين نظم الرومان في عهد الملوك أو عهد الجمهورية أو عهد القياصرة.
ليس من شك في أن المسلمين قد اقتبسوا كثيرًا من نظم القياصرة والأكاسرة في السياسة والإدارة والحرب، ولكن هذا الاقتباس جاء متأخرة جدًّا عن العصر الذي نتحدث فيه؛ فلننصرف إذن عن هذا التشابه الذي لا يقوم على أساس متين.
لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد إذن نظام حكم مطلق، ولا نظامًا ديمقراطيًّا على نحو ما عرف اليونان، ولا نظامًا ملكيًّا أو جمهوريًّا أو قيصريًّا مقيدًا على نحو ما عرف الرومان، وإنما كان نظامًا عربيًّا خالصًا بيَّن الإسلام له حدوده العامة من جهة، وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى.
وقد قلت في بعض أحاديثي عن نشأة النثر عند العرب: إن القرآن ليس شعرًا ولا نثرًا، وإنما هو قرآن له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء، فيه من قيود الموسيقى ما يخيل إلى أصحاب السذاجة أنه شعر، وفيه من قيود القافية ما يخيل إليهم أنه سجع، وفيه من الحرية والانطلاق والترسل ما قد يخيل إلى بعض أصحاب السذاجة الآخرين أنه نثر؛ ومن أجل هذا خُدِع المشركون من قريش، فقالوا إنه شعر، وكُذِّبوا في ذلك تكذيبًا شديدًا، ومن أجل هذا خُدِع كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر فظنوا أنه أول النثر العربي، وتكذِّبهم الحقائق الواقعة تكذيبًا شديدًا. فلو قد حاول بعض الكتاب الثائرين — وقد حاول بعضهم ذلك — أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إلا أن يأتوا بما يُضحِك ويُثير السخرية.
قلت ذلك بالقياس إلى القرآن، وأريد أن أقول شيئًا قريبًا منه بالقياس إلى نظام الحكم العربي الإسلامي في ذلك العهد، فهو لم يكن مُلكًا، ولم يكن يؤذي النبي وصاحبيه شيء كما كان يؤذيهم أن يُظن بهم المُلْك، وهو لم يكن جمهوريًّا، فلم نعرف في نظم الجمهورية نظامًا يتيح للرئيس المنتخب أن يرقى إلى الحكم فلا ينزله عنه إلا الموت، ولم يكن قيصريًّا بالمعنى الذي عرفه الرومان، فلم يكن الجيش هو الذي يختار الخلفاء، فهو إذن نظام عربي إسلامي خالص لم يُسبق العرب إليه، ثم لم يُقلَّدوا بعد ذلك فيه، وهذا لا يعفينا مع ذلك من أن نحلله ونتبين دقائقه لنرى أكان قادرًا على البقاء أم كان خليقًا أن يتغير متى تغيرت الظروف التي أحاطت بنشأته ثم بتطوره.
وأول ما نلاحظ من العناصر التي كان هذا النظام يأتلف منها، العنصر الديني؛ فلم يكن هذا النظام، كما قلت آنفًا، نظامًا سماويًّا، وإنما كان نظامًا إنسانيًّا، ولكنه على ذلك تأثر بالدين إلى حد بعيد جدًّا. لم يكن الخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه الوحي في كل ما يأتي وما يدع، ولكنه على ذلك كان مقيدًا بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار العدل وإيثار المعروف واجتناب المنكر والصدود عن البغي.
وهذا الوحي الذي اتصل ثلاثة وعشرين عامًا يصابح المسلمين ويماسيهم، ينزل قرآنًا مرة، وينطق به النبي حديثًا مرة أخرى، ويجريه النبي بسيرته العملية سنة متبعة مرة ثالثة، قد أيقظ في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميرًا دينيًّا قويًّا دقيقًا حيًّا إلى أبعد غايات القوة والدقة والحياة، فلم يكن من الممكن أن يتخلص منه المسلم في قول أو عمل أو تفكير، بل لم يكن من الممكن أن يخلص منه في يقظة أو نوم، فَصِلَتُهُ بالرعية إن كان حاكمًا، وبالحاكم إن كان رعية، وبنظرائه في حياته اليومية؛ متأثرةٌ دائمًا بهذا الضمير، وهذا هو الذي يُخَيِّلُ لكثير من الناس أن نظام الحكم في ذلك الوقت قد كان نظامًا يتنزل من السماء إلى الأرض؛ وليس الأمر كذلك، وإنما هو يدور مع مقدار ما يكون لضمير الخليفة ورعيته من التأثر بالدين.
أما العنصر الثاني من العناصر التي ائتلف منها هذا النظام، فهو عنصر الأرستقراطية التي لا تعتمد على المولد ولا على الثروة ولا على ارتفاع المكانة الاجتماعية بمعناها الشائع العام، وإنما تعتمد على شيء آخر أهم من هذا كله: وهو الاتصال بالنبي أيام حياته، والإذعان لما كان يأمر به وينهى عنه في غير تردد ولا شيء يشبه التردد، والإبلاء بعد ذلك في سبيل الله في أوقات السلم والحرب جميعًا.
هذه الخصال أنشأت منذ ظهر الإسلام طبقة ممتازة من الناس، لم تستأثر من دونهم بحق من حقوق الدنيا، ولم تجن لنفسها منفعة عاجلة أو آجلة، وإنما آثرها النبي بحبه وأعلن إليها وإلى الناس أن الله قد آثرها بحبه أيضًا؛ فالذين سبقوا إلى الإسلام، والذين عُذبوا في الله، والذين هاجروا بدينهم إلى بلاد الحبشة ثم إلى المدينة، والذين آووْا ونصروا، والذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لزموا النبي يسمعون له ويكتبون عنه — كل أولئك كوَّنوا هذه الطبقة التي أحبها الله ورسوله وأكبرتها عامَّة المسلمين. وهذه الطبقة لم تكن ترى نفسها أحق بالامتياز ولا أجدر بالاستعلاء، وإنما كانت ترى نفسها كغيرها من الناس، وكان تواضعها نفسه يزيدها حبًّا عند رسول الله، ويرفعها درجات عند الله، ويعلي مكانتها في نفوس عامَّة الناس، ولم تكن هذه الطبقة مؤلفة من ذوي المولد الممتاز والنسب الصريح والثراء العريض وحدهم، وإنما كانت مؤلفة من بعض هؤلاء ومن آخرين كان منهم العبد الذي فتن في دينه حتى صادف من المسلمين من اشتراه وأعتقه، وكان منهم الضعيف الذي أقبل مستجيرًا بمكة يعيش في حمى حلف عقدها مع هذا الحي أو ذاك من أحياء قريش ومع هذا العظيم أو ذاك من عظمائها، وكان منهم من أقبل على مكة ذات يوم فوجد فيها أمنًا ومكسبًا فأقام؛ ثم كان منهم من صَرُحَ نسبه وحَسُنَ مولده، ولكنه كان قصير اليد قليل المال، فهو في عزة من قومه ولكنه في ضيق من عيشه يكسب حياته كما يستطيع.
كان منهم كل هؤلاء، وكل هؤلاء سوَّى بينهم الإسلام في الحقوق والواجبات، ولم يفرق بينهم إلا في حظوظهم من حسن البلاد في سبيل الإسلام، والصبر على المكروه حين يلم المكروه، ومؤازرة النبي بنفسه وماله حين يحتاج النبي إلى المؤازرة بالأنفس والأموال.
ولم يكد الإسلام ينتشر حتى امتازت هذه الطبقة في نفوس المسلمين امتيازًا طبيعيًّا، وحتى أعطاها المسلمون من الحقوق ما لم تكن هي تعطي نفسها، فأعضاؤها كانوا يُعلِّمون الناس دينهم، ويشيرون عليهم فيما يلم بهم من الأمر. وما أكثر ما كانت أحياء العرب تطلب إلى النبي أن يرسل إليها من يفقهها في الدين، فيختار لها من هؤلاء معلمًا وفقيهًا وإمامًا، ثم لم تكد الشهور تمضي على هجرة النبي حتى كانت غزوة بدر التي رفعت مكانة الإسلام في بلاد العرب وجعلت له شوكة تُرهب وتُخاف، ولا يكاد الزمن يمضي حتى يصبح الذين شاركوا في هذه الغزوة طبقة ممتازة بين المسلمين؛ فإذا أتيح لهم أن يشهدوا غيرها من المشاهد مع النبي، فهم أشد امتيازًا؛ فإذا أتيح لهم أن يثبتوا في القلة التي ثبتت مع النبي يوم أحد، فهم أشد امتيازًا أيضًا؛ فإذا أتيح لهم أن يثني النبي عليهم، ويجعلهم لغيرهم قدوة وإمامًا، ويبشرهم بالجنة، ويعلن أنه عنهم راضٍ، فقد بلغوا أرقى درجات الامتياز. وليس في شيء من هذا كله غرابة أو عجب؛ فهذا كله ملائم لطبيعة الأشياء، وإنما المهم هو أن هذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي على ما يكون بينها من تفاوت في الامتياز، قد أصبحت بعد وفاة النبي صاحبة الحل والعقد في أمور المسلمين كلها بعد أن مضى النبي إلى ربه وانقطع الوحي وعاد ما بين السماء والأرض إلى البعد بعد القرب.
فمن هذه الطبقة وحدها يُختار من يخلف النبي في أمته، وعلى هذه الطبقة وحدها يَعتمد الخليفة في أن يسمع له الناس ويطيعوا، وإلى هذه الطبقة وحدها يلجأ الخليفة حين يحتاج إلى التشاور وإدارة الرأي.
على أن الأمر لم يقف عند هذا بعد وفاة النبي، فلم تكد تمضي أيام بل ساعات على وفاة النبي حتى عرف الإسلام نوعًا جديدًا من الأرستقراطية يتصل بالحكم نفسه اتصالًا شديدًا؛ وذلك حين تحدث المسلمون في أمر الخلافة، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وروى أبو بكر عن النبي أنه قال: الأئمة من قريش، ثم قال للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقَبِلَ الأنصار ذلك لم يكادوا يعارضون فيه، ولم يَأْبَهُ منهم إلا سعد بن عُبادة، رحمه الله.
منذ ذلك الوقت نشأت في الإسلام أرستقراطية قوامها القرب من رسول الله؛ فأصبح الحكم إلى قريش وحدها، وأصبحت المشورة إلى الأنصار. والمشورة حق عام لكل مسلم؛ فلقريش أن تحكم، ولقريش أن تشير، وللأنصار وغيرهم من العرب أن يشيروا، وليس لهم أن يحكموا. ومع ذلك فقد ينبغي أن نستأني في تحقيق هذه الأرستقراطية كما فهمها أبو بكر وأصحابه من المهاجرين، وكما فهمتها قريش بعد ذلك؛ فما من شك في أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح لم يفكروا في إطلاق الإمامة لقريش كلها بغير تحديد، وأكبر الظن أنهم إنما فكروا في المهاجرين الذين سبقوا إلى الإسلام، فآمنوا قبل أن يؤمن غيرهم، وآزروا النبي بأنفسهم وأموالهم على نشر دعوته في مكة أيام الجهد والشدة والضيق؛ فالكثرة العظمى من هؤلاء المهاجرين قرشية، والمهاجرون يُذكرون مع الأنصار في القرآن والحديث وعلى ألسنة الناس، فيبدأ بهم ويُثنِّي بالأنصار، وما أرى إلا أن أبا بكر إنما قصد إلى هذه الطبقة الممتازة من قريش؛ طبقة الذين سبقوا إلى الإسلام وجاهدوا مع النبي أثناء الفتنة في مكة، ثم جاهدوا معه وجاهد معهم الأنصار أثناء القوة في المدينة.
ولو أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة فكروا في قريش من حيث إنها الحي الذي يتصل نسبه بنسب رسول الله، أي من حيث القرابة من النبي؛ لاقتضاهم هذا التفكير أن يؤثروا بالخلافة أقرب قريش من رسول الله، وأن يرشحوا لها العباس عمه أو عليًّا ابن عمه وصاحب صهره وربيبه حين كان صبيًّا. فأبو بكر وأصحابه إذن لم يفهموا من قريش إلا هذا المعنى الذي يتصل بالمهاجرين، وبأصحاب السبق والفضل من المهاجرين خاصة، ومن أحمق الحمق أن يقول قائل إن أبا بكر وأصحابه فكروا في قرابة قريش من النبي، وجعلوا هذه القرابة مصدر امتياز قريش بالإمامة، فلو قد كان هذا لكان الطلقاء من قريش أحق بالإمامة عند أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من الذين آووا ونصروا، ولكان أبو سفيان أو صفوان بن أمية أو الحارث بن هشام، أحق بالإمامة من أعلام الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان؛ ولكن قريشًا فهمت قول أبي بكر على غير ما أراده هو وعلى غير ما فهمه أصحابه في ذلك الوقت، فاستيقنت أن الإمامة حق لها لا ينبغي أن يعدوها إلى غيرها، وأنها حق لها لمكانها من النبي. وقد كانت قريش في هذا الفهم خاطئة متكلفة، ما في ذلك شك، ولو قد صح فهمها وتأويلها لظهرت عليها حجة بني هاشم، ولكان بنو هاشم أحق المسلمين بالإمامة ما استطاعوا أن ينهضوا بأعبائها.
ذلك إلى أن الإسلام لم يقدم أحدًا على أحد بمولده ولا بمكانه الاجتماعي، وإنما فاضل بين الناس عند الله بالتقوى، وفاضل بين الناس عند الناس بالتقوى والكفاية وحسن البلاء.
ويدل على صواب ما نذهب إليه أن عمر حين طُلب إليه أن يستخلف قال: لو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا لاستخلفته. وسالم مولى أبي حذيفة لم يكن قرشيًّا، بل لم يكن له نسب في العرب، وإنما جلب صبيًّا من إصطخر، فأعتقته امرأة من الأنصار كانت تملكه، وتولى هو ولاء أبي حذيفة من قريش، وقد كان المسلمون يقدمونه في أمور دينهم أيام النبي؛ فهو كان يؤم المهاجرين في الصلاة، وفيهم عمر، أثناء انتظارهم لمقدم النبي على المدينة. وقد قتل باليمامة في حرب الردة في خلافة أبي بكر.
وما ينبغي أن يؤبه لما قيل من أن سالمًا كان قرشيًّا بالولاء، فلو قد عاش واستخلفه عمر لما خرجت الإمامة من قريش. فهذا كله كلام لا يستقيم، ونحن نعلم أن الولاء على ما كان يعقد بين الموالي من الصلات لم يكن ليرفع الموالي إلى طبقة الذين يتولونهم من الأحرار. ولم تكن العرب تعرف لسالم نسبًا، حتى إنهم كانوا يدعون زيد بن حارثة لأبيه حين أمر الله أن يدعى الموالي إلى آبائهم، وكانوا يقولون إن سالمًا من الصالحين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون له أبًا بعد أن ألغى الإسلام تبني أبي حذيفة إياه، فقد كان عمر إذن يود لو استخلف على المسلمين رجلًا ليس من قريش، بل ليس من العرب إلا بالولاء، لا يرى بذلك بأسًا. وكان عمر مصيبًا في مذهبه هذا موافقًا لأصول الإسلام الذي لا يفضل أحدًا على أحد بالنسب والمولد، وإنما يفاضل بين الناس بالكفاية والتقوى وحسن البلاء، وقد كان سالمٌ تقيًّا كافيًا حسن البلاء.
ومهما يكن من شيء فقد نشأت هذه الأرستقراطية القرشية فجاءة على غير حساب من الناس، وكانت أرستقراطية قد غُلط بها: أراد أبو بكر أن تكون الإمامة في المهاجرين ما وُجِد بينهم الكفء القوي على النهوض بها. فحولت قريش ذلك فيما بعد إلى منافعها وعصبيتها، وخرجت بذلك عن أصل خطير من أصول الإسلام وهو المساواة بين المسلمين.
ولم تكد قريش تخطو هذه الخطوة حتى أتبعتها خطوة أخرى كان لها أبعد الأثر في حياة المسلمين، وهي تفضيل العرب على غيرهم من الذين اعتنقوا الإسلام، ولم يكن لهم في العرب نسب صريح. والناس جميعًا يعلمون أن استئثار قريش بالخلافة جر على المسلمين كثيرًا من الفتن، وأن استئثار العرب بالسلطان والفضل أدال من بني أمية لبني العباس بفضل من ناصرهم من الموالي.
فلنظام الحكم في هذا الصدر في الإسلام عنصران متميزان إذن: أحدهما معنوي، وهو الدين الذي يأمر بالعدل والمعروف يفرضهما على الرعاة والرعية جميعًا، والآخر هذه الأرستقراطية الخاصة التي قام أمرها على الكفاية والتقوى وحسن البلاء والاتصال برسول الله، والتي انحرفت بها قريش بعد ذلك عن طريقها. وواضح جدًّا أن هذين العنصرين لم يكن من شأنهما أن يطاولا مر الدهر، وتقلب الخطوب وتتابع الأحداث؛ فأما أولهما وهو هذا الضمير الديني القوي اليقظ الحي، فشيء يتاح لأصحابه، وليس من المكفول ولا من المحتوم أن يرثه عنهم الأبناء والحفدة، فالذين اتصلوا برسول الله اتصالًا قريبًا وتعلموا منه وتأدبوا بأدبه، خليقون أن يتأثروه في سيرته وأن يتمثلوه كلما عملوا أو قالوا أو فكروا، فأما الأجيال التي تأتي بعدهم من الأبناء والحفدة فقد يتأثرون بهم وقد لا يتأثرون، وهم لم يتصلوا بالنبي إلا قليلًا أو لم يتصلوا به أصلًا، فليس غريبًا ألا يتاح لضمائرهم الدينية من اليقظة والقوة والحياة ما أتيح لخاصة النبي وصفوة أصحابه الأقربين.
وأخرى لا ينبغي أن تفوتنا، وهي أن أمور الحكم إنما تستقيم حين يكون التعاون والتضامن بين الحاكمين والمحكومين في الأصول التي يقوم عليها النظام، فليس يكفي أن يكون الحاكم يقظ الضمير مؤثرًا للعدل مصطنعًا للمعروف حريصًا على رضا الله كافيًا بعد ذلك لمشكلات السياسة خرَّاجًا منها إذا ادلهمت، وإنما يجب أن يكون لرعيته حظ من هذا الضمير الحي اليقظ، ومن حب العدل وإيثار المعروف والحرص على رضا الله.
وهذه هي المشكلة الأولى التي واجهت نظام الحكم الجديد، فلم يكن العرب كلهم أصحاب رسول الله، بل لم تكن كثرة العرب قد صاحبت النبي واتصلت به، وإنما كان أصحاب رسول الله كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ولم يكن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقًا أو مقاربًا لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما كان من العرب مَن حسن إيمانه، ومنهم من أسلم ولم يؤمن، كما جاء في القرآن: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
بل كان من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه، ولكنه احتفظ بجاهليته كاملة في قلبه ونفسه وضميره، والله يقول في بعض هؤلاء: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ.
فلم يكن هناك توازن بين الحاكم والمحكوم، ولم يكن هناك تضامن صحيح بين الخليفة والكثرة الضخمة من رعيته العربية، وإنما كان التضامن والتوازن قائمين بين الخليفة وهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، وبفضل هذا التضامن والتوازن استطاع أبو بكر أن يعيد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدوا، وأن يشغلهم بعد ذلك بما وجههم إليه من الفتوح. وأخرى لا ينبغي أن ننساها ولا ينبغي أن يضيق بها المتحرجون الذين يغلون في حسن الظن بالإنسان، وهي أن هذا الضمير الديني الحي اليقظ قد يتعرض للفتنة والمحنة، وقد يلقى أخطارًا كثيرة من الأحداث والخطوب، فما أكثر ما يخلص الإنسان نفسه وقلبه وضميره للحق والخير والعدل والإحسان، ثم تلم به أسباب الفتنة وتلح عليه وتسرف في الإلحاح حتى تضطره إلى أن يتأول في بعض الأمر، ثم ما يزال ينتقل من تأول إلى تأول ومن تعلل إلى تعلل ومن تحلل إلى تحلل، حتى ينظر ذات يوم فإذا بينه وبين الإخلاص الأول أمد بعيد، ومن أجل هذا ألح القرآن وألح النبي وألح الخلفاء والصالحون في تحذير الناس من الدنيا وغرورها ومما تمد لهم من أسباب الفتن وما تعرضهم له من ضروب المحن، ومن هذه السيئات التي تذهب بالحسنات، ومن بعض النيات والأعمال التي تأكل الصالحات كما تأكل النار الحطب؛ فليس من الغريب في شيء أن يتعرض كثير من الصالحين ومن أصحاب النبي أنفسهم لأسباب الفتن ودواعي الغرور، وأن يطرأ عليهم من الأحداث والخطوب ما يباعد بينهم وبين عهدهم الأول حين كان الإسلام غضًّا، وحين كانوا يتصلون بالنبي مصبحين وممسين، وحين كانوا إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون.
وسنرى أن أسباب الفتن ودواعي الغرور كانت كثيرةً قويةً خلابة، لا يثبت لها إلا أولو العزم، وأولو العزم قلة في كل زمان ومكان.
وما أريد أن أتزيد ولا أن أتكلف، ولا أن أوذي بعض الضمائر، ولا أن أحفظ بعض الصدور، ولكني مع ذلك ألاحظ أن جماعة من أصحاب النبي قد حسن بلاؤهم في الإسلام حتى رضي النبي عنهم وبشرهم بالجنة أو ضمنها لهم، ثم طال عليهم الزمن واستقبلوا الأحداث والخطوب، وامتحنوا بالسلطان الضخم العظيم، وبالثراء الواسع العريض، ففسدت بينهم الأمور، وقاتل بعضهم بعضًا، وقتل بعضهم بعضًا، وساء ظن بعضهم ببعض إلى أبعد ما يمكن أن يسوء ظن الناس بالناس، فما عسى أن يكون موقفنا نحن من هؤلاء؟ لا نستطيع أن نرضى عن أعمالهم جميعًا، فلا نلغي عقولنا وحدها، وإنما نلغي معها أصول الدين التي تأمر بالعدل والإحسان وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنه قد خطئ؛ لمكانهم من النبي أولًا، ولما بشرهم به النبي من الجنة ورضا الله ثانيًا، ولحسن ظنهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسوله، وإيمانهم بالجنة التي بشروا بها، وما نحب أن نذهب في أمرهم مذهب الذين عاصورهم من خصومهم وأنصارهم، فنحكم على بعضهم بالخير، ونحكم على بعضهم الآخر بالشر؛ فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألمَّ بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يسخطون حسب مكانهم من أولئك أو هؤلاء. أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحامًا، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نُخَطِّئَ من نُخَطِّئُ ونصوِّب من نصوِّب منهم من هذه الجهة وحدها دون أن نقضي في أمر دينهم بشيء؛ فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم: هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار؛ ذلك شيء لا نخوض فيه وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده. فأما الذي إلينا فهو أن نتبين من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمها، وهذا في نفسه كثير، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
فالعنصر الأول إذن من عنصرَيْ نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام، وهو الضمير الديني اليقظ الحي، معرَّض كما رأيت لكل هذه الأخطاء، ولو قد عُصِمَ أصحاب النبي جميعًا من الخطأ وأمنوا التعرض للفتنة واستقامت لهم أمورهم على ما يلائم تلك العصمة وهذا الأمن، لَمَا كان بدٌّ من أن يتعرض أبناؤهم وحفدتهم لضروب الفتن والمحن والغرور.
فلم يكن بد إذن من أن يصل المسلمون في ذلك العصر إلى ما يمكنهم من ألا يتركوا أمورهم إلى حساب الضمير وحده، أو إلى ما بين الخليفة وبين الله، إلى ما يمكنهم من أن يضعوا النظام المقرر المكتوب الذي يبين حدود الحكم جملة وتفصيلًا، ويبين للخلفاء ما يجب عليهم أن يفعلوا، وما يجب عليهم أن يتركوا، وما يجوز لهم أن يترخصوا فيه، ويبين للشعب حقوقه وواجباته مفصلة، والوسائل التي يختار بها الخليفة ويراقبه بها بعد اختباره ويعاقبه بها إن حاد عن الطريق؛ كان المسلمون في حاجة إلى أن ينشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستورًا مكتوبًا مبين الحدود والأعلام يعصمهم من الفرقة والاختلاف، ولو قد فعلوا لَمَا تعرضوا لِمَا تعرضوا له من الشر أيام عثمان. وانظر إلى هذا المثل الذي يقف الناس أمامه حائرين يرضى منهم الراضي ويسخط منهم الساخط؛ فقد كُلِّمَ عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: «إن عمر كان يحرم قرابته احتسابًا لله، وأنا أعطي قرابتي احتسابًا لله، ومن لنا بمثل عمر؟» فقد كان عمر إذن محسنًا حين كان يحرم ذوي قرابته مال المسلمين، وكان عثمان محسنًا حين كان يصل أرحامه من مال المسلمين؛ لأن الله أمر أن توصل الأرحام.
فهذا كلام قد يستقيم عند الذين يحاولون أن يتأولوا في الفقه؛ فأما المصالح العامة فلا تحتمل هذا التأول، فالأموال العامة إما أن تكون للشعب فلا يحل للإمام أن يتصرف فيها إلا بإذنه، وإما أن تكون للإمام فلا يحل للشعب أن يعترض عليه إن تصرف فيها؛ فأما أن يتقرب بعض الأئمة إلى الله بحفظها على المسلمين، وأن يتقرب بعضهم الآخر إلى الله بصلة رحمه منها؛ فهذا شيء لا يستقيم. وواضح أنا نذهب في ذلك مذهب عمر؛ لأنه وحده يلائم الحق والعدل وما ينبغي للأئمة من التعفف، ويلائم فقه الأمور العامة كما نفهمه الآن.
ومثل آخر يرويه المؤرخون، وما ندري أنقف منه موقف الإعجاب أم نقف منه موقف العجب؟ فقد قال عثمان لخصومه حين اشتد عليه الحصار: «إن رأيتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فافعلوا.» أقال هذا معتبًا لهم نازلًا عند حكم الله في كتابه؟ وإذن فأين هذا الحكم الذي يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد؟ أم قال هذا متحديًا؛ لأنه يعلم أن ليس في كتاب الله نص يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد حين يخطئ أو حين ينحرف عن الجادة عن عمد؛ لأن القرآن لم يعرض لشيء من هذا؟ وإذن فقد كان عثمان على هذا الفرض يرى أن ليس لخصومه عليه سبيل من كتاب الله، وأن له أن يفعل ما فعل دون أن يكون قد قارف ذنبًا أو تورط في إثم، ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يَدَعُونَ دون أن تكون بينهم فُرقة أو خلاف.
وربما كان من أوضح الأمثلة على حاجة المسلمين في ذلك الوقت إلى هذا النظام المكتوب ما يروى من أن عليًّا حين عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على أن يلزم الكتاب والسنة وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك، أبى أن يعطي ما طلب إليه من العهد وقال: «اللهم لا، ولكن أجتهد في ذلك رأيي ما استطعت.» يريد أنه لا يستطيع أن يلتزم ما لا سبيل إلى التزامه، فالقرآن مكتوب محفوظ في الصدور، ولكنه لم يعرض لسياسة الحكم في تفصيلها ووقائعها اليومية.
وسنة النبي معروفة في جملتها، ولكن منها ما يجهله الحاضر ويحفظه الغائب، ومنها ما ذهب مع من ذهب من أصحاب النبي فيما كان من حرب الردة والفتوح، وسيرة الشيخين كسنة النبي؛ منها المعلوم ومنها ما قد يكون النسيان عرض له، ولعليٍّ بعدُ الحق كل الحق في أن يخالف عن سيرة الشيخين إن تغير الزمن أو رأى في المخالفة عن هذه السيرة منفعة للرعية ونصحًا للمسلمين، فلما عرض عبد الرحمن هذا العهد على عثمان قبله وأعطى مثله وقال: «اللهم نعم!» يريد أنه سيجتهد في إنفاذ كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين، وأنه متى اجتهد في ذلك مخلصًا فقد التزم الكتاب والسنة ونهج الشيخين. وقد أصاب عليٌّ ما في ذلك شك، ولم يُبعد عثمان، ولكن انظر إلى ما حدث بعد أن مضت أعوام على إمرة عثمان: ذهب في أموال المسلمين مذهبًا مخالفًا لمذهب عمر وسيرته؛ فأما الذين بايعوه على التزام هذه السيرة فيما التزم فقد رأوا أنه خالف عنها ولم يف بالعهد كاملًا، وأما هو فرأى أنه لم يخالف بحال من الأحوال؛ لأن قوام سيرة عمر إنما هو التقرب إلى الله، وهو قد وصل رحمه تقربًا إلى الله، فهو يتقرب إلى الله كما كان عمر وأبو بكر يفعلان، ولا عليه أن تختلف وسائل هذا التقرب إلى الله. ولو قد كان للمسلمين في ذلك الوقت نظام مكتوب بَيِّنُ الحدود واضح الأعلام، لَمَا أبى عليٌّ أن يبايع على هذا الدستور، ولَمَا احتاج عثمان إلى أن يبايع ثم يتأول، ولما انقسم الناس بعد ذلك فريقين: فريقًا يشتد ويتحرج كما تحرج عليٌّ ومن لاموا عثمان، وفريقًا يتأول كما تأول عثمان.
نعم، ولكن ينبغي ألا ننسى أن عمر قد قُتل سنة ثلاث وعشرين للهجرة، أي قبل أن يمضي على الهجرة وتأسيس الدولة ربع قرن، وأن هذه المدة القصيرة لم تُنْفَقْ في حياة هادئة مطمئنة قد استقرت فيها الأمور وفرغ فيها البال، وإنما أُنفق منها عشرة أعوام في حمل العرب على الإسلام، ثم أنفق منها عام وبعض عام في رد العرب إلى الإسلام بعد أن انتقضوا عليه، ثم أنفق سائرها في دفع العرب إلى نشر الإسلام في أقطار الأرض: في الإدالة من الفرس، وإخراج الروم من الشام ومصر، ثم في تمصير الأمصار وتجنيد الأجناد، ووضع النظم الأولى لسياسة الحرب والسلم، وللإدارة خارج بلاد العرب وداخل بلاد العرب؛ فليس من العدل ولا من الإنصاف أن يقال إن المسلمين في صدرهم ذاك قد قصروا أو تخلفوا أو تركوا ما كان يمكن أن يفعلوا دون أن يفعلوه.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الشيخين إنما كانا يبتكران ما كانا يقبلان عليه من تنظيم أمور الحكم ابتكارًا في هذه البيئة العربية البدوية التي لم تكن لها سابقة ذات خطر في الإدارة أو السياسة أو الحضارة بوجه عام، ثم لم يكونا يبتكران فحسب، وإنما كانا يسوسان قومًا لم يتعودوا أن يُساسوا، ويُحَضِّران قومًا لم يتحضروا من قبل، عرفت أن من الشطط أن يقال إن الشيخين لم يضعا للمسلمين من النظم السياسية ما كان ينبغي أن يضعا. وقد كان عمر رحمه الله يجتهد في ذلك ما وسعه الاجتهاد، لا يكاد يعرف من نظم الأمم التي سبقت إلى الحضارة شيئًا إلا استقصاه واستخلص منه ما يلائم المزاج العربي، وما يلائم الإسلام، وما يلائم هذه الدولة الناشئة التي أسرعت إلى النمو والانتشار إسراعًا عظيمًا سبقت به تفكير المفكرين وتدبير المدبرين.
أما العنصر الثاني من عناصر هذا النظام السياسي، وهو هذه الأرستقراطية الممتازة من أصحاب النبي؛ فقد كان بطبعه معرضًا للزوال حين يمضي الزمن ويبلغ الكتاب أجله، وتنشأ أجيال جديدة ليس لها ما كان لهذا الجيل من الامتياز. وقد كان من الطبيعي أن يوضع لهذه الأجيال النظام الذي يعلمها كيف تختار خلفاءها وكيف تراقبهم وتحاسبهم وتعاقبهم إن تعرضوا لما يقتضي العقاب. ولو قد وضع هذا النظام لما تفرَّق أمر المسلمين بعد مقتل عثمان على النحو الذي عرفه التاريخ، ولما ذهب فريق من المسلمين مذهب المحافظة الهوجاء على سنة النبي والشيخين: وهم الخوارج، وفريق آخر مذهب المحافظة على أن تكون الإمامة في آل بيت النبي، وفريق ثالث على أن تستحيل الخلافة ملكًا قيصريًّا أو كسرويًّا، وفريق رابع إلى أن يكون الأمر شورى بين المسلمين دون أن يعرفوا لهذه الشورى نظامًا ولا حدودًا. ولكن ما قلناه بالقياس إلى العنصر الأول نقوله بالقياس إلى هذا العنصر الثاني؛ فلم يتح للشيخين وأصحابهما من الوقت ولا من الفراغ والدعة ولا من التطور والاتصال بأسباب الحضارة ما كان من شأنه أن يمكنهم من وضع هذا النظام. إنما السبيل على الذين جاءوا بعدهم فأتيحت لهم السعة والدعة والفراغ، ولم يفكروا مع ذلك لا في أن يضعوا نظامًا لتداول الحكم، ولا في أن يضعوا نظامًا يكفل رعاية العدل السياسي والاجتماعي، وإنما أهملوا ذلك إهمالًا وآثروا أنفسهم بالحكم والغلب والاستعلاء.
وبعدُ فهؤلاء أيضًا خليقون ألا يلاموا؛ فقد ينبغي أن نسأل أنفسنا: متى عرف العالم وضع الدساتير؟ وقد ينبغي أن نلاحظ أن وضع النظم السياسية المكتوبة ذات الأعلام الواضحة والحدود البينة ظاهرة حديثة لم يكد العالم يعرفها إلا في عصور متأخرة جدًّا، وأنا أعلم أن قد كانت للمدن اليونانية القديمة نظم سياسية مكتوبة، وأعرف كذلك أن قد كانت لروما نظم سياسية مقررة؛ ولكني أعرف أن الملك في الشرق والغرب قد ألغى هذه الدساتير وباعد بينها وبين الناس، حتى نسيتها الإنسانية نسيانًا يوشك أن يكون تامًّا، ولم تستكشفها إلا قليلًا قليلًا بعد النهضة في هذا العصر الحديث.
على أن من الحق أن نلاحظ شيئًا أشرت إليه في بعض هذا الحديث، وهو أن عمر رحمه الله قد كان يلقى عماله وأهل أقاليمه في الموسم من كل عام، فيسمع من العمال في أمر الرعية، ويسمع من الرعية في أمر العمال. وقد جعل هذا نظامًا مقررًا، فكان يحج بالناس طول خلافته ليلقى المسلمين في موسمهم؛ لا نستثني من ذلك إلا العام الأول لخلافته، فلو قد مُدَّت أسباب الحياة لعمر لكان من الممكن، وهو من نعرف في حدة الذكاء وتوقد الذهن ونفاذ البصيرة وبُعد الرأي والنصح للمسلمين، أن يتطور هذا الاجتماع الموسمي بين عمال الأقاليم والحجيج من أهل هذه الأقاليم إلى نظام ثابت إلا يكن هو النظام البرلماني الذي عرفه القدماء أو الذي استنبطه المحدثون، فهو قريب منه قربًا شديدًا. ولم يكن عمر رحمه الله يكتفي بهذا الاجتماع الموسمي، وإنما كان يستقصي أمور الناس ما وسعه الاستقصاء: يستقصي ذلك بنفسه في المدينة وما حولها وحين يلقى أهل الأقاليم في موسم الحج، ويستقصي ذلك بوساطة عماله وأمنائه الذين كان يرسلهم بين حين وحين لتتبع أمور العمال، ويستقصي ذلك بما كان يرفع إليه من أمور الناس؛ يرفعه إليه العمال حينًا والرعية أحيانًا، ثم كان رحمه الله يفكر في آخر أيامه في زيارات تفتيشية للأقاليم؛ فكان يتحدث بأن لو عاش لتنقل فأقام في كل مصر شهرين، ويرى بنفسه كيف يعمل الولاة وكيف رضا الرعية عما يعملون، ولكن الموت أعجله عن هذا كله، ولم يكد رحمه الله يوارى في قبره مع صاحبيه حتى سلكت سياسة المسلمين طريقًا غير الطريق التي سلكوها.
وقد يكون من الإنصاف إذا أردنا أن نستوفي هذا البحث أن نلاحظ سياسة عمر لهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، فهو قد أمسكها في المدينة كما قلنا آنفًا؛ لم يأذن لها في أن تتفرق في الأرض، خوفًا عليها وخوفًا منها. فكان راشدًا في هذه السياسة كل الرشد، ولِمَ لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ أو لم لا نترجمها بلغة العصر الحديث فنقول إن عمر إنما أمسك هذه الطبقة الممتازة في المدينة ضنًّا بها وضنًّا بالمسلمين على ما نسميه في هذه الأيام باستغلال النفوذ؛ فقد استقامت أمور المسلمين وأمور هذه الطبقة نفسها ما أمسكها عمر في المدينة ووقفها عند حدود معينة من الحركة والاضطراب، فلما تولى عثمان وخلى بينها وبين الطريق لم تلبث الفتنة أن ملأت الأرض شرًّا، لا لأن هذه الطبقة أرادت الشر أو عمدت إليه، بل لأنها استكثرت من المال والأنصار من جهة، ولأن الناس افتتنوا بها من جهة أخرى، فكان لكل واحد من زعمائها مواليه وأنصاره وشيعته. ولم يكن عمر يحب أن يعطي من أموال المسلمين فلانًا أو فلانًا صلةً منه له أو عناية منه به أو تألفًا منه إياه، وإنما كان يفرض لكل واحد منهم ومن الناس عطاء ويبيح لهم ما باح الله لهم من الاكتساب، لا يضيق عليهم في ذلك إلا بهذا المقدار الذي عرفناه. فلما استخلف عثمان لم يفتح لهم الطريق إلى الأقاليم فحسب، وإنما وصلهم أيضًا بالصلات الضخمة من بيت المال، فيقال إنه أعطى الزبير ذات يوم ستمائة ألف، وأعطى طلحة ذات يوم مائتي ألف، وإذا كثر المال على هذا النحو لفريق بعينه من الناس، وأتيح لهم أن يشتروا الضياع في الأقاليم، ويتخذوا الدور في الأمصار، ويتخذوا القصور في الحجاز، ويستكثروا من الموالي والأتباع والأشياع في كل مكان؛ فقد فتحت لهم أبواب الفتنة على مصاريعها، وكان من أعسر العسر عليهم أن يتجنبوا الولوج في هذه الأبواب، وقد تجنبها منها متجنبون: تجنبها سعد بن أبي وقاص الذي لم يشارك في فتنة وإنما اعتزل الناس حين أخذهم الشر، وتجنبها عبد الرحمن بن عوف الذي يقال إنه ندم على ما كان من اختياره لعثمان، والذي أقام في دار الهجرة مصرفًا تجارته في الأقاليم متصدقًا بكثير من ريعه، كما كان يفعل أيام النبي وأيام الشيخين، وتجنبها عليٌّ رحمه الله، فلم نعلم أنه اتجر أو اتخذ الضياع والدور في الأقاليم، وإنما أقام في المدينة حيث بوأه رسول الله، وكان له مال في ينبع يذهب إليه من حين إلى حين، ولكن لعليٍّ قصة أخرى كما يقول القائلون.
ومغزى هذا كله أن عمر قد حمى هذه الطبقة الممتازة، وحمى المسلمين من استغلال النفوذ، وأمسك عليهم جميعًا دينهم، وحال بينهم جميعًا وبين الفتنة، واتخذ من خاصة أصحاب النبي مجلسًا يوشك أن يكون مجلس شوراه، ولو مُدَّ له في العيش لكان خليقًا أن يضطرهم إلى أن يرضوا بهذه المنزلة فيكونوا أصحاب الحل والعقد؛ يشيرون على الخلفاء دون أن يدخلوا في أمور الحكم التفصيلية من قريب أو بعيد.
فهذه واحدة، والثانية أن عمر رحمه الله حين أحس أنه ميت قد اقتدى بالنبي فلم يستخلف شخصًا بعينه، واقتدى بأبي بكر فلم يترك المسلمين دون أن يشير عليهم وينصح لهم؛ فاختار أصحاب الشورى لمكانهم من رضا النبي عنهم، ولمكانهم من زعامة المهاجرين، ولمكانهم من زعامة قريش، ثم لمكانهم من رضا المسلمين عنهم وثقة المسلمين بهم، ثم ترك لهم أن يختاروا من بينهم خليفة.
وسنرى أن نظام الشورى هذا كما وضعه عمر لم يكن كافيًا ولا مقنعًا، ولكن المهم هو أن عمر فكر في الشورى واتخذها أصلًا لاختيار الخلفاء، وليس هذا بالشيء القليل. ولا ينبغي أن ننسى أن عمر إنما وضع نظام الشورى هذا بعد أن طُعن؛ وضعه في هذا الوقت الذي كان يخرج فيه من الدنيا ويدخل فيه إلى الآخرة، ويعاني فيه ما يعاني المطعون من الألم، ويعاني فيه ما يعاني المشرف على الموت حين يكون له ضمير يقظ حي دقيق كضمير عمر من خوف الله، والإشفاق من حسابه، ومن حساب نفسه على ما قدم بين يديه من الجليل والخطير، ثم يعاني فيه بعد ذلك ما يعاني من تدبير أمر نفسه وأهله والاحتياط لهم من أن يحتملوا من الأعباء مثل ما احتمل، والاحتياط لنفسه من أن يلقى الله وفي ذمته شيء من مال المسلمين، ثم هو يعاني بعد هذا كله ما يعاني من التفكير في الاحتياط لقبره؛ فقد كان حريصًا على أن يدفن مع صاحبيه، وعلى أن يدفن معهما بإذن من عائشة صاحبة البيت الذي دفن فيه، وعلى أن يطمئن إلى أنها قد أذنت له في ذلك قبل أن يموت، وعلى أن يطمئن إلى أن عبد الله بن عمر سيستأذن عائشة في إدخاله بيتها بعد أن يموت — في أثناء هذا كله فكر عمر في نظام الشورى، فاحتاط للمسلمين ما وسعه الاحتياط.
وكان المسلمون خليقين بعد أن مات عمر، وبعد أن اختاروا خليفتهم أن يفكروا في نظام الشورى هذا، فيقيموه على أساس ثابت مضطرد متين، يؤمِّنهم الفُرقة أولًا، ويؤمِّنهم أن تُعْجِل الأحداثُ خليفَتهم عن أن يعهد لهم كما عهد أبو بكر، وعن أن يشير عليهم كما أشار عمر. ولكن الغريب أنهم لم يفكروا في شيء من ذلك، وإنما استخلف عثمان، فلم يكد يُستخلف حتى زاد في العطاء، ويَسَّر على الناس ما كان عسر عليهم عمر، وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، ثم أذن لهم فاستكثروا من المال والأنصار.
ونظن أن هذا الحديث الذي قد تراه طويلًا، وما أراه إلا قصيرًا مسرفًا في القِصَر، قد مهد لما ينبغي أن نعرض له الآن من الحديث عن عثمان، وما أثير في خلافته من فتنة، وما أثير حوله من جدال. وما نظن إلا أن هذا الحديث، على طوله فيما قد ترى وعلى قصره فيما أرى، يدل منذ الآن على أن الأحداث التي حدثت والنتائج التي ترتبت عليها كانت أكبر وأوسع وأضخم من الأشخاص الذين شاركوا فيها من قريب أو بعيد؛ فما ينبغي أن يلام فيها هذا أو ذاك، وإنما ينبغي أن تلام فيها الظروف إن كان من الممكن أو من المعقول أن تلام الظروف.