الفصل الثلاثون
وهناك مع ذلك سؤال لم يُجب عنه القدماء إجابة مرضية، بل لم يحاول أكثرهم أن يجيب عنه، ولا بدَّ مع ذلك من أن نظفر له بجواب: كيف ولماذا أبطأ عمال عثمان عن نصره حتى أتيح للثائرين أن يحاصروه فيطيلوا حصاره وأن يقتلوه بعد ذلك؟ فقد قيل: إن الحصار اتصل أربعين يومًا. ونحن نعلم أن المواصلات لم تكن يسيرة ولا قريبة، ولكنا نعلم من جهة أخرى أن الأخبار كانت تنتقل في سرعة مدهشة إلى الأمصار، فعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يعلم أن المصريين قد خرجوا منكرين على عثمان، وهو أنبأ معاوية بذلك من غير شك، كما أنه كتب به إلى عثمان. وأبو موسى الأشعري قد رأى مخرج أهل الكوفة من الكوفة، وعلم من أمرهم مثل ما علم ابن أبي سرح من أمر المصريين. وقل مثل ذلك بالقياس إلى عبد الله بن عامر مع الذين خرجوا من أهل البصرة. فما بال هؤلاء العمال لم يسرعوا إلى نصر الإمام لمجرد علمهم بخروج من خرج من أهل أمصارهم؟ بل ما بالهم لم يسرعوا إلى نصر عثمان حين جاءتهم كتبه تطلب إليهم النجدة؟ ولماذا تلبثوا وتباطئوا حتى كان الشر وقتل الإمام قبل أن يدركوه؟ وأكثر من هذا أن عثمان قد عوَّد عماله أن يوافوه في الموسم من كل عام، فما بالهم أقاموا في أمصَارهم هذا العام ولم يشهدوا الحج حتى اضطر عثمان — وقد كان محصورًا — أن يأمر ابن عباس ليحج بالناس؟
وأشد من هذا كله غرابةً أن ابن عباس حمل فيما يقول المؤرخون كتابًا من عثمان إلى عامَّة المسلمين الذين شهدوا موسم الحج يعرض عليهم قضيته فيه ويدافع عن نفسه. ويقول المؤرخون: إن ابن عباس قرأ هذا الكتاب في الموسم، فكيف استمع الناس لهذا الكتاب الذي رواه الطبري كاملًا، ثم تفرقوا بعد ذلك كأن لم يكن شيء، لم ينهض أحد منهم لنصر الخليفة، ولم تذهب جماعتهم إلى المدينة ليشهدوا بعض ما كان يقع فيها من الأحداث؟ بل كيف قام عامل عثمان على مكة هادئًا ساكنًا مطمئنًّا لم يستنفر الناس لنصر الإمام؟ ولو قد استنفر أهل مكة وجمع من أهل البادية جيشًا لاستطاع أن يشغل هؤلاء الثائرين حتى تقبل هذه الأمداد النظامية من الأمصار. فما بال شيء من هذا لم يكن؟ وما بال أحد من هؤلاء العمال لم يتحرك؟ وما بال الحجيج لم يفزعوا لنصر إمامهم؟ أيمكن أن تكون الأمة كلها قد أسلمت هذا الإمام: فترت الرعية، وأضمر العمال في نفوسهم أشياء فتباطئوا وتثاقلوا، وشغل كل واحد منهم بنفسه، وتركوا الإمام لأهل المدينة يصنعون به ما يشاءون أو يصنع هو بهم ما يشاء؟ وقد رأيت أن أهل المدينة أنفسهم قد كانت كثرتهم مع الثائرين، وكانت قلتهم من أصحاب النبي خاذلة لعثمان تنكر بألسنتها ولا تصنع شيئًا. ولو قد استقبل أصحاب النبي هؤلاء الثائرين منكرين عليهم وحثوا في وجوههم التراب لانصرفوا مخذولين كما قال بعض القدماء. وإذن فقد صدق عثمان حين قال إن الناس قد طال عليهم عمره فملوه. وأكبر الظن أن الناس لم يطل عليهم عُمْر عثمان فحسب، وإنما طال عليهم أيضًا عمر هذه السياسة التي لم تكن سياسة خلافة كالتي عرفوها أيام عمر، ولا سياسة ملك كالتي عرفوها من قيصر وكسرى، وإنما كانت شيئًا بين بين.