الفصل الرابع
وعثمان كغيره من أصحاب النبي: ذهب الصدر الأول من حياتهم في الجاهلية على التاريخ، فلم يكد يحفظ منه شيئًا، ولم يخلقهم الإسلام خلقًا جديدًا من حيث حياة نفوسهم وعقولهم وقلوبهم فحسب، وإنما خلقهم خلقًا جديدًا في تاريخهم أيضًا؛ فجبَّ ما كان من حياتهم قبل أن يسلموا، حتى كأنهم ولدوا حين أسلموا. وكان يقال إن عثمان ولد في العام السادس بعد وقعة الفيل، وكان يقال كذلك إنه ولد بالطائف؛ ولعل هذا كل ما حفظ من تاريخه الأول على غير ثقة من الذين رووه. وليس أدل على ذلك من الاختلاف في سِنِّهِ حين قتل؛ فقد كان قوم يرون أنه قتل وهو ابن خمس وسبعين سنة، وكان قوم آخرون يرون أنه قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين أو ست وثمانين سنة، وكان آخرون يرجحون أنه قتل في الثانية أو الثالثة والثمانين من عمره. ولو أنهم عرفوا تاريخ مولده بالضبط لما اختلفوا في سنه هذا الاختلاف، بل لَما قال قائل منهم: إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ يريد بذلك أن يلحقه بالنبي وخليفتيه، فقد اختارهم الله لجواره في هذه السن، مع بعض الاختلاف في ذلك بالقياس إلى عمر.
ولا يعلم الرواة من أمر عثمان في جاهليته إلا نسبه، فهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. فهو يلتقي مع النبي في عبد مناف من قبل أبيه، ولكنه يلتقي مع النبي من قبل أمه لقاء أقرب من هذا؛ فأمه أروى بنت كريز، وأم أروى هي البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم؛ فقد كانت أروى إذن بنت عمة النبي.
وقد تعلق الأمويون فيما بعد على عليٍّ وأصحابه من بني هاشم بهذه الرحم، فلاموا عليًّا لأنه خذل ابن عمته وابن عمه، وهو ابن عمته لما رأيت، وهو ابن عمه لالتقائه مع بني عبد المطلب في عبد مناف الذي ولد هاشمًا جد الهاشميين وعبد شمس جد الأمويين. وكان عفان، كما كان أبوه، وكما كان بنو أمية جميعًا، بل بنو عبد شمس، بل كثرة قريش، صاحب تجارة يخرج فيها إلى الشام. وقد مات في إحدى خرجاته وترك لابنه ثراء حسنًا. وذهب عثمان مذهب أبيه، بل مذهب قومه جميعًا في التجارة، فأفاد منها مالًا كثيرًا.
وعاد من الشام ذات يوم، فسمع بالدعوة الجديدة التي كان النبي قد أخذ يدعوها: سمع بذلك في أهل بيته في حديث طويل يرويه المحدثون وأصحاب السير؛ فقد زعموا أن خالته سعدى أنبأته بأمر النبي وَرَغَّبَتْهُ فيه، وكانت كاهنة، وزعموا كذلك أنه أنبئ بأمر النبي أثناء عودته من الشام مع طلحة بن عبيد الله. سمع وهو بين النائم واليقظان مناديًا ينبئ بخروج أحمد في مكة، فلما عاد إلى مكة أنبئ النبأ فوقع في قلبه منه شيء. والذي يتفق عليه الرواة هو أنه لقي أبا بكر فتحدث إليه وسمع منه، ودعاه أبو بكر إلى الإسلام فمال قلبه إليه. ثم صحب أبا بكر إلى النبي، فدعاه النبي ووعظه، فاستجاب له ولم يقم عنه إلا بعد أن أسلم. ويقال إن طلحة أسلم معه في ذلك المجلس، ويقال إنهما أسلما، في أثر الزبير بن العوام. ومهما يكن من شيء فقد كان عثمان من السابقين إلى الإسلام؛ كان أحد العشرة الرابعة من الرجال الذين سبقوا إليه، وكان إسلامه قبل أن يستقر النبي بدعوته في دار الأرقم.
ثم أصهر عثمان إلى النبي فتزوج ابنته رقية، وأصبح بعد هذا الصهر من أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، ثم كانت المحنة؛ أصابته كما أصابت غيره من المسلمين، فقد قيل: إن عمه الحكم بن أبي العاص لما علم بإسلامه عنفه تعنيفًا شديدًا وأوثقه، وأقسم لا يضع عنه وثاقه حتى يعود إلى دين آبائه، فلما رأى تشدد عثمان في دينه رد إليه حريته. ويقال كذلك إن أمه أعرضت عنه إعراضًا شديدًا، فلما لم يغن عنها ذلك شيئًا ثابت إليه. ولما أذن النبي لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة هاجر عثمان ومعه زوجه، ثم عاد بها، ثم هاجر معها الهجرة الثانية إلى الحبشة أيضًا، ثم هاجر إلى المدينة حين اتخذها النبي للإسلام دارًا، فلما خرج النبي بأصحابه إلى بدر لم يخرج معه عثمان؛ كانت زوجه رقية مريضة فأقام على تمريضها، وأنزل الله نصره على المسلمين يوم بدر، فأسهم له النبي مع الذين شهدوا الموقعة وَعَدَّهُ منهم. وماتت رقية فجزع لموتها جزعًا شديدًا لانقطاع الصهر بموتها بينه وبين النبي، ولكن النبي زوجه أختها أم كلثوم، فلم تلبث عنده إلا قليلًا حتى ماتت.
وقال النبي فيما يروي أصحاب السير: لو كانت عندنا أخرى لزوجناها عثمان. وكانت رقية قد ولدت له عبد الله، ولكنه مات في السادسة من عمره. وكذلك كاد عثمان أن يعقب من إحدى بنات النبي، ولو قد عاش ابنه عبد الله لكان له ولأبيه شأن أي شأن، ولكان أمره غير بعيد من أمر الحسن والحسين ابني فاطمة، رحمهم الله جميعًا.
وشهد عثمان مع النبي أُحدًا، ولكنه لم يثبت مع القلة التي ثبتت معه، وإنما فر مع كثرة المسلمين التي تولت، فأنزل الله عفوه عنها في الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله كما شهدها غيره من كبار أصحابه، ولكنه كان كريمًا سخي النفس واليد بماله في سبيل الله، فعل من ذلك ما لم يفعله غيره من أغنياء المسلمين حينئذ، فهو اشترى بئر رومة من ماله بألوف كثيرة وجعلها للمسلمين يُدلي فيها كما يُدلون، ووعده النبي بخير منها في الجنة. وهو كذلك اشترى أرضًا وسع بها النبي المسجد حين ضاق بالناس ووعده النبي خيرًا منها في الجنة، فلما كانت غزوة تبوك واشتد العسر وندب النبي الناس إلى الإنفاق في سبيل الله، قام عثمان بتجهيز الجيش، فقيل: إنه حمل المسلمين على ما احتاجوا أن يحملوا عليه من الإبل والخيل، وقيل: إنه أقبل بألف دينار فوضعها في حجر النبي واستعان النبي بها على تجهيز الجيش، ودعا لعثمان أن يغفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووعده بالجنة.
وكان عثمان أبر الناس بالناس، وأرفق المسلمين بالمسلمين وأحرصهم على صلة الرحم وأسخاهم يدًا وأسمحهم نفسًا وأعظمهم حلمًا، وكانت الخصلة التي ميزه بها النبي فيما روى المحدثون وأصحاب السير، صدق الحياء، وكان النبي يقول: إن الملائكة لتستحيي من عثمان. وكان النبي يلقى أصحابه متفضلًا غير متكلف، فإذا أذن لعثمان احتشم وقال: كيف لا نستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة. وكان النبي يعلل احتشامه حين يأذن لعثمان بأنه إن لم يفعل استحيا عثمان أن يثبت بين يديه وأن يبلغه حاجته ويأخذ حظه من التحدث إليه. ولما كان يوم الحديبية اختار النبي عثمان سفيرًا إلى قريش؛ لمكانه من بني أمية، ولمنزلته من قريش، وللينه وسماحة خلقه وحسن تأتيه لما كان يراد من الأمر، فلما جاء الخبر إلى النبي بأن قريشًا قد كادت لعثمان، بايع أصحابه على الجهاد لنصره، وأنزل الله في ذلك قرآنًا: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وبايع النبي بإحدى يديه عن عثمان. وقد روى المحدثون وأصحاب السير أحاديث كثيرة، منها الصحيح الظاهر الصحة، ومنها الموضوع الذي يظهر وضعه، ومنها ما يتعرض لشك قليل أو كثير، وكلها تحدث بأن عثمان كان عند النبي محببًا إلى نفسه مقربًا إليه بين المقربين إليه من خاصة أصحابه، وبأن النبي قد بشر عثمان بالجنة غير مرة، وأنبأه برضا الله عنه غير مرة أيضًا. وقد تحدث عبد الله بن عمر رحمه الله بأن المسلمين كانوا في أيام النبي يقدمون أبا بكر وعمر وعثمان، ثم لا يفاضلون بين أصحاب رسول الله؛ فهؤلاء النفر الثلاثة — إن صح هذا الحديث — كانوا في طليعة أصحاب النبي في أيام النبي نفسه. ومهما يكن من شيء فقد كان السلف يسمون عشرة ضَمِن النبي لهم الجنة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن نفيل.
فقد كان عثمان إذن أحد هؤلاء العشرة، وليس من المسلمين إلا من عرف لعثمان سابقته في الإسلام، وإصهاره إلى النبي مرتين، وحسن بلائه في الجهاد بنفسه وماله في سبيل الله.
ولما انتقل النبي إلى جوار ربه، وكانت البيعة لأبي بكر، كان عثمان من الذين أسرعوا إلى هذه البيعة ونصحوا للخليفة، وهو الذي كتب عهد أبي بكر إلى المسلمين باستخلاف عمر؛ أملى أبو بكر وكتب عثمان، ويقال إن أبا بكر أخذته أثناء الإملاء إغماءة وقد وصل إلى قوله: «إني استخلفت عليكم»، فأتم عثمان جملة أبي بكر وسمى عمر، فلما أفاق أبو بكر من غشيته طلب إلى عثمان أن يقرأ عليه ما أملى، فقرأ حتى أتى على اسم عمر، فكبر أبو بكر وجزاه خيرًا عن الإسلام والمسلمين وقال: خشيتَ ألا أفيق فسبقتَ إلى ما أريد، وإنك لها لأهل. فلما بويع عمر كان عثمان من أول الذين بايعوه، وأنفق أيامه ناصحًا له مشيرًا عليه، حتى إذا طعن عمر وطلب إليه المسلمون أن يعهد لهم، لم يرد أن يعهد ولم يرد أن يتركهم بغير مشورة عليهم، فاقترح عليهم نظام الشورى وجعلها في هؤلاء الستة الذين مات النبي وهو عنهم راضٍ، ولم يرد أن يضم إليهم ابن عمه سعيد بن زيد بن نفيل، مع أنه من العشرة الذين كان الناس يرون أن رسول الله قد ضمن لهم الجنة؛ لأنه كره أن تكون الخلافة في عديٍّ مرتين، ولم يحضره الشورى لأنه خاف أن يميل إليه بعض أهل الشورى لرضا النبي عنه ولمكانه من عمر. وأحضر ابنه عبد الله الشورى ولم يجعل له من الأمر شيئًا؛ لأنه كره أن يليها من آل الخطاب رجلان من جهة، ولأنه كان يرى في ابنه ضعفًا عن النهوض بأعباء الخلافة من جهة أخرى.
وأحسب أن أبا بكر لو عُمِّر وأدرك ما أتيح لعمر أن يدرك من الفتح واتساع رقعة الدولة وتشعب أمورها وتعقد المصالح فيها، وهذه المشكلات الكثيرة الخطيرة التي كانت تنشأ في كل يوم، يتصل بعضها بشئون السياسة، ويتصل بعضها بشئون الإدارة، ويتصل بعضها بالمحافظة على حقائق الدين ودقائقه مع هذا التطور العنيف الذي كان يطرأ على أمور المسلمين بين يوم ويوم — أقول: لو قد عُمِّر أبو بكر وشهد من هذا كله ما شهد عمر، لكان خليقًا أن يقف الموقف الذي وقفه عمر وأن يتردد بين الاستخلاف وترك الاستخلاف كما تردد. ولعله كان خليقًا أن يقترح نظامًا يشبه النظام الذي اقترحه عمر لانتخاب الخليفة شبهًا قويًّا أو ضعيفًا، فقد مات أبو بكر رحمه الله وأمر المسلمين قريب من حالهم التي تركهم عليها النبي: قد أعاد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدت عنه، ثم رمى بها إلى الأقطار الخارجية فبدأت الفتح ولكنها لم تمعن فيه. أما في أيام عمر فقد بدأ المسلمون سيرة جديدة من كل وجه؛ أمعنوا في الفتح إمعانًا عظيمًا، فأخرجوا الروم من الشام والجزيرة ومصر، ونقضوا سلطان الفرس في بلادهم نقضًا، احتلوا جزءًا عظيمًا جدًّا من هذه البلاد، ونظروا فإذا هم مضطرون بحكم الإمعان في الفتح إلى أن يزدادوا فيه إمعانًا، يشددون ضغطهم على الروم حتى يخرجوا من الساحل الشرقي للبحر الأبيض، وحتى ينشئوا بينهم وبينهم حدودًا يمكن الاطمئنان إليها، بل حتى يبلغوا قسطنطينية ويزيلوا ملك الروم كما أزالوا ملك الفرس، ثم ليمضوا في فتحهم بلاد الفرس حتى يحسموا أمرهم حسمًا، وحتى يبعدوا حدود الدولة في الشرق إلى أقصى ما كان يمكن أن تصل إليه الجيوش، وقد اضطرهم هذا إلى أن تكون لهم سياسة حربية مستقرة مطردة تلائم التوسع في الفتح والانتشار في الأرض؛ فقد يجب أن ينشئوا لهذا الفتح المتصل أداته الدائمة، وهي الجيوش التي تمضي للغاية التي رسمت لها، وهذه الجيوش يجب أن تأتلف من هذه المادة الغريبة التي لم تألف الحرب المنظمة بعدُ، من هؤلاء العرب البادين الذين عرفوا الغارات وأتقنوها، ولكنهم لم يعرفوا مقابلة الجيوش المنظمة المدربة في أرض لا علم لهم بها ولا خبرة لهم بما يكون فيها من المصاعب والعقاب.
ونحن نقرأ تاريخ الفتح الإسلامي فنعجب به، ويبهرنا ما أتيح للعرب فيه من قوة وسرعة ومضاء، ثم نريح أنفسنا من البحث والتحليل والاستقصاء، فنرد أمر هذا كله إلى تصديق الوعد الذي قدمه الله للمسلمين في القرآن، وإلى الإيمان الذي استقر في قلوب المسلمين فدفعهم إلى مواجهة المصاعب عن ثقة بالله واطمئنان إلى تصديق وعده وإنزال نصره عليهم في المواطن كلها.
وما من شك في أن هذا كله حق، وفي أن المسلمين قد اندفعوا إلى فتوحهم بهذا الإيمان القوي الذي يقهر المصاعب، ويذلل العقبات ويحل المشكلات. ولكن لكل شيء أسبابه ووسائله، وهذه الأسباب والوسائل قد احتاجت إلى كثير من الجهد، وإلى كثير من التدبير والتقدير وإعمال الرأي لتجتمع هذه القلوب المفترقة أولًا، ولتندفع إلى مغامراتها خارج بلاد العرب ثانيًا، ولتهاجم هذه القوى الهائلة المنظمة بقوى هائلة منظمة أيضًا؛ فلم يكن من الأمور السهلة ولا من المشكلات اليسيرة، إنشاء هذه الجيوش القوية الضخمة المنظمة التي رمى أبو بكر وعمر بها أقطار العالم القديم، ولم يكن من السهل ولا من الهين إمساك هذه الجيوش في مواقفها بعد المواقع وبعد الانتصار أعوامًا متصلة، مع ما نعلم من عادة العرب في غاراتها وحروبها القديمة؛ فقد كانت تحارب لتنتصر وتغنم، ثم لتعود بعد ذلك مسرعة إلى منازلها فتنعم بالغنيمة والسلم. فأما أن تقدم على حرب تعرف أولها ولا ترى آخرها، وهي بعد ذلك لا تشبه ما ألفت من حروبها في الجاهلية ومن غزواتها مع النبي، بل من حروبها أيام الردة؛ فهذا هو الشيء الجديد الذي احتاج إلى جهد لا نكاد نتصوره. وقد بذل عمر وأصحابه وقادته هذا الجهد مقدمين غير محجمين، وحازمين غير مترددين؛ فكتب لهم ما تمنوا من التوفيق، ويكفي أن نتصور تمصير الأمصار وإنزال الجيوش فيها وتنظيم المناوبات بين هذه الجيوش التي استقرت في هذه الأمصار، وأن نتصور أن هذه الجيوش قد ألفت من قوم بادين لم يألفوا الحضارة أو لم يألف كثير منهم الحضارة — يكفي أن نتصور هذا كله لنقدر بعض المشكلات الحربية الخطيرة التي نفذ منها عمر وأصحابه نفوذًا حقًّا.
ونحن كذلك نقرأ في التاريخ تدوين الدواوين، فنمر به مسرعين معجبين، ولو قد وقفنا عنده وقفة قصيرة وتبينا أن هذه الكلمة القصيرة لا تدل على أقل من إحصاء دقيق للمحاربين وقبائلهم ومنازلهم من هذه القبائل وأسرهم التي يعولونها أو ينبغي أن تعولها الدولة عنهم — لو قد فعلنا هذا لعرفنا أن هذا التجديد الخطير في حياة أمة بادية لم تعرف من قبل كتابًا ولا حسابًا ولا إحصاء؛ لم يكن من الأشياء الهينة التي يمر الناس بها مسرعين. فإذا صحبنا هذه الجيوش في مسيرها إلى الحرب، ثم في استقرارها بالأمصار بعد أن كانت المصادمات الكبرى بينها وبين جيوش الفرس والروم، ثم فكرنا في هذا النظام الرائع الذي وضعه عمر عن استشارة أصحابه لتنظيم المناوبة بين هذه الجيوش المستقرة في الأمصار بحيث لا يغيب الرجل في الغزو أو في الحرب العاملة عن أهله أكثر من ستة أشهر، حتى أصبح التجمير — وهو تجاوز هذه المدة بالمحاربين — إثمًا لا يصح للسلطان أن يتورط فيه — عرفنا مقدار ما كان ينبغي للخليفة وأعوانه أن ينفقوا من الجهود المادية والمعنوية المتصلة الملحة ليواجهوا مشكلات السياسة الحربية.
ولم تكن مشكلات هذه السياسة وحدها هي التي تشغل الخليفة وأعوانه ومشيريه؛ فقد كانت هناك مشكلات إدارية ليست أقل منها خطرًا ولا أهون منها شأنًا، فهذه البلاد التي فتحت على المسلمين كانت بلادًا لها سابقة في الحضارة، وتفوُّق في العمران، ولها نظمها المألوفة التي تتباين فيما بينها بتباين الأقطار والأقاليم. ولم يكن بد لهذه البلاد من أن تُدار بعد الفتح كما كانت تُدار قبل الفتح، فلم يكن الفتح الإسلامي فتحَ تخريب وتدمير، وإنما فتح تأمين وتعمير، ولم يكن من الممكن أن يصبح العرب فجأة مهرة في الإدارة متقنين للسياسة قادرين على أن يكفوا عن أنفسهم شر المغلوبين من ورائهم، ويؤمنوا هؤلاء المغلوبين على أنفسهم وأموالهم ومرافقهم، ويأخذوا من هؤلاء المغلوبين ما يمكِّنهم من إقرار الأمن والمُضيِّ في الحرب والاتساع في الفتح، فلم يكن لهم بد إذن من أن يحتفظوا بالإدارات التي وجدوها في تلك البلاد حين أخضعوها لسلطانهم، ومن أن يراقبوا هذه الإدارات مراقبة دقيقة متصلة تكفيهم ما يمكن أن تُقْدِمَ عليه من غش لهم أو مكر بهم أو تأليب عليهم، وليس شيء من هذا كله بالأمر اليسير.
ثم هناك مشكلات أخرى تتصل ببلاد العرب نفسها؛ فقد ينبغي للسلطان أن يجد السياسة التي يضبط بها هذا الشعب البادي الذي لم يألف الطاعة ولم يتعود الخضوع، وأن يضبطه في الوقت الذي يأخذه فيه شبابه وأولي القوة من رجاله؛ ليرسلهم إلى أماكن نائية قد يعودون منها وقد لا يعودون. ونحن نقرأ في غير مشقة أنباء التعبئة العامة حين تفرضها الظروف على هذا الشعب الحديث أو ذاك، فنعجب لذلك ونُعجب به. ولكنا لا نتعمق في دقائق التعبئة العامة ومشكلاتها، ولا نقدر أن لهذه التعبئة في الشعوب الحديثة نُظمًا مقررة متقنة لم ترتجل ارتجالًا، وإنما صنعت صنعًا بعد التجربة الدقيقة والمراس الطويل، فكيف بأمة بادية ليس لها في الحروب العظيمة سنة، وليس لها بالتعبئة المنظمة عهد، وإنما هي تواجه هذا كله للمرة الأولى من غير تجربة ولا مغالاة ولا معاناة ولا اختبار!
هذه ألوان يسيرة من المشكلات التي واجهت عمر، وكانت خليقة أن تواجه أبا بكر لو مُدَّت له أسباب الحياة، وكان من الطبيعي أن تواجه الخلفاء الذين يأتون بعد عمر. فأي غرابة في أن يشقى عمر بخلافته شقاء عظيمًا! وأي غرابة في أن يحزم أمره ويمضي عزمه ويشمر عن جد هائل فلا ينام ولا ينيم! ثم أي غرابة بعد ذلك في أن يلتمس بين أصحابه ومعاصريه من يستطيع أن يعهد إليه بمواجهة هذه المشكلات وما هو أعسر منها عسرًا وأشد منها تعقيدًا، فلا يكاد يظفر به أو يطمئن إليه!
والمشكلة بعد ذلك ليست مشكلة إدارة وسياسة وحرب ليس غير، ولكنها مشكلة تتعقد بهذا التراث الديني الذي يجب أن يقوم الخليفة عليه ليحميه ويحفظه ويصونه، ويمضي به في الطريق التي مضى فيها النبي بأمر من ربه. فلو قد كان الأمر أمر فتوح وإدارة وسياسة ليس غير، لمضى فيها العرب كما مضى غيرهم من الأمم التي خرجت من البداوة إلى الحضارة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخضوع إلى التسلط والاستعلاء؛ ولكن الأمر أمر فتح في حدود معينة قد رسمها الإسلام، وقوامها رفع المغلوبين إلى مكانة الغالبين بإذاعة العدل الكامل الشامل فيهم من جهة، وبينهم وبين الذين قهروهم من جهة أخرى؛ فلم يكن الفتح كما صوره الإسلام وكما تصوره النبي وصاحباه فتح تغلب وجباية، وإنما كان فتح إصلاح وهداية.
فلم يكن بد للخليفة إذن من أن يجمع إلى كفايته في أمور السياسة والإدارة والحرب كفايةً أخرى هي أشق منها مشقة وأعسر منها عسرًا، وهي الكفاية في حماية الدين وحياطته وصيانته من أن يكيد له المغلوب أو يستغله الغالب أو يفتر فيه القائمون عليه الذين يجب عليهم ألا يخشوا في حياطته لومة لائم مهما يكن.
أضف إلى هذا كله تراثًا آخر لم يكن بد لعمر من أن يفكر فيه ومن أن يلائم بينه وبين مصالح الناس وحقائق الدين، وهو هذه الأرستقراطية الجديدة التي أتيحت للعرب في هذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي أولًا، وفي هؤلاء القواد المظفرين ثانيًا: أرستقراطية جاءت من الدين لفريق من الناس، وأرستقراطية جاءت من الدنيا لفريق آخر، وأرستقراطية جاءت من الدين والدنيا جميعًا لفريق ثالث.
هذا الصحابي الذي سبق إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد المشاهد مع النبي، ثم أقام بعد ذلك في المدينة، له أرستقراطيته الدينية. وهذا القرشي أو العربي الذي أسلم بِأَخَرَةٍ ثم أبلى في الفتح بلاء حسنًا وامتاز بين الفاتحين، له أرستقراطيته الدنيوية. وهذا الصحابي الذي سبق إلى الإسلام وهاجر لله ولرسوله وشهد المشاهد مع النبي وامتاز بعد ذلك في الفتح، له أرستقراطية الدين والدنيا جميعًا. ولا بد للخليفة إن أراد أن يعهد ويستخلف من أن يلائم بين هذه المصالح المختلفة، ويخرج من هذه المشكلات المعضلات إلى حل يرضي مصالح الدين والدنيا وآراء الناس في أنفسهم وفي نظرائهم. فليس العجيب ألا يستخلف عمر، وليس العجيب أن يتردد حين يطلب إليه الاستخلاف؛ وإنما العجيب هو نقيض هذا، وقد اجتهد عمر ما وسعه الاجتهاد، واجتهد في أيام حرج وضيق، وأعجله الموت عن أن يطيل التفكير ويشاور من حوله من كبار الصحابة وزعماء المسلمين.
وما من شك في أن النظام الذي وضعه للشورى قد كان نظامًا لا يخلو من نقص، ولعله لا يخلو من نقص شديد، وأول ما نلاحظه على هذا النظام ضيق مجلس الشورى؛ فقد ائتلف هذا المجلس من سبعة أحدهم يشير وليس له في الأمر شيء: وهو عبد الله بن عمر، فكان هو المشير الوحيد الذي لا مطمع له في شيء، ولم يكد المشيرون يجتمعون حتى تبينوا الآفة الخطيرة التي كانت توشك أن تذهب بمجلسهم غير مذهب، وهي أن ستة منهم كانوا مشيرين، وكانوا جميعًا مرشحين للخلافة، فلم يكن لهم بد من أن يحملوا أنفسهم على ما لم تتعود النفوس أن تحمل عليه، لا لأنهم كانوا يؤثرون أنفسهم بالسلطان حبًّا للسلطان وحده، بل لأنهم كانوا يؤثرون أنفسهم بالسلطان نصحًا للإسلام والمسلمين. يرى كل واحد منهم مخلصًا أنه أقدر على احتمال العبء وأجدر أن يرعى ما ينبغي له من حق، وقد فوجئ المسلمون الذين كلفوا حراسة هؤلاء المشيرين مفاجأة أليمة حين رأوا هؤلاء المشيرين يختلفون في غير ائتلاف، ويتنافسون في غير وفاق، حتى قال أبو طلحة رئيس الحرس: لقد كنت من أن تَدافعوها أخوف مني من أن تَنافسوها.
كان رحمه الله في سذاجته وطهارة قلبه يرى — كما كان يرى عمر — أن الخلافة عبء ثقيل ينبغي ألا يُطمع فيه، بل ينبغي أن يرغب الرجل عنه إيثارًا للعافية في دينه ودنياه، ولكن المشيرين لم يكونوا يرون هذا الرأي، وإنما كانوا يرون أن الخلافة واجب يجب أن يتنافس المتنافسون في النهوض بأعبائه مهما تثقل، تقربًا لله إن حسنت بهم الظنون، ويجب أن تحسن بهم الظنون، ورفقًا بالناس إن صدقت فيهم الآراء، ويجب أن تصدق فيهم الآراء. وكان أسرع المشيرين إلى التنبه لهذه الآفة ومحاولة الطب له، عبد الرحمن بن عوف؛ فقد عرض على أصحابه أن يخلع أحدهم نفسه من الأمر وأن يختار بعد ذلك للمسلمين، فأُسكتوا جميعًا، أو قل أُسكت منهم أربعة، هم: علي وعثمان وسعد والزبير، ولم يُسكت طلحة ولم يتكلم لأنه كان غائبًا لم يحضر الشورى، فلما رأى عبد الرحمن أنهم قد أُسكتوا، وأنهم لا تطيب نفس واحد منهم عن هذا الأمر، خلع هو نفسه منه على أن يختار للمسلمين من هؤلاء الخمسة ناصحًا لله وللمؤمنين. ولم يكن من اليسير أن يرضى الأربعة منه بما عرض عليهم؛ فقد كان عليٌّ يخاف أن يميل عبد الرحمن إلى عثمان لصهر كان بينهما، وكان غير عليٍّ يخاف أن يميل عبد الرحمن إلى سعد لقرابة كانت بينهما، ولكن القوم تعاطوا العهود والمواثيق على ألا يألو عبد الرحمن المسلمين نصحًا، وعلى ألا يميل مع الهوى ولا يتأثر بقرابة أو صهر، وعلى أن يقبل القوم من يختاره لهم من بينهم.
ولو قد وسَّع عمر مجلس الشورى وأكثر فيه من أمثال عبد الله بن عمر من أولئك الذين يحضرون الشورى ويشاركون فيها ولا يكون لهم من الأمر شيء؛ لكان من الممكن ألا يتعرض مجلس الشورى لما تعرض له من الشك والاختلاف. وأكاد أعتقد أن الخير قد كان يكون لو تصور عمر مجلس الشورى لا على أنه مجلس مؤلف من المرشحين أيهم انتخب فهو خليفة، بل على أنه مجلس مؤلف من المشيرين الذين تعرض عليهم أسماء هؤلاء الستة ليختاروا من بينهم رجلًا يستخلفونه. ولم يخطر لعمر رحمه الله ولم يخطر للمسلمين من بعده أن الأنصار كانوا خليقين أن يشهدوا الشورى، وأن يكون لهم أن يقولوا رأيهم ويشاركوا في الاختيار بين المرشحين، فقد نعلم أن الإمامة في قريش ما دام المسلمون قد اتفقوا على ذلك، ولكن لا نعلم أن معنى هذه القاعدة أن قريشًا وحدها هي التي تختار الإمام، فليس الإمام إمامًا لقريش وحدها ولكنه إمام للمسلمين جميعًا، فالمسلمون جميعًا ولاة هذا الاختيار على أنهم مقيدون بأن يكون الإمام الذي يختارونه من قريش، وقد استقر في نفوس المسلمين لذلك العهد وبعد ذلك العهد أن الاختيار إنما يكون لأهل الحل والعقد، وما نعلم أن الحل والعقد قد كانا إلى قريش وحدها أيام أبي بكر وعمر، وقد قال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فجعلهم من أهل الحل والعقد؛ لأن الوزراء فيما نعتقد يحلون ويعقدون. كان من الطبيعي إذن أن يشهد الأنصار مجلس الشورى ويشاركوا في اختيار الإمام، بل كان من الطبيعي أن يأتلف مجلس الشورى من جماعة تتجاوز قريشًا والأنصار وتشمل قومًا غيرهم من زعماء العرب وقواد المسلمين في الحرب وكبار الولاة والعمال، فلو قد ائتلف مجلس الشورى على هذا النحو لكان خليقًا أن يجنب المسلمين كثيرًا مما تعرضوا له من الشر.
وآفة أخرى نراها في تنظيم الشورى على هذا النحو، وهي أن سلطان المشيرين كان سلطانًا موقوتًا حدد له عمر ثلاثة أيام وقبل المسلمون منه هذا التحديد، وكان من الطبيعي أن يختاروا من بينهم رجلًا وأن يستخلفوه، وأن يبايعه من حضر من المسلمين، وأن يكتب ببيعته إلى الأمصار، أو بعبارة أدق: أن يكتب هو ببيعته إلى الأمصار وينفذ فيها أمره ونهيه بحق الخلافة التي استمدها من هؤلاء الذين بايعوه.
ومعنى هذا كله أن أهل المدينة كانوا وحدهم بمقتضى هذا النظام هم الذين إذا بايعوا ألزموا المسلمين في جميع أقطار الأرض، وعلة ذلك أن المدينة كانت مستقر أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ومواطن أهل الحل والعقد، وعلة ذلك أيضًا أن الانتظار الطويل في اختيار الإمام كان خليقًا أن يثير القلق ويحدث الأحداث، ولكن ليس من شك في أن بعض أصحاب النبي من أولي الرأي والبصيرة كانوا قد تفرقوا في الأمصار ومواطن الحرب بأمر عمر أو عن إذنه، وكانوا خليقين لو استشيروا أن يشيروا وينصحوا.
على أن الخطر كل الخطر لا يأتي من هذه العجلة التي قد تدعو إليها المصلحة، وما نشك في أن عمر قد قدر هذه المصلحة فأحسن تقديرها، وإنما يأتي الخطر من أن هذا المجلس قد كان موقوتًا ينحل متى تم اختيار الإمام، ولو قد وُسِّعَ مجلس الشورى أولًا وجُعِل نظامًا دائمًا بعد ذلك، بحيث يصبح مجلس مراقبة للإمام في عمله من جهة، ومجلس اختيار للأئمة كلما احتاج المسلمون إلى اختيار الإمام من جهة أخرى، لكان المسلمون قد سبقوا إلى النظام البرلماني، وهم كانوا خليقين أن يسبقوا إليه، فقد رأيت من سيرة عمر أنه كان يسعى إلى هذا النظام سعيًا حثيثًا. ولكني أعيد ما قلته آنفًا من أن عمر قد أعجل عن التفكير في هذا النظام، ولو قد مُدَّت له الحياة لكان من الممكن جدًّا أن يفرغ لهذا الأمر وأن يشاور فيه، وأن ينتهي إلى نظام يشبه هذا الذي صورناه. إذن لما حدثت الأحداث، ولما نشأت هذه المشكلة الخطيرة التي نشأت بين عثمان وبين الذين ثاروا به وخرجوا عليه، وهي: أيجوز للمسلمين أن يخلعوا إمامهم إن أنكروا سيرته أم لا يجوز؟ بل أيجوز للإمام نفسه أن يخلع نفسه إن ضاقت به الرعية أم لا يجوز؟
ومهما يكن من شيء فقد جعل المشيرون أمرهم إلى عبد الرحمن ثم تفرقوا فأقاموا في بيوتهم، وجعل صهيب يصلي بالناس كما أمر بذلك عمر، وقام أبو طلحة وأصحابه على باب عبد الرحمن ينتظرون به انتهاء الأيام الثلاثة ليختار للمسلمين إمامًا. وقيل: إن عبد الرحمن لم يكتف بتفكيره وتقديره واستخارته الله للمسلمين، وإنما جعل يشاور الناس يسعى إليهم ويدعوهم إليه، لا يستشير الرجال منهم خاصة، وإنما يستشير ذوات الفضل من النساء وفي طليعتهن أمهات المؤمنين، حتى إذا كان يستوفي الأيام الثلاثة أرسل إلى علي وعثمان فدعاهما إليه وخلا بهما واحدًا في إثر صاحبه، وسأل عليًّا قائلًا: أرأيتك لو لم أولك فمن تشير عليَّ أن أختار؟ فقال له: عثمان. ثم ألقى السؤال نفسه على عثمان حين خلا به فقال: عليٌّ. وإن كان هذا موضع شك، فلم يشهد أحد ما كان من الحديث بين عبد الرحمن وصاحبيه، وعلى كل حال فقد خلا عبد الرحمن إلى صاحبيه أحدهما في إثر الآخر، ثم أمر فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فازدحم الناس إلى المسجد حتى اكتظ بهم، وصعد عبد الرحمن إلى منبر النبي وجلس منه حيث كان النبي نفسه يجلس، وكان أبو بكر قد نزل عن مجلس النبي درجة، وكان عمر قد نزل عن مجلس أبي بكر درجة أخرى، فلما استخلف عثمان قال: إن هذا يطول، ثم جلس مجلس النبي.
رقى إذن عبد الرحمن المنبر وجلس مجلس النبي، وقد اعتم بعمامة كان النبي قد عممه بها في إحدى خرجاته، ثم وقف فأطال الوقوف، ودعا دعاء لم يسمعه الناس، ثم قال: هلم إليَّ يا عليُّ، فقام علي فسعى إليه، فبسط عبد الرحمن يده فأخذ بيد علي ثم قال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله وفِعْل أبي بكر وعمر؟ قال علي: اللهم لا، ولكني أحاول من ذلك جهدي وطاقتي. فأرسل يده، وقال: هلم إلي يا عثمان، فأقبل عثمان حتى وقف عند المنبر، وبسط عبد الرحمن يده، فأخذ يد عثمان وقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله وفِعْل أبي بكر وعمر؟ قال عثمان: اللهم نعم. قال عبد الرحمن: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد. ثم قام الناس فبايعوا عثمان.
وبايع علي فيمن بايع لم يتردد. ويقال إنه تردد، فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلًا، ثم تلا الآية: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. فأقبل علي فبايع. وأكاد أقطع بأن عليًّا لم يتردد ولم يحتج إلى من يُذكره بالعهد الذي أعطاه على نفسه، فعلي أوفى بالعهد وأكرم على نفسه من أن يحتاج إلى مثل هذا التنبيه، وسيرته كلها تنبئنا بذلك.
ولم ينقض هذا اليوم، وهو اليوم الأخير من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، حتى كان عثمان إمامًا يستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين في أثبت ما روى المؤرخون.