الفصل السابع
فلم يكد عثمان ينفق العام الأول من خلافته ويخرج مما التزم من وصية عمر بإقرار العمال عامًا على أعمالهم، حتى باشر سلطته الطبيعية في التولية والعزل. وكان في مباشرته لهذه السلطة شيء من العجلة، وكثير مع ذلك من الأناة. فهو أولًا لم يُلْقِ بالًا إلى العمال الذين كانوا ينهضون بالأمر في الولايات التي لم يكن لها خطر في سياسة أو إدارة أو حرب، وإنما ترك عمال عمر في هذه الولايات، ولم يغير منهم إلا قليلًا حين دعت الحاجة إلى هذا التغيير. ولم يحتفل لهذا التغيير كثير احتفال، وإنما سارت فيه سيرة هينة سواء. وقد كانت الولايات تختلف فيما بينها اختلافًا شديدًا؛ لبعضها خطر في السياسة والإدارة والحرب، وهي الولايات التي فتحت على المسلمين، واقتطع بعضها من الروم وغلب الفرس على سائرها، وكانت هذه الولايات الخطيرة أربعًا: الشام ومصر والكوفة والبصرة، وكانت أمام كل واحدة من هذه الولايات ثغور يجب أن تحمى، ودار حرب يجب أن يمعن فيها المسلمون؛ فكان البحر وبلاد الروم نفسها أمام الشام، وكان البحر وشمال إفريقية بإزاء مصر، وكان ما فتح وما لم يفتح بعدُ من بلاد الفرس أمام المصرين العراقيين: الكوفة والبصرة.
وكانت هذه الولايات الأربع موطن القوة الإسلامية، فيها الجند المقيمون، وبإزائها الثغور التي يقيم فيها ويخرج منها ويسعى إليها الجند المحاربون. وكانت هذه الولايات الأربع مصدر ثراء المسلمين؛ فيها الحضارة المستقرة المترفة، وفيها الأرض الخصبة التي تُغِلُّ ما شاء الله أن تُغِلَّ من الثمرات، وتؤتي ما شاء الله أن تؤتي من الخراج، وفيها المعاهدون الذين يؤدون الجزية. ثم هي بعد ذلك وجوه الفتح ومصادره، إليها تجلب الغنائم التي يغنمها الفاتحون في كل عام، ومنها ترسل الأخماس إلى المدينة. فإذا كان العرب مادة الإسلام ومصدر قوته العسكرية، فقد كانت هذه الولايات مادة الإسلام ومصدر قوته المالية. فلا غرابة في أن يعنى بها الخليفة عناية خاصة لا تقاس إليها عنايته بغيرها من الولايات التي لم يكن لها من الخطر والامتياز وارتفاع الشأن ما كان لهذه الولايات. فمكة والطائف واليمن ولايات لها مكانتها ولها قدرها، ولكنها لا تواجه ثغورًا للحرب، ولا تغلُّ كثيرًا من مال، وليست هي مواطن القوة والأَيْدِ التي تعتز بها الدولة الناشئة.
كان لها خطرها العظيم قبل أن تفتح حين كان النبي يجدُّ في إخضاع بلاد العرب كلها للإسلام. فلما افتتحت وعُبد الله فيها وأمن الإسلام شرها، أصبحت ولايات ثانوية بالقياس إلى تلك الولايات الجديدة التي تكلف المسلمون في فتحها وتمصيرها من الأنفس والأموال والجهود ما لا يقاس إليه ما تكلفوا في فتح تلك الولايات العربية الأولى.
ومن أجل ذلك كله نرى المسلمين إذا أرادوا أن يخرجوا من المدينة لم يفكروا في الذهاب إلى مكة أو الطائف أو اليمن، أو لم يفكر أكثرهم في الذهاب إلى هذه البلاد، وإنما فكروا في الذهاب إلى العراق أو الشام أو مصر؛ في هذه البلاد كان الصالحون منهم يلتمسون ثواب الآخرة بالتزام الثغور والإمعان في الفتح، وكان المكتسبون منهم يبتغون عرض الدنيا، يتاجر منهم من يتاجر، ويزارع منهم من يزارع، ويتقلبون في ضروب الكسب والغنى على اختلافها.
وقد مات عمر وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة الثقفي، وعلى البصرة أبو موسى الأشعري؛ فأقرهما عثمان عامه الأول. فلما انقضى هذا العام عزل المغيرة عن الكوفة وولى عليها سعد بن أبي وقاص الزهري عن وصية من عمر الذي تقدَّم إلى الخليفة من بعده إن أخطأت الخلافة سعدًا أن يستعين به، قائلًا: إني لم أعزله عن خيانة. ولكن سعدًا لم يقم في الكوفة إلا عامًا وبعض عام حتى اضطر عثمان إلى عزله.
وقد تحدَّث المؤرخون بأن عثمان قد اضطر إلى عزل سعد اضطرارًا؛ حدث بينه وبين صاحب بيت المال عبد الله بن مسعود خلاف أغضب عثمان عليهما جميعًا، فهمَّ بهما، ثم كف عنهما واكتفى بعزل سعد.
وكان أصل هذا الخلاف غريبًا حقًّا؛ فقد قيل: إن سعدًا اقترض شيئًا من بيت المال وأعطى به على نفسه صكًّا، فطلب إليه عبد الله بن مسعود أن يؤدي دَينه، ولم يتيسر هذا المال لسعد، فطلب النظرة إلى ميسرة، وأبى ابن مسعود، واستعان كل من الرجلين على صاحبه بجماعة من أهل الكوفة: يريد ابن مسعود أن يستعين بأصحابه على سعد ليؤدي دينه، ويريد سعد أن يستعين بأصحابه على ابن مسعود لينظره إلى ميسرة، ثم يلتقي الرجلان ومع كل واحد منهما أصحابه، فيتلاحيان، ويهم سعد، فيما يقول الرواة، أن يدعو على ابن مسعود، فيجزع ابن مسعود من ذلك ويولي مسرعًا؛ لعلمه بأن النبي كان قد دعا الله أن يستجيب لسعد كلما دعاه. قال الرواة: إن سعدًا رفع يديه وقال: اللهم رب السموات والأرض. فقال له ابن مسعود: ويلك! قل خيرًا. ثم ولى مسرعًا. وارتفع الأمر إلى عثمان فغضب عليهما جميعًا، وهمَّ بهما، ثم كف، وعزل سعدًا وأخذ منه ما كان عليه، وترك ابن مسعود على بيت المال، وأرسل إلى الكوفة واليًا جديدًا.
والرواة متفقون على هذه القصة، ولكني أقف منها موقف التحفظ الشديد، ففيها أمور تدعو إلى هذا التحفظ؛ فقد تقدم عمر إلى الخليفة من بعده أن يولي سعدًا وقال إنه لم يعزله عن خيانة. وأيسر ما تصور لنا هذه القصة أن سعدًا قد اقترض من بيت المال ثم التوى بدينه أو ماطل في أدائه. وما هكذا يكون من اختاره عمر للشورى ورشحه للخلافة وتقدَّم إلى الخليفة من بعده إن صرفت الخلافة عن سعد أن يستعين به. ولم يعرف أحد عن عمر أنه أمر أو نهى ليؤثر أحدًا بخير من دون الناس، وإنما أمر ونهى دائمًا ليؤثر عامَّة المسلمين بالخير. فهو حين تقدم إلى الخليفة في تولية سعد لم يكن يريد أن يرضي سعدًا ولا أن يُحابيه ولا أن يقدِّمه على غيره من أصحابه، وإنما نصح للخليفة وللمسلمين وأمرهم أن يستعينوا بكفاية سعد، وبكفايته في أمور الحرب خاصة. فلم تكن أمور بلاد الفرس على خير ما يحب المسلمون، قد أزيل سلطانها جملة، ولكن شوكتها لم تخضَدْ بعد. فكسرى يزدجرد قد انهزم، ولكنه لم يُقتل ولم يُؤسر ولم يُخرج من بلاده، وإنما هو مقيم فيها يتنقل بالفلول بين أقاليمها ومدنها ودساكرها. وفي هذه البلاد مدن كثيرة، بعضها لم يصل إليه المسلمون بعد، وبعضها قد صالح المسلمين ولكن على دَخَلٍ، فهو ينتهز الفرصة وينتقض كلما وجد إلى الانتقاض سبيلًا؛ فقد بدئ فتح بلاد الفرس وتقدَّم مسرعًا إلى غايته، ولكنه لم يبلغ هذه الغاية بعد. وسعد بن أبي وقاص هو بطل القادسية، وهو قاصم دولة الأكاسرة؛ فليس غريبًا أن يفكر فيه عمر ليتم من الفتح ما بدأ. وأكبر الظن أن عمر لو عاش لردَّ سعدًا إلى الكوفة وأمره بالمضي إلى عدوه حتى يتم الله الفتح على يديه. وسعد صاحب السابقة المعروفة في الإسلام، حتى إنه كان يقول: والله لقد كنت أراني ثلث الإسلام. يريد أنه أسلم بعد أبي بكر فكان ثالث ثلاثة؛ أولهم النبي، وثانيهم أبو بكر، أو أنه أسلم بعد أبي بكر وزيد بن حارثة، فكان ثالث ثلاثة سبقوا بالاستجابة إلى دعوة رسول الله. وسعد، فيما اتفق عليه الرواة والمحدثون، أول من رمى بسهم في سبيل الله حين خرج في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب إلى بطن رابغ.
وسعد هو الذي فدَّاه رسول الله بأبيه وأمه يوم أحد، ولم يجمع لأحد بين أبويه غيره، وذلك حين ثبت بين الذين ثبتوا مع رسول الله وجعل ينضح عنه بسهامه، وكان أرمى الناس بسهم، فكان النبي يقول له: «ارم سعد، فداك أبي وأمي.» فمن أتيح له أن يكون ثالث ثلاثة في الإسلام، وأول رام بسهم في سبيل الله، وأن يفدِّيه رسول الله بأبيه وأمه، وأن يرضى عنه رسول الله ويجعله في العشرة الذين ضمن لهم الجنة، وأن يقصم دولة الفرس وينتصر يوم القادسية، وأن يُحضره عمر الشورى ويرشحه للخلافة، ويتقدم في توليته إن صرفت الخلافة عنه — من أتيح له هذا الفضل كله لا يمكن أن يلتوي على بيت المال بدين قلَّ أو كثر، ولا أن يشك فيه ابن مسعود هذا الشك، ولا أن يغضب عليه عثمان فيهمَّ به ثم يعفو عنه بعد أن يأخذ منه ما كان عليه. وأكبر الظن أن عمر لم يتقدم إلى الخليفة من بعده في تولية سعد ولاية ما، وإنما تقدم إليه في تولية سعد الكوفة خاصة؛ لأنها كانت المصر الذي كان يجب أن يستقر فيه سعد، وأن يتجه منه إلى إتمام الفتح في ذلك الوجه من وجوه الحرب. وإنه لغريب حقًّا أن يسوء ظن ابن مسعود بسعد وهو يعلم سابقته ومكانه من النبي ومن صاحبيه ورأي النبي فيه. فقد كان ابن مسعود من ألزم الناس للنبي، وأرواهم عنه للسنة، وأحفظهم عنه للقرآن، وأعلمهم برأيه في أصحابه. وأغرب من ذلك أن يشك فيه ويلح عليه في أداء دينه، حتى إذا همَّ سعد بالدعاء عليه أخذه الإشفاق والجزع، فترضاه وولى مسرعًا. إنما لزم سعد موقف الحياد حين كانت الفتنة، وأبى أن يقاتل مع أولئك أو هؤلاء من المختصمين، حتى يأتوه بسيف مبصر عاقل ناطق ينبئه بأن هذا مسلم وهذا كافر، فكان موقفه هذا مصدرًا لهذه القصة الغريبة. ولو قد انحاز سعد لأنصار عليٍّ لدافعت عنه الشيعة، ولو قد انحاز لأنصار عثمان لدافعت عنه العثمانية، ولكنه وقف من المختصمين موقف المعتزل، فوقف المختصمون منه هذا الموقف نفسه.
وأكاد أعتقد أن وجه الحق في عزل سعد، أن بني أمية وآل أبي معيط كانوا يتعجلون الولاية ويحتالون في الوصول إليها، ويلحون على عثمان في أن يمهد لهم إليها الطريق. وآية ذلك — فيما أظن — أن عثمان حين عزل سعدًا لم يول على الكوفة أحدًا من كبار أصحاب النبي، لا من المهاجرين ولا من الأنصار، لم يرسل إليها طلحة ولا الزبير ولا عبد الرحمن ولا محمد بن مسلمة ولا أبا طلحة، وإنما أرسل إليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ولم يكن المسلمون يطمئنون إلى الوليد بن عقبة؛ لأنه غش النبي وكذب عليه، وكفر بعد إسلام، وأنزل الله فيه قرآنًا فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ. كان ذلك حين أرسله النبي مُصَّدِّقًا في بني المصطلق، فعاد إلى النبي يزعم أنهم منعوه الصدقة، فخرج النبي إليهم غازيًا، ثم تبين كيد الوليد وأنبأه الله بجلية الأمر. وقد عاد الوليد إلى إسلامه حين لم يكن بد من العودة إلى الإسلام، وأصلح من سيرته ما استطاع. وقيل: إن عمر قد استعمله على صدقة بني تغلب في الجزيرة. والفرق بين أن يرسله عمر أو والٍ من ولاة عمر إلى صدقة حيٍّ من نصارى العرب البادين في الجزيرة، وبين أن يوليه عثمان مصرًا من أعظم أمصار المسلمين وأكثرها ثغورًا، وأن يوليه مكان سعد بن أبي وقاص؛ هذا الفرق عظيم جدًّا.
فالذين أنكروا تولية الوليد على الكوفة مكان سعد لم يُبعِدوا؛ فليس من شك في أن هذه التولية كانت أمرًا عظيمًا.
وهناك سبب آخر يدعو إلى الشك في هذه القصة التي حملت عثمان على عزل سعد وتولية الوليد، وهو أن عثمان نفسه قد سار في بيت المال بالمدينة سيرة أعظم خطرًا مما نسب إلى سعد؛ فهو قد أعطى رجلًا من ذوي قرابته مقدارًا ضخمًا من بيت المال، واستكثر عامله على بيت المال هذا المقدار فلم يخرجه، فألح عثمان فأبى الخازن، فلامه عثمان وقال له في قصة سنعرض لها في إبانها: «ما أنت! إنما أنت خازن لنا.» قال صاحب بيت المال: «ما كنت أرى أني خازن لك، وإنما خازنك أحد مواليك، لقد كنت أراني خازنًا للمسلمين»، ثم أقبل بمفاتيح بيت المال فعلقها على منبر النبي وجلس في داره. فإذا سار عثمان في بيت المال هذه السيرة، فغريب أن ينكر على سعد ما يقال من أنه اقترض من بيت المال شيئًا وطلب النظرة في أداء ما كان عليه من دين. وكما أن عمر لم يعزل سعدًا عن خيانة، فقد نرى أن عثمان لم يعزل سعدًا عن خيانة ولا عن شيء يتصل بالخيانة من قريب أو بعيد، وإنما أنفذ وصية عمر، ثم عزل سعدًا ليجعل مكانه رجلًا من آل أبي معيط. ويجب أن نقرر أن الوليد قد سار أثناء ولايته على الكوفة سيرة فيها كثير جدًّا من الغَناء وحسن البلاء. فهو لم يقصر في سد الثغور والإمعان في الفتح، وإنما بلغ من ذلك غاية عرفت له وتحدَّث بها الناس في حياته وبعد موته. وهو قد ساس أهل الكوفة سياسة حزم وعزم ومضاء، فأقر الأمن، وضرب على أيدي المفسدين من الأحداث والذين لا يرعون للنظام حرمة ولا يرجون للدين وقارًا. عدا نفرٌ من الشباب على فتى من أهل الكوفة فقتلوه، فأخذهم الوليد وأقام عليهم الحد، فقتلهم على باب قصر الإمارة. ويقول بعض الرواة إن هذا أحفظ عليه آباء هؤلاء القاتلين المقتولين، فأخذوا يتلمسون أغلاطه ويتكلفون اتهامه ويشككون فيه الناس، ثم ما زالوا به، حتى دخل عليه منهم داخل فَسَمَرَ عنده وتأخر، فلم ينصرف حتى نام الوليد، فقام فاستل خاتمه من أصبعه وذهب مع صاحب له بالخاتم إلى عثمان فشهدا عنده على الوليد بشرب الخمر.
والتكلف في هذه القصة أظهر من أن نحتاج إلى تبينه وإطالة القول فيه. فما أمير ينام وعنده سماره، ثم يمعن في النوم حتى يُستل خاتمه من أصبعه دون أن يحس ذلك أو يحسه أحد من خُدامه وحُجابه وشُرَطِه! وإذا كان الأمر من التهاون والاستخفاف بحيث يستل منه خاتمه الذي يمضي به الأمر والنهي ويمضي به كتبه إلى الخليفة وإلى قواده في الثغور، فما هو من الحزم والعزم والفطنة في شيء. وإنما الأشبه ما قاله خصوم الوليد من أنه كان يعاقر الخمر مع صديقه وشاعره أبي زبيد، ذلك الذي عرفه في تغلب حين كان مُصَّدِّقًا فيهم، فأنصفه من أخواله بني تغلب وآثره بمودته. وكان أبو زبيد طائي الأب تغلبي الأم، وكان نصرانيًّا. فلما ولي الوليد أمر الكوفة كان هو يفد عليه، فيقيم عنده ويأخذ جوائزه. وما زال به الوليد حتى أسلم فقرب ما بينهما. وما أرى إلا أن إسلام أبي زبيد كان رقيقًا كإسلام الوليد. ويدل على صحة هذا المذهب في هذه القصة أن عثمان أقام الحد على الوليد، والحدود تدرأ بالشبهات. فلو قد رأى عثمان في شهادة هذين الشاهدين شبهة قوية أو ضعيفة لتحرج من إقامة الحد عليه. وليس البأس على عثمان في أن يدرأ الحد بالشبهة، وإنما البأس كل البأس في أن يقيم الحدَّ والشبهةُ قائمة مهما يكن حظها من الضعف.
والناس يختلفون فيمن أنفذ أمر عثمان بإقامة الحد على الوليد، فقوم يرون أن عليًّا هو الذي ضرب الوليد إنفاذًا لأمر عثمان حين نكل كثير من الناس عن ضربه. فإن صحت هذه الرواية — وما نراها تصح — فعليٌّ أعلم بالدين وأحفظ للسنن وأشد إيثارًا لرضا الله وإنفاذ أمره من أن يقيم الحد والشبهةُ قائمة. وزعم أكثر الرواة أن الذي ضربه هو سعيد بن العاص الأموي. وسعيد قريب القرابة من عثمان ومن الوليد، وهو صاحب عصبية واعتداد بمكان الخليفة ورهطه الأدنين والأبعدين. فلو قد رأى شبهة لكان خليقًا أن يراجع عثمان في قضائه، ولكن خليقًا إذ لم يفلح أن يعتذر من ضرب الوليد. ولكنه ضربه، وأورث هذا الضرب عداوة متصلة في أعقاب الرجلين.
وقد زعم خصوم الوليد — وما نحسبهم إلا متزيدين — أن الوليد أصبح ذات يوم سكران، فصلى الصبح بالناس ثلاثًا أو أربعًا، ثم التفت إليهم وقال: إن شئتم زدناكم. فشتمه من شتمه وحصبه من حصبه من الناس، واستعْفَوْا عثمان منه فأعفاهم. وشاعت فيه هذه القالة حتى تندَّر به المتندرون، وقال فيها الشعراء، فقال الحطيئة فيما زعموا:
وهذه القصة مخترعة من أصلها فيما أعتقد. فلو قد زاد الوليد في الصلاة لما تبعته جماعة من المسلمين من أهل الكوفة، وفيهم نفر من أصحاب النبي، وفيهم القراء والصالحون، ولما رضي المسلمون من عثمان بما أقام عليه من حد الخمر؛ فإن الزيادة في الصلاة والعبث بها أعظم خطرًا عند الله وعند المسلمين من شرب الخمر.
وهذا الشعر لم يقله الحطيئة، وإنما قال الحطيئة شعرًا آخر يمدح به الوليد مدح محب له حريص على رضاه، وهو:
وقد عارض بعض الشيعة بهذا الشعر؛ شعر الحطيئة في مدح الوليد.
وليس من شك في أن الحطيئة لم يقل أيضًا هذه الأبيات الأخرى:
فهذا الشعر ليس إلا تزيدًا من خصوم الوليد. وللحطيئة بعد ذلك شعر جيد يمدح به الوليد أثناء إمارته، وقبل أن يفكر أحد في الائتمار به والتشنيع عليه، وهو:
وربما كان من التكلف ما روي من أن الوليد أتى بساحر، فاستفتى فيه ابن مسعود، فلما تحقق ابن مسعود إيمانه بالسحر أمر بقتله، وتعجل رجل من أهل الكوفة فقتله عن غير أمر الوليد، ثم ذهب أهل الكوفة يشكون الوليد إلى عثمان فردَّهم وقال: تقتلون الناس بالظن!
وما أستبعد أن يكون الوليد قد أتى بهذا الساحر فنظر إلى لعبه، وغضب لذلك المتزمتون من أهل الكوفة، فعدوْا على ذلك المشعوذ المسكين فقتلوه. وغضب لذلك الوليد وغضب لذلك عثمان؛ فما ينبغي للناس أن يريقوا الدماء عن غير أمر السلطان ولا أن يريقوها بالظنة.
ثم كان الوليد — وقد أحس تنكر الناس له وتنمرهم عليه — يستأنف سياسة ظاهرها الرفق وإشاعة الخير والمعروف، وباطنها التحبب إلى العامة والتقوِّي بالدهماء؛ ففرض للرقيق أعطيات يتوسعون بها: ثلاثة دراهم لكل واحد منهم كل شهر، دون أن ينقص ذلك من أعطيات سادتهم ومواليهم، إنما كان يؤدَّى إليهم ذلك من فضول الأموال. فقد كان للأموال إذن فضول يمكن أن تردَّ على أصحاب الأعطيات من الذين قاتلوا على هذا المال وأفاء الله على أيديهم هذا الفيء، ولم يكن الوليد يردُّ هذه الفضول على هؤلاء الناس، وإنما كان يوسع بها على العبيد والإماء؛ فكان إذن يرد بعض الفيء على بعضه، فلم يكن العبيد والإماء إلا شيئًا من هذا الفيء، فهم أسارى قد قسموا بين الفاتحين كما قسم بينهم الذهب والفضة وغير الذهب والفضة من الغنائم. والذي يعرف النفس العربية التي احتملت الكثير من جاهليتها ولم يخالطها الإسلام إلا مخالطة ظاهرة، لا يرى من العجب أن يضيق هؤلاء اليمانية بهذا القرشي الذي يأخذ من فيئهم ليردَّه على فيئهم، ويأخذ فضول الأموال ليوسع بها على العبيد والإماء فيتقرب إليهم بذلك ويستأثر بحبهم له وانحيازهم إليه، ويوشك أن ينشئ منهم لنفسه قوة تعينه على سادتهم، أو تعين السلطان على هؤلاء السادة، إن احتاج السلطان إلى بعض المعونة. ويتحدث الرواة بأن الإماء والعبيد قد اتخذوا الحداد حين عزل الوليد، وكانت الولائد تنشج فيما روى الطبري بهذا الرجز:
وما أظن إلا أن هذا الرجز منحول متكلف، اخترعه القُصَّاص من أنصار الوليد، فلم يكن الإماء والعبيد من أسرى الفرس في الكوفة قد بلغوا من حذق العربية وإتقانها أن يرجزوا بالوليد وسعيد، كما كان العرب أنفسهم خليقين أن يفعلوا. ولكن هذا الرجز يدل على أن الرقيق والأحرار من الفرس كانوا يؤثرون الوليد ويحبونه؛ لأنه يؤثرهم ويستهويهم. ولذلك قال الرواة إن أهل الكوفة كانوا فريقين في الوليد: كانت العامة معه، وكانت الخاصة عليه.
وليس لهذا معنى إلا أن الوليد قد خفض جناحه للعامة، ووطئ الخاصة وطئًا شديدًا. ولو قد سار الوليد في ذلك سيرة عمر لما أنكر عليه منه شيء. فقد كان عمر يرفق بالعامة ويغلظ على الخاصة؛ يقاوم في هذه الخاصة نزعتها إلى الأثرة واحتفاظها بالعصبية الجاهلية وطموحها إلى الاستعلاء. وما أرى الوليد ذهب إلى شيء من ذلك، وإنما طاولته الأرستقراطية فطاولها، وقاومته فقاومها، ودخل بينها وبين رقيقها من العبيد والإماء.
ومهما يكن من شيء فقد عُزِلَ الوليد وذوو الرأي في الكوفة ضيقون به ساخطون عليه، يُبغضه السادة لما قدمنا من تنكُّره لهم ومقاومته إياهم ومحاولته أن يُفسد عليهم رقيقهم. ويُنكره القراء وأصحاب الصلاح والفقه لسيرته تلك الجاهلية التي لم تخلُ من عبث ومجون وتعدٍّ لحدود الله.