الفصل الثامن
وقد وفق عثمان حين عزل الوليد ولم يتشدد في استبقائه، وحين أقام عليه الحد ولم يَحْمِه، ولكنه كان خليقًا أن يرد أمر الكوفة إلى رجل من أصحاب النبي وأهل الكفاية من المهاجرين والأنصار، ولو قد فعل ذلك لاستصلح هذا المصر ولم يدفع أهله عامَّة في الفرقة والخلاف. ولكنه عزل عن أهل الكوفة رجلًا من آل أبي معيط، وأرسل إليهم رجلًا من بني أمية، وقد حذَّره عمر من أن يحمل أولئك وهؤلاء على رقاب الناس. وما من شك في أن أهل الكوفة كانوا يعلمون بما تقدَّم فيه عمر إلى عثمان من ذلك. وهم بعدُ قد عرفوا من أصحاب النبي نفرًا صالحين رضوا عن سيرتهم وأحبوا حكمهم. وقد تبين لعثمان أنهم ضاقوا بالوليد بن عقبة بعد سعد بن أبي وقاص، وقد كان خليقًا أن يرسل إليهم رجالًا في منزلة سعد لا في منزلة الوليد.
وكان سعيد بن العاص فتى من فتيان بني أمية، معتدلًا مستقيم الخلق، أبلى فأحسن البلاء في فتح الشام، كما أبلى بنو أبيه فأحسنوا البلاء أيضًا. وقد كان عثمان يربِّيه ويرعاه قبل أن يستخلف. وسأل عنه عمر حين كان يتفقد قريشًا فأنبئ بأنه عند معاوية، وبأنه مريض مشرف على الموت، فأرسل إلى معاوية في أن يحمله إليه في رفق وعناية. ولم يكد الفتى يبلغ المدينة حتى استرد قوة وصحة وعافية. وقد تلقاه عمر لقاء حسنًا، فرقَّ له وعطف عليه، وما زال به حتى زوجه وجعله في مرتبة نظرائه من شباب قريش وأشرافها. ولكنه على ذلك كان قريشيًّا أمويًّا قريب المكان من عثمان. كان رجل صدق ما في ذلك شك، ولكنه كان يعتدُّ بقريش عامة، وببني أمية خاصة. وقد ذهب إلى الكوفة مصممًا على أن يصلح ما أفسد الوليد، حتى قيلت في ذلك الأقاويل؛ فزعم بعض القصاص أنه غسل المنبر تحرجًا من آثام الوليد، وآذى بذلك بعض القرشيين.
والشيء المحقق هو أن أهل الكوفة قد أحسنوا استقباله، وأحسن هو سياستهم أول الأمر، فدرس شئون المصر من قريب، واختار سُمَّارَه وذوي خاصته من بين السادة والقرَّاء الذين أغضبهم الوليد؛ ولكنه لم يقم في الكوفة إلا قليلًا حتى بَصُرَ بحقيقة الأمر وأنبأ بها عثمان، وكان فيما بعث إلى عثمان من ذلك تصوير دقيق لا لحال الكوفة وحدها، بل لحال غيرها من الأمصار كذلك؛ فهو قد رأى أن الكوفة إنما تتعرض للفتنة لسببين: أحدهما تضاؤل أصحاب السابقة وضعف أمرهم بمرور الزمن، وأصحاب السابقة هؤلاء هم السادة الذين سبقوا إلى الفتح واستقروا في المصر حين مُصِّر، وفيهم الشريف الذي كانت له الرياسة في قومه، وفيهم القارئ الذي كانت له المكانة الدينية لاتصاله بالنبي أو بأصحابه. وقد أخذ الموت ينتقص منهم في الحرب والسلم جميعًا.
والآخر تزايد الطارئين والناشئين جميعًا؛ فما أكثر الذين كانوا يطرءون على المصر من هؤلاء الأعراب الذين يقبلون من تلقاء أنفسهم أو يرسلهم الخليفة مادة للجند! وما أكثر الطارئين من هؤلاء الأسرى الذين كان الفاتحون يأخذونهم في المواقع ويُقْسَمون بينهم مع الغنيمة ويعودون معهم إلى المصر ليقيموا فيه! وما أكثر هذا الجيل الجديد الذي كان يولد في المصر من الحرائر وأمهات الأولاد، ثم الذين كانوا يولدون من أبناء الأحرار غير العرب ومن أبناء العبيد! وكل هذه الناشئة قد أخذت تنمو ويظهر أمرها ويكون لها أثرها في حياة المصر.
فالطارئون من الأعراب والطارئون من الأعاجم والناشئون من أولئك وهؤلاء قد كثروا في المصر حتى زحموا أهل السابقة، وكادوا يستأثرون من دونهم بالأمر. وكلهم حظه من الجهل أكثر من حظه من العلم، ونصيبه من الغلظة والجفوة أعظم من نصيبه من الرقة واللين. والأعراب يقبلون بما حفظوا من غلظهم وجفوتهم وعصبيتهم وجهلهم. والأسرى يقبلون بما ورثوا من حضارتهم، وبما تستتبعه الحضارة في أعقاب أمرها من الضعف والفساد، وبما تستتبعه الهزيمة والرق من انكسار النفوس وذلتها، وحسرتها على ما مضى، وبأسها مما يُقبل، وبغضها لسيدها وخوفها منه ومكرها به وكيدها له. والناشئون بين أولئك وهؤلاء يأخذون بحظوظهم من أخلاق أولئك وهؤلاء، فتختلط الأمور عليهم، ويكونون مصدرًا لاختلاط الأمور على غيرهم من الناس. وبهذا كله تتعقد أمور السياسة تعقدًا شديدًا، ويجد الأمراء والولاة أنفسهم أمام مشكلات كلما حلُّوا منها طرفًا نجم طرف آخر.
بشيء من هذا كتب سعيد إلى عثمان لينبئه بحقيقة الأمر في مصره، فتقدم إليه عثمان في أن يؤثر الخير والعافية ما استطاع، وفي أن يجنب نفسه والناس الفتنة ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وفي أن يقدم أصحاب السابقة وما يتصل بأسبابهم على غيرهم، ثم ينزل الناس بعد ذلك منازلهم بالحق، لا يُؤْثِر ولا يظلم ولا يجور.
ولكن عثمان شعر منذ ذلك الوقت بأن أمور الناس قد تغيرت، وبأن الفتنة قد أخذت تظهر، وبأن الاحتياط من هذه الفتنة قد أصبح شيئًا ليس منه بد. وقد خطب عثمان الناس في المدينة، فأنبأهم من ذلك بما علم، وحذرهم الفتنة وخوَّفهم منها، واستشارهم فيما تقدَّم فيه إلى سعيد من السيرة السياسية فأقروه عليه. لكنه اقترح أمرًا خطيرًا فرح الناس من أهل المدينة به حين سمعوه، وابتهجوا له ابتهاجًا عظيمًا، وظن هو أنه سيصلح بعض ما فسد. ويجمع بعض ما انتشر، لكنه أدى إلى النتائج العكسية لما أراد عثمان. وهذا الأمر الذي اقترحه هو أن ينقل إلى الناس فيئهم حيث أقاموا من بلاد العرب؛ فلا يقيم في الأمصار إلا من كان له في الإقامة فيها أرب، ما عدا الجند بالطبع. فليس من إقامتهم في الأمصار بدٌّ.
وليس من الغريب أن يفرح الناس بذلك ويبتهجوا له؛ فأرض الحجاز أحب إلى أهل الحجاز من أرض العراق، وأرض اليمن أحب إلى أهل اليمن من أرض الشام ومصر، هي منهم قريب، فهم يستطيعون أن يقوموا عليها في غير مشقة ولا كلفة ولا احتياج إلى السفر القصير أو الطويل، ولا إلى الهجرة من أرض الآباء والأجداد.
وقد كتب عثمان بذلك في الآفاق، ففتح على الناس بابًا عظيمًا كان له أبعد الأثر في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقلية جميعًا.
ولنضرب لذلك بعض الأمثال: ففريق من كبار الصحابة كانوا يملكون كثيرًا من المال السائل والجامد في الحجاز، فما أسرع ما أنفقوا مالهم هذا سائله وجامده في شراء الأرض في الأقاليم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن أرض الأقاليم أخصب تربة وأكثر ثمرة وأيسر استغلالًا من أرض الحجاز؛ فطلحة بن عبيد الله كان قد جدَّ واجتهد ودأب حتى اشترى عامَّة أسهم خيبر من الذين شهدوا فتحها مع النبي أو من ورثتهم، فلما فتح عثمان هذا الباب باع طلحة كل ما كان يملك من أسهم خيبر لأهل الحجاز ممن شهد فتح العراق بما كانوا يملكون هناك. ثم كان له مال آخر كثير، فاشترى به من بعض أهل الحجاز أرضهم في العراق، وباع هو نفسه أرضًا كان يملكها في العراق بأرض كان هو يملكها في الحجاز. وفعل الناس فعله، فكل من كره الهجرة من الحجاز ليقيم بأرضه في الأقاليم باع أرضه تلك واشترى مكانها أرضًا فيما يليه. ونشأ عن ذلك أولًا أن ظهرت الملكيات الضخمة في العراق وغيره من الأقاليم. فالذين استطاعوا أن ينتفعوا بهذا الاقتراح إنما هم أصحاب الأموال الضخمة الذين كانوا يستطيعون أن يشتروا من أصحاب الملكيات الصغيرة ما يملكون؛ فاشترى طلحة، واشترى الزبير، واشترى مروان بن الحكم. وكثر النشاط المالي في ذلك العام من بيع وشراء واقتراض واستبدال ومضاربة. ثم لم يقتصر ذلك على الحجاز والعراق، وإنما شمل بلاد العرب كلها من جهة، والأقاليم المفتوحة كلها من جهة أخرى. وجدت الإقطاعات الكبيرة الضخمة، والضياع الواسعة العريضة من جهة، وقام فيها العاملون من الرقيق والموالي والأحرار من جهة أخرى، فظهرت في الإسلام طبقة جديدة من الناس: هي طبقة البلوتقراطية التي تمتاز إلى أرستقراطيتها التي تأتيها من المولد بكثرة المال وضخامة الثراء وكثرة الأتباع أيضًا.
ونشأ عن ذلك ثانيًا أن الذين اشتروا الأرض في بلاد العرب عامَّة وفي الحجاز خاصة قد أرادوا أن يستغلوا أرضهم، فاجتلبوا الرقيق وأكثروا من اجتلابه. ولم يمض وقت طويل حتى استحال الحجاز إلى جنة من أجمل جنات الأرض وأخصبها وأحسنها ثمرًا وأعودها على أهلها بالغنى وما يستتبع الغنى من الترف والفراغ. وما هي إلا أن تنشأ في الحجاز نفسه، في مكة والمدينة والطائف، طبقة من هذه الأرستقراطية الفارغة التي لا تعمل شيئًا، وإنما يعمل لها ما جلبت من الرقيق، والتي تنفق وقتها في فنون اللهو والعبث والمجون.
ونشأ عن هذا بعد ذلك أن جلبت الحضارة جلبًا إلى الحجاز وغيره من بلاد العرب؛ فكان الترف والتبطل، وكانت الفنون التي تنشأ عن الترف والتبطل، فكان الغناء والإيقاع والرقص والشعر الذي لا يصور جدًّا ولا نشاطًا، وإنما يصور بطالة وفراغًا وتهالكًا من أجل ذلك على اللذة أو عكوفًا من أجل ذلك على النفس وتعمقًا لما ينتابها من الهمم. وإلى جانب هذه الطبقة الأرستقراطية الفارغة عاش الرقيق الذين كانوا يملكون سادتهم ويدبرون حياتهم. وما يكون في هذه الحياة من النشاط الباطل وما يكون فيها من العواطف والأهواء. ثم إلى جانب السادة الأرقاء، والأرقاء السادة، عاشت طبقة أخرى من العرب البادين المحرومين لم تملك قط أرضًا في الحجاز لتبيعها بأرض في العراق، ولم تملك قط أرضًا في العراق لتشتري بها أرضًا في الحجاز.
ولم يخطر لعثمان رحمه الله حين فكر في هذا الاقتراح أو فكر له فيه خاصته ومشيروه، شيء من هذه النتائج البعيدة، وإنما رأى شرًّا فأراد حسمه، أراد أن يخفف الهجرة على الأمصار، ويمسك الأعراب في بلادهم، ويجلب الأسرى والرقيق إلى بلاد العرب، ويستخلص لأهل الحجاز من أصحاب الملكيات الصغيرة في الأقاليم ما لهم ليشتروا به الأرض التي تليهم ويقوموا عليها من قريب. ولكنه لم يبلغ من ذلك ما أراد، وإنما أضاف شرًّا إلى شر وفسادًا إلى فساد. فلست أدري أَوُفِّقَ لصرف الأعراب عن الهجرة إلى الأمصار أو لوقف هذه الهجرة وقتًا ما، أم لم يوفق؛ فالتاريخ لا يحدثنا بشيء من ذلك. بل أنا أشك في أن التاريخ قد فطن لما أراد عثمان ومشيروه بهذا الانقلاب الخطير في الحياة الاقتصادية للمسلمين. وما أشك في أنه لم يوفق في تخفيف الضغط على الأمصار من هؤلاء الرقيق والأسارى الذين كان عددهم يزداد من حين إلى حين؛ لأن الفتوح لم تقف أيام عثمان، وإنما مضت في طريقها عازمة حازمة غير مترددة كما سنرى، ولأن أربعة أخماس الغنائم كانت تقسم بين الفاتحين، وهؤلاء الفاتحون مستقرون في أمصارهم لا يخرج أحدهم إلى الثغر الذي يليه إلا مرة كل أربعة أعوام، ولا يقيم في الثغر إلا ستة أشهر أو أقل منها قليلًا أو أكثر منها قليلًا؛ فهذه الغنائم إذن وفيها الرقيق كانت تثوب مع أصحابها إلى الأمصار، فكان عدد الرقيق في ازدياد متصل. ولم يكن بد من ذلك إلا أن يوقف الفتح وتعيش الدولة في ظل سلم متصل، وهذا ما لم يتح لها أيام عثمان؛ فقد كان التنافس شديدًا بين ولاة الأمصار أيهم يكون أبعد من أصحابه أثرًا في الفتح.
وكان التنافس شديدًا بين قواد الثغور أيهم يسبق صاحبه إلى لقاء العدو في هذا الميدان أو ذاك، وإلى احتلال هذه المدينة أو تلك، وإلى احتياز الغنائم التي تملأ يديه فتسر جنده من جهة، وتسر أميره على المصر من جهة أخرى، وتسر الخليفة ومن حوله من أصحاب النبي في المدينة من جهة ثالثة. لم يستطع عثمان إذن أن يخفف ضغط المستعربين والمغلوبين على الأمصار عامَّة وعلى المصرين العراقيين خاصة، ولم يتح للذين باعوا أرضهم في الأمصار واشتروا بها أرضًا في الحجاز، أن ينظموا أمورهم ويجلبوا ما يحتاجون إليه من الأيدي العاملة، فيقل عدد الرقيق في الأمصار. فقد أحدث عثمان هذا الانقلاب الاقتصادي سنة ثلاثين وقتل سنة خمس وثلاثين، واضطربت الأمور بين هاتين السنتين فلم يؤت الانقلاب ثمرته التي كانت ترجى منه في هذا الوقت القصير، وإنما آتى ثمره البغيض الخطير في أقصر وقت ممكن؛ لأن رءوس الأموال كانت تنتظره في الحجاز متشوفة إليه متهالكة عليه. ولم يكن عمر حين احتبس قريشًا في المدينة قد احتبس أشخاصها فحسب، وإنما كان قد احتبس مع هؤلاء الأشخاص رءوس أموالهم أيضًا إلى حد بعيد. فهم كانوا يتجرون بين الحجاز والأقاليم تجارات عظيمة واسعة تغل عليهم مالًا كثيرًا سائلًا، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون أن يستغلوا هذا المال السائل الذي لم يكن سيله ينقطع، لم يكن من اليسير عليهم أن يوظفوه في الأعمال الكبرى، كما يقول المحدثون. وإنما كان المال يجتمع إلى المال والنقد يضاف إلى النقد، وكان الفقراء وأوساط الناس يرون ذلك فيعجبون له ويعجبون به، وقد تنطلق فيه الألسنة فيضطر الأغنياء إلى أن يكفروا عن ثرائهم بالصدقات والعطاء، يبتغي الأخيار منهم بهذا رضا الله ورضا الناس، ويتقي غيرهم بهذا ما يكون من الحسد والحقد في بعض النفوس.
هذه كانت ثروة عبد الرحمن أيام النبي، وقد زادت أضعافًا مضاعفة بعد النبي بالتثمير والتوسع فيه من جهة، وبما أفاء الله على المسلمين من جهة أخرى. وقيل: إنه أوصى في سبيل الله بخمسين ألف دينار ذهبًا، وترك ميراثًا عظيمًا، فكان له ألف بعير وثلاثة آلاف شاة، وكان يزرع في الجرف على عشرين ناضحًا. وترك أربع زوجات، فكان نصيب كل واحدة منهن من الثُّمن يقوَّم بما بين الثمانين ألفًا إلى مائة ألف. قال الرواة: وترك عبد الرحمن ذهبًا قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه. ولم يكن عبد الرحمن فذًّا في ذلك، وإنما كان أمره فيه كأمر غيره من كبار الصحابة وسادة قريش. فلما أحدث عثمان هذا الانقلاب الاقتصادي أتاح لهؤلاء الأغنياء أن يوظفوا أموالهم، فأصبحوا رجال مال وأعمال معًا. وما هي إلا أن تنشأ الملكيات الضخمة كما قلنا، ويحدث في أول صدر الإسلام ما حدث في آخر الجمهورية الرومانية من هذه «اللاتيفونديا» التي أضاعت الجمهورية. فاللاتيفونديا التي أضاعت الجمهورية الرومانية هي بعينها التي أضاعت الخلافة الإسلامية؛ ملكت قلة قليلة من الرومانيين أرض إيطاليا، فانقطع الناس إليها وأصبحوا أحزابًا وشيعًا؛ وملكت قلة قليلة من المسلمين أرض الأقاليم، فانقطع الناس إليها وانقسموا بينها شيعًا وأحزابًا. ونتيجة هذا كله أن هذا النظام الذي استحدثه عثمان عن رأيه هو، أو عن رأي مشيريه، لم تكن له نتائجه السياسية وحدها، من نشأة هذه الطبقة الغنية المسرفة في الغنى، التي استهوت الناس وفرقتهم أحزابًا وتنازعت السلطان فيما بينها بفضل هذه التفرقة. وإنما كانت له نتائجه الاجتماعية أيضًا؛ فقد بلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب، فوُجدت طبقة الأرستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون على مرافق هؤلاء السادة، ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب، الذين كانوا يقيمون في الأمصار ويغيرون على العدو، ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء. وهذه الطبقة المتوسطة هي التي تنازعها الأغنياء ففرَّقوها شيعًا وأحزابًا. والذي يتتبع تاريخ المسلمين يلاحظ أن الصراع الأول إنما كان بين الأغنياء ثم بين هذه الطبقة الوسطى وهؤلاء الأغنياء. فأما الطبقة الثالثة؛ طبقة العاملين في الأرض والقائمين على المرافق المختلفة، فلم يظهر أمرها إلا بعد ذلك، ولها قصة أخرى.
فالفتنة إذن إنما كانت عربية، نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء. ولم يكد نظام عثمان هذا يذاع ويسرع الأغنياء إلى الانتفاع به؛ حتى ظهر الشر، وظهر في الكوفة قبل أن يظهر في أي مصر آخر، وظهر في مجلس سعيد بن العاص نفسه. وقد كان ذلك سنة ثلاث وثلاثين. فقد كان سعيد، كما قدمنا، تخير وجوه الناس وقراءهم وذوي الصلاح منهم ليدخلوا عليه إذا لم يجلس للعامة، وليسمروا عنده إذا كان الليل. فقال ذات يوم أو ذات ليلة: إنما السواد — سواد الكوفة — بستان لقريش. فتغاضب القوم، وكانت كثرتهم من اليمانية، وردُّوا عليه في ذلك ردًّا غليظًا، وقالوا له: إنما السواد فيء أفاءه الله علينا، وما نصيب قريش منه إلا كنصيب غيرها من المسلمين. وغضب صاحب شرطة سعيد؛ لأن القوم ردوا على الأمير ردًّا غليظًا، فزجرهم، فقاموا إليه فضربوه حتى أغمي عليه. فقطع سعيد سمره واحتجب عن هؤلاء الناس، فلزموا مجالسهم وأنديتهم، وأطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي عثمان وفي قريش، وتسامع الناس بهم واجتمع بعض الناس إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان ينبئه بأمرهم، ويذكر أنه يخافهم أن يفتنوا الناس. فأجابه عثمان أن يسيرهم إلى الشام، وكتب إلى معاوية يأمره بلقائهم واستصلاحهم. وزعم رواة آخرون أن سعيدًا جلس للناس وحضر مجلسه هؤلاء النفر من الوجوه والقراء، فتحدَّث الناس في جود طلحة بن عبيد الله، فقال سعيد: من كان له ثراء طلحة ومثل ما يملك من الأرض خليق أن يكون جرادًا، ولو كان لي مثل ما لطلحة لأعشتكم في رغد. فقال غلام مضري من بني أسد: وددت لو كانت للأمير أرض كذا على الفرات — وكانت هذه الأرض ملكًا للدولة، فكانت إذن من فيء المسلمين — فغضب هؤلاء النفر وزجروا الغلام وتقاول الناس، فقام هؤلاء النفر إلى الغلام فضربوه وضربوا أباه حتى أغمي عليهما، فغضبت لذلك بنو أسد، وحاول سعيد أن يردَّ الأمر إلى العافية فلم يفلح. وألحَّ عليه أهل الكوفة في أن يخرج هؤلاء الناس، فأخرجهم بأمر عثمان إلى الشام.
والشيء المهم هو أن سعيدًا قد نفى هؤلاء الناس عن أرضهم. ولست أدري إلى أي حد يجوز للأمير أن ينفي المسلمين من أرضهم سواء كان هذا النفي من عند نفسه أو بأمر من الخليفة. فإخراج المسلمين عن أرضهم إنما يجوز إذا قامت البينة عليهم بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، فهنالك يجوز للإمام أن يقتلهم أو يصلبهم أو يقطِّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفيهم من الأرض.
ولم تقم بينة على أن هؤلاء الناس من القراء والصالحين وأصحاب البلاء في الفتح، قد حاربوا الله ورسوله أو سعوا في الأرض فسادًا؛ فهم لم يخلعوا يدًا من طاعة، ولم ينكروا سلطان عثمان ولا سلطان واليه عليهم، وإنما كانوا يشهدون الصلاة مع هذا الأمير ويؤدون ما عليهم من الحق. وكل ما يمكن أن يُأخذوا به هو أنهم نقدوا سيرة الأمير أو بعض قوله، وتجاوزوا حدهم، فضربوا ذاك الغلام أو ضربوا صاحب شرطة الأمير. فأما نقدهم أعمال الأمير وأقواله فحق لهم لا ينازعهم فيه منازع، وكان الشيخان يطلبانه إلى الناس قبل عثمان، فما ينبغي أن يعاقبوا عليه. وأما ضربهم الغلام أو صاحب الشرطة فاعتداء يمكن أن يعاقبوا عليه بأيسر التعزير، باللوم أو بالسجن أو بإقصاص الرجلين منهم، فأما نفيهم من الأرض فأمر عظيم. وقد قال قائلون في العصر القديم: إن عمر قد نفى من المدينة نصر بن حجاج حين خاف منه الفتنة على النساء، فجائز لعثمان أو لعامله أن ينفي هؤلاء النفر من الكوفة حين خاف منهم الفتنة على المسلمين. ولكن نفي نصر بن حجاج لم يكن نفيًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، لم يكن عقوبة. فنصر بن حجاج لم يقترف إثمًا، ولم يمنح قده ما منحه الله من الاعتدال، ولم يسبغ على وجهه ما أسبغ الله من جمال، ولم يُغْر النساء بأن يتبعنه ويفتنَّ به. وما أرى إلا أن عمر حبب إليه الخروج من المدينة ودعاه إليه وأعانه عليه بالمال، وتقدَّم إليه في ذلك بلهجته الحازمة التي تشبه العنف وليست عنفًا، وليس كل الناس قد رضي عن إزعاج عمر لهذا الفتى عن أرضه. وأعود فأقول إن عمر لم ينف هذا الفتى ولم يعاقبه، وإنما أغراه بالخروج وأعانه عليه.
فأما سعيد فإنه لم يغر هؤلاء القوم بالخروج من الكوفة ولم يُعِنْهم على ذلك، وإنما أخرجهم من أرضهم بقوة السلطان، وأرسلهم إلى دار غربة لا يطمئنون إليها، ولا يسكنون إلى أهلها، وأسلمهم هو أو أسلمهم عثمان إلى معاوية ليمسك عليهم حريتهم، وليستصلحهم كما يرى استصلاحهم. فهو قد أخرجهم من مصرهم وأزعجهم عن أهلهم ونقلهم من ديوانهم وسلبهم حريتهم، وليس له في ذلك حق قليل أو كثير. وقد يقال: إنه لم ينفهم من الأرض بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فهو قد أخرجهم من دار إسلام إلى دار إسلام، والأرض الإسلامية كلها دار للمسلمين كلهم.
ولكن الذين عاصروا عثمان من أصحاب النبي ومن التابعين أنكروا هذا التسيير على كل حال، ورأوه نفيًا لا يجوز. ومهما يقل القائلون فإن للإمام أن يعاقب، ولكن ليس له أن يتجاوز بعقوبته حدود العرف المألوف. وسنرى أن ولاة عثمان أسرفوا على أنفسهم وعلى إمامهم وعلى الناس بالنفي والتسيير.
وقد تلقى معاوية هؤلاء النفر فأنزلهم في كنيسة، وأجرى عليهم ما يقيم أودهم، وجعل يسعى إليهم مرة ويدخلهم عليه مرة أخرى؛ يناظرهم ويؤامرهم ويعظهم فلا يبلغ منهم شيئًا. ناظرهم في فضل قريش على العرب، فلم يعرفوا لقريش على العرب فضلًا. والإسلام لا يعرف لقريش فضلًا على العرب ولا على غيرهم من الناس، إلا أن يكون هذا الفضل هو أن النبي قد بعث منهم. ولكن انبعاث النبي من قريش لا يبيح لها أن تتحكم في رقاب الناس، ولا أن تمتاز من سائر المسلمين، كما جعلت تمتاز في أيام عثمان، وهو على كل حال لا يبيح لأمير قرشي أن يقول: إنما السواد بستان لقريش. وناظرهم في الطاعة للإمام وولاته فلم يبلغ منهم شيئًا؛ لأنهم لم ينكروا الطاعة للإمام ما أقام العدل وأمضى الحق وأحيا السنة وأمات البدعة، وإنما أنكروا طاعة الإمام وولاته إن جاروا عن القصد وانحرفوا عن الطريق. وناظرهم في نفسه فلم يبلغ منهم شيئًا، أنكروا عليه أن يعظهم وأن يسير فيهم سيرة الأمير، وطلبوا إليه أن يعتزل الإمارة ليليها من هو أقدم منه بالإسلام عهدًا، وأكرم منه أبًا، وأجدر منه أن يقيم حدود الإسلام.
ويظهر أن معاوية لم يستيئس من إصلاح هؤلاء النفر فحسب، وإنما خافهم أيضًا على أهل الشام. وكان معاوية كثير الخوف على أهل الشام، فكتب إلى عثمان يستعفيه من إقامتهم عنده، فأعفاه، وتقدم إليه في أن يردهم إلى مصرهم، فلم يكادوا يعودون إلى الكوفة حتى أطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي معاوية وفي عثمان، وحتى انتشرت دعوتهم شيئًا ما. فأعاد سعيد الكتابة إلى عثمان يستعفيه من إقامة هؤلاء الناس في مصرهم، فأعفاه عثمان وأمره أن ينفيهم مرة أخرى إلى الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أميرًا لمعاوية على حمص والجزيرة. فأرسلوا إلى عبد الرحمن، وتلقاهم أشد لقاء وأعنفه، وجعل يسومهم الخسف، ويعظم لهم أمر نفسه وأمر أبيه وأمر قريش، لا بالمناظرة والحجاج، بل بالقول الغليظ، والسيرة التي هي أغلظ من القول. وجعل لا يركب إلا أمشاهم حول ركابه، يؤنبهم ويزجرهم ويذلهم ويجعلهم للناس نكالًا؛ فلما شق عليهم ذلك أظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة واستقالوه، فأقال عثرتهم، وأرسل الأشترَ واحدًا منهم بتوبتهم وطاعتهم إلى عثمان، وأقبل الأشتر على عثمان فقال له وسمع منه. وأذن له عثمان في أن ينزل من الأرض حيث يشاء، فآثر الرجوع إلى أصحابه والإقامة عند عبد الرحمن. ولكن هذه الإقامة لم تطل؛ فقدم سعيد على عثمان واستخلف على الكوفة، فوثب أصحاب المنفيين أو المُسَيَّرِينَ وأجمعوا أمرهم أن يحولوا بين سعيد وبين الرجوع إليهم، وكتبوا إلى أصحابهم يستقدمونهم فأقبلوا مسرعين حتى بلغوا الكوفة، وأقسموا لا يدخلها عليهم سعيد ما حملوا سيوفهم، ثم خرجوا في جمع منهم يقودهم الأشتر حتى بلغوا الجرْعة، فانتظروا سعيدًا حتى ردوه، وأكرهوا عثمان على أن يعزله عنهم ويولي عليهم غيره، واختاروا أبا موسى الأشعري، فلم يجد عثمان بدًّا من توليته عليهم. وكذلك أكره على أن يعزل عامله على الكوفة مرتين: عزل الوليد لأنه لها وعبث واستعلى وشرب الخمر، وعزل سعيدًا لأنه اشتد وقسا وأسرف في تمييز قريش. ولم يقترح عليه أهل الكوفة أحدًا حين عزل الوليد، فولى عليهم سعيدًا، فلما أكرهوه على عزل سعيد لم يتركوا له اختيار الأمير، وإنما اختاروه هم، واختاروا رجلًا من أصحاب النبي وهو إلى ذلك يَمَانٍ، فولى أمرهم أبو موسى الأشعري، وثابوا إلى شيء من الاستقرار، ولكنه استقرار لم يدم إلا قليلًا.