الفصل التاسع
وكان أبو موسى الأشعري عامل عمر على البصرة، فأقره عليها عثمان أعوامًا، يقول بعض الرواة إنها ثلاثة، ويقول أكثرهم إنها ستة. والكثرة من أهل البصرة مضرية، وفيهم ربعيون كثيرون، وفيهم قلة يمانية. ولأمرٍ ما أحب عمر أن يولي رجلًا من اليمن على البصرة وكثرة أهلها مضرية، وأن يولي ثقفيًّا هو المغيرة بن شعبة على الكوفة وكثرة أهلها يمانية، وأن يولي قرشيينِ مضريينِ على الشام ومصر، وكثرة العرب فيهما يمانية أيضًا؛ يريد بذلك في أكبر الظن أن يقاوم العصبية حتى يزيلها، فيخالف بين عصبية الولاة وعصبية الرعية. وقد استقامت أمور البصرة في عهد أبي موسى أيام عثمان أعوامًا، لم ينكر أهلها شيئًا من أميرهم ولم ينكر الأمير شيئًا من رعيته. وكان أبو موسى رجلًا من أصحاب النبي مقدَّمًا فيهم، كريم السيرة جميل الهدْي ممعنًا في الفتح. ولكن العصبية ظهرت أيام عثمان، وجعل كل حي من أحياء العرب ينظر إلى نفسه وإلى حظه. نظرت قريش وقرابة عثمان خاصة، فإذا ثلاث من الولايات الأربع الكبرى يليها أمراء من قريش: الوليد بن عقبة في الكوفة وبعده سعيد، ومعاوية بن أبي سفيان في الشام، وعمرو بن العاص في مصر وبعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
فلم يبقَ إلا مِصْرٌ واحد من هذه الأمصار الكبرى لم يلِ أمْرَه أمويٌّ ولا قرشيٌّ ولا مضريٌّ، وإنما وليه رجل من أهل اليمن. فكان مركز أبي موسى بين هؤلاء الولاة غريبًا شاذًّا، هو اليمني الوحيد الذي يلي مصرًا ذا خطر، ومصرًا كثرة أهله مضرية. وما من شك في أن قريشًا تنبهت لذلك، وتنبهت له قرابة عثمان، وتنبهت له المضرية نفسها في البصرة. فيقول بعض الرواة: إن رجلًا مضريًّا من بني ضبة، هو غيلان بن خرشة الضبي، خرج إلى عثمان بن عفان فقال: أما لكم صغير فَتَسْتَشِبُّوه فتولوه البصرة؟ حتى متى يلي هذا الشيخ البصرة؟ يعني أبا موسى، كان وليها بعد موت عمر ست سنين، فعزله عثمان. ويقول آخرون: إن بعض الكور المفتوحة انتقضت على أبي موسى، فخطب الناس فرغبهم في الجهاد وحبب إليهم أن يسعوا إلى عدوهم راجلين. فقبل بعضهم، وتلبث بعضهم حتى يرى ما يصنع الأمير. فلما خرج أبو موسى نظر الناس فإذا هو راكب وقد حمل أثقاله على أربعين من البغال، فأقبلوا عليه فقالوا له: احملنا على هذا الفضول؛ فزجر الناس حتى ارتدوا عنه، ولكنهم أرسلوا وفدًا إلى عثمان يستعفيه من أبي موسى. فلما سألهم عمن يحبون لم يقترحوا أحدًا، وإنما قالوا: من شئت فوَلِّه؛ فإن في أي الناس اخترته عوضًا منه. وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن نقول! واتهموا أبا موسى بأنه يأكل أرضهم ويطعم رهطه من الأشعريين، فعزله عثمان، واختار لولاية البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز، فدخل البصرة واليًا عليها وهو ابن خمس وعشرين سنة.
ولم يخطئ الشيخ؛ فقد كان عبد الله بن عامر فتى من فتيان قريش خرَّاجًا ولَّاجًا، ذا حزم وعزم وقوة وبأس ونفوذ من المشكلات. شغل نفسه وشغل الناس معه بالفتح، ونافس فيه سعيد بن العاص فسبقه، وسار في الناس سيرة جدٍّ وكرم ومضاء، فلم يلقَ من أهل البصرة ما لقي الوليد وسعيد من أهل الكوفة، وما لقي عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أهل مصر. ومصدر ذلك في أكبر الظن سيرته وحزمه وبُعد رأيه من جهة، وأن الكثرة الكثيرة من رعيته كانت مضرية يلي أمرها مضريٌّ، فلم ينكروا ولم يشكوا. ومع ذلك لم يسلم مِصرُ عبد الله بن عامر من بعض الشر. وآية ذلك أن فريقًا من أهل البصرة شاركوا في الخروج على عثمان وكانوا أقل من غيرهم. ولكن هذا يدل على أن المصر لم يكن كله راضيًا لا عن عثمان ولا عن واليه. ولم تخلُ البصرة من بعض ما شكت منه الكوفة؛ فقد سير بعض أهلها إلى الشام كما سير إلى الشام بعض أهل الكوفة. ولكن تسيير من سير من أهل البصرة كان ظلمًا صارخًا أخذ فيه بالظنة، ولم يلبث معاوية أن تبين ما فيه من جور. فقد سعى ساعٍ إلى عبد الله بن عامر بأن عامر بن عبد القيس يخالف المسلمين في أمور أحلها الله لهم؛ فهو لا يأكل اللحم، ولا يرى الزواج، ولا يشهد الجمعة. وكتب فيه عبد الله بن عامر إلى عثمان، فقد قال بعض الرواة: إن عثمان استقدمه إلى المدينة، فلما تبين أنه مكذوب عليه رده إلى مصره موفورًا. وقال آخرون: إن عثمان كتب إلى عامله على البصرة أن يسيره إلى معاوية، فلما أُدْخِلَ على معاوية وجد عنده طعامًا فشارك فيه حين دُعِيَ إليه، ورآه معاوية يأكل اللحم فتبين الكذب عليه، وامتحنه فيما اتهم به، فقال: إنه أمسك عن أكل اللحم من ذبائح القصابين منذ رأى قصابًا يعنف بشاة في ذبحها، وأنه يشهد الجمعة في مؤخر المسجد ويخرج في أول الناس، وأنه أخرج من البصرة حين كان يُخطَب عليه لتزويجه، فأراد معاوية أن يرده إلى مصره، ولكنه أبى أن يعود إلى بلد يستحل أهله الوشاية والسعاية والنفي، فأقام بالشام، ومضى في زهده ونسكه. وأحبه معاوية، فكان لا يراه إلا سأله عن حاجته، فيجيب: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه معاوية، قال له عامر: اردد عليَّ بعض حَرِّ البصرة؛ فإن الصوم يخف عليَّ في بلدكم. وما أرى أن عثمان قد أتيح له والٍ استطاع أن يكفيه مَن قِبَلَهُ من الناس إلا عبد الله بن عامر في البصرة ومعاوية في الشام.
فلندع العراق بعد أن رأينا من أمر مصريه ما رأينا، ولننتقل إلى الشام بعد أن نلاحظ أن الناس لم ينقموا من عبد الله بن عامر إلا قرابته من عثمان وحداثة سنه، وأنه جاء بعد أبي موسى، وأنه سار في الناس سيرة قرشية لعلها لم تكن تلائم هدْي أصحاب النبي، ولكنها لاءمت عصبية المضريين وطموحهم إلى الفتح وشرههم إلى الغنيمة.
وكأن عبد الله بن عامر قد كان يعرف ما ينقم الناس من أمر توليته، فحرص على أن يبين للناقمين أنه كان للولاية أهلًا بها وجديرًا. ولعله أسرف بعض الإسراف في أمور الدين، فقد قيل: إنه أمعن في الفتح وبلغ منه ما أراده مرة. فقيل له: لم يبلغ أحد من الفتح ما بلغت. فقال: لا جرم، لأجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بالعمرة من حيث انتهيت. ولامه عثمان على أن أحرم من أعماق فارس على حين أن للإحرام أماكن معلومة لا يحرم قبلها إلا مسرف على نفسه. وهذه القصة نفسها تدل على مقدار ما كان عبد الله بن عامر يبذل من الجهد ليحمد الناس سيرته في الدين والدنيا جميعًا.