فوائد الذكر وغوائل النسيان
أدام الله عليك نعمة الثقة بالنفس، وعمَّر قلبك بالإيمان، وأيَّدكَ بفضيلة الذكر، وأبعد عنكَ آفة النسيان.
وقد رجَوتُ منك — أيها الأخ الصديق — أن تذكُر ما طلبتُه منك، فزعمتَ أنك لا تنسى!
اللهم وجلَّ مَنْ لا يسهو، سبحانه وتعالى؛ فهو القائل في محكم التنزيل: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (البقرة: ٢٨٦)، فكيف تذهب في ثقتكَ بنفسكَ، واعتزازكَ بها، واطمئنانكَ إليها، واعتمادكَ عليها إلى دعوى العصمة من النسيان؟
حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها.
ولا تحسبَن أني ألعب بالألفاظ حين أجعل النفس مرادفة للذاكرة؛ فأنت تعرف ولا ريب مذهب برجسون، وتعرف كتابه المشهور «المادة والذاكرة» الذي يقابل فيه بين الجسم والنفس، بين المخ والشعور، إلى أن يقول في ختام كتابه: «بالذاكرة نصبح حقًّا في ميدان النفس.»
وسأزيدك بهذه النظرية بيانًا خلال فصول هذا الكتاب.
وإنكَ لعلى حقٍّ حين عوَّلتَ على الذاكرة وأودعتَها ثقتك؛ لأن فوائد الذاكرة في الحياة النفسية والاجتماعية من الخطر، بحيث تبطل كل حياةٍ تخلو من الذاكرة، وترتقي الأحياء مع سعتها وشمولها وحسن استخدامها.
ولعلك تَعجَب من نسبة الذاكرة لسائر الكائنات الحية كالنبات والحيوان، ولكن عجبك يزول بعد النظر إلى أصناف الذاكرة، أو إلى قسمَيها المشهورَين؛ الآلية والشعورية.
والعادة ميلٌ إلى أداء عمل من الأعمال نتيجة التكرار، حتى يصبح هذا العمل «آليًّا» كالمشي والكتابة وتناول الطعام وما إلى ذلك.
ويتجه معظم علماء النفس المحدَثين إلى إخراج هذه الأعمال الآلية من ميدان الذاكرة التي يقصُرونها على الأمور التي ندركها مع شعور ومعرفة.
ومع ذلك، فنحن نلاحظ في حياتنا اليومية اختلال بعض الأعمال العادية التي نُكرِّرها آليًّا، ولا يمكن أن نُعلِّل هذا الاختلال إلا بالنسيان. مثال ذلك الذي يصلي العصر وهو يعلم أنه أربع ركعات، يُكرِّرها اعتيادًا، وقد ينسى فيزيد ركعة أو ينقص ركعة من غير أن يدري، إذا كان مشغول البال. ورأيتُ زميلًا في أيام التلمذة منذ أكثر من ثلاثين عامًا وقد لبس وهو ذاهب إلى المدرسة «لبدة» فوق رأسه، بدلًا من الطربوش، فلما نبَّهتُه إلى ذلك عاد إلى منزله مسرعًا وغيَّر لباس رأسه؛ ذلك أنه كان معتادًا أن يصلي الصبح مغطيًا رأسه بهذه اللبدة، فنسِيَها على رأسه مع العجَلة.
ويُروى عن أديسون — فيما أذكر — أنه أخذ يَحُل مسألةً رياضية عويصة اشتغل بها عقله وهو في الشارع، فأخرج من جيبه قطعة من الطباشير، ورأى أمامه عربة أجرة ظهرها أسود كالسبُّورة، فشرع يكتب عليها، حتى إذا سارت العربة رأى الناسُ رجلًا يجري وراءها وهو ممسك بالطباشير ولا يزال يكتب.
من أجل ذلك عدَّ بعض علماء النفس الأعمال العادية من جملة الذاكرة، وفسَّروا اختلالها بالنسيان ولو أنه صادر عن اللاشعور.
ولنرجع إلى بيان فوائد الذاكرة بوجهٍ عام، دون اقتصار على ذاكرة المعرفة والشعور؛ فقد تُفسِّر لنا هذه النظرة الشاملة حقيقة الذكر وطبيعة النسيان.
وتَتبَّع العلماء نشأة الذاكرة في أنواع الحيوان كالأسماك والزواحف والطيور والثدييات المختلفة، وانتهوا إلى هذا القانون الخاص بالذاكرة وهو: يزيد النسيان مع الجذْر التربيعي للزمن الذي ينقضي بعد الحفظ والاكتساب.
وهذا القانون، قانون النسيان الذي ينطبق على الحيوانات، ينطبق كذلك على الإنسان، مما يدل على أن الطبيعة تجري من حيث الحفظ والاكتساب، ومن حيث النسيان تبعًا لقانونٍ واحد.
فالعادات التي تُكتسَب مع التكرار تُسهِّل العمل، وتجعله أدقَّ وأسرع وأتقن.
ولا نَودُّ الإطناب في بيان فوائد الذاكرة الآلية، ولنتحدث عن مزايا ذاكرة المعرفة التي تمتاز بالشعور وبإدراك الزمان الماضي.
لقد ارتدَّت هذه الفتاة كالطفل الرضيع قبل أن يدرك؛ فالطفل في الشهر السادس يبدأ بمسك الأشياء التي تُحيطه بيدَيه، كالكوب مثلًا أو الصندوق، فيضع يده بداخله، ويتحسس جوانبه، ويظل على هذه الحال مدةً طويلة؛ لأن إدراك الصندوق بالبصر لا يؤدي إلى معرفة طوله وعرضه وعمقه، بل تتدخل في معرفته عدة إحساساتٍ بصرية ولمسية، وسمعية أيضًا لإدراك صلابته، وهذه كلها تجتمع وقتًا بعد وقت، وترتبط بعضها ببعضها الآخر، حتى يدرك الطفل بعد اجتماع هذه الخبرة على مر «الزمان» في صفحة «الذاكرة» أن هذا الشيء صندوق.
والذاكرة هي التي تعين الإنسان على التصوُّر وعلى التخيُّل السليم أو المريض. فإذا استحضرتَ صورة صديقٍ لك في ذهنك، فإنما تستعين بالذاكرة على استحضارها، وإذا تخيَّل مهندس مشروعًا مثل زراعة الصحراء والبحث عن الوسائل المختلفة لريِّها، فإنه يلجأ إلى معلوماته السابقة.
والتمييز بين الذاكرة والتخيُّل معروف من قديم، فهذا أرسطو يقابل بينهما؛ لأن الذاكرة تشمل الصور التي سبق إدراكها في الماضي واختزنَتْها الذاكرة كما تحتفظ الخزانة بالأشياء، فالتذكر في هذه الحالة يؤدي إلى التمييز بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقي والمُتخيَّل. إننا نتذكر الواقع، ولكننا أحرار أن نتخيَّل ما نشاء. وفي ذلك يقول كانط: «إذا تخيَّلتُ منزلًا، ففي إمكاني أن أتمثل السقف في أسفله والأساس في الهواء، ولكني حين أتذكَّر منزلًا فأساسه دائمًا في أسفل وسقفه في أعلى الهواء.» وهذا التأليف الوهمي يعتمد على معرفة عناصر البيت وأجزائه التي سبق إدراكها واحتفظَت الذاكرة بها. والحال كذلك في الأحلام.
(١) الذاكرة أساس الشخصية
وليس للطفل الوليد شخصية؛ إذ ليس له ماضٍ، وليست له ذاكرة، وهو عند ولادته، ويظل كذلك بضعة أشهر، جزء من العالم كنقطة من ماء البحر، حتى يبدأ في تمييز أنيتُه، والشعور بوجوده ذاتًا مستقلة هي «الأنا»، في مقابل ما عداه؛ أي «اللاأنا». وإذا تأمَّلتَ الطفل في الشهر السادس تجد أنه يقبض على الأشياء بيده ثم يُلقيها بعيدًا عنه، ثم يطلبها حتى إذا قَبضَ عليها ألقاها ثانية، وهكذا حتى يثبُت عنده، أو في «ذاكرته» أن هذه الأشياء مختلفة عنه، وأن «أنا» الطفل مغايرة لهذه الأشياء، فإذا تَتبَّعنا تكوين هذه الأنا، وهي النفس، وهي الشخصية التي تُميِّز هذا الشخصَ عن ذاك وهذا الفردَ عن هذا الفرد، رأينا أنها ليست شيئًا آخر إلا اجتماع الذكريات واختزانها عن الأشياء الخارجية التي نُدركها، وهذه الأشياء ذات فائدةٍ لنا وهي التي نتعامل وإيَّاها. وكلما كَبِر الطفل اتسعَت أمامه دائرة هذه الأشياء، وأصبح لكل فرد عالمٌ خاص يعيش فيه ويذكُره أكثر من غيره. سألني تاجرٌ صديق تلقَّى تعليمًا يسيرًا، فقال إنه يحاول أن يستكمل تعليمه وبخاصة اللغات كالفرنسية والإنجليزية لفائدتهما في عمله، ولكنه لا يُحسُّ في نفسه إقبالًا، ويضيق صدره إذا قرأ كتابًا، وتعلُّم اللغات يحتاج إلى ذاكرةٍ جيدة، مع أن النسيان ليس طبيعة فيه؛ لأنه يتذكر «فواتير» الحساب بأرقامها حتى بعد مُضي عدة سنوات، فما سبب هذا الفتور، وما علة ضعف ذاكرته في غير التجارة؟ وتعليل ذلك يسير؛ لأن شخصيته شخصيةُ تاجر، فهو يذكُر كل ما يتعلق بفنه، والتجارة عنده هي العالم الذي يعيش فيه ولا يَحفِل بسواه. والحال كذلك في كل صاحب صناعة؛ فالممثل المطبوع بحفظ أدوار تمثيليته ولا يجد في ذلك مشقَّة؛ فالشخصية تمتص من العالم الخارجي ما يُلائمها وتذكُره ولا تنساه. إنها تفاعل بين الأنا واللاأنا، تحتفظ فيه الأنا بأمور وتُغفِل غيرها، وهذه الأمور التي تحتفظ بها لا تتوقف على تأثير اللاأنا فقط، بل على استعداد الأنا الطبيعي. وهذا هو السبب في أن الأشقَّاء تختلف شخصياتهم مع أن تأثير البيت واحد. وكذلك تلاميذ المدرسة الواحدة الذين يعيشون معيشةً داخلية، ويخضعون لنظامٍ واحد، ويتأثَّرون بمُعلِّمين بأعيانهم، يختلفون فيما بينهم باختلاف أخذهم عن هذه التأثيرات.
والصفات المُكوِّنة للشخصية يكتسبها صاحبها من البيئة وتستقر في نفسه بالتذكُّر، ونعني بهذه الصفات الميلَ إلى الاجتماع أو الانطواء على النفس، وإلى العدوان أو المسالمة، وإلى النظام والترتيب أو الفوضى، وغير ذلك، فالشخصية هي مجموعة ذكرياتٍ معينة تُكتسَب في الماضي وتظل مستمرةً في الحاضر.
(٢) الذاكرة أساس الحياة العقلية
ذلك أن المعاني الكلية، وهي حجَر الزاوية في الحياة العقلية، تُكتسب من النظر إلى المعاني الجزئية، فيحتفظ الإنسان بالمتشابه منها ويرتفع إلى تكوين معنًى كلي، وهذا ميلٌ طبيعي، نعني القدرة على التعميم، تُعين الذاكرة عليه. ويبدو هذا الميلُ عند الطفل الصغير، فهو يعرف أباه ويُميِّزه رجلًا لأن له شاربًا، فإذا رأى رجلًا آخر له شارب قال عنه «بابا». وعندما يَكبَر بعض الشيء، يجد أن الشارب ليس من الصفات الجوهرية التي تُميِّز الرجال. وعلى هذا النحو يدرك الطفل عندما يبلغ الثالثة أو الرابعة المعاني الكلية العامة للأشياء التي تُحيطه كالتفاح والبرتقال والباب والنافذة والعصفور والقطة والكلب وما إلى ذلك، حتى إذا قَدَّمتَ إليه تفاحة ميَّزها وعرف أنها من هذا الصنف.
وعلى هذا النحو أيضًا تنشأ المبادئ العقلية التي تُكتسَب من التجارب وتُحتفَظ بالذاكرة، مثل مبدأ التشابُه الذي رأينا أنه أساسُ تكوين المعاني الكلية، ومبدأ السببية، وهو عماد العلوم. وقد أنكر الفلاسفة حقيقة هذا المبدأ وناقشوا صدقه وذهبوا إلى انعدام الضرورة التي تربط بين الأسباب والمسببات، كما فعل الغزالي وهيوم وكثير من المُحدَثين. ويقول الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» ليست النار هي التي تحرق القطن؛ إذ يجوز في المستقبل أن ينعدم فعل النار. ولكن الطفل الصغير الذي لا يعرف النار ولا يعرف أنها تحرق، يرى ذلك لأول مرة، ويُجرِّب ذلك على نفسه، فإذا اقتربَت يده من النار وأحسَّ بألم إحراقها، ثبَت ذلك في ذاكرته، فلم يعاود اللعب بالنار، وأصبح يُدرك أن النار «علة» الإحراق، بل أكثر من ذلك يُعمِّم الطفل السبب ويطلقه على الأمور المشابهة؛ ولذلك جاء في أمثال العامة: «اللي يخاف من الثعبان يجري من الحبل.»
حتى إذا ارتقت الإنسانية، واجتمعَت لديها التجارب جيلًا بعد جيل، اشتدَّ ساعد العلم، وصاغ العلماء القوانين والنظريات. وليست القوانين العلمية إلا تلخيصًا واسعًا للمشاهدات يستند إلى الذاكرة، مثل قولنا الحرارة تُمدِّد الأجسام، والخشب يطفو على وجه الماء، والجسم المغمور في الماء يندفع من أسفل إلى أعلى بقوة تساوي حجم السائل المزاح، وهكذا.
وليست هذه القوانين من عمل فردٍ واحد، بل هي أثَرٌ اجتماعي نتيجة الحضارة ونتيجة الذاكرة الاجتماعية وتُقدِّم التجارب البشرية على مر الأجيال، حتى إذا ازدحمَت العقول بالمعلومات، وعجز الفرد الواحد عن استيعابها في صفحة ذاكرته، احتاجت الإنسانية إلى وسيلةٍ أكثر رسوخًا لحفظ هذه المعلومات، فاخترعَت الكتابة، ثم الطباعة، وأُنشئَت المكتبات التي تزخر بآلاف المجلدات والتي تختزن تاريخ الأمم وسير الأفراد والملوك وأنواع العلوم المختلفة مما لا يمكن أن تعيه ذاكرة فردٍ واحد.
وكلما ارتقت الحياة الاجتماعية وتقدَّمَت الحضارة، أصبحَت حاجة الإنسان إلى المعرفة الواسعة بالأحداث الجارية والماضية، وبالفنون المختلفة والصناعات المتباينة، وبالعلوم التي تقوم عليها هذه الفنون والصناعات أشد وألزم حتى يستطيع مسايرة ركب الحياة. هذا إلى أن الحياة الحديثة لا تحتاج إلى الثقافة العامة الواسعة فقط، بل إلى «التخصُّص» الشديد في كل فن، حتى لقد انقسَم الطب إلى فروع، واختص في كل ناحية من كل فرعٍ إخصائيٌّ، لا يتعدى أحدهم على اختصاص غيره. وهذا هو الشأن في الزراعة، كالذي يختص بزراعة القطن، أو القمح أو الأرز، أو الخضر، أو الفاكهة. وقد رأيت في الريف قومًا ينقطعون إلى زراعة الطماطم، وآخرون إلى غرس الموز ويُسمَّى الواحد «موَّازًا». وحدَّثَني مزارع أنه مختص بزراعة البطاطس فقط، وكذلك الحال في التجارة وسائر الفنون والصناعات.
ولما كانت هذه المعلومات لا تحصل إلا بعد زمانٍ طويل، يقضي المرء بعضه في المدرسة، وبعضه في الحياة العامة، وكانت هذه المعلومات واسعة سَعةً عظيمة تشمل المطوَّلات من الكتب، احتاج الطلاب ولا ريب إلى ذاكرةٍ قوية منظَّمة يستعينون بها على تحصيل هذه المعلومات؛ وبخاصة لأن المجتمع الحديث يحكم على الفرد بمقدار علمه؛ أي بمقدار تحصيله، فلا يقبل صاحب العمل عاملًا أو موظفًا إلا بعد امتحان، ولا ينجح الطالب في المدرسة إلا بعد اجتياز الامتحان، ومن أجل ذلك برزت قيمة الذاكرة عاملًا هامًّا من عوامل النجاح في الحياة.
ونشأَت عن ذلك دراساتٌ حديثة تهدف إلى بيان أقوم الطرق للتذكُّر وأحفظها عن النسيان، وأجرى العلماء تجارب استخلصوا منها قوانين التذكُّر وقوانين النسيان، وانتهَوا إلى أن السبيل القويم لحفظ المعلومات واستحضارها عند الحاجة إليها هو حسن تنظيمها وتصنيفها، ثم ربطها بعضها ببعضها الآخر، وأن يكون الإنسان سيد ذكرياته يطلبها حين يحتاج إليها فتستجيب له حتى لا تصبح عبئًا ثقيلًا لا قيمة له.
ومع هذه الفوائد الكثيرة للذاكرة في سائر أنواع الحياة، فالنسيان مفيد في كثير من الأحيان، بل قد يكون ضروريًّا. والذاكرة في واقع الأمر مزيج من الذكر والنسيان، حتى لقد ذهب بعض علماء العربية إلى أن لفظ الإنسان مشتق من النسيان.
ولا تعجبنَّ من قولنا إن النسيان ضروري للحياة النفسية؛ لأن ما تقع عليه أبصارنا كل يوم وكل ساعة وكل لحظة لا يدخل تحت حصر، وكذلك جميع ما يصل إلينا بطريق الحواس، فلو ذكرنا كل شيء لاختلط الجليل بالتافه، وامتزج المفيد باللغو والباطل. وقد حدَّثتُك عن ميل الطفل الطبيعي إلى صوغ المعاني الكلية التي يُركِّز فيها المجموعة الواسعة من المحسوسات، وحدَّثتُك عن اتجاه الحضارة إلى تلخيص العلوم في صيغة قوانينَ عامة تغني عن الجزئيات.
ثم إن الحياة بطبيعتها متطورةٌ متغيرة يحتاج فيها المرء إلى ملاءمة نفسه مع هذه الألوان المتغيرة من الحياة، فيُضطر إلى تحرير نفسه من الماضي بنسيانه؛ ليتسنَّى له التوافق مع الحياة الجديدة؛ لذلك كان النسيان ضروريًّا لحرية الإنسان، فلا يعاود حياته الماضية كما هي.
هذا إلى أن كثرة تَرداد الذكريات الماضية يجعلها عاديةً أوتوماتيكية، فيصبح المرء كالآلة، أو كالحيوان الذي يتصرَّف بالغريزة، ويصبح عبدًا لها لا سيدًا حاكمًا صاحبَ سلطان عليها.
ويحتاج استخدام الذاكرة إلى اختبار، وينبغي أن نحسن هذا الاختيار إذا أردنا النجاح في الحياة، فلا ينفك المرء عبدًا لحياته الماضية يعيش فيها أبدًا ولا يخرج عن دائرتها.
وكثيرًا ما يكون النسيان ردَّ فعلٍ طبيعيًّا لسلامة الحياة واستقامتها؛ فقد تمر بالإنسان ذكرياتٌ فاجعة كلما استعادها تألَّم الألم الشديد، كالذي ذهبت ثروته أو فقد ابنه الوحيد، فإذا لم يستطع إلى النسيان سبيلًا بإرادته، أو لم تُعِنه الطبيعة بفقدان الذاكرة، فضَّل الموت على حياةٍ مملوءة بالآلام، فأقدم على الانتحار، والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ نذكر منها مأساة كليوباترا ومارك أنطوان.