صفحات الماضي وأغوار الزمان
ذاكرة المرء كتاب تُسطَّر صفحاته على مر الأيام؛ فهي أشبه بالمفكرة التي يسجل فيها الإنسان يومياته، ويكتب فيها الأحداث التي مرت عليه ليرجع إليها في المستقبل عند الحاجة يقرأ ماضيه. وكلٌّ منا يكتب يومياته في مفكرته على نحوٍ معين هو الذي يهمُّه، وكذلك ذاكرة كل واحدٍ منا لا تحتفظ إلا بما شاء أن يُسجِّله، فهي تُثبت وتمحو، تُثبت ما يهمنا، وتُغفِل ما لا نَحفِل به، فلا تحسبن أن الذاكرة تسجل كل بادرة وخاطرة وواقعة.
وكما تُصاب اليوميات بآفاتٍ فتتآكل منها صفحات، ويبهت الحبر الذي تُكتب به بعض الصفحات وبخاصة القديمة منها، وقد يُنتزع منها بعض الصفحات فتتطاير وتضيع، وقد تُصاب بخرمٍ تذهب معه بعض الأوراق، كذلك الذاكرة الإنسانية تُصيبها مثل هذه الآفات، فتضيع منها صفحات، ويبهت بعضها الآخر، ويُمحى بعضها الثالث، وكل ذلك في صفحات الماضي الذي سجَّله المرء خلال الحياة. وهذه الآفات هي التي يُعبَّر عنها بأمراض الذاكرة، وهي التي تُحدِّد أنواع النسيان، مما نفرد له فصلًا برأسه فيما بعدُ.
أما الآن فنوَدُّ أن نتحدث عن هذا الزمان الذي يضُم في صدره هذه الذكريات، ما هو؟ وعلى أي هيئةٍ يكون؟
الزمان هو الماضي والحاضر والمستقبل.
أو هو ما فات وما هو آتٍ.
أما الآن أو الحاضر فهو نقطة وهمية في بحر الزمان؛ لأنك كلما أردتَ الوقوف عندها مر بك الزمان، فإذا بها تصبح من جملة الماضي.
وإذا وقفتَ عند الحاضر واستغرقتَ فيه نسيتَ الزمان، ويطول هذا النسيان بمقدار استغراقكَ فيما أنت فيه واستمتاعكَ به. وقد تمر بك الساعة كأنها لحظة، أو تمر بك اللحظة وكأنها دهر. ومن المعروف أن الناس يقطعون الوقت بالحديث والسمَر والاستماع إلى الموسيقى والذهاب إلى السينما أو دور التمثيل، فأنت تقطع الوقت بأن تستغرق في شيءٍ خارجي يُنسيك نفسك فيُنسيك الزمان.
من أجل ذلك كان التذكُّر وثيق الصلة بالزمان، أو هو الزمان عند بعض الفلاسفة.
قد ترى شخصًا فتُحدِّث نفسك أين رأيتَه، وتُفتِّش في ذاكرتك وتُقلِّب صفحات كتابها حتى تدرك أنك رأيتَه في الإسكندرية في مكانٍ معين من العام الماضي، وقد تُحدِّد الوقت أكثر من ذلك فتعرف اليوم والساعة. مهما يكن من شيء، فالذي يهمنا هو استحضار الذكرى من الماضي إطلاقًا، أما تحديدها في مكانٍ معين وزمانٍ معين فهذا شيءٌ آخر مكمل للذاكرة الجيدة. ولنفرض أنكَ دخلتَ حجرة لأول مرة، فأدركتَ فيها الأثاث موضوعًا بشكلٍ معين، وأدركتَ الصور المعلقة على الجدران، ثم دخلتَ هذه الحجرة نفسها بعد عام، فإنك تدرك في الحال أنكَ قد سبق لك رؤية هذه الأشياء في زمنٍ مضى سواء عرفتَ الوقت الماضي تمامًا في اليوم والساعة، أو عرفتَ فقط أنه كان في الماضي. أما إذا نسيتَ، ووقفتَ في هذه الحجرة وكأن كل شيء فيها جديد بالنسبة إليك، أصبح الماضي الذي مر بك كأن لم يكن، وإذا أنت تعيش في الحاضر فقط.
فالنسيان فقدان بعض أحداث الماضي، والنسيان المستمر فقدان الزمان.
إنها تذكُر اسمها ولكنها لا تذكر سنها ولا عنوان سكنها، وهي لا تدري أنها كانت ذات مهنة مع أنها زاولت الطب ٢٥ سنة، وكانت تُشرِف بنجاح على أحد المستشفيات. إنها لا تكاد تقرأ الصحيفة حتى تنساها، وتنسى الإجابات عن الأسئلة، والزوُّار الذين يحضرون لرؤيتها، وتعتقد أنها ترى وجوه المتصلين بها منذ مرضها لأول مرة مع أنها تراهم كل يوم.
وقد خُيِّل إلى بعض الفلاسفة أن الزمان ليس شيئًا خارجيًّا له حقيقةٌ واقعة، بل هو من أنفسنا، كما ذهب إلى ذلك كانط فقال: إن الزمان صورةٌ عقلية أولية نفرضها على الأشياء حين ندركها. ويقول برجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور»: إن التعاقب الذي نراه في مرور عقارب الساعة، إنما يُوجد بالنسبة لملاحظٍ شاعر يتذكر الماضي.
ينشأ إدراك الزمن والإحساس به من تقلب المظاهر الخارجية مع اختلافها في النوع والشدة وتناسُبها في الإيقاع، كاختلاف الليل والنهار، وانتقال الشمس من المغرب إلى المشرق وما إلى ذلك، فإذا كنا في النهار ذكَرْنا أننا كنا بالأمس في الليل، ولو نسينا ذلك الليل ما أدركنا هذا التعاقُب. ولو عشنا في ليلٍ مستمر ما عرفنا الأيام. وقد حكى مسجون وُضِع في زنزانة لا نوافذ لها ولا إضاءة فيها أنه لم يعُد يعرف الوقت. وعند زوال تعاقُب الأشياء واختلافها نفقد الإحساس بالزمان الذي يدور، أو بالأشياء التي تتحرك داخل الزمان. وهذا ما يحدث لمن يجلس على شاطئ البحر الهادئ ويستغرق في النظر إليه، فينسى كم لبث وينسى الزمان. ولذلك كان النوم الهادئ العميق من الفترات التي يقطعها المرء خارج الزمان. ونحن لا ندرك كم مضى علينا من الوقت في النوم إلا حين ننظر إلى المظاهر الخارجية، فنرى أن النور قد أشرق، ونعلم أن الصبح قد طلع، وفي ذلك يقول تعالي: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (البقرة: ٢٥٩).
ومع ذلك فالإنسان يستطيع إدراك الوقت دون الاستعانة بمقياسٍ خارجي، كالساعة الدقاقة مثلًا، يدركه وهو نائم، فإذا كنتَ معتادًا أن تستيقظ في الصباح الساعة السادسة كل يوم لتذهب إلى عملك، فإنك تستيقظ في هذا الموعد تمامًا حتى لو كان اليوم يوم عطلة. ورَوَى شخصٌ أنه لم يكن معتادًا النوم بعد الظهر أبدًا إلى أن اضطجع ذات مرة على أريكة، فأخذه النوم عصرًا واستيقظ عند الأصيل فرأى النور باهتًا قبل الغروب، فخُيِّل إليه أنه قد استيقظ في الفجر قبل الميعاد، فأغمض عينَيه ليكمل نومه، ولكنه لم يستغرق في النوم، ففتح عينَيه ليرى أن الظلام قد أصبح دامسًا، وعندئذٍ فقط أدرك أنه كان قد نام بعد العصر.
ورُوي عن بعض الفلاسفة المُحدَثين أنه لم يكن يحمل ساعة اعتمادًا على إحساسه الشخصي بالزمن. وهكذا كان الناس يفعلون قبل اختراع الساعات الدقَّاقة.
جملة القول: الذاكرة هي التي تمدُّنا بالإحساس بالزمان وتعاقُب الأحداث، وهي التي تُهيِّئ لنا سبيل قياس الزمان.
والذاكرة هي التي تمدُّنا بفكرة الزمان المستقبل قياسًا على الماضي، والواقع أننا لا نبصر المستقبل، بل نتبصَّره، أو نتوقَّعه. والحياة في جملتها حركة إلى الأمام يعمل الإنسان حسابها بمقتضى ما فات. ولو ذهب عن الإنسان هذا المعنى لأصبح كالحيوان الذي يعيش في حاضره، أو تُكيِّفه الظروف الخارجية، أو تدفعه الغريزة العمياء، أو كالوليد الرضيع الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولكنه يعيش مع ذلك.
ولسنا نحيا حياة الوليد الذي لم يدرك بعدُ، بل حياة العقلاء الذين يعتمدون على ماضيهم في العمل مستقبلًا. ولقد استطاع الإنسان أن يُجرِّد فكرة الزمان، وأن يستخلصها، وأن يمضي بها في المستقبل إلى غير نهاية، فنشأت من ذلك فكرة «الأبد» وهو لا نهاية الزمان في المستقبل، كما أن «الأزل» لا نهاية الزمان في الماضي، وكان الأزل والأبد عماد سائر الأديان عند المتحضرين، بل لقد طبَّق الإنسان هذه الفكرة على نفسه، فاعتقد في خلود الروح بعد فناء البدن.
فالذاكرة هي التي تمدُّنا بفكرة الزمان ماضيه وحاضره ومستقبله، فالذاكرة والزمان متصلان اتصالًا وثيقًا.
وقد أجرى بعض العلماء أبحاثًا لبيان هذه الصلة سواء عند الحيوان أو عند الإنسان فيما يختص بما سمَّوه «الزمان الحيوي» أو البيولوجي والزمان الحيوي متصل بالحاجات البيولوجية كالطعام والشراب واليقظة والنوم وإخراج الفضلات وما إلى ذلك.
وهذا الزمان الحيوي أساس الذاكرة الآلية التي حدَّثتُك عنها.
وقد أثبت العالم الروسي بافلوف هذه الصلة عند بحثه عن الأفعال المنعكسة المتعلقة بشرط. وفي تجربته المشهورة على الكلب، كان يُقدِّم له الطعام في وقتٍ معين فيفرز الكلب اللعاب عند رؤية الطعام؛ لأن الطعام مؤثرٌ طبيعي يدفع إلى إفراز اللعاب. وكان يدُق مع تقديم الطعام جرسًا، وبعد عدة مرات كان يكفي أن يسمع الكلب دقَّة الجرس حتى يفرز اللعاب.
ونحن كذلك نُحقِّق حاجاتنا الطبيعية في مواعيدَ تعلَّمناها وتعوَّدناها طبقًا لدورةٍ زمانية لا تخطئ، فإذا حان موعد الغداء شعرنا بالجوع، ويقضي الطفل الرضيع حاجته في مواعيدَ دون أن يلوث فراشه. وإذا تعوَّد أحدنا أن يستيقظ في ساعةٍ معينة استيقظ في هذا الموعد حتى في أيام العطلة. وأول أيام الصوم في رمضان يكون عسيرًا لخروج المرء عما ألفه، وفي بعض الأحيان ينسى الصائم فيأكل نهارًا. ومن الفكاهات التي تُروى أن صائمًا دخل المسجد يُصلِّي الظهر جماعة، فتحسَّس جيبه فوجد فيه بلحًا، فأخرج بلحةً وأخذ يأكلُها، فغَمزَه جاره يريد أن يُنبِّهه ويَنهَره، فقال له: «والله هذه آخر بلحة وليس معي غيرها.»
والذاكرة هي أساس الزمان الاجتماعي، هذا الزمان الذي اصطلح المجتمع عليه في تسيير أموره وضبط أحوال معاشه؛ فقد اهتدى قدماء المصريين إلى السنة الشمسية لحاجتهم إلى الزراعة ومعرفة مواعيد الحرث والبذر والحصاد، وأصبح الزمان موضوعيًّا خارجيًّا يُقسَّم إلى أعوام، وتُقسَّم السنة إلى فصول وإلى أيام. ولم يكن الزمن في أول الأمر ثابتًا موضوعيًّا كما أثبت دوركهايم وماوس في أبحاثهما الاجتماعية، بل نشأ أولًا في ضمير الشعوب البدائية لخدمة الاحتفالات الدينية والأعياد والمواسم، ثم نشأ التقويم السنوي تابعًا لهذه الاحتفالات والأعياد، ثم انتقلَت فكرة الزمان من الذاتية إلى الموضوعية وأصبح الزمان عامًّا للمجتمع بأسره، لا ملكًا لشخص، حتى أضحى الفرد مضطرًّا إلى التزام توقيت المجتمع الذي يعيش فيه والخضوع لقيوده. وإذا كره الإنسان المجتمع هرب منه، وهرب من هذه القيود، وتَحلَّل من هذه الالتزامات، فترى الطالب يذهب متأخرًا إلى مدرسته، وكذلك الموظف إلى عمله، أو يستعين المرء بما يجعله ينسى الزمان، فينغمس في شرب الخمر، أو تدخين الأفيون والحشيش، وهذا ما بيَّنه مورو دي تور وكوينسي وبودلير في مذكرات آكل الأفيون، حيث يُخيَّل للمدمن أن الدقيقة دهر، وأن اللحظة التي يعيشها أبدٌ لا ينتهي.
وإنما استطردنا إلى الكلام عن الزمان؛ لأنه أساس الذاكرة يحتوي في صدره على سر الأحداث الماضية ويطويها في زوايا النسيان.
وإذا أسفر الزمان عن وجهه، أشرقَت الذكريات.
وإذا احتجب، حجبها معه وغابت عن الأنظار.
فما هي علة إشراقه؟ وكيف تُسجَّل الأحداث على صفحة الزمان؟
وما سبب احتجابه؟ وكيف تختفي الذكريات في خبايا النسيان؟
هذا هو موضوع الفصول المقبلة حيث نتحدث في الفصل الآتي عن طرق التعلُّم والاكتساب، وعما سمَّاه العلماء ﺑ «خط التعلُّم» وكيف يتجه صاعدًا على مر الأيام؛ لأن النسيان متوقف على التعلُّم، فكلما كان التعلُّم أجود وأنظم وأثبت كان النسيان أقل وأبطأ. وإذا أردنا أن نعالج النسيان فعلينا أن نحسن التعلُّم، ثم نتحدث في الفصل الذي يليه عن «خط النسيان» الذي يتجه هابطًا على عكس خط التعلُّم الذي كان يتجه صاعدًا، وكلا الخطَّين يُبيِّنان التعلُّم العادي والنسيان السليم. أما الشذوذ في النسيان الذي يُعَد مرضًا فهذا بابٌ آخر.
ولا نَودُّ في هذا الكتاب الصغير أن نشير إلى مذاهب القدماء الذين زعموا أن النفس تعلم كل شيء قبل اتصالها بالبدن، حتى قال أفلاطون إن العلم تذكير والجهل نسيان. أو مذاهب الذين يعتقدون في علم النفس بعد مفارقتها البدن سواء في حالة الحياة أم بعد الموت، كما زعم الرئيس ابن سينا وغيره؛ لأن هذه المباحث تُخرِجنا عن نطاق العلم.