نسيان الطفولة ونسيان الأحلام
من أغرب الظواهر الخاصة بالنسيان اختفاءُ الأحداث التي وقعَت في الطفولة المبكرة، ونسيانُ الأحلام التي تمر بنا في النوم.
وليس من الممكن إجراءُ تجاربَ معملية؛ أي في معامل علم النفس، كما فعل العلماء في الحفظ ومعرفة طرقه، ولذلك نلجأ إلى «التأمُّل الباطني»؛ أي أن ينظر الإنسان في باطن نفسه ليذكر ما يشاهده فيها. وهذه إحدى الحالات التي نُضطَر فيها إلى الالتجاء إلى منهج التأمُّل الباطني أو الاستبطان. ويستطيع كل من يقرأ هذا الكتاب أن يفعل ذلك في نفسه، فيتأمَّل ذاته ويعود مع الماضي إلى الوراء يبحثُ عن أول ذكرى يستطيع أن يسترجعَها في طفولته.
أما أنا فأقدمُ الذكرياتِ التي وقعَت لي هي حفل زفاف عمي، وكنتُ في ذلك الحين في الثالثة من العمر تقريبًا. ولستُ أذكُر أحداث ذلك اليوم بوضوح، وإنما هي لمحاتٌ تضيء بعض تلك الحوادث، ومنها أني لبستُ «بدلةً» جديدة، لستُ أدري أكانت أول بدلة لبستُها أم لبستُ قبل ذلك غيرها. ولا أذكُر لونها أو هيئتها، ثم أذكر زحمةً شديدة وكأني كالضائع وسط ذلك الزحام، ثم أذكُر عربةً مذهبة تجرُّها عدة جياد، وكانت تُسمَّى عربة «زينب هانم»، هي التي تركب فيها العروس، وأذكر أنها كانت واقفة في شارعٍ قريب منا. وفي الليل أتذكَّر صورةً غامضة عن أضواء وموسيقى وأشخاصٍ كثيرين وموائد للطعام، وأني بكيتُ ولا أعرف لماذا.
لعلك تلاحظ معي انقطاع الصلة بين تلك الصور الماضية، بحيث لا تُكوِّن سلسلةً مرتبطة، وتلاحظ كذلك غموض تلك الصور، وتلاحظ ثالثًا أن الصفة العاطفية هي الغالبة، عواطف فرحٍ وحزن ودهشة.
وهناك حوادثُ أخرى بعد الثالثة من عمري لا أزال أذكُر بعضها في غموض كذلك، مثل ذهابي إلى كُتَّابٍ صغير قبل التحاقي بالمدرسة، حيث تعلَّمتُ في ذلك الكُتَّاب القرآنَ حتى سورة عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (النبأ: ١)، وكنت أحمل لوحًا من الإردواز. وحادثةٌ أخرى لا أذكر إلا شيئًا يسيرًا منها، هي موتُ أخٍ لي كان اسمه محمودًا، مات محروقًا وهو يعبث بعيدان الثقاب، ولكني لا أتذكَّر من صِلَتي بهذا الأخ إلا صورةً واحدة وهي أننا نلعب بعد الظهر في فِناء البيت.
ويهمُّني أن أذكُر من ذلك الماضي البعيد شيئًا كنتُ أُسمِّيه «الكابوس»، ولا أعلم في أي سنٍّ كانت تلك الذكرى، فهي تدورُ حوالي الثالثة أو الرابعة، ففي البيت الذي كنا نقطُنه، وهو بيتٌ واسع فيه فِناء، كنا نَشغَل الدَّور الثاني منه، ونَتناوَل الطعام ونُنفِق معظم الوقت في حُجرتَين بين الدور الأول والثاني، ولم يكن نور الكهرباء قد عَمَّ البيوتَ بعدُ؛ فالإضاءة بمصابيح الغاز. وحين يُقبِل المساء، نتناول العَشَاء في تلك الحجرتَين ثم يطلبون مني أن أصعد للنوم ويبقَون هم، فاعتذرتُ مرةً عن الانصراف والصعود إلى أعلى واجتياز سُلَّم البيت، حتى لا أرى «الكابوس» كما كنتُ أُسمِّيه، وهو عبارة عن أشباحٍ تتراءى على الحيطان تُخيفني.
أشباح وخوف، هذا ما أذكُره.
وهنا نجد تقاربًا بين نسيان الطفولة ونسيان الأحلام؛ لأن الأحلام أشباحٌ تتراءى، والأغلب أنها تُصبَغ بصبغةٍ انفعالية أهمُّها الخوف، فالعلة في نسيان أحداث الطفولة تشبه العلة في نسيان الأحلام. هذه العلة هي اقتراب الصور من «الحقيقة» أو ابتعادها عنها، ففي الطفولة، وخصوصًا المبكرة، تختلط الحقائق بالخيالات حتى لقد يعيش الطفل في عالمٍ من الخيال والأشباح، وفي النوم يرى النائم في أحلامه أضغاثًا من الرؤى يُخيَّل إليه أنها حقائق؛ أي إن حقائق الطفل خيالات، وخيالات الحالم حقائق، ولا يستبقي الإنسان إلا الحقائق التي تُثبِت أنها كذلك، وهو لذلك ينسى أحداث الطفولة؛ لأنه كان يُضفِي على الحقيقة من خياله ما يجعلها أدنى إلى الأشباح، وينسى الأحلام؛ لأن عقله الواعي يعلم أنها أضغاثٌ وأباطيل.
هذه إحدى النظريات في نسيان أحداث الطفولة ونسيان الأحلام، وسوف نعود إلى تفصيلها بعد قليل.
وهناك نظريتان أخريان إحداهما نظرية فرويد الذي يذهب إلى أن نسيان أحداث الطفولة نتيجة «الكبت»، وكذلك الحال في الأحلام. والثانية نظرية جمهرة من علماء النفس ومنهم «بييرون»، وهي أن نسيان أحداث الطفولة المبكرة يرجع فيما يبدو إلى سببٍ عضوي، هو قصور نمو المخ، ولكن هذه العلة إذا صحَّت بالنسبة للطفولة فهي لا تُعلِّل نسيان الأحلام. هذا فضلًا عن اختلاف الأفراد في نسيانهم اختلافًا كبيرًا، فبعض الناس يذكُر أشياء وقعَت له وهو في الشهر السادس، والبعض الآخر لا يذكُر شيئًا قبل سن الثامنة من العمر.
ففي تجارب فيكتور هنري وزوجته والتي أجراها على ١٢٣ طالبًا من المراهقِين كانت النتيجة كما يأتي:
السن | ٦ شهور | ٨ | ١ سنة | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٧ | ٨ | |||
العدد | ١ | ٢ | ٤ | ٩ | ٢٣ | ٢٠ | ١٩ | ١٤ | ١٢ | ٦ | ٢ | ١ |
وقد فطَن علماء النفس منذ القرن الماضي إلى احتفاظ الطفل بالآثار التي تقع تحت حَواسِّه، وإلى ظهورها تحت ظروفٍ خاصة، ومنها ظاهرة اللغات التي يكون الشخصُ قد سمِعَها في طفولته. مثال ذلك ما رواه ريبو نقلًا عن الدكتور دوفال من أن حطَّابًا عجوزًا كان يعيش في صباه على حدود بولندا، ولم يكن يتكلَّم إلا اللغة البولندية، ثم انتقل بعد ذلك إلى المنطقة الألمانية وعاش فيها، وأكَّد أولاده أنه لم يتكلم اللغة البولندية منذ أربعين سنة، وما سمعوا منه كلمةً واحدة بولندية. وأُجرِيَت له عمليةٌ جراحية وظل مخدرًا ساعتَين كان يتكلم في خلالهما ويصلي ويغني باللغة البولندية فقط.
وكثيرًا ما يلجأ علماء النفس إلى التنويم المغناطيسي لمعرفة الأحداث الماضية التي وقعَت للمريض أثناء الطفولة ونَسِيَها. وكان العلماء قد عدَلوا عن التنويم المغناطيسي إلى طريقة «التداعي الحر» و«التداعي المقيَّد» وذلك بأن يستلقي المريض في استرخاء ويأخذ في سرد أفكاره. إلا أن بعض المرضى يأبَوْن أن يتذكَّروا ويقاومون ظهور كوامنِ أنفسهم، ولذلك عاد العلماء منذ الحرب الأخيرة إلى استعمال التنويم المغناطيسي. مثال ذلك أن امرأةً أُصيبَت بداء الوسوسة وكلما غسلَت يدَيها بالماء خُيل إليها أنها دم، وظلت على هذه الحال ثلاث سنوات، فاستشارت أحد الأطباء النفسانيين، فتذكَّرت وهي تحت تأثير النوم المغناطيسي أنها حين كانت في الخامسة من العمر شاركت في ذبحِ دَجاجة فتلوَّثَت يداها بالدماء فغسلَتْهما، ولكن هذا المنظر أثَّر في نفسها أثَرًا شديدًا في ذلك الحين، ونَسِيَته مع الوقت، إلى أن عاد إلى الظهور لا شعوريًّا وهي امرأة.
أما فرويد وأصحاب مدرسة التحليل النفساني، فإنهم يذهبون إلى أن كل ما يقعُ تحت حواس الطفل منذ أن وُلِد يظل باقيًا في نفسه لا يزول أبدًا، ويحرك صاحبه لا شعوريًّا في مستقبل حياته. ويرجع فرويد إلى اللذة الجنسية كل سلوك الإنسان. ويزعُم أن الوليد يشعر بلذةٍ جنسية من لمس سطحِ جلده، وأن بعض المواضع أكثرُ حساسيةً من غيرها مثل الفم عند امتصاص الثدي، والأعضاء التناسلية وعند التبوُّل والتبرُّز. ولذلك يُعلِّل فرويد إدمان المدخن على وضع «السيجارة» في فمه إلى تلمُّس تلك اللذة التي كان يُحسُّ بها وهو طفلٌ رضيع يمتصُّ ثدي أمه، أو الثدي الصناعي.
ويهمُّنا أن نبسط تعليل فرويد لنسيان الطفولة، فهو في مذهبه يتكون حوالي الخامسة من العمر، عندما يتكون «الرقيب» وهو عبارة عن حاجز من التقاليد والدين والنواهي التي تُفْرض على الطفل وخاصة في الحياة الجنسية؛ إذ بعد أن كان الطفل حرًّا لا يعقل الأمور الجنسية ولا يُخفيها أهله عنه لقلة إدراكه، إذا به يؤخذ بالشدَّة ويُؤمر بإخفاء الأعضاء التناسُلية ويُحرَّم عليه الحديث عنها، ويجد ستارًا حديديًّا مضروبًا حول هذه المسائل، وبذلك يتعلم أن «يكبت» الخواطر التي تدور حول الأمور الجنسية، وهنا يبدأ الرقيب أن يتكون ويصبح حاجزًا يُخفي وراءه كثيرًا من الأشياء يتعوَّد نسيانها مع الزمان، ويخاف ظهورها ويهرب من النظر إليها، بل ومن التفكير فيها. وليس الحياء الذي يُصاحِب المرء حين يواجه المسائل الجنسية إلا مظهرًا من مظاهر الخوف. ولذلك كان ما يُخفيه المرء، ويكبته، أو ينساه، هو ما يخاف منه، وما يكون مصدر ألمٍ له.
ولا تثبُتُ نظرية فرويد للنقد طويلًا؛ لأن متوسط سن النسيان لأحداث الطفولة هو الثالثة كما اتضح من التجارب العلمية، على حين أن الرقيب الذي يُحدِّثنا عنه فرويد لا يظهر إلا بعد الخامسة. ومن جهةٍ أخرى نرى أن كثيرًا من ذكريات الطفولة التي لا تزال حية عند أصحابها هي ذكرياتٌ تقوم على الخوف أو الألم، مما يُناقِض نظرية فرويد في الكبت.
ونحن نميل إلى تأييد النظرية الاجتماعية في نسيان الطفولة، وهي نفسها تنطبق على نسيان الأحلام.
وليس من الممكن تطبيق المناهج العلمية الموضوعية على الأحلام كما يفعل العلماء في ظواهرَ نفسيةٍ كثيرة؛ لأن الحُلم يدور بينه وبين صاحبه ولا يمكن ملاحظته من الخارج، بل أكثر من ذلك لا يمكن لصاحبه أن يلاحظ نفسه وهو يحلُم إلا بعد اليقظة، فإما أن يتذكر الرؤيا وإما أن ينساها. وذهب بعض العلماء إلى أن كل إنسان يحلُم في نومه ولكنه لا يتذكَّر. والأغلب أن الحلم سريع النسيان، ولذلك نصح العلماء الذين يدرسون الأحلام أن يحتفظ المرء بورقٍ وقلمٍ إلى جانب السرير حتى إذا استيقظ عقب الرؤيا دَوَّنها مباشرة قبل أن تغيب في مجاهل النسيان. ويقول بعضُ العلماء إن الأحلام لا تظهر إلا في الوقت الذي يخفُّ فيه النوم، أما النائم المستغرق في نومه فلا يحلُم. وهم يعتمدون في تأييد هذه النظرية على أن الباعث إلى الأحلام هو الإحساسات الظاهرة أو الباطنة، ولا يُحسُّ المرء إلا إذا كان في شبه يقظة.
وعند فرويد أن النوم الصحيح ما كان بغير أحلام، فإذا حلم المرء كان هذا دليلًا على أن صاحب الرؤيا لا يزال يتأثَّر بالمؤثِّرات الخارجية والداخلية، غير أن هذه التأثيرات خارجيةً كانت أم داخلية أي في صورة رغباتٍ ومخاوف، تتحول إلى صُورٍ عجيبة في الحلم فلا توقظ النائم، ولذلك كان الحلم تحقيقَ رغبةٍ لا يمكن تحقيقها في الواقع، وهو لهذا السبب «حارس النوم».
وتمتاز الأحلام بأمرَين؛ خروجها عن منطق العقل في تركيب الصور، وعدم تقيُّدها بالزمان، وكلا الأمرين لا يتفقان مع الحياة الواقعية التي يعيش فيها الإنسان مع غيره من الناس، ويُضطَر إلى تقييد نفسه بترتيب الأحداث ووضعها في موضعها من الماضي؛ كي يكون مفهومًا من غيره حين يُحدِّثهم عن هذه الأحداث مُعَبرًا عنها بالكلام.
فالحياة الواقعية تَضْطرنا إلى التذكُّر؛ أي وضع الأشياء في موضعها الصحيح من الزمان. ويضرب الأستاذ بيير جانيه مثلًا لاضطرار المرء إلى التذكُّر بمعسكر لجماعة من البدائيين وضعوا عليه ديدبانًا مكلفًا بمراقبة الأعداء ومعرفة حركاتهم ونقلها إلى رئيس القبيلة، ويُضطَر الديدبان إلى رواية ما حدث من ذاكرته بطريقةٍ مفهومة مرتبة، فهو يجيب عن أسئلة الرئيس واستفهاماته بأن هذا الشخصَ جاء «قبل» ذاك، وجرى هذا الشخصُ «بعد» ذاك، ووقع هذا الحادث في الصباح، وذلك الحادث عند الظهر، وهكذا. وإذا نَسِي الديدبان هذه الحوادث، أو اضطرب في روايتها، أدى ذلك إلى وقوع القبيلة بأَسْرها في الخطر.
ونحن في الحياة الواقعية مُضطَرون إلى التعامُل مع غيرنا من الناس في هيئةٍ معقولة من الكلام، وإلى ترتيب الحوادث ترتيبًا صحيحًا، في سِجل الزمان. نحن إذن في حياتنا الواقعية «مقيَّدون»، ولا تحسبن أن هذا التقييد الذي تفرضه علينا الحياة الاجتماعية يروقنا، ولذلك نهرب منه؛ أي نهرب من القيود، ولكن أين المفر؟ إننا نهرب في أحلام اليقظة، وفي الأحلام، حيث نكون أحرارًا لا نتقيد بترتيب الزمان، فالطالب في أول العام يتصور وهو في أحلام يقظته أنه نجح في الامتحان آخر العام، والتاجر يرى في أحلامه أنه كسب في تجارته، وكلاهما يحقق رغبته بغير جهد، ويقفز إلى المستقبل كأنه الحاضر دون أن يمر بمراحله.
جملة القول: لا يراعي الإنسان في أحلامه ترتيب الزمان، ولا يَحفِل به، فيرى الماضي حاضرًا، ويجعل المستقبل ماضيًا، وهذا كله اختلال لا ترتضيه الذاكرة، ولا حاجة بعد ذلك إلى النسيان، بل ولا حاجة إلى التذكُّر أصلًا، وهذا هو سر نسيان الأحلام عقب وقوعها.
ومن هذا الوجه يمكن تعليل نسيان الطفولة أيضًا؛ لأن الطفل قبل الثالثة من العمر لا يُميِّز الزمان، فهو لا يعرف الوقت ولا يدري اليوم من الأمس حتى ليقول ذهبنا «باكر» إلى الحديقة وهو يريد «الأمس»، ولو سُئل عن الوقت أهو ليلٌ أم نهار، لم يميز لأنه لا يعرف، فهو من أجل ذلك لا يستطيع أن يتذكر، وهذه هي علة نسيان الطفولة؛ نعني عدم إدراك الطفل للزمان.
وقد مر بنا في ابتداء هذا الكتاب أن الذاكرة نوعان؛ آلية ولفظية، أو حركية ومعقولة، ويضيف بعض العلماء إلى هذا التقسيم نوعًا ثالثًا الذاكرة «الوهمية»، فإذا كانت الآلية تعتمد على الإحساس والحركة وتعم الإنسان والحيوان، فإن الذاكرة اللفظية «اجتماعية»؛ لأن الألفاظ المنطوقة التي تُعبِّر عن المعاني إنما نشأَت لحاجة الإنسان إلى التعامُل مع غيره من بني جنسه ونقل أفكاره إليهم، أما الذاكرة الوهمية فهي «لا اجتماعية» وهي التي تظهر عند الطفل في بدء نشأته، وعند المريض الذي يَهْذي، وعند النائم الذي يحلُم؛ ذلك أن الصور التي تتتابع في الأحلام والهذيان تبعث مشاهدَ من الماضي، ولكن صاحبها لا يراها قطعة من الماضي، بل جزءًا من الحاضر؛ لأنها بالنسبة له حين يَهْذي أو يحلُم حاضر وواقع؛ ذلك أن الذاكرة في الحُلم تعيش فيه كأنه هو الحقيقة، وقد يعتقد الحالم في حُلمه إلى حدٍّ يبعثه إلى الحركة فينهض من فراشه ويأتي أعمالًا كثيرة كما هي الحال في «الجَوَلان النومي».
جملة القول: نحن نذكر ما يهمُّنا كما قلنا من قبلُ، وما يهمُّنا خاضع لمنطق الواقع في الحياة الاجتماعية، اللهم إلا إذا عجز المرء عن مسايرة المجتمع ولقي منه عنتًا، فهو يهرب منه ويعيش في عالم الوهم والخيال، ويخلق الصور على هواه. وهذه هي حال الطفل، وحال النائم الحالم.
ومما يُلاحَظ أن الطفل يمر بالذاكرات الثلاث على التوالي، فهو يبدأ بالذاكرة الآلية فتنشأ عنده عادات تقوم على ما يتعلَّمه بطريق المحاولة وحذف الأخطاء وطريقِ الأفعال الشرطية. ويمر بعد ذلك وهو في الثانية والثالثة والرابعة بمرحلة الذاكرة الوهمية التي يعيش فيها في عالم من الخرافة والأوهام، لا يميز بين الماضي والحاضر، ولا يفصل بين الخيالي والحقيقي. وهناك بعض الصبيان المتخلفين يقفون عند هذه المرحلة مع بلوغهم سنًّا كبيرة، حتى إذا بلغ الطفل الخامسة بدأ في مرحلةٍ جديدة هي مرحلة الذاكرة الاجتماعية، وهي ذاكرةٌ منطقية مرتَّبة تنتظم في سلك الزمان.
وإذ قد وفَّينا البحث عن النسيان الطبيعي الذي يعُمُّ أغلب الناس، فلنكتفِ بهذا القَدْر ولننتقل إلى الحديث عن النسيان الذي يُعَد في باب المرض والشذوذ.