النسيان في الحياة اليومية
اهتم فرويد بهذا الموضوع منذ أكثر من خمسين عامًا، وكتب فيه كتابًا اسمه «المرض النفسي في الحياة اليومية»، نُقل إلى معظم اللغات الحية، ما عدا اللغة العربية. وقد قرأتُ الكتاب منقولًا إلى الفرنسية، وتُوجد منه طبعةٌ إنجليزية رخيصة، ولكن ترجمته إلى العربية في غاية الصعوبة؛ لأن المؤلف يشير إلى أسماءٍ واصطلاحاتٍ باللغة الألمانية لا تُفهم إلا في أصلها. والكتاب — على الرغم من مخالفتنا لمذهب صاحبه — في غاية الطرافة؛ لأنه يقوم على رواية حوادثَ شخصية يُحلِّلها فرويد على نفسه أو يحكيها عن أشخاصٍ عَرفَهم وسألوه رأيه. وهو يتحدث في الفصل الأول عن نسيان أسماء الأعلام، وفي الثاني عن الأسماء الأجنبية، وفي الثالث عن نسيان الألفاظ، وفي الرابع عن ذكريات الطفولة، إلى فصولٍ أخرى كثيرة.
ونحب أن نقف عند ذكريات الطفولة ليكون الحديث موصولًا بما سبق. وليس من المهم أن نبدأ ببابٍ معين؛ لأن فرويد صاحب نظريةٍ عامة يُفسِّر بها جميع المظاهر النفسية. وأساس هذه النظرية الاعتقاد بوجود «حتمية بسيكولوجية» أي إن أي سلوكٍ إنساني مهما يكن تافهًا فلا بد أن يخضع لعلة، وإذا عجزنا عن معرفة هذه العلة فذلك نقصٌ في علمنا، ثم يُقسِّم فرويد الحياة النفسية إلى شعورية ولا شعورية، وأن الأحداث اللاشعورية هي التي تُوجِّه السلوك الشعوري. وهذه الحياة اللاشعورية لها منطقها الخاص، وإذا أُخفِيَت بعض الأمور نتيجة «الكبت»، فإنها تظهر في ثوبٍ مُقنَّع بما يُسمِّيه الاستبدال أو الانتقال. ويعتمد فرويد على النسيان في الدلالة على وجود هذه الحياة اللاشعورية.
لفَت النسيان نظر فرويد ولم تُقنِعه تعليلات غيره من العلماء، فأخذ يُراقب نفسه يُحلِّلها، كما أخذ يصف ذاكرته وقُوَّتها قال: إني لا أنسى بسهولة، وكنتُ في حداثة سني صاحب ذاكرةٍ فائقة الحد في القوة؛ ففي عهد التلمذة كان يلذُّ لي أن أُردِّد عن ظهر قلبٍ صفحةً بأكملها عقب قراءتها، وكان في استطاعتي إعادة محاضرةٍ علمية بعد سماعها. واستطعتُ في امتحان دبلوم الطب أن أُجيب عن الأسئلة بما جاء في الكتب المقرَّرة، مع أني لم أقرأها إلا مرةً واحدة قراءةً عاجلة. ولم تضعُف ذاكرتي منذ ذلك الحين.
وإنما ساق فرويد هذه المقدمة عن قوة ذاكرته ليُبيِّن أنه إذا نَسِي بعد ذلك شيئًا كان الأمر يدعو إلى الغرابة. وهذه إحدى نوادر نسيانه قال: كنتُ مكلفًا أن أشتري لسيدة جاءت حديثًا إلى حَينِّا صندوقًا حديديًّا تحفظ فيه أوراقها وأموالها، وكان في ذهني في الوقت الذي عرضتُ عليها معونتي صورةٌ واضحة لواجهة محل في وسط المدينة رأيتُ فيه هذا النوع من الخزائن. ومع أني لم أذكر اسم الشارع إلا أني كنتُ على يقينٍ من العثور على المحل إذا تجوَّلتُ في المدينة؛ لأني أذكُر أني مررتُ به مئاتٍ من المرات، ولكن العجيب من الأمر أني عجزتُ عن معرفة المحل، على الرغم من البحث في الدليل لمعرفة عنوان جميع مصانع الخزائن. ولم أكن في حاجةٍ إلى ذلك كله؛ إذ لم يكد بصَري يقع على اسم المحل في الدليل حتى عرفتُه وتذكَّرتُه. ولا ريب أني كنتُ قد مررت بذلك المحل مئات المرات من قبلُ كلما ذهبتُ لزيارة أسرة «فلان» التي تسكن في البيت نفسه الذي يُوجد فيه ذلك المحل، فلما قطَعتُ صلتي بتلك الأسرة تعوَّدتُ دون أن أشعر أن أتجنَّب المرور في ذلك الحي وبتلك الدار، نتيجة الشعور بالكراهية لأهل الدار. أما نسيان محل الخزائن فيرجع إلى ارتباطه بالدار، أو على حد تعبير فرويد نتيجة عملية استبدالٍ أو انتقال.
ومن الأمور التي يشكو كثيرٌ من الناس نسيانَها الأشياءُ التي يطلبونها من مواضعها فلا يعثرون عليها؛ لأنهم ينسون أين وضعوها، كالحال في المؤلف الذي ينسى أين وضع كتابًا أو ورقة. ويَرْوي فرويد أنه لا يجد صعوبةً ما في البحث عن كتابٍ وضعه على مكتبه، ولكنه عجز في إحدى المرات عن إيجاد قائمة بالكتب (كتالوج) استلمه بالبريد، وكان عازمًا أن يطلب كتابًا قرأ عنوانه فيه وهو يتعلق باللغة، ومؤلفه ممن يحب فرويد أسلوبهم ويُقدِّر آراءه في علم النفس والتاريخ والحضارة، ويذهب فرويد إلى أن هذا الإعجاب بصاحب الكتاب هو علة نسيان الكتالوج.
ونقَل فرويد عن غيره هذه الحادثة للدلالة على أن معرفة سبب النسيان يؤدي إلى ذهاب النسيان، قال: أرادت فتاةٌ أن تقص قطعة من القماش فأفسدَتْها عندما قصَّت الياقة، واضطُرت إلى استدعاء حائكة ثياب لإصلاحِ ما أفسدته. فلما وصلَت الحائكة بحثَت الفتاة في كل مكان عن القماش، وقلبَت الأدراج رأسًا على عقب دون فائدة، حتى إذا أخذ الغضبُ منها مأخذه، أخذَت تُحدِّث نفسها قائلة كيف اختفى القماش؟ لا ريب أني «لا أريد» العثور عليه. ولمَّا عاد الهدوء إلى نفسها تبيَّنَت أنها كانت في خجل أن تُظهِر الحائكة على عجزها عن قصِّ ياقة فستان، وبعد أن اطمأنَّت إلى هذا التفسير، قامت من مكانها واتجهَت إلى أحد الدواليب واستخرجَت منه قطعة القماش.
وأنتَ ترى من هذه الأمثلة اليسيرة التي نقلناها عن كتاب فرويد أنه لا يُرجع كل نسيان إلى علةٍ جنسية، أو إلى علةٍ عميقة الجذور في الطفولة؛ فقد يكون الأمر مجرد بغضٍ أو نفور أو هيبة أو خوف، ولكن هذه العواطف تكمُن في اللاشعور وتُحرِّك صاحبها.
والرأي عندي الذي وصلْتُ إليه نتيجة تجاربي الخاصة أن ما يحبه المرء يُقبل عليه ويذكُره، وما يُبغِضه ينفر منه ويبتعد عنه، إما شعوريًّا وإما لا شعوريًّا، فهذه سيدةٌ أغلقت الدولاب بالمفتاح ووضعَت المفتاح في حقيبتها عند خروجها؛ خشية أن تمتد يد الخادمة إلى العبث بالمجوهرات الموضوعة في صندوقٍ داخل الدولاب وأن تسرقها. ويتضح بعد ذلك أن السيدة حين تنبَّهَت إلى هذا الأمر ونظرتْ إلى الصندوق، كانت قد أخرجَتْه ووضعَتْه على السرير إلى جانب الدولاب ونَسِيَتْه هناك. فلما عادت من الخارج عجبَت كيف نسيَت الصندوق على السرير مع شدة عنايتها أن تحفظ عليها من السرقة، وأن تقفل عليها بالمفتاح. وتبيَّن من التحليل النفساني أنها ترغب في تغيير حليها وشراء حلي جديدة.
وكنتُ في صدر شبابي حادَّ الذاكرة لا أنسى مما أقرأ شيئًا، وكان يكفي أن أقرأ الكتاب مرةً واحدة حتى ترتسم صفحاتُه في ذهني، حتى إذا حضرتُ الامتحان تمثلتُ الكتاب أمامي كأني أقلبه؛ ذلك أن ذاكرتي بصرية، وقراءتي صامتة. واشتريتُ وأنا في الثانية عشرة من عمري مصحفًا صغيرًا أضعه في جيبي وعزمت على حفظ بعض سُور من القرآن ومنها سورة «يس»، ثم انقطعتُ عن قراءة القرآن وحفظه، وسألني والدي فيما بعدُ — وكان كثير التلاوة والعبادة — لماذا لا أحفظ القرآن؟ فأخبرته أني أحفظُ سورة «يس»، فلم يُصدِّق، فتلوتُها عليه فاندهش، ولكن هذه الذاكرة الشديدة القوة قد ذهبَت الآن إلى درجة أني أنسى أسماء الكتب ومؤلِّفيها مع اشتغالي بتدريسها. وأغرب من ذلك نسيان أسماء الأشخاص الذين أعرفهم والذين تربطني بهم صلاتٌ قوية. وكثيرًا ما تُحدث لي هذه الظاهرةُ الضيقَ والحرج؛ إذ أقابل شخصًا في الطريق أعرفه من شكله، فأُسلِّم عليه، ويُهديني السلام، ويُحييني باسمي، ونتحدث معًا حديث الأصدقاء، ولكن اسمه يهرب مني ولا يجري على لساني، وقد أذكره بعد أن نفترق وبعد أن أُفتِّش عنه في ذاكرتي مستعينًا بالروابط الذهنية الماضية. وينكشف حرجي إذا كان معي صديقٌ آخر، أو قدم علينا شخصٌ ثالث، ويصبح من واجبي القيام بتقديم أحدهما إلى الآخر، وتعريف بعضهما إلى بعض.
وأخبرني أحد أصدقائي المحامين، وكنا نتحدَّث عن عجائب النسيان، وأخذ كل واحدٍ يذكُر نوادره، قال: كلَّفَني صاحب المكتب الذي أشتغل عنده أن أبحث قضيةً وأكتب فيها مُذكِّرة، وبعد يومَين سألني عن رأيي في تلك القضية، فقلتُ له إني لم أبحثها بعدُ. قال: كيف لم تبحثها وقد قدَّمتَ في موضوعها مذكرة؟ قلتُ: إني لم أكتب أي مذكرة. فأخرج من بين أوراقه المذكرة وأطلَعَني عليها، وقال: أليس هذا خطك؟ وعندئذٍ فقط تذكَّرتُ، وعجبتُ لهذا النسيان.
ومن أغرب حوادثِ النسيان التي وقعَت لي أني كنت في زيارة برلين عام ١٩٣٦ في دورة الألعاب الأوليمبية، وكانت النقود التي يصرفونها في ذلك الحين نقود سياحةٍ تقل أربعين في المائة عن السعر الرسمي لاجتذاب السائحين، على أن يُصرف هذا النقد أو المارك مع التوقيع على جواز السفر في صورة شيكاتٍ تُسمَّى «الرايخ مارك» وهي لا تُصرف إلا من البنك، ففي صباح اليوم الثاني من وصولي برلين ذهبتُ إلى البنك لأصرف الشيكات، ولكني نسيتُ جواز السفر في الفندق، فلم أستطع الصرف في ذلك الصباح. وعُدتُ بعد الغَداء إلى الفندق، وجلستُ عند الأصيل أكتب بعض الرسائل إلى أصدقائي، ولمحتُ أمامي جواز السفر فقلتُ ضعه في جيبك حتى لا تنساه، ثم تحسَّستُ شيكات الرايخ مارك فلم أجدها، فطار صوابي؛ إذ لم يكن معي مالٌ غيرها أُنفقه في ذلك البلد، وجلستُ أتذكَّر أين وضعتها، وأين يمكن أن أكون قد نسيتُها، واستعرضتُ جميع الأماكن التي ذهبتُ إليها، وطرقتُها أسألها، وأخيرًا ذهبتُ صباح اليوم التالي إلى البنك وسألتُ عنها، فأخبرني الموظف هناك أني نسيتُها على المنضدة.
وأحسب أن تعليل فرويد من أنني أكره هذه الشيكات في اللاشعور تعليلٌ لا يستقيم. وإنما العلة الصحيحة هي تلك القاعدة التي سبق ذكرها من قبلُ في باب الحفظ، وهي عدمُ التداخل؛ لأن ازدحام الذهن بعدة أمور في آنٍ واحد يؤدي إلى التضارُب وإلى الاختلاط. وقد قيل ما جعل الله لرجلٍ من قلبَين في جوفه.
هذا إلى أني حين أشتغل بعملٍ عقلي، كتأليف كتاب، أو كتابة مقالة، أو إلقاء محاضرة، أنصرف إليه انصرافًا تامًّا، فأستغرق فيه، وأظل أُفكِّر في الموضوع حتى وأنا أمشي في الطريق أو أركب الترام أو أختلف إلى مجلسٍ من الأصدقاء، حتى إذا اجتَذبَني التأمُّل ذُهلتُ عما حولي. وأحسب أن هذا الاستغراق شرط كل منتج وكل مبتكر. وليس من الغريب بعد ذلك أن تسمع القصص عن بعض العلماء الذين نسُوا حتى أسماءهم؛ لأن أذهانهم كانت مشغولة بالتفكير في حل المسائل.
وقد يكون الاستغراق الذي يصرف الذهن عن الناس وعن الأشياء، لعلةٍ أخرى غير علة الابتكار والاختراع والتأليف؛ لأن انشغال البال قد يرجع إلى الهموم التي تُفضي إلى القلق. وما بالُكَ بمن فقد ماله أو ولده أو أُصيب بمرض يستعصي شفاؤه، وغير ذلك من الصعاب التي تفاجئ المرء ولا يجد لها حلًّا أو مخرجًا، فيظل حبيس نفسه تُثقله الهموم وتدور في رأسه الأوهام، حتى ليغفُل عما حوله، وإذا اشتد به الهم نسي كل شيء، لا بعض الأسماء أو الأشياء فقط. ومن شأن الكوارث إذا نزلَت أن تزيد في حِدَّة التذكُّر أو تدفع إلى النسيان كما قال البحتري يصف إيوان كسرى:
ثم إن اتساع العمران وتعقُّد المصالح في الحضارة الحديثة، مما تنوء به ذاكرة أي فرد، ومن أجل ذلك اهتدى الإنسان إلى الكتابة يُقيِّد معلوماته، وأصبح يستعين بالمذكِّرات أو المُفكِّرات يُدوِّن فيها مواعيده ويعلم منها مصالحه في غده وما بعد غده. وهذا التقييد ضربٌ من التنظيم حتى لا يُعوِّل المرء تعويلًا تامًّا على ذاكرته، التي قد تُثقِلها المشاغل والمواعيد.
وهكذا يمضي فرويد في تحليلٍ طويل؛ ليبين فيه الصلة بين نسيان أسماء الأعلام وبين حوادثَ أخرى يُريد الإنسان كبتها ودفعها إلى مجاهل النسيان.
ويَرْوي «يونج» أن شخصًا كان يحب فتاة، ثم تزوَّجَت من شخصٍ آخر غيره، كان يعرفه من زمنٍ طويل لصلة أعمال بينهما، فإذا به الآن ينسى اسمه كلما أراد أن ينطق به، وإذا أراد أن يكتب إليه رسالةً طلب معرفة اسمه من شخصٍ ثالث.
ولا ريب في أن مذهب فرويد وأصحاب التحليل النفساني له وجاهته، وهو يُفسِّر إلى حدٍّ كبيرٍ العلة في نسيان الأسماء والأشياء، لولا بعضُ المغالاة التي يتصف بها مذهبه.