قواعد لتدريب الذاكرة
يحتاج كل إنسانٍ إلى الاعتماد على ذاكرته، وإلى تحسينها وتقويتها، وإلى إبعاد شبح النسيان. منا من يشكو نسيان الأسماء والوجوه. ويطمع الطالب أن يحفظ دروسه ولا ينساها عند أداء الامتحان. ويرجو الخطيب ألا تخونَه ذاكرتُه وهو يخطُب الجماهير فلا يلجأ إلى القراءة من الورق. وأشدُّ الناس حاجةً إلى الذاكرة هم رجال الأعمال، كالتجار والموظَّفين في المؤسسات التجارية لصلتهم بالجمهور؛ ولأن نسيان الموظَّف أو رجل الأعمال شيئًا يؤدي إلى خسارة المال. ولذلك ألَّف كثيرون كتبًا في تحسين الذاكرة لقِيَت رواجًا كبيرًا، ولجأت المؤسسات الأمريكية إلى هؤلاء العلماء النفسانيين في علاج الموظَّفين عندهم من آفة النسيان.
وإنَّا مُلخِّصون هذه القواعدَ التي تقوم على مبادئَ نفسانية فيما يلي:
(١) اعقد النية على الحفظ
لنفرض أن أحدًا قدَّم إليك شخصًا اسمه «مصطفى عبد العال»، فإنك قد تقول محييًا إياه «تشرَّفنا» أو «أهلًا وسهلًا» دون أن تُعنى بالتقاط اسم مصطفى عبد العال؛ لأنك قد تقول في بالك، ولو بغير شعور، وماذا يهمُّني من تذكُّر اسمه؟ فلا أهمية لي أن أتذكَّر، ولن أقابله مرةً أخرى. فإذا قابلتَه في مناسبةٍ أخرى، فلن تتذكَّر اسمه؛ لأن نيتك انصرفَت من أول الأمر عن تذكُّره. فإذا نسيتَه فليس معنى ذلك ضعفَ ذاكرتكَ، بل عدم محاولتِكَ «الحفظ». ولذلك كانت الأمور التي تسمعها أو تقرؤها أو تراها عَرَضًا أدعى إلى النسيان.
(٢) انتبه إلى ما تحفظ
إذا عقَدتَ النية على تذكُّر مصطفى عبد العال، فسوف «تنتبه» إلى اسمه، وتُحسِن التقاطه وسماعه، كما تتأمَّل شكله وملامحه وحركاته. وكثيرًا ما ينسى التلاميذ ما يُلقيه عليهم المحاضر أو المدرس؛ لأن عقلهم في شيءٍ آخر، أو بمعنًى آخر غير منتبهين، ولذلك لا يفهمون الدرس، مع أن «الفهم» أساس الحفظ، وينسى الطالب؛ لأنه لم يفهم المادة التي يسمعها أو يقرؤها. والانتباه هو السبيل إلى الفهم، ثم إلى الحفظ، ثم إلى التذكُّر أو عدمِ النسيان.
(٣) استعمل الصور الذهنية ما أمكنك
إذا أردت أن تتذكر مصطفى عبد العال، فاستحضر صورتَه في ذهنك؛ الحَظْ شكلَه ولونَه، ولونَ عينَيه وملابسه وهكذا، والحَظْ كذلك حديثه ولهجته، وانتبه إلى «لوازمه»؛ فكل شخصٍ له لوازمُ تخصُّه ولا تُوجد عند غيره، وكل شيء كذلك يمتاز بلوازمَ تخصُّه وتَفرقُه من غيره. والحَظْ كذلك غرائب الأشياء والأشخاص؛ فكلما كانت الصورة غريبة، بل مضحكة، كانت أدعى إلى التذكر.
(٤) اربط ما تحفظ بغيره من معلوماتك السابقة
هذه القاعدة هي في الواقع أهم قواعد الحفظ؛ لأن الترابُط أساس التذكُّر. والترابُط قد يكون ظاهريًّا وقد يكون جوهريًّا، فالترابط الظاهري ما قام على تشابُهٍ وثيق أو على مجرد التلازُم والتتابُع. أما الترابُط الجوهري فهو الذي يستند إلى علةٍ معقولة، مثل رابطة السبب بالمُسبَّب والجزء بالكل، وهكذا.
تُريد أن تتذكر مصطفى عبد العال ولا تنساه، فاربطه بصديقك الذي عرَّفك به، وبالمكان الذي التقيتُم فيه، وبالمناسبة التي وُجدَت، وبعمله ووظيفته، وما إلى ذلك.
والذاكرة الجيدة التي لا تنسى، عبارة عن شبكةٍ منظمة، حسنة الارتباط بين الأجزاء، واضحة الروابط، بحيث يسهُل الوصول إلى أي جزءٍ منها. وفي ذلك يقول وليم جيمس:
كلما ارتبطت الحقائق في الذهن بعضها ببعضها الآخر، استطاع العقل أن يُسيطِر عليها وأن يذكُرها. وتصبح كل حقيقة من الحقائق التي نربط بها الحقائق الجديدة «الخطَّاف» الذي تتعلَّق به، أو كالسنارة التي نصيد بها السمك حين يغوص في الماء ويذهب إلى القاع ويبتعد عن السطح. وتكون هذه الحقائق مجتمعةً شبكة تلتحم في نسيج الفكر. ويرجع السر في الذاكرة الجيدة، إلى تكوين روابطَ متعددة مختلفة بين الحقائق التي نحتفظ بها. وليست الروابط التي ترتبط بالحقيقة السابقة شيئًا آخر سوى التفكيرِ فيها وتقليبِها على وجوهها.
(٥) احفظ بالنغم أو الإيقاع
وهذه هي طريقة تحفيظ الصغار، ولماذا لا يلجأ إليها الكبار؟ وكان القدماء ينظمون العلوم المختلفة في أراجيزَ منظومة ليسهُل حفظها، مثل ألفية ابن مالك في النحو، مما لا يزال يُحفظ في الأزهر حتى الآن.
(٦) وزع ما تحفظ على عدة أيام
من أهم الأسباب التي تجعل كثيرًا من الطلبة في مصر يعجزون عن تذكُّر معلوماتهم عند الامتحان آخر العام، أنهم يظلُّون طول السنة الدراسية يلعبون منصرفين عن الاستذكار، ثم يكبُّون آخر السنة طول الليل يستذكرون، ويُكرِّرون قراءة العلوم المختلفة. وفي بعض الأحيان لا يقرأ أحدهم العلم إلا ليلة الامتحان، أو صباحه. وقد بيَّنَّا أن التكرار الموزَّع على أيام أفضل من التكرار المتلاحق، وقد ثبت هذا بالتجربة، حتى يأخذ الذهن فرصة للراحة، وحتى ترتبط المعلومات الجديدة بالمعلومات القديمة المستقرة في اللاشعور.
(٧) اجتهد أن «تُسمِّع» ما تحفظ
المقصود بالتسميع أن تُكرِّر إلقاء ما تحفظ، فتسمع نفسك، أو يسمعك غيرك. وكانت هذه هي الطريقة لتحفيظ القرآن؛ إذ «يُسمِّع» الطفل السورة على الشيخ ليعرف هل حفظها أو لا. وفائدة التسميع أنك تُكرِّر ما تحفظ فتُضاف إلى المرات السابقة، والتكرار أساسُ الحفظ، كما يجعلك تثق بنفسك، وتعرف إلى أي حدٍّ بلَغْت.
وإذا أردتَ أن تذكُر اسم «مصطفى عبد العال» فانطق به، واجتهد أن تقول: «أهلًا وسهلًا مصطفى عبد العال.» بدلًا من الاقتصار على رد التحية مجردة، وقل له في آخر المقابلة: «مع السلامة يا مصطفى عبد العال.» فهذا أدعى إلى ذكر اسمه وعدم نسيانه.
(٨) نَمْ أو على الأقل استَرِحْ بعد الحفظ
إذا عرف الطلاب هذه القاعدة، تجنَّبوا السهر ليلة الامتحان في حفظ المادة التي سيُمتحَنون فيها باكرًا، فيأتي أحدهم في الصباح، مجهدًا متعبًا، فيعجز عن الإجابة، ويعجَب كيف نَسِي ما حفظ.
(٩) احفظ بالطريقة الكلية مجملًا لا تفصيلًا
إذا كنتَ تدرُس كتابًا وتحفظ ما جاء فيه، فاقرأ الكتاب كله دفعةً واحدة، واقرأ الفصل جملة لا على عدة أجزاء، إذا كان للكتاب مُلخَّص، فاقرأ الملخص قبل قراءة الكتاب؛ لأن الطريقة الكلية أدعى إلى الحفظ من الطريقة الجزئية.
هذه بعضُ قواعدَ للحفظ وتقوية الذاكرة، إذا اتَّبعَها الطلاب بوجهٍ خاص، لم يجدوا عسرًا في استيعاب ما يدرُسون، ولم يَشْكوا من آفة النسيان.
وكلنا طلاب حقيقة في هذه الحياة.
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.