عنْد سَفح الجبل
هو جبلٌ شاهق، يعلو بقمته على مستوى السحاب، فلئن اعتاد أهل الأرض أن ينظروا إلى السحاب منسابًا فوق رءوسهم، فأهل تلك القمة العالية ينظرون إليه صاعدًا أو هابطًا تحت أقدامهم؛ إذ لا يجاوز ثلاثة أرباع الجبل صعودًا، حتى إذا ما كثف الغمام نظر الواقف هنالك، فإذا هو على جزيرةٍ ناتئة حولها بحرٌ من دخان، تتدافع أجزاؤه في صمت، كأنه الموج الأخرس، يرتفع حينًا ويهبط حينًا، وهو في معظم الحالات من الكثافة بحيث يستحيل على ساكن القمة العالية أن يرى شيئًا من السفح، وقليلًا ما يصفو الفضاء فيتبدى سفح الجبل من أعلاه إلى أدناه، بصخوره البارزة الغليظة، وشعابه الخشنة الممزَّقة.
فالقمة مشمسة طيلة النهار سماؤها صحو أبدًا، وعليها قامت قريةٌ صغيرة أمرُها عجب؛ فهي نظيفة البيوت نظيفة الشوارع، نعم إن شوارعها ملتوية كالأفاعي، تكاد لا تستقيم في موضع، إلا أنها مرصوفة كلها، نظيفة كلها، وعلى جوانبها صفوف من المنازل الجميلة الأنيقة، مختلفة الطرز منسَّقة البساتين، وأهل القرية على درجةٍ ملحوظة من نظافة الثياب وسلامة الذوق، وإن يكن مما يلفت النظر فيهم بدانة وترهل وبطء حركة.
ولستَ ترى هنالك خدمًا ولا دكاكين؛ فتعْجب من أين تأتيهم حاجاتهم؟ ومن ذا يعاونهم على تنظيف الشوارع والبيوت؟ ولذلك قلما تسمع في طرقاتها صوتًا، ومن النادر أن ينبعث صوت من هذا البيت أو ذاك، بل قليلًا ما يصادفك في أنحائها رائح أو غادٍ، كأنهم جميعًا قد قَرُّوا في بيوتهم لا يبرحونها لنزهة أو عمل.
هكذا كانت الحال كما وصفها محدِّثي الرحَّالة، وكما بدت له عند أول صعوده ذلك الجبل إلى قمته، ثم ما لبث أن التقى من أهل القرية برجل، قصد إلى لقائه بتوصية من صديق، حتى تبيَّن له — بهداية هذا الزميل — نشاطٌ عجيب حادٌّ عنيف داخل الجدران؛ ذلك أن هذه القرية كثيرة النوادي، كثرة ليس لها نظير فيما نعرف من مدن الأرض الواقعة في مستوى البحر، ومن تلك النوادي ما هو خاص، ومنها ما هو عام، لكن النوادي الخاصة هي التي كانت موطن النشاط العجيب الذي أشرنا إليه، وهي صنوف مختلفة، منها النوادي السياسية، والاجتماعية والثقافية، والرياضية وغير ذلك، بل قد يختص النادي الواحد بناحية غريبة واحدة لا يتعداها بنشاطه، فمن أمثلة ذلك نادٍ لسباق الأرانب ونادٍ لتدخين النرجيلة، ونادٍ لصيد البط، وآخر لصيد الإوز وهكذا.
وأخذ يصف لي محدثي الرحالة ما لقيه في نوادي القرية وهو بصحبة دليله، فهذا نادٍ سياسي، تدخل من بابه الخارجي إلى البهو، فلا حركة ولا صوت، صمتٌ شاملٌ وهدوءٌ جميل، حتى إذا ما انفتح لك باب غرفة الاجتماع، جاءتك الأصوات كالرعود. ويقول محدثي: إن أول ما عجبتُ له عندما دخلت مع دليلي متسللًا على أطراف قدميَّ، أني رأيت أصحاب الأبدان السمينة والحركات البطيئة والأطراف المسترخية، قد دبَّت فيهم حرارة المناقشة كأنها شعلة من نار؛ فالوجوه محتقنة، والعيون محمرَّة، والأجسام متحفِّزة، والأطراف مرتعشة، وكانت كلمة «الشعب» أكثر الكلمات ورودًا في مناقشاتهم الحادة الحارة. وقد سألت نفسي عندئذٍ: أي «شعب» يا ترى يقصدون؟ لأنني لم أجد في القرية شعبًا بقدر ما وجدت سادة، أفيكون هذا المجتمع الغريب رأسًا بلا بدن؟ لكنني لم أُطِل التفكير في هذا وما كنت لأستطيع أن أطيله؛ لأن شدة التحمس تُرغم السامع إرغامًا على مسايرة الحديث، وهم يتراشقون فيه بالحجج كأنها الحجارة أو أشد صلابة، ويظلُّون كذلك حتى يفوتهم أوان الغداء إن كان الوقت نهارًا، وأوان العشاء إن كان الوقت ليلًا، وهنا كذلك سألت نفسي: من أين لهؤلاء الزاهدين في الطعام هذه الأبدان السمينة؟ لكنني مرة أخرى لم أُطل التفكير في هذا، وما كنت لأستطيع أن أطيله؛ لأنني إزاء تيارٍ دافق من الكلام، يستحيل معه لإنسان أن يقف لحظةً واحدة يفكر أثناءها لنفسه في هذا أو ذاك مما عساه أن يستوقف نظره أو سمعه.
ومضى محدثي الرحالة يقول: الحقُّ أنهم في تلك الندوة السياسية التي زرتها، كانوا يناقشون موضوعًا ظريفًا طريفًا وهو: هل يُستورد الإصلاح الدستوري «للشعب» — قلت إن كلمة «الشعب» كانت كثيرة الورود — من فرنسا أو من بلجيكا؟ فالبضاعة الفرنسية — بما في ذلك الدستور والقوانين — فيها جمال لكنها رقيقة إلى حد الهزال والضعف، والبضاعة البلجيكية على شيء من متانة البناء، لكنها عسرة الهضم متعذرة القبول، و«الشعب» عندنا — هكذا روى الرحالة محدثي عن خطباء الندوة السياسية على قمة الجبل — لا ترضيه الرقة الفرنسية ولا تقنعه الغلظة البلجيكية. وقال قائل: لماذا لا تمزج عناصر من هنا بعناصر من هناك؟ فجاءت فكرة مزج العناصر كالقنبلة الداوية؛ لأنها نقلت الحديث كله إلى موضوع جديد هو: هل يمكن للعناصر أن تمتزج؟ وأي المقادير يجعل النسبة صحيحة مناسِبة للمزج؟ ولبثوا في ذلك حتى انفضَّ الاجتماع ليعود إلى البحث مرة أخرى.
وزار محدثي الرحالةُ ندوةً ثقافية في تلك القمة العالية التي لا تعكر صفو سمائها سحابة في نهار أو ليل؛ لأن القمة تعلو على مستوى السحاب، وها هنا — بداهة — لم يجد صخبًا ولا ضجيجًا؛ كان البهو صامتًا، وانفتح الباب عن غرفة الاجتماع فإذا فيها صمت هامس، وكان موضوع الحديث هو: ماذا يكون أساس الفن كله بما في ذلك الأدب؟ أيجعلون الفن للفن، أم يخدمون به «الشعب» — كانت كلمة «الشعب» هنا أيضًا دائرة على ألْسنة المتكلمين في كثرةٍ ملحوظة — وكانت كثرتهم الغالبة مع «الشعب»، لا بد أن يصوِّر المصوِّر للشعب، وأن يعزف الموسيقيُّ للشعب، ويُنشِد الشاعر شعره للشعب، وينحت المثَّال تماثيله للشعب، ويقيم المهندس المعماري عمارته للشعب. وعبثًا حاول منهم فريقٌ ضئيل أن يبين للحاضرين أن القطعة الفنية مخلوق قائم بذاته. ولا يقال عن المخلوق الذي كملت خلقته ماذا يحقق من أغراض؟ لأنه لا غرض من الكائن التام التكوين إلا أنه كائن تام التكوين وكفى، هل تقول ما الغاية من هذه الفراشة؟ وما الغاية من هذا العصفور؟ وما الغاية من هذه الوردة؟ كذلك لا ينبغي أن تقول ما الغاية من هذه القصيدة؟ وما الغاية من هذه القطعة الموسيقية؟ وما الغاية من هذه الصورة أو التمثال؟ إنها جميعًا كائنات خلقها خالقوها فأحسنوا خلقًا، وفي ذلك الكفاية.
لكن فكرة «الشعب» — كما قلت — كانت لها الغلبة والرجحان؛ ففي سبيل الشعب ما يخلق الفنان.
وخرج محدثي الرحَّالة — كما روى — من الندوة الثقافية معجبًا أشد إعجاب؛ لأنَّ تبادل الرأي قد تم في هدوء ورحابة صدر، أين منه ما شهده في الندوة السياسية من نيران مستعرة في الأعين والوجوه والأطراف؛ وقصد لتوِّه ندوة اجتماعية ولم يشأ أن يرجئ الزيارة إلى يومٍ آخر لقِصَر مُقامه هناك، فقد كان لا بد له من الهبوط إلى السفح في صبيحة اليوم التالي.
وكانت الندوة الاجتماعية في منتصف نشاطها عندما زارها صاحبي، لم يشهد الحديث من أوله، لكن المصادفة قد شاءت أن تكون أول كلمة يسمعها عند انفتاح الباب، هي كلمة «الشعب»، ولم يسعه عندئذٍ إلا أن يعاود السؤال من جديد: أين يا ترى هذا الشعب الذي يشير إليه كل متحدث إذا ما انفرجت شفتاه عن حديث مهما قصُر؟ إنها — فيما رأى — قريةٌ صغيرة كلها منسَّقٌ نظيف، لا خدم فيها ولا باعة ولا مارَّة إلا في القليل النادر، لكنه سرعان ما طرح هذا التيار الداخلي في نفسه لينصت.
كان الخطيب الذي يتكلم في نحو الثلاثين من عمره، تُميِّزه حركات بذراعيه وجذعه تتناسب مع المعاني التي يعبِّر عنها في حديثه، وخلاصة كلامه أنَّه متألِّم لحال الشعب؛ لأنَّ حياته تكاد تخلو خلوًّا تامًّا من أسباب اللهو البريء، فهل عملت الحكومة في القرى على الترويح عن هؤلاء العاملين منهوكي القوى؟ هل أعدَّت لهم شيئًا مما يدفئ في الشتاء ويخفف عناء الحر في الصيف؟
وما إن خرج محدثي الرحالة — هكذا روى — من تلك الندوة، حتى سأل دليله في حذر وتلعثم: أين الشعب هنا؟ فقال الدليل: الشعب؟ ليس هنا، إنه هناك، هناك عند سفح الجبل، ها هنا القمة، قمة الصفوة الممتازة، ألم تصعد إلينا من سفح الجبل حيث أفراد الشعب يعملون ويقيمون؟
فأجاب الرحالة في ارتباك واضطراب: نعم، نعم، رأيتهم هناك، لكنني ظننت أنهم …
فسأل الدليل: ظننت ماذا؟
فقال الرحالة: ظننتهم أفراد شعب لا ينتمي إلى هذه القمة وأهلها، كانت غفلة مني وكان سهوًا لأن العلاقة بين القمة والسفح واضحة، واضحة لا تحتاج إلى بيان؛ فما على السائر إلا أن يصعد مجتازًا حاجز السحاب فإذا هو في القمة المشمسة، أو يهبط مجتازًا حاجز السحاب فإذا هو عند سفح الجبل.
وفي ضحى اليوم التالي، هبط رحَّالتنا إلى السفح في طريق عودته، فكان أول من لقيه من الناس امرأة عجوز متهدمة جلست على جانب الطريق، وأمامها صندوق خشبي صغير تناثرت على ظهره سبع قطع من الحلوى، فأما المرأة فكومة من أسمال سوداء، تكاد لا تميز فيها رأسًا من صدر، حتى إذا ما رفعت وجهها، رأيت شيئًا قريب الشبه بجماجم الموتى، غطَّاه جلدٌ داكن متغضِّن، وكأنما كانت ترتعش بجسدها كله رعشة متصلة، وأما حلواها فسَلْ عنها أقذر الذباب.
ترى كم مليمًا تربح هذه المسكينة في يومها؟ أين تسكن وعلى أي كومة من التراب والحصى تضع جنبها سواد الليل؟ ماذا تأكل؟ وكيف تغطي جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ أين وكيف تغسل جسدها؟ ومن ذا يجيبها إن تأوهت من ألم كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأوهوا كلما اشتد بهم الألم؟
وأبطأ صاحبي الرحالة خطاه أمام بائعة الحلوى، وهو يفكر في أمرها، ويسأل نفسه هذه الأسئلة عنها، فظنته المسكينة شاريًا لبضاعتها، فقالت في أنفاس متقطعة واهنة: «حلاوة يا زباين.»
قال الرحالة: بكم تبيعين القطعة يا أمي؟
فقالت: القطعة بمليم.
قال: سأشتري منك حلواكِ كلها لأولادي.
وكأن «البائعة» لم تصدق قول «زبونها» فراحت — قبل أن تجمع له «البضاعة» — تدعو له ولأولاده بطول البقاء، ناظرة إلى السماء، باسطة كفيها النحيلتين المعروقتين المرتعشتين.
فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشًا كاملًا ثمن حلواها — وحقها سبعة مليمات — لا تنسي يا أمي أن تطلبي من رب السماء رحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق قمة الجبل، لقد رأيتهم هناك بعينَيْ رأسي، يتحمَّسون لك ولا يدَّخرون من وسعهم وسعًا، فقد كانوا يتجادلون في نوع الإصلاح الدستوري الذي يستوردونه لكِ من فرنسا وبلجيكا، وكانوا يتناقشون في هل يخلق الفنان فنه لنفسه أو يصوغه ويوجِّهه إليك، ورأيتهم يبحثون كيف يهيئون لك مصيفًا تستمعين فيه بهواءٍ عليل حين تشتد الحرارة هنا في يوليو وأغسطس …
فرفعت المرأة عينيها مرةً أخرى نحو السماء، وبسطت كفيها، وقالت: «يا رب بارك لنا فيهم أجمعين.»