عزمات الإرادة
ما أسرع وما أهون أن تسري الفكرة الخاطئة في الناس، فلا يستطيع بعدئذٍ أن يُشير إلى بطلانها إلا فيلسوفٌ كبير أو طفلٌ صغير! ذلك لأن الحقيقة كثيرًا ما تكون واضحةً ناصعة جلية، يراها كل ذي بصر لم يُعمه الهوى، لكن إعلانها — مع ذلك — قد يحتاج إلى فيلسوف جريء أو طفل بريء!
إن من أقاصيص «هانس أندرسن» قصةً مشهورة معروفة، خلاصتها أن حاكمًا كان مولعًا بالملابس الجديدة، فأقبل ذات يوم على مدينته محتالان زعما له أنهما يُحسنان نسج قماش رقيق جميل، فيه ميزة عجيبة، وهي أنه يَخْفَى على عيون العاجزين والبلهاء، ففرح الحاكم بما سمع، وأمرهما أن ينسجا له ثوبًا من هذا القماش العجيب؛ لأنه عندئذٍ يستطيع أن يميز في رجال حكومته بين القادر والعاجز، وأن يعرف من ذا يكون من الناس عاقلًا ومن لا يكون.
وأخذ المحتالان ما طلباه من مال، ثم أخذا يخبطان بالأنوال نهارًا وليلًا؛ ليوهما الحاكم أنهما جادَّان في العمل، والحقيقة أنهما لا يعملان شيئًا، وبعد أيام أرسل الحاكم وزيره إلى النساجَيْن ليرى كم نسجًا، فأخذ هذان يلوحان بأيديهما في الفضاء، زاعمين أنهما يشيران إلى قماش منسوج مزخرف، ولم ير الوزير شيئًا، لكنه لم يجرؤ على إعلان ذلك حتى لا يوصم بالعجز والبلاهة، وراح يؤيد المحتالَيْن في جمال القماش وجودته.
وسرى نبأ القماش الجديد العجيب بين أهل المدينة، وأعلن الحاكم أنه سيسير بين شعبه في موكب رسمي يوم يرتدي حُلته الجديدة، فلما حان اليوم ذهب الحاكم مع حاشيته إلى مكان النسج، وخلع ملابسه ليرتدي الثوب الجديد، وجعل النساجان يحركان أيديهما في الهواء كأنما يلبسانه شيئًا. إنه لم يرَ في الهواء ثوبًا ولا شبه ثوب، لكنه لم يجرؤ على إعلان ذلك فيوصف بالبلاهة والعجز، مع أنه صاحب جلالة وفخامة، وراح بدوره يبدي إعجابه بما لبس، وينظر إلى نفسه في المرآة مزهوًّا فخورًا.
وبدأ الموكب الرسمي، وسار الحاكم بين الناس «عاريًا» إلا من أوهامه وأوهام شعبه، فمن ذا يجرؤ على القول بأنه لا يرى شيئًا؟ … إلا طفل صغير كان يقف إلى جانب أبيه، فصاح لأبيه قائلًا: لكن الحاكم لا يرتدي شيئًا! فنقلها أبوه إلى جاره، وهذا الجار إلى جاره، حتى ساد الرأي بأن الحاكم عريان الجسد لا يرتدي شيئًا.
والطفل الذي أخرج الناس من ضلالهم حين رأى الحقيقة الواضحة ببداهته الطبيعية التي لم يفسدها الناس بأوهامهم، هو كالفيلسوف الذي يرى للناس رأيًا واضحًا يسيرًا، فلا يكون فضله عليهم هو أنه أدرك ما لا يستطيعون إدراكه، بل فضله هو جرأته في إعلان ما يدركه ويدركونه معه … وأي عسر في أن يقال إن الإنسان من حقه أن يعيش حرًّا في رأيه وعقيدته؟ لكن إعلان هذا الحق قد تلكأ مئات السنين إن لم نقل ألوفها حتى يعلنه الجريء في وجه الطغاة، أي عسر في أن يقال إن الإنسان من حقه أن يأكل ما يُشبعه ويكتسي بما يقيه؟ لكن إعلان هذا الحق قد تلكأ وما يزال متلكئًا … وهكذا قُلْ في بدائه كثيرة يراها كل إنسان، أو يستطيع أن يراها إذا أراد، لكنه ينتظر أول ناعق.
وهل تصدق أن الأمر قد احتاج إلى فيلسوف من أضخم الفلاسفة ليقول للناس: «أنا موجود»؟! هل تصدق أن وجود الفرد — على بداهته — قد تلكأ إعلانه حتى جاءه فيلسوف؟ لا، بل إننا حتى هذه الساعة بحاجة إلى فيلسوف وفيلسوف وفلاسفة كثيرين؛ ليصيحوا في الناس بأن الفرد موجود وجودًا حقيقيًّا، وليس هو بالشبح أو الظل، ولا هو مجرد اسم يُكتب بالمداد على شهادة الميلاد، أو مجرد رقم يُسجل في دفاتر هذا أو دفاتر ذاك، نحن إلى هذه الساعة بحاجة إلى فلاسفة كثيرين ليقولوا إن الفرد موجود وجودًا ماديًّا، وإنه من لحم ودم، وإن له بطنًا يجوع وجلدًا يشعر بالبرد ويرتعش …
لكن الفكرة قد تكون واضحة ناصعة جلية، ومع ذلك فلا يستطيع إعلانها إلا فيلسوف جريء أو طفل بريء!
إنه ليروي عن مدام دي ستايل أنها طلبت من فيلسوف ألماني أن يلخص لها فلسفته في عشر دقائق، فلما أجابها الفيلسوف بأن ذلك مستحيل لصعوبة الفكرة وكثرة تعقيدها قالت في اعتداد: «إن ما لا أستطيع فهمه في عشر دقائق لا يكون عندي جديرًا بأن يُفهم»، وتلك بالطبع مبالغة منها، لكنها مبالغة تفيدنا في لفت أنظارنا إلى مجرد إدراك الحقيقة النظرية ليس دائمًا هو موضع الصعوبة، بل الصعوبة في الانتقال من رؤية الحقيقة إلى إعلانها، أو بعبارة أخرى، الانتقال من الفكرة إلى العمل، وفي مضاء العزم يكون الفرق بين إنسان وإنسان، وبين أمة وأمة.
ما كان أجدر ديكارت أن يقول: «إني أريد فأنا إذًا موجود» بدل قوله: «إني أفكر فأنا إذًا موجود»؛ لأن جوهر وجود الإنسان عمل يريده وينجزه لا فكر يديره في رأسه، فالإنسان في حياته أشبه ما يكون بالتائه في جوف غابة كثيفة، لا يدري كيف يكون الطريق إلى الخلاء المكشوف، وخير له ألف مرة أن يعقد إرادته على خطة ينفذها، مهما طالت، كأن يسير مثلًا ناحية الشمال أو ناحية الجنوب بغير ذبذبة ولا تحول، من أن يظل واقفًا في مكانه، أو أن يدور في دائرة مغلقة، أو أن يبدأ طريقًا لا يخطو فيه إلا خطواتٍ قليلة، ثم يحاول طريقًا ثانيًا فثالثًا …
لقد رأيت منذ أيام قليلة مجموعة من أطفالٍ صغار أربعة أو خمسة، ولا أدري ماذا أرادوا أن يصنعوا، لكني لاحظت أنهم لم يعرفوا كيف ينجزون ما أرادوا، فسرعان ما اعتركوا وأخذ بعضهم يشد بعضًا من شعر رأسه أو أطراف ثوبه، في انفعالٍ شديد، فلم يسعني إلا أن أرى في هؤلاء الأطفال صورةً مُصغرة لنا، لكنها على كثير من دقة التصوير لحالنا، فلستُ أعلم كم قضينا من القرون لا نعمل لأنفسنا شيئًا، فلما نهضنا حديثًا وأردنا أن نعمل، أُرتِج علينا، فأخذنا انفعال الأطفال، وما لبثنا أن اعتركنا بعضنا مع بعض شدًّا للشعر وجذبًا لأطراف الثياب؛ ذلك لأننا نعرف ماذا يعمل، لكننا لا نملك الإرادة التي تنفذ، فلا عجب ألا تجد اختلافًا بين أحزابنا على الأهداف؛ لأن الأهداف «فكرة» لا يصعب على الطفل إدراكها، وهل يعجز الطفل عن إدراك الفكرة البسيطة القائلة بأننا نريد أن نستقلَّ عن المستعمِر لنكون دولةً ذات سيادةٍ كاملة؟ الفكرة بسيطةٌ واضحة، بل والطريق إليها قد يكون «معروفًا» كذلك؛ معروفًا كفكرة، ولكننا حين بدأنا نخطو نحو التنفيذ، حل بأبداننا شللٌ تراكم على مر العصور وطول القعود والركود، فانتقلت الفاعلية من الأقدام التي تسير، إلى الحلوق تصيح والأذرعة تلوح في الهواء وتضرب.
تنقصنا الإرادة، والإرادة لا تكون إلا في شخص يريد، ليس هناك «إرادة» سابحة في الهواء مع السحاب، أو «إرادة» تسكن الكهوف مع الأشباح والأرواح، إنما الإرادة تراها في فرد يريد، فقم الآن واعمل. إنه لتعجبني هذه الأسطر الآتية في رواية «ميديا» ﻟ «كورني»، ولتلاحظ أن «كورني» في مسرحياته قد جعل عظماءه هم أصحاب الإرادة التي تنفذ وتمضي في غير ضعف أو لين، فهذه «ميديا» قد زال عنها كل ما تركن إليه حياتها، لكنها تستحفز في نفسها العزيمة والثقة بالنفس:
الوطن ينبذك والزوج خائن.
فماذا بقي لك في هذه المحنة السوداء؟
بقيت لي نفسي.
نفسي وحدها وفيها الكفاية.
ولا نحسبه مِن فعل المصادفات العابرة أن ينطق أديبٌ فرنسي بهذه الأسطر في نفس الوقت الذي يتحدث فيه فيلسوف فرنسي بمثلها، وذلك هو ديكارت، الذي لم يتردد في هدم كل شيء بشكه، وكأنما ألقى على نفسه مثل السؤال الذي ألقته «ميديا» على نفسها: ها أنت ذا واقف بين ركام وأنقاض فماذا بقي لك؟ فأجاب أيضًا بمثل ما أجابت به «ميديا»: بقيت ليس نفسي، «فأنا موجود».
وتلك بعينها هي وقفات الأبطال في التاريخ الإنساني كله: الأنبياء والمصلحون وزعماء الثورات وقادة الحروب الكبرى. فكل من هؤلاء كان ينطق بلسان حاله ولسان أفعاله، وينطق في وجه الظروف القائمة قائلًا: هذا هو كل شيء قد فسد من حولك، فماذا بقي لك؟ وقد كان كل من هؤلاء يجيب لنفسه: بقيت نفسي، وما هو إلا أن يأخذ في التنفيذ والعمل، البطل الحقيقي لا يمُلى عليه بل يُملي، ومهما صغرت الدائرة التي يفرض فيها الإنسان إملاءه وإرادته، فهو على كل حال أوفر حياة ممن يتلقَّى عن غيره، فلو كانت «جان دارك» رأت رؤاها وسمعت أصوات قلبها ثم وقفت عند هذا الحد، لما كان منها بطلة ولا شبهها؛ لأن الزاعمين والزاعمات بأمثال تلك الرؤى والأصوات لا يكاد يحصرهم العدُّ في كل جيل من كل أمة، والناس يسلكونهم — بحق — في عداد المخرِّفين، لكن الذي نقل «جان دارك» من هذه الدائرة الدنيا — دائرة التخريف — إلى دائرة البطولة والعظمة النادرة، هو أنها راحت تعمل وفق أحلامها ورؤاها! قالت لها الكنيسة: تعالي نحقق صدق دعواك، فأبت أن تذعن لقضاء الكنيسة؛ لأن جانب البطولة منها قد أبى عليها أن تنصت لما يقوله الآخرون.
أول خطوات الرجاء — إذًا — أن نطمئن إلى سلامة بناء الأفراد في قوة إرادتهم وقدرتهم على العمل والإنجاز، أول خطوات الرجاء أن نبثَّ في كل فرد عقيدةً قوية بأن الإنسان أقوى ما في الوجود، إنه أقوى من الوجود كله، هذا الإنسان الذي يبدو كأنه القصبة النحيلة تهزها الريح، في يده العصا السحرية التي تتحكم في الطبيعة من أولها إلى آخرها، وما عصاه السحرية هذه سوى عزيمة ماضية إلى هدفها بالعمل الدءوب.