الفكرة الواضحة
«ستيوارت تشيس» كاتبٌ معاصر ومصلحٌ وفيلسوف، يروي لنا عن نفسه قصة تستوقف النظر، لها دلالة بعيدة المدى، خلاصتها أنه قد بدأ حياته العاملة مصلحًا اجتماعيًّا متحمِّسًا، لكنه ما لبث أن وجد وسائل الإصلاح «بالكلام» لا تُجدي فتيلًا، فأخذه العجب: لماذا لا يتأثر الناس بما يقوله وما يكتبه، مع أنه واضحٌ صادق؟ وسرعان ما وجد لنفسه الجواب، وهو أن الأفكار التي يظنها هو، ويظنها معه الناس واضحةً، ليست كذلك، فلا بد له — إن أراد إصلاحًا حقيقيًّا — أن يبدأ بأبحاثٍ تحليلية يوضح بها الألفاظ التي يكثر دورانها على الألسن، حينما يتحدث الناس عن إصلاح حالهم. فاسمع إليه يقول: «لما كنتُ في سن الشباب، أحاول الإصلاح، أخذتُ أنظم الاجتماعات، وأكتب النشرات، وألقي المحاضرات، وأرسم الخطط، وأنشر الدعاية على نطاقٍ واسع في حماسةٍ حارة، لكن رجائي قد خاب، حين نظرتُ فوجدتُ أن الناس ما زالوا على حالهم، لم يتحولوا قيد أنملة عما كانوا عليه حين بدأتُ حملتي، وكلما مضتْ بي الأعوام، ازددتُ يقينًا، بأنني فيما كنتُ أبذل فيه جهدي، إنما كنت أضيع وقتي سُدًى، فرسالتي — التي لا أزال أعتقد أنها رسالة رحمة وإنسانية — لم تبلغ القلوب؛ إذ الطريق بيني وبين من أخاطبهم مغلق مسدود.»
وصادف هذا الذي قرأته عن «ستيوارت تشيس» هوًى في نفسي؛ لأنني في أعوامي الأخيرة، قد تنبهت في شدة وحماسة، إلى أن غموض الأفكار عند الناس هو أسُّ البلاء، فالرءوس ملأى بالأشباح بسبب ما فيها من أفكارٍ غامضة، والتعصب لهذه العقيدة أو تلك قد أنزل بالناس الكوارث، بسبب أفكارنا الغامضة، وحدَّة الغضب التي تأخذنا عند اختلافنا في الرأي، سببها الأفكار الغامضة، ومجهودات المصلحين تذهب صيحة في وادٍ بسبب الأفكار الغامضة، ولو وضحت الأفكار، لاختفت الأشباح من الرءوس «المسكونة»، وزال التعصب للرأي والعقيدة تعصبًا أعمى، وخفَّ الغضب وهدأ الانفعال حين يختلف الناس في وجهة النظر، ووجدتُ أقوال المصلحين أرضًا خصبةً صالحة للنماء والإثمار.
فما هي الفكرة الواضحة؟
أول ما أسارع إلى إثباته في الإجابة عن هذا السؤال، هو أننا كثيرًا ما ننخدع بالإلف والعادة، فنألف كلمةً معينة ونعتاد قولها وسماعها، حتى ليخيل إلينا أنها فكرة واضحة، مع أنها قد لا تكون من الوضوح في شيء، ولا تزيد على كونها «صوتًا» مألوفًا لأسماعنا، وإني لأحسب أن ديكارت نفسه — وهو على رأس من نادوا في التاريخ الحديث بالتزام التفكير الواضح — قد أخطأ هذا الخطأ الذي أشرتُ إليه، وهو أن يظن الكلمة المألوفة فكرةً واضحة، بدليل أنه قد جعل عبارته المشهورة «أنا أفكر» مقياسًا للفكرة الواضحة، يصح أن تتخذ مقياسًا لما ينبغي أن يكون عليه الوضوح في غيرها من العبارات، أي أن الفكرة التي تبلغ عنده من درجة الوضوح ما بلغته هذه الفكرة، تؤخذ على أنها هي الأخرى واضحة.
مع أن عبارته هذه تحتوي على كلمتين: كلمة «أنا» وكلمة «أفكر» هما أبعد ما تكون الكلمات عن الوضوح، ومن ذا الذي يستطيع حتى اليوم أن يقول إنه قطع برأي يقيني جازم في حدود الشخصية الإنسانية وعناصرها التي نجمعها جميعًا تحت كلمة «أنا»، أو يقول إن «التفكير» قد عُرف معناه على وجه التحديد الذي لا إبهام فيه ولا غموض؟ — كلا، إنما خُدع ديكارت بالإلف والعادة، فما دامت كلمة «أنا» مألوفة، وما دامت كلمة «تفكير» معهودةً مكرورة، فهما — في ظنه — واضحتان، والعبارة التي تتألف منهما واضحة لا تحتاج إلى مزيد من بيان.
ولديَّ من التعليق على معنى الوضوح عند ديكارت كلامٌ طويلٌ عريض، لا أجد هنا مكانًا لذكره؛ لأنني لا أحب أن أُدخل القارئ في مناقشةٍ فلسفية قد لا يكون به ميل إليها، وكل ما أردته هو التحذير من هذا الخطأ الذي سرعان ما يَزلُّ فيه الإنسان، حين يظن أن الفكرة واضحة، ما دامت الكلمة المعبرة عنها مألوفةً للأسماع.
إذًا فمتى تكون الفكرة واضحة؟
الفكرة الواضحة هي التي يمكن تحويلها إلى عمل، فكل فكرة لا تدلُّك بذاتها على ما يمكن عمله، بحيث يكون هذا العمل هو معناها الذي لا معنى لها سواه، تكون «صوتًا» فارغًا، مهما قالت لنا القواميس عنها. الفكرة الواضحة هي ما يمكن ترجمته إلى سلوك، وما لا يمكن ترجمته على هذا النحو لا ينبغي أن نقول عنه إنه فكرة غامضة وكفى، بل ليس هو بالفكرة على الإطلاق، وليس هنالك في الدنيا شيء اسمه «فكرةٌ نظرية» لا شأن لها بالعمل والتطبيق؛ إذ الفكرة النظرية هي الخطة التي يمكن تنفيذها، وما لا سبيل إلى تنفيذه عملًا وسلوكًا، ليس من الفكر في شيء؛ ولذلك لا فرق بين الفكر النظري والفكر العملي إلا في الترتيب الزمني، فما هو الآن فكرة عملية كان منذ حين فكرةً نظرية، وما هو اليوم فكرةٌ نظرية يمكن أن يصبح غدًا فكرةً عملية … «النظر» من جهة و«العمل» من جهةٍ أخرى، طرفان لشيءٍ واحد — هو الفكرة — ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء، فنحن نقول عنها اصطلاحًا إنها «فكرة» حين نشير إلى طرفها الداخلي، ونقول عنها إنها «عمل» حين نشير إلى طرفها الخارجي.
- «الصلابة»: في الجسم فكرة واضحة إذا كنتُ أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه بالصلابة، كأن أحاول خدشه بأجسامٍ أخرى كثيرة، فلا ينخدش، فأقول عندئذٍ إنه «صلب» وأعدُّ نفسي قد فهمتُ فكرة «الصلابة» فهمًا «واضحًا» لأني عرفت ما نوع السلوك الذي أسلكه حين أريد ترجمة الفكرة إلى عمل، أما إذا وصفت شيئًا بأنه «جميل» فلست أعرف ماذا أعمل بحيث يكون عملي هذا هو ما أسميه في الشيء بالجمال، وإذًا فالفكرة غامضة، أو قل إن «الجمال» ليس فكرة على الإطلاق، وكل مناقشة في جمال الشيء أو عدم جماله عبث لا يؤدي إلى طائل، فإذا رأيت الفلاسفة على خلاف لا ينقضي في تحديد معنى «الجمال»، فاعلم أن ذلك لا يرجع إلى «صعوبة» في الفكرة، بل يرجع إلى أن أصحابنا يحاولون أن يقبضوا الريح، إذ هم يناقشون في غير موضوع.
- و«الثقل»: في جسم من الأجسام فكرة واضحة؛ لأني أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه ثقلًا، وهو أن أزيل الحوائل التي تمنع سقوطه على الأرض، فإن سقط كان «ثقيلًا»، وكانت فكرة «الثقل» واضحة لأنها قد انتقلت إلى عملٍ منظور، أما إذا قلت عن شيءٍ ما إن له حقيقةً وراء ظواهره المحسوسة، كأن أقول مثلًا إن الكهرباء شيءٌ كامن وراء آثارها الظاهرة، كان قولي هذا هراءً، بمعنى أنه ليس «فكرًا» على الإطلاق، دع عنك أن يكون فكرًا واضحًا؛ ذلك لأني لا أعرف ماذا أعمل بحيث أتبين في الشيء حقيقته الخفية المزعومة.
الفكرة الواضحة مشروع لعمل يمكن أداؤه إذا شئنا، ولا شيء غير ذلك، حتى الأفكار الرياضية مشروعات لأعمال يمكن أداؤها: لقد طلبتُ إلى خادمتي يومًا أن تشتري لبنًا بثلاثة قروش ونصف قرش، وأعطيتُها لذلك ورقة ذات عشرة قروش، فلما أردتُ حسابها، قلتُ لها: لقد اشتريتِ اللبن بثلاثة قروش ونصف قرش، وكنتُ مدينًا لك بقرشين، فهاتي أربعة قروش ونصف قرش، فبدا عليها الاضطراب، فقلت: ضعي ها هنا ما تبقى لديك من القروش العشرة، فوضعت على المنضدة ستة قروش ونصف قرش، قلت لها خذي منها قرشين كنتُ مدينًا لك بهما، ففعلت وانتهى الإشكال. كانت العملية الحسابية غامضة في ذهنها أول الأمر؛ لأنها لم تكن بعدُ قد تحددت على صورة سلوكية يمكن إجراؤها عملًا، وكانت العملية «واضحة» في ذهني لأني كنت أعرف كيف أترجمها إلى عمل.
ولئن كان بين الناس خلاف شديد في المذاهب السياسية والاجتماعية، فما ذاك إلا لأن الألفاظ الشائعة في هذا المجال لم تتبلور أفكارًا واضحة بعدُ، أعني أن الأفكار المتداولة لا يُعرف لها طريقة معينة محددة للتنفيذ، إننا نفهم كلمة «جمهورية» فهمًا واضحًا إذا عرفنا ماذا نصنع في المجتمع بحيث يجيء ما نصنعه شيئًا هو الذي نسميه بهذا الاسم، لكن ألفاظًا مثل «ديمقراطية» و«حرية» و«شيوعية» و«اشتراكية» تعبر عن أفكار غامضة، ومن هنا كان الخلاف، بل كان القتال؛ لأن الديمقراطية — مثلًا — لا تكون فكرة واضحة إلا إذا عرفنا ماذا نعمل، وعلى أي وضع نقيم الناس والحكومة، وبأي صورة تجري الصناعة والزراعة والتجارة، حين يكون هنالك ما نسميه بالديمقراطية، وما دامت الفكرة غير محددة في طريقة تنفيذها، فليست هي بالفكرة الواضحة، وقل ذلك في سائر أخواتها.
لكن قائلًا قد يقول: إنك قد اخترتَ لأمثلتك أفكارًا بسيطة مما يمكن أن يحقق رأيك في الوضوح، لكن هناك أفكارًا «عميقة» يستحيل أن ينطبق عليها هذا المقياس، والحق أني ما كتبت هذا المقال إلا لأمحو كثيرًا جدًّا من هذه الأفكار «العميقة» محوًا. أيها القارئ الكريم: لا يخدعنك هؤلاء «المتعمقون» لأنهم لا يفهمون لما يقولونه معنًى، ثم يجاوزون بشرِّهم حدود أنفسهم فيدفعونك في خلط يفسد عليك حياتك الفكرية والعملية على السواء، إنهم يريدونك أن تكتفي من دنياك بالكلام، ولقد شبعنا كلامًا حتى التخمة، ونريد العمل، نريد العمل، نريد العمل.
فمثلًا يقول لنا هؤلاء «المتعمقون» في تفكيرهم: كونوا يا أهل الشرق «روحانيين»، وتسألهم عن معنى «الروحانية» التي يقصدون فلا تدري بماذا يجيبون، فإنني — كما قلتُ يومًا في كلمة ألقيتُها — «لا أرى بين ضلالاتنا ضلالة أشد تضليلًا من هذا الذي يكثر ترديده على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين» — وهو أننا شعوب روحانية بالقياس إلى الغرب المادي. يقولون لنا ذلك وكأنما يريدوننا أن نفكر ونعمل ونربي أبناءنا على هذا الأساس. ولستُ أتمنى شيئًا بمقدار ما أتمنى أن يتفضل عليَّ فاضل من هؤلاء فيوضح لي ماذا يريدوننا أن نفعل وكيف يريدوننا أن نفكر؛ لأني حاولت جهدي أن أرى كيف تأكل الشعوب الروحانية وكيف تشرب، كيف ترصف الطرق وتبنى الجسور، كيف تقاوم أمراضها وتجري صناعتها وتجارتها، كيف تحارب أعداءها، بل كيف تلهو في ساعات الفراغ، حاولت جهدي أن أفهم كيف تتم هذه الأشياء عند الشعوب الروحانية كي تجيء مخالفة لما يصنعه الماديون في الغرب، فلم أفهم.» — فإذا كانت الفكرة «الروحانية» كما ترى، يستحيل ترجمتها إلى سلوك، إذًا فليست هي بالفكرة على الإطلاق، بل هي لفظة فارغة يجب حذفها حتى لا تفسد علينا الحياة. إننا في صراع مع ما يسمونه غربًا ولن نظفر من صراعنا بنصر إذا كانت عدتنا كلامًا لا يتحول إلى عمل.
وأحسب أن القارئ الذي اعترضني منذ حين، سيعود إلى اعتراضي قائلًا: لكنها تُعدُّ بالمئات، تلك الألفاظ التي نقولها دون أن يكون في مضمون معناها عملٌ ممكن الحدوث، ومنها ألفاظ عزيزة جدًّا على نفوسنا، نحبها ونرددها في الصباح وفي المساء … فأجيبه مطمئنًا واثقًا: إنها لغو لن تتقدم به الإنسانية فترًا ولا شبرًا، إننا نعيش ونحيا بالأفكار القليلة الواضحة، أي أننا نعيش ونحيا بالأفكار التي يمكن أن تتحول عملًا وسلوكًا، فأما تلك التي لا تغير من دنيانا شيئًا فشرٌّ يجب أن نتقيه.
إننا نريد العمل، نريد العمل، نريد العمل.