جناية الألفاظ
أرأيت بوارج البحر ودبابات الأرض ومقاتلات السماء التي تنفث اللهب؟ أرأيت هذه المدمرات كلها بما فيها من قوة الفتك والتخريب؟ إذًا فاعلم يا سيدي أنها جميعًا لا تكون شيئًا مذكورًا إذا قيست في ذلك إلى كلمةٍ واهنة ضعيفة من هاتيك الكلمات التي تخرجها أفواهنا في موجةٍ صوتية قصيرةٍ ضئيلة، أو نجريها على الورق بقطرة من مداد، لو تجمعت على سن القلم لأوشكت عين الرائي ألا ترى شيئًا.
من هذه الموجة الصوتية القصيرة الضئيلة، أو هذه القطرة المجهرية من مداد قد تنطلق شياطين البوارج والدبابات والمقاتلات وغيرها من وسائل التقتيل والتدمير، فمنها قد تفور الدماء في العروق ويطير عن الرءوس صوابها فإذا الجماعات البشرية قطعان من كائنات تدفعها الغريزة كما يندفع سيل الماء من أعلى الجبل مدفوعًا بقوة الجذب دون أن يكون له في مسلكه اختيار؛ ألا إن هذه الألفاظ التي نكتبها أو ننطق بها، لقماقم حبست في أحشائها الأبالسة والشياطين.
وقصة الألفاظ في هذا الصدد مأساةٌ محزنة حقًّا، فهذه الألفاظ قد خلقها الإنسان خلقًا، وحسب أن قيادها بين يديه ورهينة لسانه، فإذا بالألفاظ على مر الزمن يتطور أمرها وتصبح كالمردة الجبابرة، تمسك بزمام الإنسان راكبة فوق ظهره، فتنحرف به يمنة أو يسرة كما يشاء لها عماها الذي لا يبصر سواء الطريق!
وكنت أود أن أسير مع القارئ في فصول هذه المأساة المحزنة سطرًا بعد سطر، ليرى هول الجناية التي تقترفها في حق الإنسان تلك المخلوقات التي ظاهرها وهنٌ وضعفٌ وباطنها طغيانٌ وجبروت، لكن هذه المأساة البشرية الكبرى أعقد جدًّا وأطول جدًّا مما يستطيع الكاتب أو القارئ أن يقطع شوطه في مقالةٍ واحدة أو بضع مقالات، فلا مندوحة لنا — إذًا — عن القناعة بالخطوط الرئيسية نرسمها أمام أبصارنا، لعلنا مستطيعون أن نترسم الصورة كلها بلمحات الخيال.
وأول ما نذكره في هذا السبيل، أن الكثرة الغالبة من ألفاظ اللغة التي نستخدمها للتفاهم، هي في الحقيقة رموز بغير مدلول ولا معنًى! وإذا كان الأمر كذلك، فنستطيع أن نتصور كلمة كلمة (تقريبًا) مما ينطق به الناس علامةً نصبت في عرض الصحراء وكتبت عليها إشارة تدل على ماء قريب، والحقيقة أن ليس هنالك في القريب أو في البعيد إلا سراب!
ولنضرب لك مثلًا لما نريده: كلمة «إنسان»، إن العالم فيه أفراد، ولكل فرد اسمه الخاص، فهذا زيد وذلك عمرو أو خالد، فإذا ناديت قائلًا: «تعالَ يا زيد» جاءك رجلٌ بعينه، وكذلك إذا ناديت يا عمرو أو يا خالد، ولما كنت مضطرًّا في كثير جدًّا من الأحيان أن أتحدث عن هؤلاء الأفراد جميعًا دفعةً واحدة، ولما كان ذكر أسمائهم جميعًا يتطلب من الوقت والجهد ما لا طاقة لي به، فقد اخترعتُ كلمة «إنسان» اختراعًا؛ لكي تدل على هؤلاء الأفراد جميعًا دون أن تكون هي نفسها اسمًا لفرد منهم، فإذا ناديت: تعالَ يا إنسان! ما جاءك أحد لأنه ليس هنالك مسمًّى لهذا الاسم المخترَع.
فأول فصول المأساة إذًا، هو أن كل لفظة نستخدمها في كلامنا (ما عدا الألفاظ التي سمينا بها أفرادًا جزئية معروفة) هي رمز ابتكرناه لسهولة التفاهم وسرعته، لكنه رمز لا يدل على شيء، أعني أنه رمز لا يشير إلى شيء قط في عالم الأشياء. ليس الاسم أو الكلمة هو الشيء المسمى، احفظ هذا المبدأ جيدًا وانظر بعد ذلك إلى المصائب الكبرى التي تنزل على رءوس الناس من جراء نسيانهم لهذا المبدأ الواضح البيِّن.
فإذا أردت فهمًا للأمور من خلال ما يُقال لك من عبارات وألفاظ، فلا سبيل إلى ذلك إلا أن تدرِّب نفسك على النظر من خلال الألفاظ إلى الأفراد والأشياء الجزئية التي وراءها، فإذا قلتُ لك مثلًا: الشعب المصري جاهل، فقير، مريض، فقد يخيل إليك للوهلة السريعة الأولى أنك فهمت المراد، لكنك في أغلب ظني لم تفهم شيئًا، واعذرني في هذا الاتهام؛ لأنني أحكم بما قد جرى عليه الناس من طريقة الفهم لما يكتب أو يُقال.
فليس «الشعب المصري» إلا علامة سوداء أمامك على الورق، فإذا وقفتَ عند هذا الحد من الرؤية، فأنت لم تفهم شيئًا على سبيل اليقين، لكنك تأخذ في الفهم حين تقف أمام هذه العلامة السوداء لتتخذها منظارًا لا أكثر ولا أقل، هي منظار ترى خلاله عشرين مليونًا من الأنفس رجالًا ونساء وأطفالًا، حاول أن توقف هؤلاء العشرين مليونًا أمام مخيلتك صفًّا طويلًا يمتد — مثلًا — من منبع النيل إلى مصبه، ثم حاول أن تنقل بصرك في هذا الصف الطويل من هذا الرجل (زيد) إلى هذه المرأة (هند) إلى ذلك الغلام (خالد) … هؤلاء جميعًا يا سيدي ناسٌ، لكلٍّ منهم مشاعر وخواطر من قبيل مشاعرك وخواطرك، وإذا عضَّ الجوع واحدًا منهم فهنالك فرد يتألم، وإذا خاب رجاء واحد منهم، فهنالك فرد يتحسر ويحزن، ليس «الشعب المصري» بذي دلالة إلا إذا أدركتَ إدراكًا واضحًا أن الكلمة في ذاتها ليس لها معنًى، وإنما المعنى المراد هو الحزمة الضخمة من الأفراد الأحياء الذي أسمينا كل فرد منهم باسمه الخاص، ويا ليتنا نستطيع — كلما أردنا أن نتحدث عن الشعب المصري — أن نكتب قائمة طويلة بالأسماء كلها، فذلك أقرب إلى الفهم الصحيح لما نريد.
فإذا قلت بعد ذلك عن هذا الصف الطويل من أفراد البشر، إنه «جاهل» فقد تحسب مرة أخرى أنك قد فهمت المراد، لكنك هنا أيضًا في أغلب الظن قد اكتفيتَ بالنظر إلى علامة سوداء خطَّت أمامك على الورق، ولكي تفهم المعنى المراد على حقيقته، انظر خلال هذا المنظار إلى أمثلة الجهل القائمة فعلًا، عدْ إلى الصف الطويل من أبناء آدم الذي بلغ عشرين مليونًا، عدْ إلى ذلك الصف الطويل وانظر إلى الأفراد واحدًا بعد واحد، فستجد لكل فرد مواقف وأقوالًا، وستعلم أن كثيرًا جدًّا من تلك المواقف، وهذه الأقوال، لا يصور دنيا الواقع في شيء، وعندئذٍ فقط سيتبين لك كم نسبة الجهل في الفرد الواحد، وكم نسبته في المجموعة كلها، وما أنواعه البشعة الفظيعة. سيتبين لك يا سيدي أن معظم «المتعلمين» جهلاء؛ لأنهم في سلوكهم وفي أقوالهم وفي عقائدهم يسيرون في وادٍ والدنيا بأسرها تسير في وادٍ آخر، سيتبين لك يا سيدي كم من أفراد هذا الصف البشري يعيش في أوهامه، وعندئذ فقط ستعلم في شيء من الوضوح قولك عن «الشعب المصري» إنه «جاهل».
وهكذا قل في طريقه فهمك لكلمة «فقير» وفي كلمة «مريض»، نشدتك اللهَ ألا تكتفي بالنظر إلى هاتين اللفظتين الصغيرتين في حيزهما الضئيل على الورق، ثم توهم نفسك أنك قد فهمت المراد. لا يا سيدي، اخرج إلى الطريق وسافر إلى الريف وانظر إلى «الفقراء» فقيرًا فقيرًا، فكلمة «فقير» لا معنى لها بعيدًا عن هؤلاء «الأفراد الفقراء» الذين يُطلَق على كلٍّ منهم اسمٌ خاص به، فهذا «زيد» وذلك «إبراهيم» وتلك «فاطمة»، ثم اخرج إلى الطريق وسافر إلى الريف. أستغفر الله، إنما أردت أن أقول تسللْ إلى الجحور البشرية التي تملأ الأرض عن يمينك وشمالك؛ لكي ترى «المرضى» مريضًا مريضًا، فليس لكلمة «المرض» معنًى إذا لم يكن معناها هؤلاء الأفراد المرضى الذين يطلق على كلٍّ منهم اسم خاص به في شهادة ميلاده!
أرأيت إذًا كم تستغرق من الزمن وكم تنفق من المجهود لتفهم عبارة واحدة قصيرة، مثل «الشعب المصري جاهل فقير مريض»؟
لكنها جناية الألفاظ علينا، هي التي تخيل إلينا أننا بالنظر إلى الكلمة مكتوبةً أو مسموعةً قد فهمناها! وأصل الجريمة هو كما أسلفتُ لك، الظن بأن الكلمة هي نفسها الشيء المسمى، لكن احفظ جيدًا هذا المبدأ الواضح البيِّن، وهو: ليس الاسم هو المسمى، ليست اللفظة هي الشيء … الأسماء والألفاظ مناظير ينبغي أن ننظر خلالها إلى الأفراد الذين نتحسس بأيدينا فنلمسهم، وننظر بأبصارنا فنراهم …
•••
وذلك فصلٌ واحد من فصول المأساة، وأما فصلها الثاني فهو تلك الكلمات المجرَّمة التي تثير مشاعرنا فنأتي الكبائر، مع أنها في ذاتها، ليست بذات معنًى! انظر إلى هذه الأمثلة من الكلمات المجرمات:
إنسانية، دولة، ديمقراطية، حرية، أمة، دستور، مدنية … إلى آخر أفراد «العصابة» إن كان لهذه العصبة الآثمة من آخِر.
فما كان أهون على رجلٍ واحدٍ أن يقوم فينادي بألوف الألوف من فتيِّ الشباب ليقذف بهم في جهنم الحرب إرضاءً لشهواته هو؛ لأنه يريد أن يقود ويسيطر، ما كان أهون على ذلك الرجل أن يقذف بألوف الألوف من الشباب الفتيِّ القوي باسم «الدولة» — مثلًا — أو باسم «الديمقراطية» أو بما شئت من هذه الطلاسم السحرية!
وها هنا نريد لك أيها القارئ أن تحفظ مبدأ آخر حفظًا جيدًا، وهو أن مدلول الكلمة هو الأشياء الجزئية المحسوسة التي تشير إليها، فإذا قيل لنا «الدولة» وأردنا أن نفهم فيجب أن نسأل بدورنا: أين هي؟ لا بد أن أضع يدي عليها لألمسها، وأن أفتح عيني وأميل بأذني لأراها وأسمعها، وعندئذ سترى أن الدولة مجموعة من أفراد، وليس في ذلك بأس، لكن البأس كل البأس في أن تتوهم أنها كائن إلهي غيبي لا حق لنا في نقده ومناقشته الحساب.
وقد يقول القائلون: لكن هنالك من الألفاظ ما لا سبيل إلى الرجوع به إلى أشياء تُلمس بالأيدي وتُرى بالأعين وتُسمع بالآذان، وإلا فماذا تريد أن تلمس في معرفتك لمعنى كلمة «الديمقراطية» مثلًا؟ والجواب على ذلك هو أننا بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أنه من الممكن أن نعثر في عالم الأشياء الواقعة المحسوسة المرئية على ما نسميه بهذا الاسم وأمثاله، ولو بعد جهد وحصر انتباه ودراسة؛ فيكون لهذا الاسم وأمثاله معنًى، وإما أن يكون ذلك مستحيلًا فلا تكون الكلمة عندئذٍ ذات معنًى على الإطلاق، وتكون جريمة كبرى أن نستخدمها في إثارة المشاعر، وما تستتبعه من تقتيل وتخريب وفتك ودمار.
حرام عليكم أيها الناس أن تحرصوا على «ألفاظ» حتى إن كان الثمن ألوف الألوف من الشباب الفتيِّ الحالم الآمل، فهاتيك الألفاظ موجاتٌ صوتيةٌ ضئيلة، أو هي قطرات من مداد سكبناها على الورق في صورة معينة، أما هؤلاء الشباب فأفرادٌ أحياء في أجوافهم قلوبٌ ورئات ودماء وأعصاب!
•••
لا عجب والله إن كانت للألفاظ قوة السحر عند الشعوب البدائية الأولى، فهذه اللفظة تشفي من الحمى، وتلك اللفظة تهزم العدو في القتال، إلى آخر ما كان سائدًا بين تلك الشعوب من أحلام وأوهام.
اعلم أفادك الله أن اللفظة من ألفاظ اللغة إذا لم تدلَّك على مُسمًّى تراه بعينيك فهي لفظةٌ فارغة، هي موجةٌ صوتية كأي اهتزازٍ آخر يهتز به الهواء، أو هي نبش على الورق كأي نبش يحدثه الطفل اللاهي، فاسأل — إذا أردت الفهم والتفاهم — عن الشيء أو الأشياء التي يراد للفظة المستعملة في الحديث أن تشير إليها، فإذا وجدتها فالخلاف بينك وبين خصمك لن يطول، وإلا فسيظل الخلاف في الرأي قائمًا إلى يوم الدين.
فما أكثر ما يطول النقاش بين فريقين حول كلمة، كالحرية مثلًا أو كالديمقراطية أو الدولة أو الأمة، وتكون علَّة الخلاف بينهما هي أن كلًّا منهما يقصد بالكلمة إلى معنًى غير المعنى الذي يقصد بها إليه زميله، فإذا جعلنا دستورنا في الفهم والتفاهم هو تحديد المسميات أولًا؛ المسميات التي نراها بالأعين ونحسها بالأيدي، انحصر مجال الخلاف وقصر أمده كما هي الحال بين رجال العلوم مثلًا.
والكارثة الحقيقية في أمثال هذا الخلاف الذي قد يؤدي إلى حرب وسفك دماء، أن يقوم الخلاف على لفظة فارغة زائفة إن بحثنا لها عن مدلول في عالم الأشياء لم نجد شيئًا.
راجع التاريخ في ضوء هذا الكلام، وانظر كم أودت الألفاظ الزائفة بأنفس البشر هباءً! فكلمة «جهاد» وحدها مسئولة عن سفك أنهر من الدماء لا يعلم إلا الله مداها، ولسنا بطبيعة الحال ننكر استعمال هذه الكلمات وأمثالها، لكن الذي ندعو إليه هو أن يكون المتكلم والسامع على بينة مما تشير إليه كل كلمة من تفصيلات في عالم الأشياء الواقعة. قل للشباب بملء فيك: جاهدوا في سبيل الحرية، على شرط أن تكون أنت، وأن يكون الشباب على علمٍ تامٍّ بالتفصيلات التي نطلق على مجموعتها كلمة «جهاد»، وبالتفصيلات التي نطلق على مجموعتها كلمة «حرية»، فعلينا منذ الآن بالتفرقة الدقيقة بين الألفاظ الحقيقية والألفاظ الزائفة كلما أردنا الجد في الكلام والكتابة، وليسمح لي القارئ أن أعيد هنا ما قلته في كتابي المنطق الوضعي في هذا الصدد، لعله يفيد: «الفرق بين اللفظة الحقيقية واللفظة الزائفة هو أن الأولى وراءها «رصيد» من المسميات الجزئية، وأما الأخرى فليس وراءها شيء يشار بها إليه، فما أقرب الشبه بينهما وبين الورقة النقدية الحقيقية بالقياس إلى الورقة النقدية الزائفة! فهاتان قد تكونان في الصورة الظاهرة متساويتين، لكن الأولى حقيقية لأن هنالك «رصيدًا» من الذهب أو ما إليه يجعل لها قيمة «فعلية»، وأما الورقة الزائفة فليس وراءها مثل ذلك «الرصيد»؛ ولذا فهي لا تشير إلى شيء وراءها من محفوظات «البنك» مما يجعل لها قيمة حقيقية.
«إن الكلمة لا ينفي عنها الزيفَ طولُ أمد استعمالها في التفاهم بين الناس، فإذا مضينا في تشبيهنا الألفاظ الزائفة بالنقد الزائف، قلنا إن اللفظة الزائفة التي طال أمد استعمالها بين الناس حتى ظنوا أن لها معنًى، شبيهة بظرفٍ مقفل ليس بداخله شيء، لكنه دار بين الناس مدة طويلة على زعمٍ وهميٍّ، وهو أن فيه ورقة من أوراق النقد، فظلت له هذه القيمة في التعامل، حتى تشكك في أمره متشكِّك، وفتحه ليستوثق أن له قيمته المزعومة، فلم يجد شيئًا، بل وجده فارغًا ولا «قيمة» له.»
وهكذا قف إزاء الكلمات التي تراها مكتوبة أو تسمعها منطوقة، وانظر في عالم الأشياء المحسوسة باحثًا عن «رصيدها» فإن وجدتها كانت الكلمة ذات معنًى وصالحة للتفاهم، وإلا فهي فارغةٌ زائفة، بل هي مجرَّمةٌ آثمة.