الكوميديا الأرضية
يُحكى أن شاعرًا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين، هو «فرجيل»، طاف بالجحيم فوصف مَن شهده فيها من الآثمين، وما شهده مُنصبًّا عليهم هناك من عذاب أليم.
ثم شاء الله — ولا رادَّ لمشيئة الله إذا شاء — أن يبعث «دانتي» حيًّا شاعرًا كما كان، وأن يبعث معه «فرجيل» دليلًا هاديًا كما كان أيضًا، وعادت لدانتي شهوته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدًا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توًّا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرًا وتحويرًا يناسب العصر الحديث، مستفيدًا بما علَّمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكًا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة، كما قد فعل أول مرة، ثم اختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانًا لقصيدته الجديدة.
وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.
يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرأ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلَّت بهم السبيل إلى أبد الآبدين، فيأيها الداخلون انفضوا عن أنفسكم — عند مدخلي — كل رجاء.»
ويدخل الرجلان فإذا بالجحيم هوةٌ سحيقة في هيئة وادٍ طويلٍ مديد، رأسه عند مركز الأرض وقدمه على حافة البحر، وجوانبه مدرَّجة درجات عراضًا، وعلى هذا الدرج حُشِر الآثمون، ولا يكاد الشاعران يدخلان أبواب الجحيم حتى يبلغا نهرًا يسمى بنهر الأسف والأسى، وعلى شطه ألفيا نفرًا يريد العبور إلى الشاطئ الآخر، وكان العبور تحت إشراف حارس فظيع بشع يجذب الناس جذبًا قاسيًا عنيفًا، وعيناه تدوران في رأسه كأنهما حلقتان من نار، فلا يحتمل دانتي هذا المشهد الرهيب، ويسقط في إغماءة لا يفيق منها إلا على صوت رعد يقصف قصفًا شديدًا، وعندئذٍ يعلم أنه وزميله قد عبرا نهر الأسف والأسى، حيث انتهى بهما العبور إلى أولى حلقات الجحيم، وها هنا وجدا عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم؛ ولذلك فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس، وأخذت تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم، فيصيحون من الألم، ولا يعرفون إلى الطمأنينة والراحة سبيلًا. ويجتاز الشاعران هذه المرحلة ليجدا أمامهما فريقًا من الآثمين المجرمين، وهو فريق أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم، وإذا بهؤلاء قد عصفت بهم ريح شديدة فأخذتهم الراجفة كأنهم الكراكي في العاصفة، وهنا يقول دانتي: «ها هنا بدأت أسمع صيحات الحزن والأسى، فها هنا قد أتيت إلى حيث الأنَّات الشاكيات، تَقْرع أذني فتؤذيها، إذ ها هنا قد أتيت إلى مكان خفَتَ فيه الضوء وزمجرت رياحٌ عواصف، كأنه البحر مزَّقته العاصفة برياحها الهوج، وهبَّت في جنبات الجحيم رياح عاتية أخذت في سَوْرة الغضب تسوق أمامها هؤلاء الآثمين سَوقًا فتدور بأجسادهم حتى الدوار، وتدفعهم دفعًا عنيفًا موجعًا … إلخ.»
وهنا سقط شاعرنا «دانتي» في إغماءة أخرى؛ لأنه رقيق الحس كسائر الشعراء، حتى إذا ما أفاق ألفى نفسه في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، في هذه الحلقة الثالثة أُعدَّ العقاب لمن عفَّ فلم يلحف في السؤال عن حقه لدى أصحاب السلطان، فشاهد الشاعران أولئك الخائبين الخاسرين وهم يتمرغون في حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع، بينما وقف صف من كلاب وحشية تنبح في وجوههم وتعوي وتمزق جلودهم تمزيقًا بأنيابها ومخالبها.
وبعدئذٍ سار الشاعران إلى حيث الحلقة الرابعة من حلقات الجحيم، فوجدا جماعة كانت تشتغل بالإصلاح فتُفسِد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم؛ ولذلك حقت عليهم اللعنة ونزل العقاب، فرآهم الزائران هناك يدحرجون جلاميد صخر عاتيات في اتجاهين متقابلين، ثم لا تلبث جلاميدهم أن يصدم بعضها بعضًا، ويعود كل جلمود كما كان أول أمره، فينفجر الأشقياء المجرمون بالغضب من كثرة ما نالهم من نَصَب وإعياء، ويلعن فريق منهم فريقًا؛ لأن كل فريق يعتقد أن الفريق الثاني هو الذي أتلف عليه ما صنع.
وينتقل الزائران إلى الحلقة الخامسة من حلقات الجحيم، وقد خُصصت لمن أخذ زمانه بالدقة فلا يؤخر موعدًا، ولا يؤجل عملًا إلى غدٍ، ويغضب ويحزن إذا ما رأى من المستهتر تراخيًا وتفريطًا، كان هؤلاء المغفلون يسكنون في الجحيم قاع بحيرة من وحل، يتنهدون فتنتفخ على سطح البحيرة فقاقيع لا تلبث أن تنفجر، وقد قال منهم قائل حين أحس مرور الشاعرين إلى جانب البحيرة: «كنا ذات يوم حِزانًا على الفوضى الضاربة في أرجاء البلاد، كنا رغم الهواء الحلو الذي كانت تبهجه أشعة الشمس، نحمل في أجوافنا نفوسًا مظلمة وضبابًا ثقيلًا؛ لذلك حق علينا الحزن في هذا المكان القاتم.»
وبعدئذٍ وصل الشاعران إلى مكان الحلقة السادسة حيث أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجًا وقبابًا متوهِّجة بألسنة اللهب، فقيل لهم إن هذا مدخل مدينة الشيطان، وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة أبوابها، ويدخل الرجلان بابًا فإذا هما يشهدان سهلًا فسيحًا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، تتأجج في كل منها نار تلتهمه؛ لأن صاحبه كان حرًّا في رأيه يعلنه كيف شاء، فحقَّت عليهم جميعًا هذه الفضيحة المنكرة لجرأتهم الشنعاء.
وبلغ الراحلان حدود الحلقة السابعة من حلقات الجحيم فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب، حتى انتهيا إلى نهر من دماء وقف في لججه أولئك الحمقى الذين كانوا يتورعون في حياتهم عن اعتراك الأحزاب السياسية، ويقفون في ركنٍ هادئ يفكرون، أو يمضون في سبيلهم الجاد يُنشِّئون ويعلِّمون.
وكانت الحلقة السابعة ذات شقين، فدخل الشاعران شقها الثاني، وأبصرا فريقًا آخر من المغفلين الذين أخذتهم الغيرة في سبيل الضعفاء والمرضى والمعوزين، فهؤلاء قد انقلبوا في الجحيم أشجارًا جافةً قصيرة، تتدلى منها ثمارٌ مسمومة، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصبُّ من جسمٍ مجروح، وذلك جزاء ما أحدثوه من قلق في نفوس كانت آمنة مطمئنة.
وفي الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم حُشدت طائفة أولئك الذين كانوا لا يراءون ولا ينافقون في عالم خلقه الله للرياء والنفاق؛ فحق على هؤلاء الكفار عقاب شديد، إذ غُمسوا في حفرة مُلئت بقارٍ يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثمُ بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف. فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها، لا يبدو فوق الماء منها غير خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت الموج.
وقد شهد «دانتي» هنالك مشهدًا رهيبًا، إذ شهد أحد الجناة يطفو ويطيل الظهور على سطح القار بعض الشيء، فجاءه الحارس وأمسك بخصلات شعره وجذبها جذبًا شديدًا، ثم ألقى به في عنف طريحًا حتى بدا له كأنه كلب من كلاب الماء.
وفي الحلقة التاسعة حُشر أولئك المجانينُ الفِدام البُلهاء الذين استُنصِحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فكل فرد من هؤلاء قد ألبسوه هناك قلنسوة ثقيلة من رصاص زخرفوه له بالذهب، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره، ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل فإن على رأسك طلاء من ذهب هو علامة الصدق في القول والإخلاص في العمل.
وفي الحلقة العاشرة والأخيرة من حلقات الجحيم، شهد الشاعران — ويا هول ما شهدا — شهدا فريقًا من الناس أتوا في حياتهم أمرًا إدًّا، واقترفوا جريمة هيهات أن تجد لها عند الله غفرانًا، هؤلاء هم الذين لم يتشفعوا بشفيع أو يتوسطوا بوسيط وعملوا في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يصيحوا ويملئوا الدنيا جلبة كلما خطوا خطوة أو نطقوا كلمة، فكان جزاؤهم في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج تبدو فيه أشباح المعذَّبين كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلَّور، وكُتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع كما تفعل الكلاب الجائعة، فهذا جزاء من يعمل صامتًا معتمدًا على نفسه، فلماذا خلق الله للناس آذانًا إذا لم يسمعوا بها صياح الصائحين، ولماذا خلق لهم قلوبًا إذا لم ترقَّ لشفاعة المتشفعين؟
وكانت الكروب عندئذٍ قد أضاقت صدر «دانتي» وطلب من دليله أن يسرع به إلى حيث الفردوس ونعيمه، فما هو إلا أن وجد مركبة مغطاة بالزهر، حملته مع زميله بين مروج من الخضرة اليانعة والقصور الشامخة والأكل الطيب وطمأنينة النفس وراحة البال؛ فها هنا يقيم من رضي عنهم الله من المنافقين أصحاب الشهوة المسعورة والكذب المبين والخداع والرياء.
وأفاق «دانتي» وهمس لزميله فرحًا مستبشرًا، فقال: ادعُ لنا الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بهذا النعيم.