مُهمَّة الكاتب
اللهم إني كفرت بالأقلام تكتب بالمداد، فمن لنا بعشرة آلاف قلم تنفث من أسنانها الحمم، لعلها تلسع الجلود فتوقظ الرقود من سباتهم العميق، وتحفز الوقوف إلى الحركة والسير، وتستحث السائرين ليسرعوا الخطى، عسى أن ندرك الركب، فقد بعدت المسافة جدًّا بين الرأس والذَّنَب.
كفرت بالأقلام تكتب بالمداد؛ لأن الكُتاب عندنا قد ظلوا يكتبون ويكتبون، ولم يزل الناس على حالهم غرقى في أوهاهم، فمهما وجَّهنا اللوم إلى كبار كتابنا على ممالأتهم الناس في كثير مما كتبوه، حين جعلوا يمجدون لهم أمجادهم ويترنمون لهم بالأنغام التي تصادف هوًى في نفوسهم، فلا بد لنا إلى جانب اللوم أن نعترف لهم بالفضل في محاولتهم تغيير كثير من القيم السائدة، التي أصبح قيامها محالًا بين شعب أراد أن يتحضر، فمنذ ثلث قرن أو يزيد، أخذ كبار كتابنا ينقلون إلينا معايير جديدة للأخلاق ونظم الحكم والتربية، ويعلموننا مقاييس جديدة نقيس بها الآداب والفنون، ويلفتون أنظارنا إلى القواعد الصحيحة التي ينبغي أن نحكم بها على الأشياء في هذا العصر الحديث. كتبوا وكتبوا، وما يزال الناس على حالهم فيما أرى، حدث تغيرٌ طفيف في القشرة، أما اللباب فهو هو كما كان منذ قرون.
كنتُ أتحدث إلى أستاذنا العقاد منذ حين، فقلت له في سياق الحديث: إننا لا نتطور ولا نتغير، كأنما قوانين التطور الاجتماعي التي تسري على سائر البشر لا تنطبق علينا، فقال باسمًا: بل قل إن شئت إن القوانين الطبيعية نفسها توشك في أرضنا ألا تفعل فعلها … وهو بذلك يعني أن ما تتوقعه في أي بلد من بلاد الأرض قد لا يقع لك في هذه البلاد، فربما وضعتَ وعاء الماء على النار متوقعًا للماء أن يغلي، فإذا به ينجمد ثلجًا، وبعبارة أعم، إن المقدمات عندنا قلَّما تنتج نتائجها، والنتائج قلما تتفرع عن مقدماتها الصحيحة، انظر — مثلًا — إلى الخطة التي وضعناها منذ ربع قرن لمحو الأمية، حسبنا الحساب وقلنا سنفعل كذا وكذا، وستنمحي الأمية بعد كذا من السنين، وتمضي السنون، وتسأل كيف الحال؟ فلا تجد من يعرف كيف يجيب؛ ليس لك أن تعجب لحدوث شيء في أي زمان وأي مكان؛ لأن العجب إنما يكون لشذوذ يحدث وسط انتظام واطراد فيستوقف النظر ويستثير العجب، أما إن كان الأصل في الأشياء هو أن لا نظام ولا اطراد، فلا عجب ولا تعجب، إلا إذا شاء الله لجزء من الحوادث في ركن من البلاد أن يسير مؤقتًا على سياقٍ منتظم من قانونٍ معلوم! ليس في ذلك مبالغة أو إسراف، فالذي يلفت أنظارنا اليوم هو أن نجد رجلًا قد اؤتمن على عمل للشعب أو مال للدولة فأنجز العمل أمينًا، أو أدَّى المال كاملًا.
ولعل كبار كُتَّابنا قد أدركوا أنهم كانوا ينفخون في قربةٍ مقطوعة حين كانوا يقصدون إلى الجد فيما يكتبون، فانقلبوا إلى كتابة التسلية وإزجاء الفراغ، وشجَّعهم على ذلك أن بعض الشركات المالية التي أرادت لها المصادفة أن تشرف على إصدار الصحف والمجلات، قد أغرتهم بالمال، على شرط أن يكتبوا لها ما تطلب إليهم الكتابة فيه وبالمقدار الذي تطلبه، وبالكثافة التي تقررها. والموضوع والمقدار والكثافة عند أصحاب تلك الشركات المالية، كلها أمور يقررها الجمهور الشاري؛ إذ لا فرق عندها بين المجلات والصحف التي تنزلها إلى السوق، وبين رءوس الماشية وقوالب الطين، والفول والعدس؛ كلها سلعٌ تجارية، ولا بد فيها جميعًا أن ينظر إلى الشروط الصالحة للبيع والشراء …
إذًا فقد انصرف كتابنا الكبار عن الكتابة الجادة لسببين: الأول أنهم وجدوا كتابتهم لا تغير من الأمر الواقع شيئًا؛ فالناس هم الناس سواء كتب الكتاب أو لم يكتبوا، والثاني هو أن زمام الكتابة لم يعد في أيديهم هم، بل انتقل إلى أصحاب رءوس الأموال الذين اختاروا لاستغلال أموالهم تجارة الصحف والمجلات، ولك إن شئت أن تنظر إلى إنتاج هذا الأديب أو ذاك، فتأتي بمجموعة من مقالاته التي أصدرها منذ عشرين عامًا أو ثلاثين، ثم تقارنها بمجموعة من مقالاته التي يكتبها هذه الأيام في المجلات التي أعنيها، وسترى الفرق واضحًا: كان هناك جِدٌّ وعزم على تغيير عقول القراء، فأصبح هنا استهتار وعدم مبالاة بما يجري به القلم؛ لأن الأمر عنده وعند صاحب المجلة لم يعد يزيد أو يقل عن صفحتين يكتبهما ليتسلى بهما القارئ حين لا تسعفه للتسلية وسيلة أخرى.
لكن لو أخلص هؤلاء الكتاب لوجدوا أن مهمتهم لا تزال باقية على حالها، فهم لم يغيروا من عقائد الناس شيئًا، إذ لا يزال الناس في حالةٍ شبيهة جدًّا بما كانت عليه أوروبا في العصور الوسطى … إن أمْيز ما يميز التفكير في العصور الوسطى هو الاستناد في الأحكام على الكتب القديمة، فإذا قال قائل قولًا وطالبه السامعون بالسند ارتد إلى الكتب القديمة يستخرج الدليل، حتى إذا ما وجده اقتنع هو واقتنع السامعون على السواء، والنهضة الأوروبية التي جاءت لتنفض غبار العصور الوسطى، كان معناها هو هذا: أن يرجع الناس في أحكامهم إلى ما تقوله الطبيعة وما يقوله الواقع، وأن تكون وسيلتهم إلى ذلك هي عيونهم وآذانهم؛ لأن الله أرحم جدًّا وأقدر جدًّا من أن يقصر العيون والآذان على عصرٍ واحد ذهب ومضى ليكون الناس من بعده صُمًّا عُميًّا لا يسمعون ولا يبصرون.
لا يزال الناس عندنا في حالة شبيهة جدًّا بما كانت عليه أوروبا في العصور الوسطى، يؤمنون بأفواهٍ مفتوحة ولعابٍ سائل، فإذا تمنينا لهم شيئًا، فهو أن يقيض لهم الله من أصحاب الفكر وأرباب القلم مثل من أنعم بهم على عباده من الأوروبيين إبان نهضتهم، فلو استعرضت أوروبا عندئذ بخيالك وجدتَ مفكريها وكُتَّابها قد عقدوا عزمًا من حديد على تنظيف الرءوس وتجديد النفوس؛ ليستقبل الناس عهدًا جديدًا، هو الذي نسميه اليوم بأوروبا الحديثة — فأين لنا من علمائنا مَن يقوم بالدور الذي قام به جاليليو وكبلر ونيوتن إبان النهضة الأوروبية، ليلفتوا أنظارنا إلى الطبيعة ندرسها، بدل الانطواء على أنفسنا مكبين على صفحاتٍ صُفرٍ معفرة بالتراب؟ وأين لنا من فلاسفتنا مَن يدعو إلى ما دعا إليه ديكارت وبيكن أيام النهضة الأوروبية، ليرسموا لنا منهاج التفكير الجاد الصارم، الذي لا يلين أمام عاطفة حتى يبلغ الحق، وهو في سبيل ذلك يتشكك ويتثبت ويتحقق حتى لا ينخدع بإيمان السُّذَّج البُلهاء؟ وأين لنا من أدبائنا من يكتب بمثل الأقلام التي كتب بها سير فانتيز ومونتيني وشكسبير، ليهزوا فينا الخيال هزًّا عنيفًا، فترتسم الدنيا أمام أنظارنا في صورة جديدة؟
لا، ليس بيننا العلماء وليس بيننا الفلاسفة، لا صغار ولا كبار، وأعظم من يعظمون في أعيننا من هؤلاء هم «تلاميذ» حفظوا كثيرًا أو قليلًا مما كتبه العلماء والفلاسفة في أوروبا التي نعوذ بالله من شيطانها الرجيم! إننا نتسامح في استعمال الألفاظ إلى الحد الذي نقول عنده عن فلان إنه «عالم» حين يكون فلان هذا قد وعى رأسُه قائمةً طويلةً من الحقائق التي وصل إليها العلم، لكن «العالم» الحق ليس هو من وعى وحفظ، إنما هو من عرف كيف يسأل الطبيعة سؤالًا وكيف يجعلها تجيب له عن سؤاله بما يجري من تجارب في أنابيبه ومخابيره، وليس بيننا من يعرف كيف يسأل الطبيعة سؤالًا جديدًا، ويجعلها تجيب له عنه جوابًا يذيعه في العالم المتحضر على أنه من كشْفه هو ومجهوده هو.
لا، ليس بيننا العلماء وليس بيننا الفلاسفة، وكان يمكن أن يكون بيننا الأدباء، لكنهم — واحسرتاه — قد انصرفوا عن مهمتهم إلى حيث الكلام الخفيف اللطيف، الذي يبيعونه لشركات الصحف والمجلات، بيع التاجر الذي يراعي في سلعته ظروف العرض والطلب.
ولم يكن قد حان الوقت بعدُ لهؤلاء الكتاب أن يلقوا السلاح من أيديهم؛ لأننا لم نزل أمة في عصورها الوسطى، تنتظر الانتقال إلى العصر الحديث على أيديهم، إنه لمما يستوقف النظر في أمتنا أنها تنقسم قسمين: أقلية ضئيلة جدًّا في ناحية وأكثرية كبيرة جدًّا في ناحيةٍ أخرى، وهي تنقسم هذين القسمين في كل شيء: في الثروة، وفي العلم، وفي التحضر بأسباب المدنية الحديثة، فأقليةٌ ضئيلة بلغ بها الغنى حد الإفراط، وأكثريةٌ كبيرة مرغها الفقر في الوحل، وأقليةٌ ضئيلة بلغت من العلم شأوًا، وأكثريةٌ كبيرة نزلت من الجهالة إلى حد الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وأقليةٌ ضئيلة تكاد تنخرط مع الأوروبيين في حضارتهم، وأكثريةٌ كبيرة لم تلمسها يد القرون التي تتابعت على الإنسانية في تاريخها الطويل.
إننا لم نزل أمةً بدائية في احتكامنا إلى العواطف حيث ينبغي تحكيم العقل، فبالعاطفة نرفع الحكومات ونخفضها، وبالعاطفة نرسم المشروعات وننسخها، وبالعاطفة نخالف الدول الأخرى ونخاصمها، وبالعاطفة نملأ المناصب ونخليها، وبالعاطفة نؤيد ونعارض ونستحسن ونستهجن؛ أفتكون هذه حالنا والكُتاب عندما مشغولون بالكتابة الخفيفة لتسلية القراء وإثراء الشركات الصحفية؟
إننا لم نزل أمة بدائية تملأ الخرافة رءوسنا، نتشاءم ونتفاءل ونؤمن إيمان العجائز، واسمع القصة الآتية واسخر: أقمنا ذات يوم حفلًا نودع به راحلًا ونستقبل قادمًا، وجلس على المائدة أمامي رجل صناعته تدريس الفلسفة في الجامعة، فأخذ هذا الفيلسوف يقص علينا كيف يفعل الإيمان الأعاجيب، قال: كان في شبرا شيخٌ تقيٌّ صالح، له مريدون كثيرون، وكنتُ أحضر جلساته أحيانًا، وقد أخذ يعلم تلاميذه كيف يقولون البسملة بإيمان، ثم يمشون بعد ذلك على سطح الماء فإذا هم يدوسون بأقدامهم على مسطحٍ أصلب من الحجر، وحدث ذات مرة لبائع فجل (ولست أدري لماذا وقعت الواقعة لبائع الفجل وحده، ولم يقع مثلها لزميله الأستاذ الفيلسوف) من تلاميذ الرجل أن فرغ من بيع بضاعته، وأراد الرجوع إلى داره في إمبابة، وسار على قدميه شوطًا، ثم تنبه فجأة إلى دروس أستاذه الشيخ، فوقف على شاطئ النيل، وأغمض عينيه، وقال بكل قلبه «بسم الله الرحمن الرحيم» ثم مشى، فإذا هو الماشي من النهر على أرض يابسة! — هكذا قص علينا الفيلسوف قصته، ولولا أنني أتمنى له السلامة لتمنيت عندئذٍ أن يقوم هو الآخر بالتجربة عينها؛ ليتخفف الشعب من عامل من عوامل التخريف — وإن كان هذا شأن القمة العليا من طبقة «المثقفين» (؟!) فماذا تكون حال الملايين من السواد؟ أفبعد هذا كله يلقي كبار كتابنا من أيديهم أقلامهم الجادة كأنما قد فرغوا من مهمتهم، ولم يبق عليهم سوى أن يكتبوا ما تطلب إليهم شركات الصحف كتابته لتسلية القراء؟
ونحن لم نزل أمة بدائية في عقيدتنا بأن الإنسان ألعوبة في يد القدر، فتلك هي نظرة الشعوب الأولى التي لم تكن تدري كيف يسقط المطر، ولا كيف ينبت الزرع، ولا من أين تمتلئ الأنهار، ومن أين يجيء الأحياء، وإلى أين يذهب الموتى. إنها شعوب لم تكن تدري من ذلك كله شيئًا، فالتمست علة التغير في خيوط مستورة أطرافها في كف ماردٍ جبار لا تراه العيون، أخذ يشد هذا الخيط أو ذاك كيف شاء، ويعبث بالناس من حيث يشعرون ولا يشعرون، فاستضعفوا أنفسهم إزاء هذا «القدر» المتخفي؛ إذ لا حيلة لهم بين يديه، لكن العلم أخذ يكشف للناس عن ألاعيبه، فيظهرهم على خيوطه السحرية خيطًا في إثر خيط، كما يفسر لنا الحاوي سر ما يبهرنا من فعله، والفرق كبير جدًّا في تكوين الشخصية وبناء الأخلاق بين رجل هتك ستر «القدر» ورجل لا يدري من أمره شيئًا: الأول يشعر بالثقة والقوة، والثاني يخنع ويخضع. انظر إلى الناس من حولك، انظر إلى عيونهم وقسمات وجوههم، تجد الاستكانة والمذلة قد ارتسمت في نظراتهم وعلى شفاههم، ولأمر ما يسير المصري عادةً مطأطئ الرأس يحف الأرض بقدمه حفًّا خفيفًا، ويمشي الأوروبي مرفوع الرأس يضرب الأرض بقدميه ضربًا قويًّا، إنك قلَّ أن تجد أوروبيًّا قد أسدل جفنيه على عينيه، بل هو دائمًا ينظر وكأنما ستلفظ نظراته الشرر، بينما يندر أن تقع على مصري في مستطاعه أن ينظر إليك بعين مفتوحة: عند الأول جرأة على الحياة وعند الثاني جبن وخوف؛ لأن الأول قد علموه أنه سيد الكون، أما الثاني فقد لقَّنوه أنه ألعوبة في يد «القدر»؛ أفبعد هذا كله يترك الكتاب أقلامهم الجادة ليكتبوا «الطقاطيق» الخفيفة التي تطلب إليهم الشركات الصحفية أن يكتبوها؟
لا، إنه لا تكفينا إزاء ذلك كله أقلام تكتب الجد بمداد على ورق، بل نحن في أمسِّ الحاجة إلى أقلام تنفث من أسنانها الحمم الذي يلسع الجلود ليستيقظ الرقود.