إعانة المجلات العلمية
لوزارة التربية والتعليم جهود مشكورة في تشجيع الحركة العلمية والفنية في كثير من صورها، تشجيعًا لولاه لما استطاعت تلك الحركة — في أرجح الظن — أن تحقق هذا الذي حققته اليوم على قلته وضآلته.
فهي تعين المدارس والجامعات إعانة مبسوطة الكف لا تدخر في ذلك وسعًا، حتى لتدفع كل نفقات الطالب في بعض المراحل التعليمية، وقسطًا كبيرًا من تلك النفقات في المراحل التعليمية الأخرى، وهي تدفع مكافآت مجزية في تشجيع حركة الترجمة حتى لقد يبلغ ما تدفعه أجرًا على ترجمة الكتاب أحيانًا مبلغًا يزيد على ما يكسبه مؤلف الكتاب نفسه، وهي تبذل بذلًا حميدًا في تشجيع المؤلفين بشراء بضع مئات من كل كتاب تقريبًا، مما يعوِّض على المؤلف شيئًا مما أنفقه في تأليف كتابه من جهد ومال، وهي تعين الفرق التمثيلية الأجنبية والمصرية على السواء بألوف الجنيهات كل عام، وهي كذلك تسخو على كثير من الجمعيات العلمية والنوادي الأدبية والاجتماعية بمالٍ كثير أو قليل، وهكذا وهكذا إلى آخر ما تنفقه الحكومة في هذا السبيل، وإذًا فهي جهود للحكومة مذكورةٌ مشكورة مهما يكن بها من نقص هنا أو عيب هناك، إن لم تصلحه اليوم، فهي لا بد فاعلة غدًا، فحسبك من أصحاب الحكم في هذا الصدد أن تراهم قد ولَّوا وجوههم نحو الخير الصحيح، فإن كان في خُطاهم تعثرٌ في أول الطريق، فالأرجح أن يعتدل بهم السير بعد حين.
لكننا نرى أن وزارة التربية والتعليم قد غفلت عن إعانة المجلات العلمية إعانة تمكنها من القيام بواجبها على نحوٍ كامل، وهي بإغضائها عن هذا الجانب من البناء الثقافي بمثابة مَن يصلح الأدوار العُليا من البناء ويترك الأساس متداعيًا مُنهارًا، ولست أطلق الكلام هنا إطلاقًا عن غير وعي بمعناه، وإنما أعني هذا الذي أقوله بأدق ما يؤديه من معنًى.
فالمجلات العلمية والأدبية هي حقل التجارب الذي يخرج لنا الكتاب والمؤلفين فيما بعد، فإذا أنت محوتَه فقد محوتَ تسعة أعشار الفرصة التي تتهيأ للأقلام الناشئة، وبالتالي فقد محوتَ تسعة أعشار المؤلفين في الجيل المقبل، ولستُ بذلك أعني أن المجلات العلمية مقصورة على أقلام الناشئين، لكنها توشك أن تكون هي المجال الوحيد أمام هؤلاء، أما الكاتب الذي استقام واعتدل وقويتْ ساقاه فيستطيع أن يتنفس في الكتب إن ضاقت أمامه المجلات التي تتناسب مع مكانته العلمية والأدبية، وأنا أقول ذلك تفاؤلًا مني بكبار كتابنا، وإلا فلو قلتُ ما أعتقده حقًّا لقلت مرةً أخرى ما أعلنته في مواضع عدة، وهو أن الكاتب عندنا في معظم الأحيان تستنفد مجهوده المقالة الواحدة، وليس هو كالكاتب الأوروبي بمستطيع أن يستطرد مع فكرته حتى يملأ بها كتابًا، وإذًا فإضعاف المجلات العلمية والأدبية عندنا معناه المباشر هو سد الطريق في وجوه أصحاب القلم جميعًا، صغارهم وكبارهم على السواء.
كانت المجلات والصحف عندنا هي المعمل الذي أخرج لنا قادة الفكر الذين نفخر بهم ونعتز، والذين نخشى مخلصين أن يتركوا وراءهم فراغًا يستحيل على الجيل التالي لهم أن يملأه، فلولا الكتابة الصحفية لما كان لدينا العقاد والمازني وطه حسين وأحمد أمين وهيكل وغيرهم، وقد كدت أقول توفيق الحكيم، وأنا أتحفظ بالنسبة إلى الأستاذ الحكيم لأنه على خلاف هؤلاء جميعًا قد بدأ أدبه الممتاز بالكتاب الكامل، ثم جرفه التيار العام، فعقَّب على الكتاب بالمقالة، وأتبع مرحلة التمثيلية الكاملة ذات الفصول، بمرحلة التمثيلية ذات الفصل الواحد، التي تتناسب مع الإخراج الصحفي، وهو لا شك سيرٌ في الطريق من آخره إلى أوله، لكنه يدل دلالة قوية على سيطرة المجلة أو الصحيفة على أدبائنا، فكيف إذًا تكون الحال لو عشنا في خلاء من مجلات وصحف أدبية ممتازة؟
فكِّر في قادة الأدب عندنا واحدًا بعد واحد، واسأل: ماذا يستطيع فلان أن يكتب إذا امتنعت دونه كتابة المقالة؟ تجد جواب السؤال حاضرًا في أغلب الحالات، وهو: لا يستطيع أن يكتب شيئًا؛ لأنه أضحل فكرًا من أن يخرج فكره في كتاب متصل، وكم مر علينا من تجارب، سُدَّت فيها أبواب الصحف على كبار كتابنا، فسكتوا وطووا أقلامهم لأن الواحد منهم إما أن يكتب مقالة أو لا يكتب شيئًا، والكثرة الغالبة من نتاجنا الأدبي الذي يتخذ في النهاية صورة الكتب، إن هي إلا مقالاتٌ جُمعت في كتب، وليست هي بالكتب الأصيلة التي أنشأها منشئوها على أساس الكتاب لا على أساس المقالة.
لست ها هنا ناقدًا يشير إلى وجه من أوجه النقص في إنتاجنا الأدبي والعلمي، ولكني أصف هذه الحالة لأنتهي إلى النتيجة التي تتفرع عنها، وهي أنه إذا انعدمت المجلات الأدبية والعلمية فقد انعدمت بالتالي الفرصة الوحيدة التي يتنفس فيها كبار كتابنا، والتي تهيئ مجال المران لصغارهم الناشئين.
قرأت في العدد الأخير من المجلة الإنجليزية «القرن التاسع عشر وما بعده» مقالًا هو الذي انبثقت منه فكرة هذا المقال الذي أكتبه، إذ قرأت تحت عنوان «حالة الجمعيات العلمية» (في إنجلترا) ما يشبه البكاء على تدهور الجمعيات العلمية هناك بسبب قلة الإعانة المالية التي تقدمها حكومتهم إليها. ويقول كاتب المقال متجهًا بقوله إلى رجال الحكومة: إننا في أثناء الحرب الأخيرة قد حرمنا كثيرًا من ألوان التسلية واللهو، حتى يتوافر مجهودنا كله للقتال، ومع ذلك لم نجرؤ على تحريم سباق الخيل، وكانت حجة الحكومة عندئذ هي أن إغلاق حلبات السباق يؤدي إلى تعريض تربية الجياد الكريمة لخطرٍ جسيم، ولما كانت الحكومة حريصة على اتصال سلسلة الجياد الكريمة حتى لا ينقطع حبلها، فقد أبقت على الدافع الأول إلى تربيتها والعناية بها، ألا وهو السباق وحلبته. وبعد هذا التشبيه ينتقل الكاتب إلى حالة الجمعيات العلمية عندهم، فيقول: أليست تحرص الحكومة على اتصال سلسلة رجال الفكر كما كانت تحرص على الجياد الأصيلة؟ إنها لا بد حريصة على ذلك أشد الحرص، وإذًا فلا مناص من صيانة الحلبة التي يؤدي وجودها إلى وجود رجال الفكر، ويؤدي انعدامها أو ضعفها إلى انعدامهم أو ضعفهم، وما تلك الحلبة سوى الجمعيات العلمية بما لها من مكتبات ومجلات وغيرها.
ويقول كاتب ذلك المقال أيضًا: إن هنالك المجامع العلمية الرسمية، مثل «المجمع الملكي» للعلوم الطبيعية والرياضية، و«المجمع العلمي البريطاني» للتاريخ والأدب والفلسفة والآثار، هذه المجامع العلمية الرسمية تحظى برعاية الحكومة على الوجه الأكمل، لكن كيف السبيل إلى إمداد تلك المجامع بقادة الفكر إن لم يكن لدينا «جمعيات» تكون بمثابة صفوف الشعب التي تخرج منها هؤلاء القادة؟ هل تستطيع أن تظفر بالقادة دون أن يكون لديك المجال الذي يتخرجون فيه ويتمرسون في ميدانه؟ فلا مناص لنا — إذًا — من رعاية الجمعيات العلمية والأدبية حتى تخرج لنا فيما بعدُ قادة المجامع.
وإن صح هذا القول مرةً واحدة في إنجلترا، فهو صحيح ألف مرة بالنسبة لنا في مصر وسائر بلدان الشرق العربي، ونحن ننظر إلى مجلاتنا العلمية والأدبية نظرتنا إلى «الجمعيات العلمية» التي وردت في المقال الذي أشرنا إليه.
انظر إلى «المجمع اللغوي» عندنا — مثلًا — هو يضم فريقًا من القادة، تجد أعضاءه جميعًا قد بلغوا ما بلغوه بفضل المجلات والصحف التي هيأت لهم سبيل الكتابة في شبابهم وكهولتهم على السواء، ولك أن تسأل بعد ذلك: ما مصير كتابنا الناشئين الذين يحملون بذور التفكير والكتابة، إذا لم يجدوا أمامهم المجلات القوية التي تعينهم وتشجعهم على الكتابة والتفكير؟ أليس واجبًا محتومًا على القائمين بالأمر أن يتعهدوا هذا المصدر حتى يضمنوا لحياتنا العلمية استمرارًا وازديادًا في القوة والنماء؟ أم تراهم يحسبون أن الزمان قد وقفت دورته، وأن الحاضر هو الزمان كله من أزله إلى أبده؟
إنَّ الصَّراحة هنا واجبة لأن الأمر في رأينا خطير غاية الخطر، فإذا استثنيت المجلات التي تصدرها دور النشر الكبرى صاحبة رءوس الأموال الضخمة، وجدتَ سائر مجلاتنا الأدبية المحترمة في طريقها إلى الانهيار والزوال، وما قيامها إلا تضحيةٌ كبرى من أصحابها، أين المجلات التي شهدها شباب الجيل الماضي — والتي كانت ميدان قاد الفكر عندنا اليوم — السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة في عنفوانها والثقافة في إبانها؟ بل أين المجلة القوية التي لم تشهد النور إلا حقبةً قصيرة؛ مجلة الكاتب المصري؟ زالت كلها أو هي كالزائلة؛ لأن الحكومة لا تعينها بالقدر الذي يمكنها من البقاء، ولا يكفي من الحكومة أن تعين بشراء بضع مئين من أعدادها، بل لا بد هنا من السخاء في العطاء؛ لأن المسألة متعلقة ببنائنا الفكري من أساسه.
لا ينبغي لوزارة التربية والتعليم أن تترك المجلات العلمية لعوامل العرض والطلب في السوق، وإلا فلن يكون هناك مجلة علمية واحدة؛ لسبب بسيط، وهو أن السوق تتطلب مادةً سهلة للتسلية، والمجلات التي في مقدورها اليوم أن تعيش عيش الرغد والرواج هي التي تغذي ذلك الاتجاه في السوق، غير آبهة بمَثَل أعلى لا بد من فرضه على جمهور القراء، فليس من الحكمة في شيء أن تتركوا أصحاب الفكر لأبناء الشارع يسيِّرونهم كيف شاءوا، كما تتركون بائعي الصابون لعوامل العرض والطلب في سوق البيع والشراء.