خيوط العنكبوت
هذه الصديقة الفاتنة الثائرة لستُ أدري كيف أنجو من لحظها الساحر، فإني حيالها كالصيد الذي يمرح في حبائل صائده … عيناها اللامعتان الصافيتان هما البحر السحيق العميق يُغري ضحيته بهدوئه الساكن، فيغوص وراء اللآلئ والأصداف، وإذا هو في لحظة قصيرة بين المغرَقين … فمن هاتين العينين تفيض خيوط رفيعة من الضوء، غزلتها ملائكة أو شياطين، وتظل الخيوط الرفيعة اللألاءة فياضة تغمرني هنا وهنا وهناك، فما هو إلا أن أراني بين يديها مغلولًا مسحورًا فلا اختيار ولا إرادة.
إنَّه لولا حبي لهذه الفاتنة لقلت إنها هي بعينها — بل بعينيها — تلك الأفعى التي قالت عنها الأساطير … قالت الأساطير إن ثعبانًا رقد على بيضة باضها ديك، فخرجت من البيضة هذه الأفعى المسحورة الساحرة، خرجت ذات رأسين، في كل رأس منها عين، فإذا هي نظرت ذات اليمين برأسها الأيمن أو ذات اليسار برأسها الأيسر، فقلْ سلامًا على من وقعت عليه نظرتها! إن أسير نظرتها هو إلى الأبد مغلول مشلولٌ مفقود الإرادة، والويل لمن حدج ناظرَيْها بناظرَيْه … وفاتنتي الثائرة هي هذه الساحرة، غير أن أسيرها يَنعم بأسره في حبائلها المغزولة من ضوء عينيها.
ليت شعري: هل أدركتْ هذه الفاتنة كم أضعُف لجمال العينين؟ إنه ضعف أعزوه إلى ما في عينيَّ من علة وكلال … كان «نيتشه» عليلًا هزيلًا، وكان ذات يوم واقفًا ليشهد صفوف الجند تضرب الأرض بأقدام قوية، وتهز الأذرع هزًّا عنيفًا، وتَبرز بصدورها بروز الشباب الفتيِّ المتحدي، فأوحى له هذا المنظر بما أوحى، وراح منذ تلك الساعة يتغنى «بالإنسان الأعلى» ويحلم بيوم يزول فيه الضعف لتملأ مكانه قوة وفتوة، وكان ذلك كله حسرة على ضعفه وهزاله … أفيكون عجبًا مني أن أنظر إلى العينين أول ما أنظر، وأن يأتيني من العينين أول الفتنة؟ فما بالك والعينان قاتلتان فاتكتان تستحلان سفك الدماء في الأشهر الحرام؟
ولقد اعتادت صديقتي الثائرة ذات العينين الساحرتين — إذا ما أرادت أمرًا — أن تنظر إليَّ بعينها هنيهة وهي باسمة صامتة، ثم تلقي أمرها، فإذا هو بين جنبيَّ الحافز الذي لا تسكن غمزاته حتى يكون لها ما أمرت به … وقد التقينا منذ حين فسألتني:
لماذا أغمدت القلم في غطائه أشهرًا طوالًا، ورقدتَ رقدة أهل الكهف أو شبهها؟ لقد تغير وجه الدنيا ودالت دولة وقامت دولة …
قلت: وماذا تريدين؟
فنظرت إليَّ بعينيها الواسعتين لحظة، ثم قالت: اكتب، اكتب في نقلة الناس من حال إلى حال. فمضيت عنها، لا أدري كيف أهمِلُ أمرها ولا كيف أنفذه، وعدت إلى مكتبي أقلِّب الصفحات لعلها تلهمني بما أقول، أو أستلقي على الفراش متفكرًا متأملًا، لكنك تعلم كيف تكون الحال حين يجف مداد القلم وينضُب منه المَعين، فتأمَّلْ عندئذٍ ما شئت، وفكِّر ما حلا لك التفكير، فلن تنبت الأرض الجدباء شيئًا إلا الحسك اليابس هنا وهناك.
قلت لنفسي: أخرج إلى الطبيعة النقية الفسيحة، فإلا يكن لك منها وحي فعافيةٌ، وكان الوقت أول المساء، وكان القمر قد أوشك على الاكتمال، وكان الجو طريًّا رخيًّا لا برد فيه، فقصدت إلى حضن الهرم الكبير، وهنالك جلست وحدي على صخرة عاتية، أنظر إلى الفضاء الذي غمره الضوء الفضي، وإلى المدينة العظيمة الواسعة وقد لمعت مصابيحها التي تقاربت مع المسافة البعيدة، حتى اختلطت كلها في سحابةٍ خفيفة من الوهج الأصفر، ليس السكون شاملًا، فأقدام هنالك أخذت تطقطق على الحصى آنًا بعد آن، وأصوات يعلو صداها على سفح الهرم، قد حسبها أصحابها همسًا خفيًّا فإذا هي موجات عريضة متتابعة من الصوت يصطدم بالصخر كما تصطدم أمواج البحر على رمال الشاطئ في ليلةٍ ساكنة الريح، ثم نقٌّ خفيف يقال لي عنه إنه فعل الصراصير، وخُيِّل إليَّ أن بعضه قريب مني، فنظرت إلى موقع الصخرة من الأرض، فلم أجد صرصورًا بل وجدتُ عنكبًا في خيوطه المنسوجة هادئًا كأنما أسكره ضوء القمر.
دنوتُ أتأمل نسيج العنكبوت بخيوطه الرفيعة الواهية … واهية؟! سل الذبابة المسكينة التي تتعثر أقدامها في تلك الخيوط أواهية هي؟ وهل كنت أستطيع أن أتصور حينئذٍ الفريسة إذا ما وقعت في تلك الحبائل «الواهية» دون أن أتذكر موقفي إزاء الخيوط النورانية الرفيعة الدقيقة السيالة التي تنبعث لي من عيني صديقي، فتوثقني كأنها أغلظ السلاسل التي صُنعت من أصلب الحديد؟!
لقد نسجت العنكبوت خيوطها «الواهية» هذه في شكلٍ هندسي بديع لتحيا، وأقام «خوفو» هذا الهرم الضخم الأشمَّ ليموت! فأيهما أحكم يا أيها الإنسان المغرور!
وعدت إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصت ببصري إلى القمر، فامتلأت عيني بخيالٍ عجيب، حاولت عبثًا أن أصرفه عني فلم ينصرف، وظل ماثلًا أمامي يحجب الواقع عني حتى صار هو الواقع الذي عشتُ فيه ما جلستُ على تلك الصخرة العاتية في حضن الهرم … رأيت القمر عنكبًا ضخمًا قد تدلت منه وأحاطت به شبكة من خيوطٍ رفيعة دقيقة اتسعت وانتشرت حتى ملأت كل أرجاء الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك رأيت ذبابًا يمسك بتلك الخيوط صاعدًا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد متفاوت السرعة، فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطح أملس وهذه مبطئة، وتلك متعثرة تتقدم حينًا وتتأخر حينًا … وكثيرًا ما تلتقي ذبابتان في طريق واحد، ولا يكيفهما الخيط الواحد أن يصعدا معًا جنبًا إلى جنب، فتتشابكان بالأطراف، وتظل كل منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة ثم تستقيم على أرجلها لتسرع الخطى حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريق الصعود، وما تكاد تمسك بأطرافها الخلفية حتى تشدها شدة عنيفة توشك أن توقعها في الفضاء لولا مهارة تسعفها فتتعلق بذراعيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولة أن تثني بدنها إلى أعلى رافعة أرجلها الخلفية حتى تمسك بالخيط من جديد وتأخذ في الصعود مرة أخرى.
الذباب كله صاعد على خيوط العنكبوت، إنَّ صُعوده هذا يكلفه الجهد والمشقة والعناء، لكنه مرح فرح بصعوده، ليس في ذلك من شك، إنَّه مرحٌ واضح في الذبابة التي تسللت من الزحمة الكثيفة عند أوائل الخيوط السفلى، فانفسح الطريق أمامها وحدها، ولم يعد بينها وبين العنكبوت حائل، وهو مرحٌ واضح كذلك في هذا الذباب المتقاتل المتعارك حين يضيق به الطريق، وتريد كل واحدة أن يكون طريق الصعود لها قبل زميلاتها.
أنظر إلى الخيوط عند أطرافها السفلى، حيث أقلها يمس الأرض وأكثرها يرتفع عنها قليلًا، من أين جاءت هذه الألوف المؤلفة من الذباب المحتشد المتزاحم؟! لقد كان الهواء صافيًا نقيًّا عند أول قدومي إلى هذا المكان؟ أأكون يا رباه في حلمٍ عجيب، أم إني في عالمٍ مسحور؟ أم أنا كما أنا واعٍ يقظان؟ هأنذا ألمس الصخرة بأصابعي، وأخبط الأرض بقدمي، هذا هو الهرم كما ألفته وعرفته، وهذه هي القاهرة العظيمة بأضواء مصابيحها كما رأيتها عندما استويت على الصخرة أول مرة! ألا أن العين إذا توهمت فاللمس لا وهم فيه كما قال شكسبير على لسان ماكبث وهو يتلمس الخنجر … كلا، فإني في وعي ويقظة بشهادة الحواس كلها، وهذه الألوف المؤلفة من الذباب المزدحم المحتشد عند أطراف الخيوط السفلى، حقيقة واقعة لا شك فيها، وهذه الشبكة التي تملأ أرجاء الفضاء حقيقة لا شك فيها، والعنكبوت الرابض في قمة السماء ناشرًا أطرافه المخيفة حقيقة لا شك فيها …
لكن الألوف المتزاحمة من الذباب ساعية إلى الصعود، ولما كانت الزحمة شديدة كثيفة، كان يستحيل على ذبابة أن تمسك بأول الخيط — إن كان طرفه مرفوعًا عن الأرض لا يمسها — إلا إذا صعدت على أكداس من الذباب الساقط، فانظر نحو أطراف الخيوط السفلى تجد عجبًا، إنه قتال لا ينقضي بين الذباب، والذبابة الظافرة هي التي عرفت كيف تصرع كذا مائة أو كذا ألفًا من الزميلات، لتتخذ من أجسادها سُلمًا ترتفع به إلى أول الخيط؟ فلو قد أمسكت بطرف الخيط، زالت من أمامها أعقد الحوائل وأعسر العقبات، ولا يبقى بعد ذلك إلا ذبابات قليلات يعترضنها في بعض الطريق …
إنَّه طريق إلى العنكبوت الرابض هنالك في قمة السماء، يلتهم ما تتناوله أطرافه الممتدة من الذباب الصاعد، لكن الطريق قد زُيِّن في أعين الذباب حتى بدا لها كأنه طريق المجد الذي لا طريق إلى مجدٍ سواه.
أمعنتُ النظر في المعركة الدائرة بين الذباب عند أطراف الخيوط السفلى، فأخذني دوار خفيف حين امتلأت أذني بطنينها الممل القبيح، فأغمضتُ عيني بكفي وأدرت رأسي إلى أعلى حتى يخف هذا الطنين البشع القبيح، فارتسمت أمام عقلي صورةٌ واضحة، أجهدت نفسي بعدئذٍ لعلني أتذكر أين رأيتها، حتى أدركت أنها صورة رسمها شاعر في قصيدة كنت قرأتها منذ حين بعيد.
هي صورة امرأة تعيش في كهفٍ صخري معزولة عن الناس، فكانت تشعل لنفسها نارًا وتجلس أمامها مستدفئة وهي تغزل غزلها الرفيع الدقيق الذي يشبه خيوط العنكبوت، إنها امرأة عجيبة ولعلها أن تكون ساحرة لأن لها وجه الفتاة الشابة وشعر العجوز الأشيب، وذات مساءٍ طرق بابها زائرٌ غريب، فحيَّته بابتسامة ومضتْ في غزلها، وراحت تغني وهي تغزل، فيلمع الخيط في وهج النار كأنه سلك الذهب، ولولا لمعة الضوء على الخيط لما رأته عينا بشر لأنه رفيع دقيق يشبه خيوط العنكبوت، وجلس الشاب الغريب يرقب الخيط، ورأت فيه المرأة الساحرة نظرة المتعجب المشدوه، فطلبت إليه أن يلفه حول يديه قائلة إنه خيطٌ ضئيلٌ دقيق رفيع، لكنه قويٌّ شديد، وشخصت المرأة بعينيها الزرقاوين البراقتين إلى الشاب الغريب وابتسمت له ابتسامة رقيقة لم يلحظ فيها شرًّا، وتناول الخيط منها وأخذ يلفه حول يديه، ثم ضحكت المرأة الساحرة ضحكة شيطانية فزع لها الشاب الغريب، وحاول أن يفك الخيط عن يديه، لكن هيهات؛ لأن الخيط قد نسجته يدان سحريتان … وعندئذ قامت المرأة فانتزعت من الشاب خصلة من شعره الفاحم، وقذفت بها في النار، وصاحت والشعر يحترق:
ورفعت كفي عن عيني، فإذا السماء صافية رائقة، وإذا القمر ضاحك باسم، ينقش نوره الفضي في أحجار الهرم، فأخذني فزع ونشوة في آنٍ معًا: فزع لما أوغلت فيه من عالمٍ مسحور، ونشوة لأني قد وجدت شيئًا أكتبه قضاءً لما أمرت به الصديقة الفاتنة.
وعدت مسرعًا إلى داري، وما أويت إلى مخدعي إلا بعد أن وصفت كل الذي رأيت، وحملت الوصف مكتوبًا إلى صديقتي في صبيحة اليوم التالي، مغتبطًا لما عساني واجد عندها من إعجاب عوَّدتْني إياه كلما كتبت لها شيئًا.
لكني ما كدت أفرغ من قراءة ما كتبتُ، حتى ضحكت فيما يشبه ضحك الساحرة قائلًا: ما هذا يا رجل؟ إن حديث العنكبوت والذباب قد سمعتُه منك منذ زمن طويل، أما يكون عندك من جديد؟
فقلت لها وأنا في ربكةٍ شديدة من الخجل: أقسم لك بسحر عينيك، إني لا أذكر من القصة القديمة شيئًا، وأن هذا الذي أرويه قد شهدته مساء الأمس رؤية العين.
فقطبت ما بين عينيها وقالت في صوتٍ حالم: ماذا؟ أيكون الجديد قديمًا؟ أم أني أنا الأخرى مثلك قد نسيت؟!