عروس المولد
أرسلت إليَّ قائلة: «لقد أعجبني كثيرًا وصفك للكراهية الصامتة، حتى تمنيت لو استطاع «الحب الصامت» أن يحظى من قلمك بمثل هذه اللفتة …» وتمنيتُ بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، لكني أحسست في أعماق نفسي بأنني إذا ما أجريت قلمي في هذا الميدان، تعثَّر وكبا، فلا أكون جديرًا منها بإعجاب آخر.
تُرى أين عساي أن أوجِّه النظر، لأبصر بالحب صامتًا لا يُفصح عن نفسه ولا يُبيِّن؟ إن الناس إذا ما أحس أحد لأحد حبًّا، أسرع إلى إعلانه فرحًا فخورًا، كأنما وقع في ثنايا الطبيعة الإنسانية على كنزٍ نادرٍ نفيس، إنهم إذا ما أثنى أحد منهم على أحد في غيبته، تمنى لو بلغ هذا الثناء صاحبه؛ لأنه يعلم أن الفطرة البشرية قلَّما تجود بهذه اللحظات التي يثني فيها إنسان على إنسان، ثناءً صادقًا مخلصًا لا ملق فيه ولا رياء.
أتذكر يوم جاء أبوك إلى غرفتك ساعة الفجر يصلي — فما رأيته مقصرًا قط عن أداء الصلاة منذ شببت فوعيت حتى مات — أتذكر وقد أخذ يدعو لك في صوت جهير، وكنتَ عندئذٍ مستيقظًا في فراشك، لكنك ظللت مغمض العينين؟ أتذكره وهو ينبئك على مائدة الإفطار كيف دعا لك وبماذا دعا؟ فلما قلتَ له إنك قد سمعتَ دعاءه؛ لأنك كنتَ بين اليقظة والنعاس، تهلل وجهه وانتشى نشوة لم تفارقه طيلة يومه؟ إنه والد أحبَّ ولده حبًّا خالصًا، لكنه لم يُطِق أن يظل حبه خبيئًا صامتًا؛ وانظر — إن شئت — كيف يفرح الآباء إذا ما جاءوا لصغارهم بالحلوى، انظر كيف يفرحون فرحةً مضاعفة إذا كانت الأمهات على مرأى منهم أو مسمع! إن الوالد حين يعطي صغاره الحلوى، إنما يعطي أبناءه الذين يمحضهم الحب نقيًّا خالصًا لوجه الله، لا شُبهة فيه ولا شائبة، لكنه مع ذلك يود لو رأت أُمُّهم علائم حبه لهم، لأنه لا يريد للحب أن يمضي خفيًّا صامتًا، غير مرئي ولا مسموع.
كلا، لست أجد المكان الذي أقف فيه لأنظر فأرى الحب صامتًا، وإذًا فلا يجمل بي أن أجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، فليس المهم أن يكتب الكاتب ليملأ الصفحات، إنما المهم أن يكون صادقًا فيما يكتب وليقلْ بعد ذلك من شاء ما شاء.
إنهم يقولون: إنَّ الأدب خيال، وإنهم لصادقون، فلماذا لا تنسج بخيالك نسيجًا ترضي به الأديبة فيما طلبتْ، وترضي به غرور الناس في آنٍ معًا، حين تنبئهم بأن قلوبهم مفعمة بالحب، بعضٌ إزاء بعض؟ ماذا عليك أن تتخيل زيدًا وقد أحبَّ عَمرًا حبًّا لم يعلنه بإشارة أو عبارة؟ … لا، إن خيال الأديب ليس معناه أن يطير في الهواء بلا جناح، والجناح الذي يطير به هو الواقع الذي يلمسه ويراه.
إنَّ «سرفانتيز» لم ينظر بعينيه إلى فارس بين من رأى من الفرسان، اسمه «دون كيشوت» فرآه يصنع لنفسه خوذة من ورق، ثم يضرب الخوذة بسيفه فتمزقها ضربة السيف، فيعود إلى صنع خوذة أخرى من الورق، ويأبى هذه المرة أن يضربها بسيفه خشية أن يمزقها، حتى يظل رافلًا في خياله الجميل، بأنه — كسائر الفرسان — يغطي رأسه بخوذة تحميه من ضربات الأعداء إذا ما التقى بالأعداء في قتال … إن «سرفانتيز» لم ير شيئًا من هذا رأي العين، لكنه خلقه بخياله، وكان معنى الخيال هنا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في الحياة الواقعة، ولا أحسبنا — نحن المصريين — بحاجة إلى غوصٍ عميق في لُجة الحياة الواقعة لنستخرج منها أمثلة شبيهة بهذا الذي وقى رأسه بخوذة من الورق، موهمًا نفسه بأنه قد أصبح كسائر الناس الذين يضعون الخوذات الصلبة فوق رءوسهم لتحميها.
ولم يكن «لير» ملكًا حقيقيًّا من أصحاب العروش الذين عرفهم التاريخ وسجَّلهم في كتابه، بل خلقه شكسبير بخياله ليصور ما يمكن أن تكون عليه حالة الوالد إذا ما قسم ملكه بين أبنائه أو بناته قبل موته، معتمدًا على حب الولد لوالده؛ فهذا «لير» قد قسم ملكه بين ابنتين من بناته الثلاث، حتى إذا ما طرق باب الواحدة منهما بعد ذلك ليعيش في كنفها، ضاقت به أولًا، ثم نهرته ثانيًا، ثم طردته ثالثًا، فراح المسكين — من هول الصدمة — في الأرض العراء يهذي، وما لبث هذيانه أن أصبح جنونًا صريحًا … إن شكسبير لم ير ذلك بعينيه، لكنه خلقه بخياله خلقًا، وكان معنى الخيال هنا أيضًا أنَّ العين يجوز أن ترى أشباهه في أي زمان أو مكان.
فلئن كان الأدب خيالًا، فهو هذا الخيال الذي يستمد من الواقع جناحه، فلا بد لي — إذًا — قبل أن أكتب في «الحب الصامت» أن أراه …
يا لسعدي! وقلما شاءت لي الأيام سعدًا! لقد وقعت عيناي ليلة المولد على مثلٍ عجيب من الحب الصامت، وإذًا فسأكتب للصديقة الأديبة ما أرادت!
هذا صبي في العاشرة وقف أمام بائع العرائس — عرائس المولد — وقفة تفيض بالمعاني، وقف على بُعد ثلاثة أمتار أو نحوها، مثبتًا ناظريه في عروس كبيرة، والأعجب من هذا أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تنظر إليه لا تزيح عنه البصر! … واللهِ لن أمضي في طريقي حتى أتبين حقيقة هذا الغزل النادر، إن الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامة خفيفة كلها هيام، والأعجب من ذلك أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تبتسم له في حنانٍ ظاهر! من ذا يرتاب في أن العروس قد وقفت هنالك على شرفتها العالية من دكان البائع تصوب نحو الصبي نظراتها وتبعث إليه ابتسامتها؟ ألا إنهما عاشقان صامتان، لولا أن حبه هو قد كان ممتزجًا باشتهاء الحبيبة، وأما حبها هي فصادر منها عن عطفٍ وإشفاق، ترى شهوته في عينيه ولعاب شفتيه، ويرى عطفها في ابتسامتها …
لكن أوجه الخلاف بين العاشقين الصامتين بعد ذلك فسيحة المدى، إنه صبي فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد الشديد، وقف مرتعش الأطراف تريد عضلاته الصغيرة أن يزحم بعضها بعضًا ليدفئ بعضها بعضًا! ورأيته يرفع إحدى قدميه فيقف بها على أطراف أصابعها، ونظرت إلى القدم المرفوعة فإذا آثار جرح كبير في عقبها، تعرفه جرحًا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأما فجوة الجرح نفسه فقد مُلئت بالطين الجاف، كأنه بركان ثار وأرسل الحمم ثم خمد مؤقتًا ليثور من جديد بعد حين. لكن الصبي الولهان ظل واقفًا هنالك يرتعش ويرقب معشوقته المشتهاة في شرفتها العالية، إنها بادية الثراء، لبست ثوبًا نظيفًا جديدًا لامعًا، عليه «الترتر» اللامع الساطع.
شعْر الصبي ملبَّد فوق رأسه خشن بأوساخه غليظ، وشعر العروس ممشط ناعم مرسل، وجسد الصبي ملطع ببقع بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى، شتان ما كان من فرق بين العاشق الفقير ومعشوقته الثرية: إنه بقعة سوداء في محيطٍ لامع من الأضواء المختلفة الألوان والبريق، كان المكان كله يتوهج بالنور ليلة المولد، وكان الهواء كتلة من الصوت، فاختلط الصوت بالضوء اختلاطًا يكاد يخيل لك معه أنك ترى الضوء بأذنيك وتسمع الصوت بعينيك — إلا هذا الصبي العاشق الولهان، فقد وقف وسط الضوء اللامع بقعةً سوداء من فقر، ووقف وسط الصوت المدوي قطعةً ساكنة من ذلٍّ، ترتعش أطرافه من برد ديسمبر، وترتفع قدمه الجريحة تخفيفًا للألم، وذراعاه ضاغطتان على بطنه، إما طلبًا لدفء أو دفعًا لجوع، وقف هنالك بقعة سوداء ساكنة، رافعًا رأسه قليلًا إلى أعلى، شاخصًا ببصره إلى عروسه لا يتحول عنها يمينًا أو يسارًا ولا يتقدم خطوة ولا يتأخر.
فأين ذلك كله من عروسه اللامعة من محيطها اللامع، المزدانة في اتساق مع ما حولها من زينة؟ إنها وقفت هنالك تنظر إليه وتبتسم، لماذا لا تنزل الدَّرج ساعية إليه؟ إن الفقير والغنية إذا تحابَّا، كان على الطبيعة أن تغير مجراها، فتخطب الأنثى ودَّ الذكر؛ لأن الذكر هنا عاجز مهيض الجناح منتوف الريش! لقد كان محالًا على الصبي أن يتصور أن عروسه تلك المزدانة، قد وقفت هنالك في بهرجها، أَمةً رقيقة معروضة في السوق للبيع، ولا تتحرك إلا بإذن صاحبها الذي يتقدم لشرائها، كان محالًا أن يطوف بباله أن هذه «الحلاوة» كلها تباع بمال، وأكثر من ذلك استحالة على تصوره أن يكون بين الناس من يملك المال الذي يستطيع به الشراء!
كيف كان يمكن لصبي في فقره وخبرته أن يتصور أن عروسه تلك مما يؤكل؟ كيف يأكلها آكلوها؟ هل يبدءون بالرأس أم يبدءون بالقدم؟ وهذا الشعر المنساب الناعم على رأسها، وهذا الثوب المزخرف الجميل اللامع …
طاخ! نزلت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم، والشرطي معذور؛ لأنه مطالب بحفظ النظام، وليس من النظام في شيء أن يشتهي مثل هذا الصبي مثل تلك العروس، إن في ذلك خلطًا كريهًا لطبقات الأمة غنيها وفقيرها، وقد كان العشق منذ أقدم العصور مقيدًا بقيود الطبقات، فلا يكون عاشق من طبقة ومعشوقه من أخرى … طاخ! صدمت ركلة الشرطي قدم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخًا من الألم في صوت يشبه عواء الكلب الجريح، وظل يحجل على قدم واحدة وهو يصيح، حتى أوى إلى فجوة باب مغلق خلف حظيرة الحلوى التي عرضت فيها عروسه، وجلس هناك في الظلام باكيًا، يهز جذعه إلى خلف وإلى أمام، ممسكًا بقدمه الجريحة بين كفيه.
ونظرتُ إلى الصبي في ظَلامه نظرة أخيرة، ثم نظرتُ إلى عروسه في زينتها وضوئها؟ نظرتُ إليهما بعد أن فرق قانون الدولة بينهما إلى الأبد، فإلى الأبد سيظل حب الصبي لحبيبته مكتومًا في قلبه، وسيظل حب العروس لفتاها حبًّا صامتًا، لكن ابتسامة الصبي قد حوَّلها قانون الدولة بكاء وأسالها على وجه البائس دموعًا، وأما ابتسامة العروس فستبقى ابتسامة، وإن تبدل معناها من عطف إلى سخرية، ستبقى لها ابتسامتها لأنها في السوق لا تباع بغير ابتسامة.
ومضيت في طريقي وأنا أحمل بين جنبيَّ قلبًا من حجر، وهل أدعي غير ذلك ما دمت قد رأيت وسمعت، ثم مضيت في طريقي؟ وما هو إلا أن رأيت قومًا تحلقوا يذكرون الله في ورع وتقوى، فهل كان يسعني عندئذ إلا أن أتذكر «فيفيكا ناندا» — من رسل الإصلاح الديني في الهند — إذ يقول: «أسمى الحقائق هي هذه: الله كائن في الأشياء كلها، إنها صوره الكثيرة … إننا نريد عقيدة دينية تعمل على تكوين الإنسان … اطرح هذه التصوفات المنهِكة للقوى وكن قويًّا … ولنمح من صفحات أذهاننا — في الخمسين عامًا المقبلة — كل ما عدا ذلك من آلهة، جنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، يداه في كل مكان، قدماه في كل مكان، أذناه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء … إن أولى العبادات كلها هي عبادة من حولنا، ليس يعبد الله إلا من يخدم سائر الكائنات جميعًا.»
لم يكن يسعني وقد رأيت الذاكرين يذكرون الله بعد رؤيتي لذلك الصبي يتألم ويعوي، بكل ما فيه: بقدمه الجريحة وبطنه الجائع، وجسمه المرتعش، وقلبه الولهان! لم يكن يسعني وقد رأيت أولئك بعد هذا، إلا أن أذكر قول «فيفيكا ناندا» على نحو ما يتوارد الضدان في الذهن، والحق أني ظللت أذكر ذلك الصبي المتألم الولهان، كلما طالعت الصحف ووجدت قصائد «الشعراء» تترى في ذكرى المولد النبوي الكريم: تُرى هل لهؤلاء «الشعراء» قلوب حساسة حقًّا كما يتوهمون ويوهمون، أم أن قلوبهم — مثل قلبي — قُدَّت من حجر، فيرون أمثال هذا الصبي المسكين ليلة المولد، ثم يمضون إلى مكاتبهم الدافئة ينظمون و«يشعرون»؟!
ولكن مالي الآن ولهذا كله؟ لقد كتبتْ إليَّ صديقتي الأديبة متمنية لو استطعتُ أن أكتب عن «الحب الصامت» كما كتبت عن «الكراهية الصامتة» وتمنيت بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب، وحسبت تحقيق أمنيتي هذه — في أول الأمر — محالًا لاستحالة أن يكون في العالم حب صامت يقع عليه البصر فيجري به القلم، ثم شاءت لي الأيام سعدًا وقلَّما تشاء، فأطلعتني ليلة المولد النبوي على حبٍّ صامت عجيب، سيظلُّ إلى الأبد قائمًا بين صبيٍّ فقيرٍ عاشق وعروس من الحلوى.