إلى سادتي الحكام
إلى السادة من أصحاب السلطان في هذا البلد أوجِّه الحديث … لكن عفوًا سادتي، فما قصدت بهذا إلى الإساءة عامدًا، فأنا عالم أتمَّ العلمِ بأن سادتي لا يقرءون لأصحاب الفكر النظري ما يكتبون، ومن ثم نجاح الأولين وإخفاق الآخرين؛ فهؤلاء قد أوصدوا من دونهم أبواب أبراجهم وقطعوا الأسلاك التي تصلهم بالعالم الخارجي، وعاشوا في عزلةٍ موحشة يقرءون ويكتبون، أما أولئك السادة فقد خرجوا إلى حيث يضطرب الناس وتصطخب الحياة؛ ليحكموا الناس ويمسكوا بزمام الحياة، فليس بهم حاجة إلى كاتب يوجه إليهم حديث النصح والهداية، وحسبهم في باب القراءة ما قد طالعوه أيام الطلب في مدارسهم وكلياتهم في عهد الطفولة والصبا.
لم أقصد يا سادتي إلى الإساءة عامدًا، حين زعمت أني أوجه إليكم حديثي هذا، فلست جادًّا في استعمال هذه الكلمات، وإنما الأمر كله أحلام وأوهام، فالخيال والغرور كلاهما يصوران لي أحيانًا أني أكتب لقارئ، ثم سرعان ما يوغل بي الخيال ويشتط الغرور حتى أتوهم أن هذا القارئ قد يكون من أصحاب السلطان، فأخاطبه كأنما أخاطب رجلًا سميعًا بصيرًا من لحم ودم، والأمر كله لا يعدو تخليط واهمٍ وأضغاث حالم، وكما يقول «جولد سميث»: إذا كانت أحلام الحالم لا تضر الناس فاتركوه يحلم كيف شاء.
أردت أن أقول يا سادتي: إني كنتُ أقرأ لأفلاطون قراءات مبعثرة هنا وهناك، فاستوقف نظري حرص شديد من ذلك الشيخ القديم على أن ينبه قارئه على مر الأجيال إلى علاقة قويةٍ شديدة بين الخير والجمال، فقد أخذ يكرر في مواضع كثيرة أن الخير والجميل شيء واحد … وفكرتُ لنفسي: تُرى ماذا يعني كبير الفلاسفة اليونان بقوله هذا؟ وانتهيتُ إلى تحليل أرضاني، تترتب عليه نتيجة هي التي أردت أن أسوقها إلى سادتي الحُكام في هذا البلد، وهي أن كل ما في هذا البلد المسكين قبيحٌ ذميم بفعل هؤلاء السادة أنفسهم، وعجبتُ أن يُعنى السادة بالجمال في مساكنهم الخاصة وفي ملابسهم ومآكلهم وشتى جوانب حياتهم الشخصية، ثم لا تمتد هذه العناية قليلًا لتشمل شئون الشعب الذي ألقى إلى أيديهم بزمامه …
فماذا يعني فيلسوفنا بأن الخير هو نفسه الجمال؟ سأقصُّ على القارئ خواطري كما وردت حين أردت توضيح الفكرة لنفسي. قلت: اختر لنفسك مثلًا أو مثلين مما يستحيل أن يختلف الناس في أنه خير، فالصحة خير من المرض بغير شك، والغنى خير من الفقر بلا ريب، وإذًا فلنمعن النظر في هذين: الصحة والغنى، فهذان مثلان للخير يرضاهما الناس جميعًا وعلى رأسهم السادة أصحاب السلطان، فكيف تكون العافية جمالًا؟ وكيف يكون المال جمالًا؟ وقد عهدنا الجمال على ألسنة الشعراء لا يكون إلا للزهرة والجدول والمرأة الفاتنة والقمر الوضاء والشمس وهي غاربة وما إلى ذلك من ألوان الجمال؟
ثم سألت نفسي قائلًا: ألا يحسن بك أن تنتقل بنظرك إلى الأشياء الجميلة أولًا؛ لعلك مدرك عنصرًا مشتركًا بينهما، هو الذي يجعلها جميلة، بحيث تزداد جمالًا أو تنقص بزيادة ذلك العنصر فيها أو نقصه؟ وسرعان ما وقعتُ على الجواب الذي لست أشك في أنه كان ماثلًا في ذهن أفلاطون وهو يفكر في هذا الصدد؛ لأنه جواب أعتقد أن كل مفكر يوناني لم يكن يتردد في قوله لو سئل: ما الجمال؟ وذلك هو احتفاظ الجسم بنسب معينه بين أجزائه؟ ففكرة تناسب الأجزاء والوقوف بالشيء عند حدٍّ يرضاه الذوق والعقل معًا، في غير إسراف في هذا الطرف أو ذاك، هذه الفكرة كانت تشغل الفكر اليوناني حتى لتصادفك كلما قرأتَ لليونان شيئًا.
جمال المرأة الجميلة هو احتفاظ أجزاء جسمها بنسب معينة، يعرفها في عصرنا هذا القائمون على مسابقات الجمال، فللذراع طول وللساق طول ولكل جزء من أجزاء الجسد مقياس معين، ويكون جمال المرأة بمقدار قربها من تلك المقاييس في أجزاء جسمها. ولكن من الذي يقرر هذه الأطوال والمقاييس؟ تقررها التجربة والخبرة والملاحظة، فأنسب طول للذراع هو نفسه الطول الذي يجعل الذراع في أحسن حالة تمكنها من الحركة السهلة، وأنسب طول للساق هو نفسه الطول الذي يجعل الساق في أحسن حالة تمكنها من الحركة السهلة، وهكذا، فكأنما الذي يقرر لنا تلك الأطوال والمقاييس هو مدى قدرة الأعضاء على أن تحتفظ لنا بالحياة والبقاء القوي السليم.
وبعد أن يتقرر لنا شرط الجمال البشري، يتقرر تبعًا له شرط الجمال في كل شيءٍ آخر؛ لأن الإنسان بعدئذٍ يخلع نظرته الذاتية على الأشياء، فما دام الإنسان حين تتوافر لأعضاء جسده النسب التي تجعلها أقدر على الحركة والاحتفاظ بالحياة، يكون في الوقت نفسه قد توافرت له صفة أخرى هي التماثل (السيمترية)، إذًا فليجعل التماثل مقياسًا يقيس به جمال الزهرة وجمال البناء وجمال الشعر وجمال الصفوف المنظمة من الجنود وما إلى ذلك.
وما دام الإنسان يتوافر لجسده شرط الجمال حين تتوافر له سهولة الحركة ويُسرها، إذًا فليجعل من الحركة المُنسابة مقياسًا يقيس به جمال الجدول الجاري، وانطلاق الصوت وكل ما يذكره بحركة الحياة النامية في جسده هو، كاحمرار الشفق عند غروب الشمس، وميسان الأغصان وميلانها السهل مع هبوب الريح، وصوت حفيفها الذي يذكر بهمس العاشقين.
والخلاصة هي أن رأي الإنسان في جمال الأشياء مستمدٌّ في النهاية من رأيه في جمال جسمه، وجمال جسمه مستمدٌّ من خبرته التي دلَّته على أن الحياة تكون أضمن بقاءً حين تتوافر للجسم نسب معينة بين أعضائه، فهذه النسب — إذًا — هي عنده المرجع الأخير.
•••
وبعد أن قررت لنفسي ذلك في الأحكام الجمالية، عدتُ إلى المثلين اللذين أردت بحثهما من أمثلة الخير المتفق عليه، مَثل الصحة ومَثل الغنى، وسألتُ: متى يكون الجسم صحيحًا معافًى؟ يكون كذلك حين تلتزم عناصره نسبًا معينة، فإذا زاد أو قل السكر أو الزلال أو الملح أو غير ذلك عما ينبغي، اعتلَّ الجسم، وكان شفاؤه في الحد من الزيادة إن كانت زيادة، أو في سد النقص إن كانت قِلة.
ومزاج الإنسان يختلف من ساعة إلى ساعة، فهو الآن في نشوة من نفسه، وهو الآن في غمٍّ وضيق، لماذا؟ لأن «مزاج» العناصر يختلف من ساعة إلى أخرى، فإذا كانت نسبة «المزج» صحيحة كان «المزاج» النفسي صحيحًا كذلك، وإذا كانت نسبة المزج مضطربة كان المزاج النفسي مضطربًا.
فالصحة البدينة والصحة النفسية على السواء، هي في أساسها صحة النسبة بين العناصر، لكن الجمال في الشيء الجميل إن هو — كما أسلفنا — إلا احتفاظ الأجزاء بنسب معينة كذلك، وإذًا فالجسم الصحيح هو كذلك جسم جميل؛ لأن الأساس في الحالتين واحد. ولما كانت الصحة خيرًا متفقًا عليه، كان الخير والجمال شيئًا واحدًا، وكان الخير هو نفسه الجميل.
وننتقل إلى المثل الآخر من أمثلة الخير، الذي أردنا تحليله لتوضيح ما أردنا توضيحه، وهو الغنى؛ فالمال خيرٌ متفق على خيريته عند الكثرة الغالبة من الناس، وحتى أولئك الذين يذمُّونه ويجعلونه شرًّا، إنما يذمُّونه بالكلام ويسعون وراء جمعه بالفعل والعمل.
لكن الناس كذلك متفقون بما بينهم من فهمٍ مشترك للأمور، على أن هنالك نسبةً معينة لا بد أن يراعيها صاحب الحاجات لإنفاق مقادير معينة من المال بين كسبه وإنفاقه، فإذا كسب مالًا ولم ينفقه لم يكن عند الناس موضع مدح، كذلك إذا أنفق مالًا ولم يكسبه، بل ترى الناس يكادون يحددون أنواعًا معينة من العمل لكسب مقادير معينة من المال، ثم أنواعًا معينة من المال المكسوب، ولا يكون صاحب المال عندهم موصوفًا بالخير إلا إذا حافظ على هذه النسب كلها بين نواحي كسبه وأوجه إنفاقه جميعًا، فرجلٌ يُمدح لأن معظم ماله من كسبه عن طريق العمل، ورجلٌ يُذمُّ لأن معظم ماله هو مال زوجته، وغَنيٌّ يُمدح لأنه يجود بماله، وغَني يُذمُّ لأنه يبخل، وهكذا.
وهكذا يتوقف الخير المنسوب إلى المال على نسبٍ مطلوبة في طريقة كسبه وطريقة إنفاقه على السواء، وقد أسلفنا أن التناسب هو أيضًا أساس الحُكم بالجمال على الشيء الجميل، وإذًا فالخير هنا أيضًا هو نفسه الجميل؛ لأن الأصل واحد في الحُكمين.
•••
وأعود إلى السادة من أصحاب الحكم والسلطان، الذين أوجه إليهم الحديث فيما أوهمتُ نفسي، فأقول:
أيها السادة، لقد اختل في أيديكم الميزان فاضطربت النسبة الصحيحة بين الأشياء والأوضاع، فامتلأت البلاد بالقبح الذميم لأنها امتلأت بصنوف الشر، وقد أوضحنا لكم أن الشر هو القبح، وأن الخير هو الجمال.
إنكم — فيما أرى — عشاق للجمال في كثير من صوره، تعشقونه في جميلات النساء، شأنكم في ذلك شأن سائر الناس منذ كان على الأرض إنسان، وتعشقونه في الطعام الجيد، فقد ظهر لنا فيما أسلفناه من تحليل أن الجودة في الشيء هي جماله، وإذًا فالطعام الجيد هو كذلك طعام جميل، وقد حباكم الله في هذه الناحية بحاسة حادة تميزون بها الجيد من الرديء، أعني الجميل من القبيح، وتعشقون الجمال في الجبال الشمم المعشوشبة السفوح المثلوجة القمم، وإلا لما تجشمتم هذا العناء المضني كل صيف في ارتياد سويسرا وغير سويسرا من بلاد الجبال، وتعشقونه في البحر وشواطئه، وتعشقونه في أثاث منازلكم وفي ملابسكم … وبقي يا سادتي شيءٌ واحد لو عشقتم فيه جماله صلح الأمر كله من أوله إلى آخره، ذلك هو العدل.
كان العدل أقوى مثل وأضخم مثل ساقه لنا أفلاطون — صاحب فكرة اتحاد الخير والجمال — ليوضح به كيف يكون الاحتفاظ بالنسبة الصحيحة بين الأشياء جميلًا، وما العدل عنده إلا هذا الاحتفاظ بالنسبة الصحيحة بين الأشياء، فهلا أضفتم يا سادتي هذا الخير إلى سائر خيراتكم، فتضيفوا بذلك جميلًا آخر إلى قائمة الجمال الذي تعبدونه في كثيرٍ من صوره؟
الظلم — أيها السادة — يملأ حولكم أركان البلاد، الظلم بمعناه الذميم، وهو اضطراب النسبة بين الأشياء والأحياء، وبالتالي يملأ القبح جنبات هذا الوادي المبارك الذي أراد له الله أن يكون جميلًا، إنه لا تناسب يا سادتي بين المناصب وشاغليها، فصغير عندكم يملأ منصبًا كبيرًا، وكبير يشغل صغيرًا، ولا تناسب بين المرتبات والعاملين، فعامل منتج ضئيل الكسب، وخامل لا ينتج عظيم الكسب، يستمتع بما لم يرد له الله ولا طبائع الأشياء أن يستمتع به من طيبات.
العدل، العدل يا سادتي الحُكام، فالعدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشاق الجمال.