أبناء الظلام
ينقسم العصر في تاريخ الأمة جيلَيْن: جيل صاعد وجيل هابط، أما الصَّاعدون فهم أولئك الذين لا يزالون من أعمارهم دون الأربعين أو نحوها، لا تزال خطاهم ترقى بهم — في حساب الحياة — من درجةٍ أسفل إلى درجةٍ أعلى، وما تزال أبصارهم أثناء السير شاخصة إلى قمة تحجب عنهم نهاية الطريق، فيحسبون أن ليست للطريق نهاية. كنت أتحدث إلى شاب في الخامسة والعشرين، جاءني يستشير في أمر مستقبله، فقلت له إن الطريق الفلانية أضمن لك حين تبلغ الستين، فابتسم قائلًا: إن هذه الستين لا تطوف لي ببال، كأنما خلقت الشيخوخة لغيري من الناس، وكأنما يخيَّل إليَّ أني سأعيش أبدًا في شباب يتجدد له إهاب كلما أبليتُ منه إهابًا.
قال لي ذلك، فذكرت من فوري كيف كانت حالي أيام الصعود، من عملٍ متصل فيه الجد والحرمان، لا أبالي بنتائج عملي كيف تجيء، أتكون كسبًا أم وبالًا، فكنت أبذل من عافيتي وجهدي بذل المسرف المتلاف، الذي ينفق الألوف بغير حساب، مستندًا إلى رصيد لا يفنيه تبذير، كنت أعمل الليل والنهار ثم النهار والليل، حتى لقد سألني أستاذٌ كبيرٌ كريمٌ ذاتَ يوم، حين رأى ما أكتبه أكداسًا تتلاحق حملًا بعد حمل، على الرغم من عمل مُضنٍ لكسب العيش يطول ما طال النهار. سألني: من ذا يعاونك في هذا كله من جماعة الجن؟ … فوا أسفا، كأنما كنت أصب الماء في إناءٍ مثقوب، أو أبذر البذور في حقل يُثمر الحنظل، لقد أكملتُ من عمري سبعة وأربعين عامًا، تركتني كالأسطوانة الجوفاء، فزرع ولا حصاد، وحركة ولا سير، وشيخوخة ولا نمو …
وأما الهابطون فهم أولئك الذين قد جاوزوا قمة الأربعين وأخذوا ينحدرون على السفح خطوة خطوة في سير وئيد، يرون النهاية بأعينهم هنالك في أسفل، لم تعد في الطريق قمة تحجبها، كانت الأبصار إبان الصعود شاخصة إلى السماء، وهي الآن منحدرة إلى الأرض تتبيَّن مواضع القدم. إنه لم يعد في الرصيد المخزون ما يحتمل إتلافًا وإسرافًا. إن شمعة الضوء قد ذهب أكثر من نصفها؛ فينبغي أن يحيطوا شعلتها بالحواجز الواقية حتى لا تتعرض للأنواء والعواصف، ذهب زمان المخاطرة وجاء وقت الحذر، لم يعد في طريق الحياة غيب مجهول يستحق المقامرة والمغامرة، فكل شيء قد وضح وانجلى عنه الدخان والقتام، ستكون كيت وكيت بعد كذا وكذا من السنين إن طال بك أمد السنين …
والعادة — إذا كانت حياة الأمة قوية سليمة — أن يُسلم الجيل الدابر مصابيحه إلى الجيل التالي عند قمة الجبل التي تفصل بين الصعود والهبوط، فتظل المشاعل الهادية عند القمة العالية يتسلَّمها جيلٌ بعد جيل، فتزيدها الأجيال المتعاقبة وهجًا ونورًا، وبهذا وحده يصعد الصاعدون على ضوء فلا تزل لهم قدم في شعاب المرتقى، ويهبط الهابطون وقد خلفوا وراءهم مشاعل الطريق، تطرح أمامهم الظلال التي تزداد طولًا كلما أمعنوا في الهبوط، فيزدادون بطول ظلالهم ثقة واطمئنانًا بما صنعوا لمن جاء بعدهم في مراحل الطريق.
وإني لأستثني حياتنا السياسية وحدها، وأسأل بعد ذلك: هل حمل جيلنا الدابر في أيديه المشاعل ليهتدي بضوئها الجيل الصاعد، أم أن أبناء هذا الجيل الصاعد يشرئبُّون بأعناقهم عبثًا، ويَشخَصون بأبصارهم سُدًى فلا يجدون أمامهم إلا ظلامًا يتخبطون فيه على غير هدًى؟ — بعبارة أخرى: هل رسم الجيل الدابر لخلَفه المُثل العليا التي يترسمها في شتى جوانب حياته؟ وقد استثنيت الحياة السياسية، لا لأني راضٍ عنها كل الرضا، بل لأن رجال السياسة — إلى جانب نقائصهم الفادحة وعيوبهم البشعة — قد رسموا المثل الذي نترسمه: وهو أن نعمل في سبيل تحرير أنفسنا من الغاصب، وها نحن أولاء ماضون فيما دعونا إليه، وكأنما ينظر شبابنا فلا يرون أمامهم أفكارًا تنتظر التحقيق، إلا الأفكار التي يدعوهم الساسة إليها، فينصرفون بكل جهدهم نحو هذه الغاية وحدها، ولا عجب، فلم يقم غير رجال السياسة بوضع غايات أخرى أمام الشباب إلى جانب تلك الغاية، فيستحيل أن يقع اللوم كله على الشباب، إذا رأيناهم قد ذابوا في مجرى الحياة السياسية ذوبانًا يختل معه توازن الحياة.
•••
إنَّني رجل قد أصيب في عقله بمرض اسمه «تحديد المعاني»، فماذا يُراد بعبارة «المَثل الأعلى»؟ لأنه من الخير — قبل المضي في حديثنا — أن نعلم في أي شيء يقوم الحديث.
المثل الأعلى فكرة يؤمن بها صاحبها وتشتد به الرغبة في تحقيقها، لكنها رغبة تختلف عن رغبته في تحقيق راحته الشخصية ومتعته، فقد تكون لديَّ فكرة أن يكون لي منزل أملكه في نهاية مراحل عمري لأتخذ منه مأواي الهادئ عندئذٍ، وقد تشتد بي الرغبة في تحقيق هذه الفكرة، لكنها مع ذلك لا تكون «مثلًا أعلى»، وقد تكون لديَّ فكرة أن أبلغ منصب الوزارة، وقد تشتد بي الرغبة في تحقيق هذه الفكرة، لكنها أيضًا لا تكون «مثلًا أعلى» لماذا؟ لأن المُثل العُليا أفكار نؤمن بها ونرغب في تحقيقها، ثم يشترط فيها إلى جانب ذلك ألا تكون قاصرة على العنصر الشخصي، بحيث تصلح أن تكون موضع اشتهاء أبناء المجتمع جميعًا، «فالمثل الأعلى» فكرة مرغوب في تحقيقها، لكنها لا تتصل بذات الراغب اتصالًا يحصرها في مصلحة تلك الذات وحدها، بل تصلح إلى جانب ذلك أن تكون هدفًا للجميع على السواء.
فإذا رغبت في أن يكون لديَّ ما يكفيني من الطعام، فليس ذلك «مثلًا أعلى» أما إذا رغبت في أن يكون لدى كل إنسان ما يكفيه من الطعام، ثم عملت على تحقيق تلك الرغبة بأية وسيلة مؤدية، كان ذلك «مثلًا أعلى»، وإذا رغبت في أن يعاملني الناس بالحُسنى، لم يكن ذلك «مثلًا أعلى»، وإنما يكون كذلك لو رغبت في أن يعامِل الناس جميعًا بعضهم بعضًا بالحسنى، ثم عملت على تحقيق هذه الرغبة، وإذا رغبت في أن أكون عالمًا يتقصى في الطبيعة حقائقها، فليس ذلك «بالمثل الأعلى» وإنما يكون كذلك لو رغبت في أن يكون العلم هو الأساس السائد في حياة الناس بحثًا وكشفًا، أو عملًا وتطبيقًا، وإذا رغبت في أن أستمتع بنحوٍ معين من ألوان الفن، كائنًا ما كان، عمارة أو نحتًا أو تصويرًا أو موسيقى أو ضربًا من ضروب الكلام، فليس ذلك وحده «بالمثل الأعلى»، ولا يكون كذلك إلا إذا تمنيتُ لهذا اللون المعين من الجمال أن يشيع تذوُّقه بين الناس أجمعين.
ولا بد لي أن ألاحظ هنا، أن الأمر كله قائم على «الرغبة الشَّخصيَّة» في نهاية الأمر، لكن هذه الرغبة الشخصية لا تكون مثلًا أعلى إلا إذا جاوزت حدود صاحبها بحيث تمناها صاحبها للناس جميعًا، ومن ثم تختلف «المثل العليا» في العصور المختلفة؛ لاختلاف أهل تلك العصور في رغباتهم التي يسعون إلى تحقيقها تحقيقًا شاملًا، فيصح أن نقول عن عصرنا هذا إن الحرية الفردية من بين مُثله العليا لأن هناك من أبنائه من أرادوا لأنفسهم هذه الحرية الفردية ثم أرادوها للناس أجمعين، لكن هذه الحرية الفردية لم تكن هي المثل الأعلى في كثير جدًّا من العصور السابقة، حين كانت عضوية الفرد في جماعة، وانطماسه في أسرته أو في قبيلته، هي المثل الأعلى المنشود، ولعل هذا المثل الأعلى الذي ينشد الحرية الفردية، هو نفسه الذي انبثق منه مثلٌ أعلى آخر لعصرنا، وهو أن تنمحي الحواجز التي تفصل بين الأمم، لتعيش الدنيا كلها مجتمعًا واحدًا؛ لأن الفرد لا يتحرر حقًّا باعتباره فردًا قائمًا بذاته، إلا إذا أزيلت عن عاتقه الروابط المكانية التي تجعله تابعًا بالضرورة لهذا الوطن أو ذاك.
نعم تتغير المثل العليا من عصر إلى عصر، فجمهورية أفلاطون كانت صورة للمثل الأعلى كما أراده للناس في حياتهم الاجتماعية، وفي رأيي أنه يستحيل على كاتب معاصر أن يتمنى للناس مثل هذا النظام، الذي لا يمنيهم إلا بالانتصار في الحروب الخارجية، وبتوفير الطعام في الداخل، إنه مجتمع يخلو من البحث العلمي ومن الفنون، فأين هذا المفكر اليوم الذي يرسم لنا مثلًا أعلى لتحقيقه، فيرسم لنا حياة لا علم فيها ولا فن؟ الحقيقة أن هذه الجمهورية الأفلاطونية قد أزاغت الأبصار عن حقيقتها قرونًا طويلة، وحسبوها نموذجًا لزمانها وغير زمانها، ولو أمدني الله بقوة أحقق بها مشروعات كثيرة أتمنى أداءها، فسيكون من بينها تحليل هذه الجمهورية تحليلًا يبين مواضع النقص فيها باعتبارها مثلًا أعلى يصلح لزماننا، كما يقع في وهم كثير جدًّا من شبابنا الذين يتاح لهم أن يلموا بطرف منها — لكن ذلك لا ينفي إمكان صلاحيتها مثلًا أعلى لزمانها.
•••
ولنا في ضوء هذا التحليل أن نسأل: هل طافت برءوس الجيل الدابر أفكار، اشتدت بهم الرغبة في تحقيقها، بحيث تصلح كذلك أن تكون موضع الرغبة عند الناس جميعًا؟
هل بينهم مثلًا من أخذ ينادي بفكرة في النظام الاقتصادي على نحوٍ مفصَّل بحيث تحمس لها وراح ينشرها بكل وسيلةٍ ممكنة؟ فإذا شخص الجيل الصاعد بأبصاره ليهتدي في هذه الناحية من حياته، أفَتَراه واجدًا عند الجيل السابق ما يهتدي به، بحيث يتحمس بدوره لهذا المذهب الاقتصادي أو ذاك تحمسًا بصيرًا مستنيرًا؟
هل بينهم من جعل ينادي بطريقة معينة في المعيشة الفردية، يحياها هو أولًا، وينشرها بكل وسيلة ممكنة حتى يجد الجيل المقبل نماذج يتخير منها ما يشتهي؟ إن غاندي بطريقة عيشه كان ينشر «مثلًا أعلى» لأنه تمنَّى لنفسه وللناس، و«سارتر» برأيه في الوجودية ينشر «مثلًا أعلى»؛ لأنه كذلك يتمنى لنفسه وللناس، وقد تعمَّدتُ أن أضرب هذا المثل الأخير؛ لأني أعلم أن كثيرين ممن يسيئون فهم وجودية سارتر، سيقولون: أين «العلو» في هذا المثل؟ فأجيبهم بأن أية فكرة كائنة ما كانت، تصلح أن تكون «مثلًا أعلى» ما دام صاحبها «يعيشها» ويحاول أن يشرك معه الناس فيها، والفرض هو بالطبع ألا يتمنى الإنسان لنفسه إلا ما يراه مؤديًا إلى الحياة السعيدة.
أين بيننا «المدارس» الفكرية على النحو الذي نراه في الأمم الحية؟ ضع أمامك قائمة بعشرة من أئمة الفكر في جيلنا الدابر، وحاول أن تصنفهم شيعًا مختلفة من فلسفات أو مذاهب في طرائق العيش، فلن تستطيع؛ ذلك لأن تفكيرهم لم يقم على أساس المذهبية التي تصدر عن عقيدة وإيمان، وبالتالي لم يكن لديهم «مثل عليا» بالمعنى الذي حددناه.
إننا أمة بغير مثل عليا، إن قادة الجيل الماضي — من غير رجال السياسة — لم يحملوا لمن يجيء بعدهم المشاعل، فجاء هؤلاء وهم يتخبطون في الظلام.