مزاجان
قدمنا في الفصل السابق أنَّ شعر جميل إذا قوبل بشعر عمر يبدو أنه أفحل وأجزل، وأنه أبلغ في الصناعة وأجمل، ثم قلنا: إنَّ هذا فيما يبدو لنا «التباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر لا يثبت على التمحيص».
ومن الحسن أن نعرض ببعض الوصف والتمييز لمزاج الشاعر الذي تتعلق به هذه الفحولة الفنية، فجملة ما يقال فيه — بسياق هذه المقابلة — أنه كان يحتاج إلى البأس والسيف في معيشته وعشقه، فهو بدوي يعيش مع آله في طريق تحميها الدولة، وتكل حمايتها أحيانًا إلى سكانها من أهل البادية؛ لأنها تتوسط بين الحجاز ومصر والشام، فمن واجبه — إن لم يكن من طبعه — أن يحمل السيف، ويعتز بالمنعة وصيانة الحوزة.
وهو إلى هذا عاشق مشغوف بامرأة واحدة لا تغنيه عنها امرأة غيرها، فلا بد له منها وإن حيل بينه وبينها ولا غنى له عن المجازفة والتقحم بالقوة في سبيلها.
ولم نسمع من أخبار عمر بن أبي ربيعة أنه احتاج إلى القوة مرة واحدة، بل علمنا من أخباره أكثر من مرة أنه تعرض لبعض الحسان وألحف عليهن بالتوسل والمطاردة، فرددنه حتى أعيتهن الحيلة معه، ثم ظهرن مع رجل من أوليائهن يتقلد السيف فتجاهلهن عمر، ومضى في طريقه، وقنع من الغنيمة بالذهاب. ثم تمثل المتمثلون:
ولا جرم يكون هذا شأن عمر وشأن حبه؛ فقد كان من أهل حاضرة يعيش فيها الرجل حياته كلها ولا تلجئه ضرورة يومًا إلى تقلد سلاح، وهو في معظم ما يرتاده من صويحباته طالب جلسة ومحادثة إن تيسرت فهي فكاهة ساعة ثم تنقضي إلى نسيان أو تسجلها قصيدة أو قصيدتان، وإن تعسرت فلا موضع للسيف في هذا الميدان، وغير هذه الحسناء كثيرات بين الحسان.
أما جميل فكان السيف فخره وفخر آله من قبيلة أبيه أو قبيلة أمه، ولم يفخر قط إلا تغنى بالمنعة وحماية الحرم والنساء، فمن قوله في هذا المعنى:
ومن قوله في أخواله جذام:
وتواترت الأنباء في قصة عشقه باقتحامه وقلة مبالاته بأهل عشيقته المترصدين لقتله، وقيل فيما قيل من ذلك أنه استدعاها يومًا وعلم أهلها فتجمعوا لمفاجأته، ثم جاءه من ينذره وينبئه بنبأ القوم فاستكبر الهرب، وقال لمنذريه: «والله ما أرهبهم، وإنَّ في كنانتي ثلاثين سهمًا والله لا أخطأ كل سهم منها رجلًا منهم. وهذا سيفي والله ما أنا به رعش اليد ولا جبان الجنان.»
وذكر الهيثم بن عدي فيما رواه صاحب الأغاني: «أنَّ جميلًا طال مقامه بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه، وواعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدثها طويلًا وأخبرها خبره بعدها. وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة الله إلا انصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي أن يلحقوك. فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنتِ وليصنعوا ما أحبوا. فلم تزل تناشده حتى انصرف.»
وغير هاتين القصتين كثير يردد ما فيهما من المغامرة والتحدي وقلة المبالاة، وقد تصح هذه القصص جميعًا أو يصح بعضها دون سائرها أو لا تكون فيها قصة واحدة صحيحة، ولكنَّ الحقيقة التي قصدنا إلى بيانها تبقى بعد ذلك قائمة في مكانها، وهي أنَّ حُبَّ جميل يتطلب مزاجًا فيه الجد والفحولة ولو كان «دور تمثيل» على مسرح من مسارح الفنون، فلو أننا تركنا الواقع جانبًا، وتخيلنا أنَّ جميلًا وعمر ممثلان في رواية مسرحية، يمثلان ما رُوي لنا من أخبارهما، لما استطعنا أن نخرج جميلًا إلى المسرح بغير سيفه، ولا وجدنا من حاجة إلى السيف في دور عمر وصويحباته.
فالمزاج هنا حقيقة فنية وإن لم يكن بالحقيقة الطبيعية، ولا يبعد أن يكون جميل شجاعًا مقتحمًا، كما جاء في بعض أنبائه، إلا أنه على ما نعتقد كان مستطيعًا أن «يمثل دوره» في مسرح الحياة بغير حاجة إلى شجاعة أكثر من الشجاعة الظاهرة، التي يتلبس بها الممثل أو تتلبس هي به إلى حين.
فقد كان يقتحم ويعلم أنه آمن، وكان يبقى حيث لا حاجة به إلى البقاء بعد افتضاح الأمر وانطلاق صاحبته؛ لأنه لا يخشى العاقبة إذا أدركه المتعقبون؛ إذ كان أهله أعز من أهل بثينة، وكان طالبوه يضعفون عن حرب قبيلته، ولا يقدرون على الدية إن رضي بها المطالبون بثأره، وهو نفسه قد ذكر ذلك في بعض قصائده:
فهو قد كان في حاجة إلى الاقتحام، ولكنه كان اقتحامًا سهلًا عليه موافقًا لحاله وحال بثينة وأهلها، فاقتحم ما أمن وسلم، وما كان الخطر من بثينة وأهل بثينة، فلما تجاوز ذلك إلى الخطر من مطاردة السلطان وإهدار بأمر الوالي الذي يقدر عليه وعلى قبيلته رجع إلى الأناة، وهرب إلى اليمن كما قيل.
وليس يطلب من جميل ولا من عاشق في موضعه أن يكافح السلطان بشجاعته وينهض للدولة ببأسه، فمن الجائز مع هذا أن يكون شجاعًا، وأن يترك دياره إلى اليمن إذا لم يكن له بد من زيارة بثينة فيقتل، أو من معالجة السلو وهو قريب منها فلا يطيق.
إلا أنه لم تكن به حاجة إلى أكثر من الشجاعة التمثيلية في دوره الحقيقي وفي روايته الواقعة، وهذه الشجاعة التمثيلية كافية لاصطباغ شعره بصبغة الفحولة التي تظهر فيه، ولا تظهر في شعر ابن أبي ربيعة.
أما إذا أعرضنا عن البحث في شجاعته لبيان هذا الفارق بينه وبين المتغزلين بالنساء عامة، واعتمدنا أن نعرفها لنعرفه على حقيقته، ونخلص إلى ناحية من نفسه قد تعين على فهمه وفهم عشقه وشعره، فالذي يلوح لنا أنه كان شجاعًا بين قومه ككل بدوي يشجع في حمى الجماعة وفي ذمار القبيلة، فإذا حاربوا حارب، وإذا اجترأ فإنما يجترئ بقلوب المئات والألوف من ورائه، ولكنه لا يخلو من رقة تقعد به عن النضال العنيف والمعارك الدامية، وفي بعض قوله ما يدل على ذلك؛ حيث يقول:
أو حيث يقول:
فلا هو للجهاد في غزوة ولا هو للجهاد في طلب ثروة، وليس كذلك الرجال الأقوياء الذين يحبون، فلا يشغلهم حبهم عن الجهاد حيث تنفتح أمامهم أبواب الجهاد، بل يكون حبهم مثيرًا للعزيمة، فيما طبعوا على اعتزامه من طلب المجد، أو طلب العلو على الأقران بالمال والجاه، ويبعد جدًّا أن يملك الهيام على أحد من هؤلاء عقله ووقته وهموم عيشه حتى يفرغ له ويعيا بأمره، ويرضى بالضياع كما رضي جميل.
وفي بعض أوصافه ما ينم على هذه الرقة الضعيفة فيه كما تنم عليها أخباره ودلالات شعره، فكان له مظهر يروع الناظر، ولكنه كان عرضة للنوبات التي تعتريه فجأة، وقد تدل على مرض في القلب والأعصاب، فذكر بعض أصحابه أنه كان جالسًا معه يحدثه «إذ ثار وتربد وجهه ووثب نافرًا مقشعر الشعر متغير اللون» حتى أنكره صاحبه.
فهذه حالة غير سليمة، ولعله مات بعلة من عللها قبل أن يمعن في الشيخوخة، فقد علمنا من شعره أنه عاش حتى شاب ولا تزال بثينة في سن العشق والجمال، ثم مات وهي كذلك لا تزال فتية، فكانت وفاته — ولا ريب — في كهولة دون الشيخوخة الفانية، وكانت لعلة من علل الضعف التي لا تدل على بنيان وثيق، وإن كان هذا لم يمنعه أن يجد في حب بثينة أقوى الجد في هذا المقام.