بعض أخباره
قابلنا بين جميل وعمر بن أبي ربيعة في أكثر من خصلة واحدة من خصال الفن والحياة؛ إذ الحقيقة أنهما متقابلان يوشك أن يتناظرا في جميع الخصال: بداوة وحضارة، وعكوف على محبوبة واحدة وتشبيب بجميع الحسان، وعاطفة تغلب فيها الحاسة الإنسانية حيث كانت، وعاطفة تغلب فيها حاسة الطبقة الاجتماعية التي منها الشاعر، وكلا الشاعرين صادق فيما يمثله أو فيما يحكيه.
وإنهما ليتقابلان في أخبارهما كما يتقابلان في تلك الخصال التي أشرنا إليها.
فأخبار عمر مفهومة من ديوانه؛ لأنه ينظم فحواها ولا يدع منها إلا بعض التفاصيل، وأخبار جميل تحتاج إلى الرواة والناقلين؛ لأن الذي نظمه منها في ديوانه قليل الغناء في باب الأخبار، وإنما يدل على سيرته من طريق التفسير والتعقيب.
واختلاف العاطفتين يتأدى بنا إلى علة الفارق بينهما في هذه الخصلة كما يتأدى بنا إلى علل الفوارق بينهما في جميع الخصال.
فابن أبي ربيعة كان له في كل يوم خبر وعلاقة، وكان همه الأكبر أن يتحدث إلى الحسان ويتحدث عن الحسان، فلا عجب في اتساع ديوانه للأخبار المنظومة التي هي متعته وهجيراه.
أما جميل فعاطفته خبر واحد، إن لم ينظم في الحنين والشكوى فلا نظم عنده، ولا تأتيه الأخبار التي ينظم فيها إلا حين يطرأ طارئ يغير مجرى تلك الحياة الرتيبة، كما قال حين خرج عليه أهل بثينة:
أو كما قال حين وقف متذكرًا على الأطلال:
ولا غنى مع شعره عن نتف من أخباره التي تناقلها الرواة، وهي مما يزكيه شعره ويثبته في الجملة، وإن عرضت له الزيادة والاختراع في التفصيل، وعلى هذا النحو هذه النخبة التالية من أخباره الكثيرة التي توخينا فيها الدلالة عليه، وتجنبنا التكرار فيما يشبه ما اخترناه.
(١) بين نظيرين
لقي عمر بن أبي ربيعة جميلًا في طريقه إلى الشام، فاستنشده من شعره فأسمعه من قوله:
ثم قال له: أنشدني أنت يا أبا الخطاب، فأسمعه قصيدته العينية التي أولها:
فلما بلغ إلى قوله:
فصاح جميل واستخذى وقال: ألا إنَّ النسيب أخذ من هذا، وما أنشد بعد ذلك حرفًا.
فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة حتى نسلم عليها. فامتنع جميل واعتذر بإهدار السلطان دمه إن وجدوه عندها، وأشار له إلى أبياتها. فتقدم عمر حتى وقف على الأبيات وتأنَّس حتى كلِّم. فقال: يا جارية! أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني، فخرجت إليه بثينة في مباذلها وهي تقول: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللائي يزعمن أن قتلهن الوجد بك، فانكسر عمر، ونظر فإذا امرأة أدماء طوالة.
(٢) بين الأستاذ وتلميذه
والتقى جميل وكثير فتذاكرا النسيب، فقال كثير: يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك:
فقال جميل: أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:
ثم بكيا قطعة من الليل وانصرفا.
(٣) جلتها أو لم تجلُها؟
كان أهل بثينة يأتمنون عليها عجوزًا منهم يقال لها: أم منظور، فجاءها جميل يسألها أن تريه بثينة، فقالت: لا والله، لا أفعل وقد ائتمنوني عليها. فتوعدها ليضرنها … قالت: المضرة والله في أن أريكها. فخرج من عندها وهو يقول:
فما كان إلا قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان فاتهموا أم منظور وهي تقسم لهم فلا يصدقونها!
وقيل في رواية أخرى: إنَّ مصعب بن الزبير أنشد هذين البيتين فقال: لوددت أني عرفت كيف جلتها؟ فأخبروه أنَّ أمَّ منظور هذه حية، فكتب في حملها إليه مكرمة، وسألها عن الجلوة فقالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة، وضفرت شعرها، وجعلت في فرقها شيئًا من الخلوق — أي الطيب — ومر بنا جميل راكبًا ناقته، فجعل ينظر إليها بمؤخر عينيه، ويلتفت إليها حتى غاب عنا. فأقسم عليها مصعب لتجلون امرأته عائشة بنت طلحة مثل ما جلت بثينة، ففعلت. وركب مصعب ناقته وأقبل عليها، وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينيه، ويسير حتى غاب عنهما … ثم رجع.
(٤) يتهمها ولا يُتهم بأمة
أشاع أهل بثينة أنَّ جميلًا إنما يتبع أمة لهم؛ ليدفعوا عنهم الوصمة ويصموه، فواعد جميل بثينة حتى لقيها ببرقاء ذي ضال، وتحادثا ليلًا طويلًا حتى أسحرا، فاقترح عليها أن ترقد فقالت: ما شئت! على أني خائفة أن نكون قد أصبحنا، فوسدها جانبه ثم اضطجعا ونامت، وانسل مستويًا على راحلته، وأصبحت في مضجعها، فرآها الحي راقدة عند مناخ راحلة جميل، وفي ذلك يقول:
(٥) لغة واحدة
قال كثير: لقيني جميل مرة فسألني: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي الحبيبة — أعني بثينة.
فسألني: وإلى أين تمضي؟
قلت: إلى الحبيبة — أعني عزة.
فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدًا من بثينة.
فاستحييت أن أرجع وعهدي بها الساعة، وألح قائلًا: لا بد من ذلك.
فسألته: متى عهدك ببثينة؟ فقال: في أول الصيف وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم، فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها، فلما أبصرتني أنكرتني، فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به، وعرفتني الجارية فأعادت الثوب في الماء، وتحدثنا حتى غابت الشمس، ثم سألتها الموعد، فأنبأتني أنَّ أهلها سائرون، ولم أجد أحدًا آمنه فأرسله إليها.
قال كثير: فاقترحت عليه أن آتي الحي، فأتمثل بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها، فوافقني، وخرجت حتى أنخت بالقوم، فسألني أبوها: ما ردك؟ قلت: ثلاثة أبيات عرضت لي، فأحببت أن أعرضها عليك، وأنشدته وبثينة تسمع:
فضربت بثينة جانب خدرها وقالت: اخسأ، اخسأ. فقال أبوها: مَهْيَم يا بثينة! قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية. ثم صاحت بالجارية ابغينا من الدومات حطبًا لنذبح لكثير شاة ونشويها له!
فقلت: أنا أعجل من ذلك، ورحت إلى جميل فأخبرته، فعلم أنَّ الموعد الدومات، وخرجنا حتى أتيناها، ثم جاءت بثينة مع بنات خالتها الثلاث، فما برحنا حتى برق الصبح، فما رأيت مجلسًا قط أحسن من ذلك، ولا رأيت مثل علم أحدهما بضمير الآخر.
(٦) خداع سهل
سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إنَّ جميلًا عندها الليلة! فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسًا حجرةً منها يحدثها ويشكو إليها بثه، ثم قال لها: يا بثينة! أرأيت ودي إياك وشغفي بك، ألا تجزينيه؟
قالت: بماذا؟
قال: بما يكون بين المحبين.
فأجابته مغضبة: يا جميل، أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدًا منه، ولئن عاودت تعريضًا بريبة لا رأيت وجهي أبدًا.
فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أو ما سمعت قولي:
فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها.
(٧) سكرة وصحوة
رصد جميل بثينة في نجعة لأهلها، حتى إذا صادف منها خلوة في ليلة ظلماء ذات غيم وريح ورعد، سكر ودنا منها وحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها، ففزعت وقالت: «والله ما حذفني في هذا الوقت بحصاة إلا الجن!» وفطنت بثينة فصرفتها ناحية من منزلها، وبقيت مع بثينة أمُّ الجُسَير أختها وأمُّ منظور. فقامت إلى جميل، فأدخلته الخباء معها وتحدثا طويلًا، ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه، فذهب النوم بهما حتى أصبحا.
وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها، فرآها نائمة مع جميل، فمضى لوجهه حتى خبَّر سيده.
ورأته ليلى أخت بثينة، وكانت قد عرفت خبرها وخبر جميل تلك الليلة، فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله، وبعثت بجارية لها تحذر صاحبتها، فجاءت الجارية فنبهتهما، وصاحت بثينة بجميل، وقد تبينت الصبح: نفسك! نفسك! وهو غير مكترث لتخويفها يتمثل لها بقوله:
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت متاع البيت، وأفهمته أنها إنما تسأله ذلك خوفًا على نفسها من الفضيحة لا خوفًا عليه.
ففعل كارهًا، ونامت هي كما كانت وإلى جانبها أمُّ الجسير. ثم أقبل زوجها، ومعه أبوها وأخوها يأخذ بأيديهما، ولا يشك في أنه سيطلعهما على ريبة كما أنبأه غلامه. فلما كشفوا الثوب إذا أمُّ الجسير حيث كانوا ينظرون جميلًا! فخجل الزوج، وصاحت أختها ليلى: قبحكما الله! أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور — تعني زوج بثينة — بكل قبيح؟
قال راوي القصة: وأقام جميل عند بثينة حتى أجنه الليل ثم ودعها، وانقطعا عن اللقاء إلى أن نُسيت القصة.
(٨) بين سلطانين
كان عامر بن ربعي بن دجاجة واليًا على بلاد عذرة، فشكا إليه أهل بثينة جميلًا وقالوا: إنه يهجوهم ويغشى بيوتهم وينسب بنسائهم، فأباحهم دمه إن وجدوه عندهم، ونجا جميل بنفسه إلى اليمن فلم يزل بها حتى عزل ذلك الوالي، وانتجع بنو عذرة ناحية الشام فارتحل إليهم.
(٩) بثينة تنقد
لقي جميل بثينة بعد تهاجر طال بينهما، فتعاتبا مليًّا، ثم قالت بثينة: ويحك يا جميل! أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول:
فأطرق طويلًا يبكي، ثم قال: بل أنا القائل:
فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى؟! أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعًا؟!
(١٠) خاتمة هوى
روى أيوب بن عباية قال: خرجت من تيماء في أغباش السحر، فرأيت عجوزًا على أتان، فتكلمت فإذا أعرابية فصيحة، فقلت: ممن أنت؟ قالت: عذرية.
فأجريت ذكر جميل وبثينة فقالت: والله إنا لعلى ماء لنا بالخباب وقد تنكبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز، وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثًا، فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم، فلم يبق غيري وغير بثينة، إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقاءنا. فسلم ونحن مستوحشون وجلون، فتأملته ورددت السلام فإذا جميل!
قلت: أجميل؟
قال: إي والله!
وإذا به لا يتماسك جوعًا، فقمت إلى قعب لنا فيه أقِط مطحون، وإلى عُكة فيها سمن ورُبٌّ فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت: أصب من هذا. فأصاب منه، وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماءً باردًا فشرب منه وتراجعت نفسه.
فقلت له: لقد بلغت ولقيت شرًّا فما أمرك؟
قال: أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرصة. فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم وأنا عامد إلى مصر. فتحدثنا ساعة ثم ودعنا وشخص، فلم تطل غيبته أن جاءنا نعيه، فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة:
وتحدث من شهد موت جميل بمصر أنَّ جميلًا دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئًا أعهده إليك! … إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبًا، ثم كل شيء سواها لك، وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة، فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلتي هذه واشققها، ثم اعلُ على شرف وصِحْ بهذه الأبيات:
إلى آخر الأبيات الثلاثة المتقدمة.
قال الرجل: فلما واريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتمت الأبيات حتى برزت إليَّ امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولًا وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دُجُنَّة وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني فقالت: يا هذا! والله لئن كنت صادقًا لقد قتلتني، ولئن كنت كاذبًا لقد فضحتني!
قلت: والله ما أنا إلا صادق، وأخرجت حلته. فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيًّا عليها ساعة، ثم قامت وهي تقول: