مقدمة
إنني بينما كنت ذات ليلة ضاربًا في أودية التأملات العقلية، وطائرًا على أجنحة الأفكار المتبلبلة في جو الهواجس والأحلام التخيُّلية، وإذا قد انفتح لدى أعين خواطري مشهد عجيب تلعب فيه أشباح الأعصار السالفة، وترنُّ في هوائه نغمات الشعوب الغابرة من وراء حجب التواريخ الخالدة؛ فرأيت ممالك العالم القديم تتعالى إلى أوج العظمة والكرامة، وترتقي إلى سدرة الآداب والتهذيب حيثما ينتهي مجد الإنسان النازل من الخليقة منزلة الأول من العدد.
فبينما كنت أرى المصريين مشتغلين بتهذيب الفلاحة والزراعة وتربية العلم وصناعة الأيدي، والآثوريين مجدِّين في اختراع ظرافة المشادات والأبنية، والفينيقيين آخذين بتوسيع المتاجر وشق عباب البحار وتقريب صلة الهيئة الاجتماعية؛ وإذا راية فارس مقبلة من بعيد حاملة شمسها الساطعة وأسدها الزائر، وهي تخفق على رءوس جيش عرمرمي يتموَّج فوق صهوات الخيول الصاهلة التي كلما كانت تضرب بحوافرها أديم الأرض، كانت تثير غبارًا يلقي وخط الشيب على هامة الزمان وينسج برده الأشهب لجسد التاريخ.
وهكذا لم يزل يتقدم ذلك الجيش الجرار تحت الراية الخافقة، إلى أن مدَّ بساط سطوته على كل أولئك الشعوب الذين كانوا يرفلون في حلل الثروة والنعيم؛ فأحنى كل ركبة لدى تلك النار الفارسية، وأهال كل قلب بطلعة ذلك الأسد السائد.
وما برحت دولة فارس ممتَّعة بتلك الأراضي المحروسة وذاك الغنى الوافر، حتى برزت عساكر مكدونية وأحدقت من كل جانب تحت بيارق الإقدام والبسالة، مثيرة لهب الحروب الهائلة، إلى أن ظفرت بجميع هاتيك الممالك، وأخمدت نار فارس، ولم يزل الصولجان المكدوني يفرع تقدمًا ونجاحًا، وميدان ملكِه يتسع بالسطوة والاقتدار إلى أن رأيت نسر الرومانيين صاعدًا من الشمال وهو يخفق بأجنحة النصر والظفر، منقضًّا على جميع ما امتلكه المكدونيون من تلك الممالك الواسعة والبقاع الشاسعة؛ وهكذا قد بسط جناحيه وخيَّم على العالم؛ فانتصب لدى أعيني حينئذٍ قوس النصر الروماني في وسط ساحة الدنيا، وعدت أرى جميع شعوب الأرض تتقاطر أفواجًا أفواجًا، وتمر تحت ذلك القوس العظيم إشارةً للخضوع والطاعة، وما برحت تلك الدولة العجيبة تمتد وتتسع بالغلبة والجبروت إلى أن انفطرت إلى شطرين عظيمين؛ فكان الأول شرقيًّا، والثاني غربيًّا، فأخذ ذاك يتعاقب بين ارتفاع وهبوط تحت رحمة الأقدار، وهذا يتشعب ويتفرع إلى جملة ممالك وولايات تحت اختلاف الأطوار، ولم تزل تحصحص لأعين فكرتي تلك الظواهر، إلى أن انفتح أخيرًا لدى أبصار بصيرتي باب رحبٌ مكتوب على قنطرته: «العقل يحكم» ومنه عاينت برية فسيحة جدًّا.
ولاح لي عن بُعد بيرق يخفق مقتربًا؛ فوضعت نظارة الاختبار وأمعنت النظر فرأيت مكتوبًا به «العلم يغلب»، وظهر لي حينئذٍ من ورائه جيوش التمدُّن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة والمعارف الكاملة، وهي تخطر متموجة بأنوار أسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية الإنسانية والخلوص المحض، ورأيت أمام هذه الجيوش المظفَّرة تتراكض ممالك الظلام مع كافة أجنادها، ناكصة على أعقاب القهقرة والانكسار، وهي تزاحم بعضها البعض إلى الهبوط في لجج العدم والاضمحلال حيثما لا حركة ولا صوت؛ وهكذا مدت دولة العقل قوتها على كل بقعة ومكان، وعم السلام على كافة المسكونة.
وبينما أنا مشمول بشمول هذه المرئيات التصوُّرية في هذا العالم الفكري، ثملٌ بما أشاهد في هذا المرسح الجديد الذي تتلامع به شموس هذا العصر الحديث، وإذ قد ظهر لي من وراء الأفق الغربي دخان كثيف مُدْلَهِمٌّ، وأخذت آذاني تسمع لغطًا آتيًا من بعيد يشبه لعلعة رعد شاسع، وكادت حينئذٍ نواظري تستلمح تلامُع أسلحة الحرب، وإذ داخلني روح العجب لما عاينت من المنقلب، نادتني أصوات الأخبار الشائعة قائلة: هو ذا العالم الجديد (أمريكا) قد رفض قبول شريعة التعبُّد؛ ولذلك قد نهض ضد هذه العادة الخشنة بالأسلحة والنار إذ لم يعد يحتمل وجود بقية لدولة التوحش على سطح الأرض، وها دخان المواقع يبرقع وجه السماء، وتموجات رعود المدافع تنفتح في كتلة الهواء. فعندما استوعبت هذه الحوادث ووفيت التمعن حقه؛ تلاعبت يد الاضطراب في جهاز الحياة، ومالت الأعضاء إلى الارتياح، ولم أزل فريسة ترتعد بين مخالب تلك الانفعالات إلى أن أخذتني سِنة المنام، وانفتح لدى أعيني مرسح الأحلام.