(١) الدولة النبطية
قامت هذه الدولة في جنوبي الشام وشمالي شبه جزيرة سيناء، وكان اليونان يسمونها
الدولة العربية الحجرية
Arabia Petro، وأول مَن سكن
تلك الديار من العرب هم «الحوريون» الذين كانوا يسكنون الكهوف، وهم الذين يسميهم
اليونان «تروغلوديت
Troglodytes»، وكانوا على جانب
عظيم من القوة؛ ينحتون من الجبال بيوتًا، ويتخذون الكهوف مساكن وهياكل، وليست لدينا
معلومات مفصَّلة عن تاريخهم وأحوالهم السياسية والعلمية.
١
وقد انقرضوا وضاعت أخبارهم، وخلفهم في تلك الديار «الأدوميون»؛ وهم من أبناء
أدوم، وهو عيصو بن إسحاق — عليه السلام — بعد أن غلبوهم، ولا نعرف بالضبط الزمان
الذي استولوا فيه على ديارهم، إلا أن في التوراة إشارات إلى ذلك؛ ففي سفر التكوين
٢ آيات تدل على أن هؤلاء الأدوميين قد حاربوا الإسرائيليين في عهد الملك
شاوول (طالوت)، وكان ذلك في القرن العاشر ق.م، ولكن طالوت لم يستطع التغلُّب، فلما
تولَّى أمر بني إسرائيل «داود» — عليه السلام — حمل عليهم، وأغار على بلادهم وأخضعهم،
ورجع إلى فلسطين بعد أن أقام في بلادهم حاميةً، ولكن زعيم الأدوميين جمع قُواه، وأراد
التخلُّص منهم، وإقصاء النفوذ اليهودي فلم يُفلِح. قال جرجي زيدان: «وهمَّ قائد من
الأدوميين في عهد سليمان بخلع الطاعة فلم يفلح، فما زالوا تحت سيطرة الإسرائيليين
إلى أيام «يهو شافاط» فحالفوا أعداءه، وأعانوهم على حربه، فلم يفوزوا، ولكنهم
اغتنموا ضَعْف الإسرائيليين، وعادوا إلى الاستقلال … حتى إذا حمل نبوخذ نصر على
أورشليم كان الأدوميون عونًا له على أهلها، واشتركوا في نهبها وذبح أهلها؛ فكافأهم
نبوخذ نصر على نصرته بتأييد سلطتهم في أدوم وتوسيعها إلى حدود مصر وشواطئ البحر
المتوسط …»
٣ فقوي منذ ذلك الحين نفوذهم، وأخذوا يتوسَّعون حتى بلغوا حوران ودمشق
وحدود العراق ومصر، ولكنهم فُوجِئوا بزحف إخوانهم الأنباط على ديارهم، فتفاهموا
وإياهم، واندمجوا في صفوفهم، وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد.
وبهذا الاندماج تم تأليف الدولة النبطية القوية التي ظلت إلى أوائل القرن الثاني
للميلاد، حين استولى الرومان عليها في سنة ١٠٦م، فأصبحت خاضعة لنفوذهم.
وقد خلَّفت دولة الأنباط هذه حضارةً عريقة وعمرانًا، وكانت عاصمتهم مدينة سلع
(بطرا – البتراء) في وادي موسى عند ملتقى الطرق التجارية بين تدمر وغزة وأورشليم،
واليمن والخليج العربي.
وما تزال أطلال هذه المدينة الجبارة، وبخاصة في «الحجر»، شاهدًا على ما بلغه أهلها
من الرُّقِي العمراني والهندسي والفني، وأجلُّ هذه الأطلال القصرُ المعروف اليومَ
ﺑ «خزينة فرعون»؛ وهو بناء شامخ منقور في الصخور ذات اللون الوردي البديع، وقد نُقِشت
واجهةُ هذا القصر نقشًا بديعًا، وزُيِّنت بالكتابات النبطية الجميلة،
٤ وأقيم إلى جانب القصر مدرج صخري كان يُتَّخذ مسرحًا للألعاب العامة،
يذكِّرنا بمسارح روما وأثينا. ومن آثارها أيضًا «قصر الدير» وهو كهف ضخم بارع
الهندسة، كثير النقوش، غني الزخارف.
وقد ظلت عاصمتهم «سلع» مركزًا تجاريًّا عظيمًا بين الشرق والغرب والشمال والجنوب
منذ عهد ملكهم الحارث الأول الذي حكم من سنة ١٦٩ق.م. إلى عهد آخر ملوكهم مالك الثالث،
الذي حكم إلى سنة ١٠٦م،
٥ وفي تلك السنة جرد الإمبراطور تراجان إمبراطور الرومان حملة على الدولة
النبطية؛ فخضعت لنفوذه من ذلك الحين.
وقد وصف المؤرخ ديودوروس الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد هؤلاء القوم، وما
كانوا عليه من حضارة، وما شاهده بنفسه في ديارهم فقال: «إن الأنباط يعيشون في
البادية الجرداء التي لا أنهار فيها ولا سيول ولا ينابيع، ومن أمهات قوانينهم: منع
زراعة الحبوب أو استثمار الأشجار، وتحريم الخمر، وبناء المنازل، ويعاقبون مَن يخالف
ذلك بالقتل مع التشديد في العمل بهذه القوانين، ويقتات بعضهم بلحوم الإبل وألبانها،
وبعضهم بالماشية أو الغنم، وإنهم يشربون الماء المُحلَّى بالمن، ومنهم قبائل عديدة
تقيم في البادية، ولكن النبطيين أغنى تلك القبائل، وإن كان رجالهم لا يزيد عددهم
على عشرة آلاف، وثروتهم من الاتِّجار بالأطياب والمر وغيرهما من العطريات يحملونها من
اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر الأبيض المتوسط، ولم تكن تمر تجارة في أيامهم
بين الشرق والغرب إلا على يدهم، ويحملون إلى مصر — على الخصوص — القار لأجل
التحنيط، وهم ضنينون بحريتهم؛ فإذا دهمهم عدو يخافون بطشه فرُّوا إلى الصحراء، وهي
أمنع حصن؛ لأنها خالية من الماء، فلا يدخلها سواهم إلا مات عطشًا، أما هم فيشربون
من صهاريج سرية مربَّعة الشكل منقورة في الصخر تحت الأرض يُخزِّنون الماء فيها …»
٦
وكان للقوم عناية شديدة بالآداب من شعر ونثر وحكمة، وكانوا يعظِّمون الشعراء وأهل
المعرفة، ولكن آثارهم قد ضاعت، وإن كانت النقوش الحجرية التي أبقَوْها تدل على شيء من
ذلك.
أما لغتهم فهي اللغة العربية، ولا تكاد تختلف عنها، وبخاصة عن لغة الشعر الجاهلي
إلا قليلًا، على ما تقتضيه سُنن النشوء والارتقاء، إلا أنهم لم يكونوا يكتبون
بالحروف العربية، وإنما كانوا يكتبون بحروف أبناء عمومتهم الآراميين؛ لأن حروف
هؤلاء كانت أشهر.
٧
وقد خلَّفوا مدنًا خالدة أجلُّها سلع، وتُسمى بطرا والبتراء، وهي عاصمتهم، وموقعها
بين بحيرة لوط والبحر الأحمر،
وفيها آثار عريقة تبين عن مقدار المدنية النبطية، وبخاصة مدافنها ومعابدها
ومعاهدها.
ومن مدنهم الغنية التي بقيت عامرة إلى العصور المتأخرة؛ مدينتا بصرى الشام،
وصلخد، وكانت هذه المدن حصونًا وملاجئَ ومخازنَ لتجاراتهم الكبيرة.
(٢) الدولة الثمودية
قامت الدولة الثمودية في فجر الألف الأول قبل الميلاد من شمالي الحجاز إلى جنوبي
ديار الأنباط، وقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من تاريخهم وأحوالهم، فقال تعالى:
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ
مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَذِه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي
أَرْضِ الله ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ الله وَلَا تَعْثَوْا
فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ *
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ … إلخ
تلك الآيات
٨ التي تدل على أن القوم كانوا أشدَّاء ذوي حضارة وبناء ونِعَم وآلاء، وقد
ظل تاريخ الثموديين مجهولًا حتى قامت حركة الاكتشافات والتنقيبات الأثرية في القرن
التاسع عشر، فأثبتت أن سلطانهم كان ممتدًّا من جنوبي الشام إلى ساحل البحر الأحمر،
وأنهم كانوا ذوي حضارة وعلم ورُقِي، واهتمام كبير بشئون التجارة ونقلها من ممالك
جنوب العالم المتمدِّن القديم إلى ممالك الشمال الممقدنة، وقد عُثِر على كتابات
ثمودية يرجع تاريخها إلى القرن السابع ق.م. في اليمن والحجاز ونجد.
٩
ولكن معلوماتنا — مع الأسف الشديد — عن هؤلاء القوم جد قليلة، فإن النقوش الكثيرة
التي اكتُشِفت لا تدلنا مع أهميتها على أحوالهم السياسية، وإنما تدل على أحوالهم
الشخصية والدينية والاقتصادية واللغوية، وقد قسَّم علماء الآثار هذه الآثار
المكتوبة بالقلم الثمودي إلى قسمين:
- الأول: المكتوب باللسان الثمودي القديم.
- والثاني: المكتوب باللسان الثمودي الحديث.
وقد درس علماء المشرقيات هذه اللغة دراسة دقيقة، وأثبتوا أنها كانت لغة رفيعة في
نحوها وصرفها وآدابها، وأنها كانت متناشرة بالخطين المسند الجنوبي، والآرامي الشمالي،
١٠ وقد كان الثموديون خلفاء لقوم عاد الذين سكنوا ديارهم، وضاعت عنا
تفصيلات أخبارهم، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، وقال إن الله سبحانه قد أحلَّ
الثموديين محلَّ قوم عاد لمَّا طغَوْا وعبدوا الأصنام، وخرجوا عن طاعة الله، واستبدُّوا
فبوَّأهم وأعزهم حتى بلغوا درجةً رفيعة في الحضارة، وشيَّدوا القصور في السهول،
ونحتوها في الجبال.
وقد عبد الثموديون الأصنام وألَّهوها، ومن أصنامهم المشهورة «ود» الذي أشار إليه
القرآن الكريم، وقد كانت له مكانة رفيعة عند جميع قبائل العرب الشمالية والجنوبية،
والظاهر أنه كان من الآلهة القديمة جدًّا، ولعله كان من آلهة العرب العُظمى في
الألف الثاني قبل الميلاد، وذهب المستشرق الألماني البروفسور هومل إلى أنه هو الإله
«هدد» أو «أدد» الذي عُبد في الشمال أيضًا، وأنه هو القمر، وقد ظل هذا معبودًا إلى
ما بعد ظهور الإسلام عند العرب الجاهلية حتى حطَّمه الإسلام، ومن أصنامهم أيضًا
الإلهة «شمس» التي كانوا يعبدونها، وقد كانت معبودة أيضًا في الشمال عند البابليين،
وفي الجنوب عند اليمنيين، ومن أصنامهم أيضًا الآلهة «مناف» و«مناة» و«كاهل» و«بعلت» و«يهو».
١١
والحضارة الثمودية حضارة تتجلى اليومَ أكثر ما تتجلى في آثارها الكتابية وخطوطها،
وبخاصة الخط المتأثِّر بالخطين المسند والآرامي، أما عدا الآثار الكتابية وبعض
الآثار العمرانية فإنها تكاد تكون مجهولة حتى الآن.
وقد خلَّفوا مدنًا خالدة، أجلُّها «الحجر»، وهي مدينة عظيمة جنوبي مدينة تيماء، وعلى
بُعد يوم من وادي القُرى، ويُقال
لها اليوم: «الخريبة» و«فج الناقة»، وهي التي يسميها بطليموس بدنتا Badanta، ولما احتل سرجون الثاني بلاد العرب في سنة
٧١٥ق.م. احتلها وأراد تهديمها، ولكنه لم يتمكن، ثم تركها بعد أن جلا عن البلاد
العربية جمعاء.
وقد ظل الثموديون معروفين إلى القرن الخامس للميلاد، فقد ورد في بعض المصادر
التاريخية الرومانية أن الجيش الروماني في هذا القرن كان يحتوي على فرقة عُرِفت باسم
الثموديين، وأنها كانت من سكان تلك المدينة.
١٢
وصفوة القول أن تاريخ ثمود ما يزال بعدُ غامضًا، ولكن التنقيبات الأثرية
المستقبلة تكشف لنا عن الكنوز المدفونة المجهولة عن تاريخهم.
(٣) المملكة الجنوبية
قامت المملكة في فجر القرن التاسع قبل الميلاد جنوبي شرقي دمشق، ولا نكاد نعرف
شيئًا مُفصَّلًا حقيقيًّا عن هذه المملكة ولا عن أحوالها السياسية، وإنما تذكر
المصادر التاريخية أن ملك آشور «شلم نصر» لما زحف إلى سوريا وأراد احتلالها، تجمَّع
ملوكها وأمراؤها بزعامة الملك بر أردي
١٣«بن هدد» الثاني ملك دمشق الآرامي؛ للوقوف في وجه الملك الآشوري، وكان
من بين هؤلاء الملوك «جنديبو ملك عريبي»؛ أي جنوب ملك العرب، ولما انتصر «شلم نصر»
على خصومه هؤلاء، ودمَّر ديار الشام وبخاصة مدينة قرقر الواقعة شمالي حماة؛ سجَّل
هذا الانتصار، وصار في ذلك التسجيل ذكر اسم اثني عشر ملكًا كان ملك دمشق الآرامي
استغاث بهم لنصرته على شلم نصر، وكان من بينهم ابن «جنديبو»، ولكن الملك «بن هدد»
لم يستكن للآشوريين، وظل يقاومهم حتى غلبهم، واستطاعوا أن يحتلوا سوريا ثانية في
عهد «تكلات بيلاسر الأول» ٧٤٥–٧٢٧ق.م،
١٤ وهذه أول مرة نجد في الوثائق والآثار التاريخية لفظ: «عربي» أو «عرب»
أو «عريبي».
يقول المحقق الدكتور جواد علي في الفصل القيِّم الذي ذكر فيه صلات العرب
بالآشوريين: إن أول إشارة إلى العرب وردت صراحةً في النصوص هي الإشارة التي وردت في
كتابات الملك سلمناصر (شلم نصر الثالث) ملك آشور، عن معركة قرقر التي وقعت حوالي سنة
٨٥٣ق.م، فقد قاد هذا الملك في السنة السادسة من حكمه حملةً على ملك دمشق الآرامي،
وعلى حليفيه آخاب ملك إسرائيل، وجنديبو Zundibu
جندب ملك عريبي (أريبي) الذي انضم إلى صاحبيه، وقدَّم إليهما ألف جمل، واشترك في
الحرب. انتصر شلم نصر الثالث كما يظهر من كلماته التي سجَّلها لهذه المناسبة على
ملك دمشق وعلى حلفائه، فأحرق ودمَّر مدينة قرقر ودكَّها دكًّا، وأوقع بالجيوش
الحليفة خسائر كبيرة، وقد جاء في كتابته ذكر اثني عشر ملكًا استقدمهم ملك دمشق
لمعونته، وملك دمشق الذي ألَّف الحلف للوقوف في وجه الآشوريين هو الملك بيرادري Biridri المعروف في التوراة باسم بنهدد Ben Hadad الثاني، وقد هاله توسُّع الآشوريين، وتدخلهم
في شئون الممالك الصغيرة والمشيخات، ودخولهم مملكة حلب التي خشيت المصير السيِّئ
الذي لاقته المدن والممالك التي قاومت جيوش شلم نصر الثالث؛ فقررت الإذعان للأمر
الواقع وتأدية الجزية والاعتراف بسيادة آشور عليها، فعزم على الوقوف أمام
الآشوريين، وتأليف حِلف من الملوك السوريين ومشايخ البادية؛ لدرء هذا الخطر الداهم
من اثني عشر ملكًا من ملوك سوريا إليه، وهم في الواقع مشايخ إقطاعيُّون وأمراء مدن
انضم إليهم ملك حماة الذي جثم الخطر أمام مملكته، وأحآب ملك إسرائيل، وأمراء
الفينيقيين ومشايخهم، وجندب ملك العرب الذي أمَّن الحِلف بألف جمل؛ فأغرقت هذه القوة
سبيل الآشوريين … أما النصر فكان حليف شلم نصر، انتصر عليهم على حدِّ روايته بسهولة
ويُسر، وأوقع فيهم ١٤٠٠٠٠ إصابة أو ٢٥٥٠٠ على رواية أخرى، وغنِمَ منهم غنائم
كثيرة، وتفرَّق الشمل …
تبيَّن من كتابة سلم نصر هذه أن الملك أحرز انتصارًا باهرًا
حاسمًا على الحلفاء، وأنه أوقع بينهم خسائر جسيمة، غير أن أخبار الحروب التي قام
بها فيما بعدُ على سوريا ومقاومة «بنهدد» له مرارًا، كل هذه لا تؤيِّد أقوال ملك آشور
في جسامة الخسائر وفي النصر الحاسم العظيم على الآراميين ومَن انضم إليهم من مشيخات
ورؤساء، وعلى المؤرِّخ الحديث ألَّا يثق بهذه الأرقام والكتابات التي يُسجِّلها
الملوك عامةً عن انتصاراتهم وأعمالهم، فقد عوَّدنا الملوك تدوين المبالَغات
والزيادات في أخبارهم، والغض من تدوين أخبار الانتكاسات أو الهزائم التي تقع بهم …
و«جنديبو» الذي ملك دمشق وحلفاءه بألف جمل هو أول ملك «عربي» يصل إلينا خبره،
وجنديبو هو «جندب»، وجندب من الأسماء المعروفة عند الإسلاميين، ومهما يكن من أمرٍ
فإن جندبًا هذا كان من الملوك الأقوياء الذين شادوا مُلكًا في الجنوب الشرقي من
مملكة دمشق على ما يُحدِّثنا به المؤرِّخ موزيل النمسوي الذي جاب البادية العربية،
واتَّصل بأعرابها اتَّصالًا قويًّا، وعرف أخبارهم، وأخبار ديارهم، وعُرِفَ بينهم
باسمه الشيخ موسى الرويلي؛ لأنه أقام طويلًا في قبائل الرولة، فعُرِف بهم …
١٥
ولم يكن جندب هذا هو الملك «العربي» الوحيد الذي ورد اسمه في الحملات التي قام
بها الملوك الآشوريون على الشام، وإنما هناك اسم لملكة عربية تسميها المصادر
القديمة زبيبى (زبيبه)، وإنها كانت ملكة أرض «عريبي»، وإنها اضطرَّت أن تدفع الجزية
أيضًا للملك «تكلات بيلاسر الثالث» لما زحف إلى سوريا في سنة ٧٣٨ق.م. كما نجد اسم
ملكة عربية أخرى اسمها «شمسة» في تسجيل زحفه على سوريا في سنة ٧٣٢ق.م، وإن هذه
الملكة قد عُوقِبت عقابًا شديدًا من قِبَل الآشوريين؛ لأنها حنثت بيمينها ألَّا تتعرَّض
للآشوريين، ولكنها حنثت، وكفرت بالعهد الذي قطعته على نفسها، فاستولى الملك الآشوري
على ديارها، وأخذ منها الجزية، وأقام في ديارها مندوبًا عنه الأمير كيبو
Kepu، وكان هذا المندوب يرسل تقارير عن حالة هذه
الملكة إلى الحاكم الآشوري العام الذي أقامه الآشوريون في سوريا، ويذكر النص
الآشوري الذي تحدث عن هذه الحملة: أن الملكة شمسة قد أُصِيبت بخسائر فادحة جدًّا، وهي
مائة ألف رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألفًا من الماشية، وقد صُوِّر على اللوحة التي
ذُكِر فيها هذا الخبر منظرُ فارسَين آشوريَّين يحملان رمحَين يتعقبان بدويًّا راكبًا
جملًا، وتحت أقدام الفارسَين وأمامهما جثث القتلى من العرب قد صُوِّروا بشعورهم
الطويلة المعقوصة إلى الخلف، ولحاهم الكثَّة، وأجسامهم العارية إلا من مئزر يستر
عورتهم، وقد حرص الفنان الآشوري على تصوير العربي الراكب قريبًا من الفارسَيْن، وهو
يمد يده اليُمنى إليهما متوسِّلًا، وصُوِّرَت الملكة شمسة حافية ناشرة شعرها، تحمل
جرَّة، وقد أضناها الجوع، وخارت قُواها.
١٦
والخلاصة أن تاريخ هذه الأسرة ما يزال غامضًا، فلعل الحفريَّات القادمة تكشف
شيئًا حقيقيًّا عن تاريخها.
(٤) مملكة تيماء
إن تيماء هي على الطريق التجاري الذي كان يقع بين مدن العرب التجارية في الجنوب
والمدن التجارية في الشمال، وقد ذُكِر في التوراة «تيماء» على أنه اسم أحد أبناء
إسماعيل الاثني عشر،
١٧ وبه سُمِّيت المدينة التي سكنها هو وأبناؤه من بعده، وعُرِف أهل هذه
المدينة بالتجارة منذ القديم، وكانت لأهلها علاقات تجارية قوية مع أهل سبأ كما
يُفهَم من أقوال التوراة: «نظرت قوافلُ تيماء سيارة سبأ رَجَوْها، خزوا فما كانوا
مطمئنين، جاءوا إليها فخجلوا، فالآن قد صرتم مثلها رأيتم خربة ففزعتم.»
١٨ وكان إلى جانب تيماء هذه مدينة أخرى تُذكَر كثيرًا معها في التوراة، وهي
مدينة «ددان»، وهي المعروفة اليوم بالعلا،
١٩ وأنها كانت تتاجر مع مدينة صور عاصمة الفينيقيين بالعاج والآبنوس
وطنافس الركوب.
٢٠
أما المصادر العربية فتذكر تيماء على أنها بُليدة معروفة في الجاهلية وصدر
الإسلام، يقول ياقوت: تيماء بُليدة في أطراف الشام بين الشام ووادي القُرى على طريق
حاج الشام ودمشق، والأبلق الفرد حصن السموأل بن عادياء اليهودي مشرف عليها، فلذلك
كان يُقال لها تيماء اليهودي … ولما بلغ أهل تيماء في سنة ٩ للهجرة وطْءُ النبي
وادي القُرى، أرسلوا إليه وصالحوه على الجِزية، وأقاموا ببلادهم وأرضهم، فلما أجلى
عُمَرُ اليهودَ عن جزيرة العرب أجلاهم معهم، وقال الأعشى:
ولا عاديا لم يمنع الموتَ مالُه
ووِرد بتيماء اليهود أبلق
وقال بعض العرب:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني
بتيماء تيماء اليهود غريب
٢١
فهذا يذلك على أنها في الجاهلية كانت بلدًا يهوديًّا سكنه اليهود أو متهوِّدة
العرب.
وأما المصادر التاريخية القديمة فتحدِّثنا أن الملك «بنويند» ملك بابل (٥٥٥–٥٣٨ق.م.)
قد قدِمَ ديار العرب، واتخذ تيماء مقرًّا له في سنة ٥٥١ق.م.
٢٢ بعد أن قتل ملكها، وفتك بأهلها، وجعل لنفسه قصرًا فيها، كالقصر الذي
بناه ببابل،
٢٣ وقد أقام بنويند في قصره هذا مدةً من الزمن، ثم اضطره الملك قورش أن
يترك ديار العرب حوالي سنة ٥٣٩ق.م، فلا شك في أن هذه الإقامة التي أقامها بنويند في
تيماء قد قوَّت الصلاتِ بين البابليين وأهل تيماء، كما أنها نقلت إليهم كثيرًا من
الثقافة والديانة والحضارة البابلية، ولا ريب في أن الدافع الذي دفع الملك بنويند
إلى احتلال هذه المدينة وما إليها، واتخاذه إياها عاصمة لملكه بدل عاصمته في وادي
الرافدين — بابل — هو ما كانت تتمتع به من مكانة تجارية هامة في الشرق كله، فضلًا
عن مكانتها السياسية وموقعها الحربي المهم من مدن الشرق والغرب.
(٥) دول الحجاز وتهامة ونجد
أقدمُ ما عثرنا عليه في المصادر الموثوقة عن تاريخ تحضُّر الحجاز هو ما تذكره
المصادر العربية القديمة من أن قلب الجزيرة العربية كانت تسكنه بعض القبائل من
العرب العرباء المعروفين ببني جرهم، وأن إسماعيل بن إبراهيم وأمه هاجر قد هاجرا من
فلسطين في القرن التاسع عشر ق.م. إلى الحجاز، وتختلف المصادر العربية والتوراة في
المكان الذي قصداه بعد أن هاجرا من فلسطين؛ فالتوراة تقول إنهما خرجا حتى بئر
السبع، وإنه قد نفد ما عندهما من الماء، وكادا أن يموتا عطشًا، فهدى مَلَك الله
هاجرَ إلى بئر فملأت القربة، وسقت ابنها، وإن إسماعيل شبَّ في برية فاران،
٢٤ والمصادر العربية تقول إنهما قد قصدا الحجاز، وإن برية فاران هذه ليست
إلا مكة، وإن إسماعيل — عليه السلام — شبَّ بين قبيلة جرهم، وتعلَّم من أبنائها
العربية، وأعجبهم فزوَّجوه رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وإن الماء الذي اهتدت
إليه هاجر إنما هو بئر زمزم في مكة المكرمة، وإن إسماعيل بن إبراهيم قد ولد اثني
عشر ولدًا منهم نابت (نبيت) وقيدار، وهما أبوا العرب المستعربة.
يقول جرجي زيدان بعد أن ذكر قصة سَفر إسماعيل وأمه: «يؤخذ من القرائن التي تقدَّمت
أن عرب الشمال في الطور الثاني، تتصل أخبارهم بأقدم تاريخ تلك الجزيرة، ولا سيما
إذا اعتبرنا حكاية إسماعيل تاريخية، وعددناها بدء تاريخ جديد لأولئك العرب؛ لأن
الإسماعيلية يبدأ تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ومع ذلك فليس لدينا من
أخبارهم القديمة ما يُعوَّل عليه، كأن هؤلاء العرب كانوا في سُبات لم يستيقظوا إلا
حوالي التاريخ المسيحي، والغالب أنهم كانوا خاملي الذكر؛ لأنهم لم يُنشِئوا دولًا،
وكانت دول العرب الأخرى في اليمن ومشارف الشام والعراق وغيرها تستخدمهم في نقل
التجارة على القوافل بين ممالك ذلك التمدن، ويعبِّرون عنهم تارةً بالإسماعيلية، وطورًا
بقيدار أو غيرهما …»
٢٥ وقول زيدان هذا لا يعتمد على نصوص منقولة، وإنما هو بحث شخصي، فلماذا
لا نعتبر قصة هجرة إسماعيل قصةً تاريخية واقعية جاءت بها التوراة ثم القرآن،
وأثبتتها المصادر العربية القديمة، وأن فاران التي ذكرتها التوراة ليست إلا اسمًا
من أسماء مكة، أو هي على الأصح اسم جبل مكة، قال ياقوت: «فاران كلمة عبرانية
مُعَرَّبة، وهي من أسماء مكة ذكرها في التوراة، وقيل هو اسم لجبال مكة.» وقال ابن
ماكولا أبو نصر بن القاسم بن قضاعة القضاعي الفاراني الإسكندراني: «سمعت أن ذلك
نسبة إلى جبال فاران، وهي جبال الحجاز.» وفي التوراة: «جاء الله من سيناء، وأشرق من
ساعير، واستعلن من فاران»، ومجيئه من سيناء: تكليمه لموسى، وإشراقه من ساعير — وهي
جبال فلسطين — هو إنزاله الإنجيل على عيسى، واستعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن.»
٢٦
فهذا يدل على أن فاران هي مكة أو جبالها، وقد وفَّق بين الروايتين جرجي زيدان،
حيث يقول: «فالتوراة تقول إنه برية فاران، أو جبل فاران، وكلاهما عند العقبة شمالي
جزيرة سيناء، والعرب يقولون إنه مكة بالحجاز، ويسهُل تطبيق الروايتين متى علمنا أن
جبال مكة أو جبال الحجاز تُسمَّى أيضًا فاران، فيكون المراد أن البرية التي أقام فيها
إسماعيل برية الحجاز، أو أنه أقام حينًا في سيناء، ثم خرج إلى الحجاز، وسكن هناك
وتزوَّج، والتوراة لم يذكر إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفْنَه هناك
على عادتها من الاختصار فيما يخرج عن تاريخ أمة اليهود وأديانها، وليس لدينا مصادر
أخرى تُنافي هذه الرواية أو تؤيدها، ولا فائدة من الأخذ والرد فيها، فنتركها،
ونُعوِّل على الثابت من أخبار عرب الشمال، أو المتواتر الذي لا يخالف العقل أو
النقل …»
٢٧
والعرب من قحطانيين وعدنانيين قبل الإسلام وبعده ما زالوا يعتقدون أن إبراهيم هو
أبو العرب، وأن ابنه إسماعيل هو جدهم، وأنهما قد بنيا الكعبة، ففي القرآن الكريم:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ
مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ،
٢٨ وتجمع المصادر العربية على أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، وأن ابنه
إسماعيل قد تزوَّج من جرهم التي كانت تتولَّى سدانة الكعبة، والتي ظلت السدانة فيها
حِقَبًا طويلة إلى أن انتزعتها خزاعة منها، ثم انتقلت السدانة إلى قريش.
٢٩
وقد كان لهؤلاء العرب المستعربة الذين وُلِدوا من أم عربية هي السيدة رعلة بنت
مضاض بن عمرو الجرهمية، ومن أب هو النبي إسماعيل بن الخليل إبراهيم؛ أعمال جليلة في
إقامة مشيخة سامية ترعى الكعبة وتؤمِّن سُبل الحج إليها، كما تؤمِّن طريق التجارة،
وتعمل على إقامة مدن وقُرى في ذلك الوادي المقفر غير ذي الزرع، كما أنهم كانوا
يعملون على نقل التجارة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وقد ضاعت تواريخ هؤلاء
القوم؛ لأن العلماء لم يقوموا بعد بدراسات أثرية أو علمية صحيحة في الحجاز، كما
قامت الدراسات في اليمن والعراق والشام ومصر، ولا شك في أن التنقيبات الأثرية ستكشف
حين وقوعها عن آثار حضارة لا تقل عن حضارات الجنوب والشمال، وليس لدينا اليوم من
المصادر التي يمكن أن يُعتمَد عليها في تفهُّم تاريخهم إلا التوراة والقرآن، أما
القرآن فمعلوماته جد قليلة؛ لأنه لم يهتم بالنواحي التاريخية، وإنما اهتم بالنواحي
الدينية وما إليها، وأما التوراة فمعلوماتها عنهم تكاد تنحصر فيما يلي: ذكَرَ سفر التكوين
شيئًا عن نَسَب أولاد إسماعيل، كما أشرنا إليه آنفًا، وقلنا رأينا
فيه، كما ذَكَر أيضًا قصة يوسف وإخوته، وأنهم «أخذوه وطرحوه في البئر، وأما البئر
فكانت فارغة ليس فيها ماء، ثم جلسوا ليأكلوا طعامًا، فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا
قافلة إسماعيليين مُقبِلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كثيراء وبلسانًا ولاذنًا ذاهبين
لينزلوا بها إلى مصر.»
٣٠ وكان هذا الحادث في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهؤلاء الإسماعيليون
الذين أشارت إليهم التوراة، ثم الذين كانوا قادمين من ديار العرب إلى مصر للتجارة،
وأنهم الذين اشتروا يوسف وباعوه بمصر كما هو معروف، وتذكر التوراة أيضًا في سفر القضاة
بعد هذا الحادث بنحو ستة قرون هؤلاء الإسماعيليين وتسميهم: «بني المشرق»،
٣١ وتذكرهم بعد ذلك بخمسة قرون في سفر أشعياء باسم «قيدار» بن إسماعيل،
وتتنبَّأ بأن مجدهم سيزول،
٣٢ ومنذ عهد أشعياء تذكر التوراة أن الإسماعيليين قد انقسموا قسمين:
«أحدهما» بنو قيدار (قيذر)، والثاني بنو بنيت (بنايوت)، وبعد عهد أشعياء بقرن ونصف،
حوالي القرن السادس قبل الميلاد — أيْ في عهد أرمياء — جاء الملك نبوخذ نصر، واكتسح
ديار العرب، وغلب بني إسماعيل (أو بني المشرق)، وقد جاء هذا الجزء في التوراة على
سبيل التحذير والوعظ مما أصاب أهل دمشق وحماة وبلاد العرب من النبلاء بسبب عصيانهم
«… ارتجَّت دمشق، والتفتت للهرب، أمسكتْها الرعدة، وأخذها الضيق والأوجاع كماخضٍ،
كيف لم تترك المدينة الشهيرة قرية فرحى؛ لذلك تسقط شُبَّانها في شوارعها، وتهلك كل
رجال الحرب، في ذلك اليوم يقول رب الجنود، وأشعل نارًا في سور دمشق فتأكل قصور بن
هدد، عن قيدار وعن ممالك صور، التي ضربها نبوخذ نصر ملك بابل، هكذا قال الرب: قوموا
اصعدوا إلى قيدار ودمِّروا أبناء المشرق، إنهم يأخذون أخبيتهم وغنمهم، ويستولون على
شققهم وجميع أدواتهم وإبلهم، وينادون عليهم بالخوف من كل جانب.
٣٣
هذا كل ما تذكره التوراة من تاريخ بني إسماعيل، أما المصادر العربية فتنقل ذلك عن
التوراة، وتضيف إليه معلومات تناقلها العرب في الجاهلية، وهي معلومات ممزوجة
بالأساطير وكثير من الخُرافات.
ويظهر أن هؤلاء العرب قد ظلوا بداة، وأن سلطانهم قد امتد من الحجاز إلى اليمن
ومشارف الشام، وأنهم جعلوا مكة مقر دولتهم أو مشيختهم لما لها من المكانة القدسية
الرفيعة.
ويظهر أنهم قد ضعفوا بعد الغزو البابلي، فإنه قد كان ظالمًا شديدًا، ولا شك في
أنهم قد استعادوا استقلالهم بتلك الديار، وتكاثروا وعادوا إلى الظهور قبيل الميلاد
المسيحي المجيد، فقد تناقَلَ المؤرخون طرفًا من أخبارهم في ذلك الحين، وذكروا بعض
قبائلهم بالقوة والمَنَعة، وامتدوا إلى تهامة ونجد وبلاد الشام، وأصل هذه القبائل هو
عدنان، وقد اختلف النسَّابون في عدد مَن كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فبعضهم
يعدُّهم أربعين جدًّا، وبعضهم يجعلهم عشرين، وبعضهم خمسة عشر، ويقول آخرون إن المدة
بين الاثنين هي طويلة؛ فلذلك يصعُب ضبط العدد تمامًا.
٣٤
وقد ولد عدنان أولادًا عديدين أشهرهم: معد، وعك، ويقول ابن خلدون: إن معدًّا عاش
أيام نبوخذ نصر (بختنصر)، وإنه خلص إلى حيران حينما هاجم أهل حضورا في اليمن،
٣٥ وأما عدنان والده فلقي بختنصر فيمَن اجتمع به أهل «حضورا» وغيرهم بذات
عرق، فهزمهم بختنصر، ومات عدنان في أيامه، فلما هلك بختنصر خرج معد من حران إلى
مكة، فوجد أخويه وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن وتزوَّجوا منهم، فرجع بهم إلى
بلادهم.
وتذكر المصادر العربية أن معدًّا قد ولد ثلاثة نفر، وهم: نزار، وقضاعة، وقنص،
ويجعلهم بعض المصادر أربعة فيضيف إليهم: إيادًا.
٣٦ على أن الأكثرين على أن إيادًا هو ابن نزار لا أخوه.
ومن أولاد معد تسلسلت القبائل العدنانية أو النزارية في تهامة ونجد والحجاز
ومشارف الشام، وأصلهم القبائل الآتية:
- قضاعة: وأكبر بطونها جُهينة، وبَلي، وتنوخ، وسليخ.
- وإياد: وأكبر بطونها أفصى، ودعمى، وغاره.
- وربيعة: وأكبر بطونها أسد، وبكر، وتغلب، وحنيفة، وسجل، وشيبان.
- ومضر: وأكبر بطونها قيس، وأسد، وكنانة، وتميم، وثقيف.
قد أقام بنو سليخ الذين نزلوا الشام دولة في بلاد مؤاب من أرض البلقاء، ومن
مشاهير ملوكها: النعمان بن عمرو بن مالك، وابنه مالك بن النعمان، وابنه عمرو بن
مالك، ولما غُلِبوا على أمرهم في الشام ارتحلوا إلى العراق، وشادوا دولة الحضر
Atra قرب تكريت التي قامت منها حضارة عظيمة،
ستكشف التنقيبات عن جلائل آثارها.
كما أقام بنو تنوخ دولتين: «إحداهما» في مشارق الشام وجنوبي العراق، وهي دولة
جذيمة الأبرش التي قامت على أنقاضها دولةُ المناذرة اللخميين أملاك الحيرة؛
و«الثانية» في الشام، وهي التي قامت على أنقاضها دولة الغساسنة في منطقة حوران
ودمشق.
وقد كان للقبائل الأخرى كبني أسد وتميم وبكر وتغلب وشيبان وقيس وثقيف دُويلات أو
مشيخات أو إمارات ازدهرت بعض الوقت، ولكن معلوماتنا عنها ما تزال جد ضئيلة، فلعل
الزمن يكشف عن حقائق تاريخها.