(١) الدولة المعينية
هي أقدم دول العرب في الجنوب، وقد ازدهرت حضارتها في زمنٍ سحيق جدًّا قبل
الميلاد، واختلف العلماء المحقِّقون في تحديد زمان نشوئها، فذهب البروفسور إدوارد
كلاسر
Glasser إلى أنها كانت في الألف الثالث
قبل الميلاد،
١ وذهب المستشرقون جوزيف هاليفي
Halevy
ومولر
Müller وشبرنجر
Sprenger٢ إلى أنها كانت في أواخر الألف الثاني وأوائل الألف الأول قبل الميلاد.
وقالفلبي
Philby إنها حكمت من سنة ١١٢ إلى
سنة ٦٣ق.م،
٣ وحجة معارضي رأي كلاسر أن الكتابة المعينية كانت ذات ألفباء وهي
المعروفة بألفباء المسند، وقد اتفق العلماء على أن الألف باء الفينيقية أو ألفباء
رأس الشمرة لا يتجاوز تاريخها القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فكيف يمكن جعل ألفباء
المسند أقدم من الألفباء الفينيقية؟ فلا بد إذن من القول إنها قد ظهرت في أواخر
الألف الثاني قبل الميلاد، أما قبل ذلك التاريخ فلا يُعقَل، وهو قول مقبول في
رأينا.
وإن أقدم منطقة قامت فيها هذه الحضارة المعينية هي منطقة الجوف التي تقع فيها
معظم خرائب المعينيين، وأطلال مدنهم، مثل: «معين» و«براقش» و«قرن» و«نشق» وغيرها.
٤
وقد ظلَّت أخبار هذه الحضارة مجهولة أو كالمجهولة حتى زار ديارَها العلماءُ
الآثاريون والنقَّابون الأوروبيون في القرن الماضي، وفي طليعتهم المستشرق الفرنسي
آرنود Arnaud الذي زار اليمن، وجمع عدة نقوش
من منطقة سبأ في عام ١٨٤٣، ثم جاء من بعده المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي الذي
استطاع أن يدخل اليمن في سنة ١٨٦٩م ويقوم برحلته المشهورة الهامة، فدخل مناطق الجوف
ونجران وسبأ بتكليفٍ من الأكاديمية الفرنسية، واستطاع أن يجمع في زيارته هذه ستمائة
وخمسة وثمانين نقشًا أثريًّا من النقوش العربية الجنوبية المكتوبة بالقلم المسند،
وكانت رحلته تلك من أعظم الرحلات العلمية؛ لأنه اكتشف في تلك النصوص كثيرًا من آثار
المدن وأسماء الملوك، وعادات البلاد، وعبادات السكان … وغير ذلك.
وفي سنة ١٨٨٢ ذهب إلى اليمن العلَّامة النمسوي كلاسر، فزار سبأ وظفار، وتوغَّل في
اليمن بمساعدة الحكومة العثمانية، وظل إلى سنة ١٨٩٢، وجمع نقوشًا عديدة صحَّحت بعض
أخطاء هاليفي.
ولم تجرِ بحوث صحيحة، ولا رحلات اكتشاف علمية، بعد هذا التاريخ إلا في سنة ١٩٤٢،
ثم في سنة ١٩٤٥ حينما زار اليمنَ العالمُ المصري محمد توفيق؛ فإنه زارها موفدًا من
جامعة فؤاد الأول بمصر — جامعة القاهرة اليوم — ودخل بلاد الجوف، فكان أول عالم
وصفها وصفًا علميًّا دقيقًا، وأعطانا معلومات عن أطلالها وآثارها.
٥
والمصادر العربية القديمة تكاد تجهل هذه الدولة وأخبارها، أما المؤرخون
والجغرافيون اليونان فقد ذكروا بعض المعلومات الهامة، مثل: سترابون وبلينوس
وسربيلوس وبطليموس وديودوروس،
٦ أما المعلومات الحقيقية فهي التي اكتشفها المستشرقون المحدثون الذين
أسلفنا الحديث عنهم قبلًا.
وقد توصَّل هؤلاء المستشرقون إلى بعض الحقائق التاريخية عن الدولة، وإليك مجمل
ذلك: استطاع المؤرخون المستشرقون أن يثبتوا بعض أسماء الملوك المعينيين والسبَئِيِّين
وأحوالهم السياسية والاجتماعية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يؤرِّخوا أزمنتهم واحدًا بعد
واحد، كما أنهم لم يستطيعوا ترتيبهم ترتيبًا منتظمًا متسلسلًا. وقد حاول بعض
العلماء أن يصنِّفهم إلى أُسَر وطبقات فلم يُوفَّق، وأرى أن الوقت لم يحِنْ بعدُ لتقرير
ذلك ولا بد من إتمام الحفريات حتى يُستطاع عمل تصنيف عملي صحيح.
وقد كانت لهذه الدولة آثار جليلة في العمران والحضارة، على الرغم من أن آثارها لم
يُتَح لها أن تدرس بعدُ درسًا علميًّا؛ فإن ما اكتُشِف وكُتِب عنه إلى اليوم لَيدلنا
على تقدُّمهم في مضمار العمران والحضارة تقدُّمًا ظاهرًا؛ فقد كانت لهم قدَمٌ راسخة في
هندسة المباني وزخرفتها، وبناء القصور والجسور والحصون والقلاع والأسوار، وتنظيم
الخنادق والأقنية، وغير ذلك من الأبنية العامة، كما كان لهم شرائع عادلة في فرض
الضرائب وتوزيعها، وفي تنظيم العقود والبيوع والإيجار، والميراث، والتجارة
والاقتصاد.
وكانت للمعينيين صلات تجارية قوية مع المصريين، فقد اكتشفت بعض الكتابات التي تدل
على أن بعض الجوالي المعينية قصدت إلى مصر للتجارة، كما لهم صلات تجارية وسياسية مع
سيناء والحجاز ومشارف الشام ولبنان وسوريا.
وكان نظام الحكم عندهم ملكيًّا، ويجوز أن يتولَّى المُلكَ أكثرُ من ملك واحد، وكان
النظام في الولايات لا مركزيًّا تتولَّى الحكمَ في ولاية أو مدينة حكومةٌ مستقلة لها
آلهتها وكهونتها الذين كان يُقال لهم «عم»، ولها نائب ملك يُسمى «كبر»، ولها مجلس
نيابي يُقال له «مسود» يدير شئونها، ويجتمع فيه الأشراف للحكم بين الناس وإعلان
الحروب، وتقرير القوانين والضرائب، وكانت الضرائب عندهم على ثلاثة
أنواع:
- (١)
ضرائب لمنفعة خزانة الملك.
- (٢)
ضرائب لمنفعة الكهنة والمعابد ومَن يلحق بها.
- (٣)
ضرائب لمنفعة الشيوخ والحُكَّام، وكان هؤلاء مع الإقطاعيين هم الذين
يتولَّوْن جمع هذه الضرائب؛ لتقديمها إلى الملك أو الكهنة أو للقيام
بالإنفاق على المؤسسات العامة، وقد كانت للإقطاع أنظمة، فلا تُسلَّم
لصاحبها إلا بعد أن تُحدَّد حدودها، وتذكر شروطها، وما يجب على مُستغِلها
من الضرائب.
كما كان لسكان البادية الملحقين بالدولة أنظمة خاصة، وكان شيوخهم يبنون لأنفسهم
دورًا في الصحراء يتخذونها مجالس، ويجتمع فيها الوجوه والنبلاء للبحث في شئون
القبيلة.
(٢) دولة سبأ وحمير
هذه الدولة هي من أقدم دول الجنوب العربية، ويكاد المؤرخون الثقاة يجهلون إلى
اليوم مبدأ نشوئها، إلا أنهم يجمعون على أن كلمة «سابو» أو «سابوم» الواردة في بعض
النقوش السومرية، والتي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد؛ أيْ حوالي سنة ٢٥٠٠ق.م،
يراد بها دولة سبأ اليمنية،
٧ ولكن معلوماتنا عن هذه الدولة وتاريخها وتطوُّرها معلوماتٌ لا تكاد تفيد؛
لعدم القيام بالحفريات الدقيقة.
ولعل أقدم فترة يمكننا تأريخها تأريخًا صحيحًا لهذه الدولة هي فترة «المكارب» جمع
«مكرب»، ومعناه «الأمير الكاهن»، فقد سيطر هؤلاء المكارب على ديار سبأ منذ سنة
٨٢٠ق.م. إلى سنة ١١٥ق.م.
٨ وأقدم مكرب عرفنا اسمه هو «المكرب سمه علي ذمر علي» الذي حكم حوالي سنة
٨٢٠ق.م، ثم خلف من بعده عدة مكارب اختلف المؤرخون في تعدادهم وترتيبهم ومُدَد
ملكهم، وقد بلغ عددهم سبعة عشر، وكانوا يتخذون مدينة صرواح عاصمة لهم.
٩
وقد كانوا على جانب عظيم من الرقي الصناعي والزراعي والعمراني والثقافي والسياسي،
وإنهم ظلوا يقوُّون أنفسهم ودولتهم حتى استطاعت ابتلاعَ دولة معين التي كانت
تجاورهم.
وكان نظامهم السياسي نظاميًّا دينًا ومدنيًّا، وكان لكل مدينة وقرية إلهها، وأعظم
آلهتهم اسمه «المقه»، وكانت كتاباتهم على الطريقة الحلزونية
Boustrophedon؛ أيْ إنها تبدأ من اليمين إلى الشمال، فإذا انتهى
الكاتب من السطر الأول وأراد كتابة السطر الثاني، كتب من الشمال إلى اليمين، وهكذا
دواليك. وقد عُثر على طائفة من الكتابات الحلزونية المنقوشة على الحجارة والطين أو
الجص، وهي ما تزال موضع دراسة العلماء الاختصاصيين. وقد كانت للغتهم السبَئِيَّة نحو
وصرف وبيان رفيع ودقيق، وأجلُّ ما رُوِي عن هذه الدولة هو بناء السدود والقلاع، وأجلُّ
سدودها وأعظمها شهرةً هو سد مأرب، الدال على براعتهم بعلم الهندسة، وعلم تنظيم الري،
وحُسْن الاستفادة من مياه المطر، وهو من أهم المشروعات العالمية التي قام بها العالَم
في ذلك الحين، وإنه لَثورة في عالَم الهندسة والفكر مكَّنَت الإنسان من الاستفادة من
الطبيعة، وقد ظلَّ هذا المشروع قرونًا عدة مصدرَ خير ورفاه، ولسنا نجد في التاريخ
القديم سوى ممالك قليلة فكَّرت في مثل هذا المشروع،
١٠ وقد توسَّع مُلْك السبَئِيِّين حتى سيطروا على أكثر بقاع الجزيرة العربية،
فاستولَوا على مملكتَي حضرموت، وقتبان.
١١
ومهما يكن من أمر، فإن تاريخ هذه الدولة ما يزال محتاجًا إلى توسع في
دراساته.
(٣) الدولة القتبانية
هي دولة عربية جنوبية، ولكن أخبارها ما تزال مجهولة، ولم يتفق العلماء الأثريون
حتى الآن على تعيين مبدئها ونهايتها، ولكنهم أجزموا بأنها قد عاصرت دولتَيْ «معين»
و«سبأ»، وذهب المستشرق الأثري هومل إلى أنها وُجِدت في الألف الأول قبل الميلاد،
١٢ ويرى المستشرق كلاسر أن نهايتها كانت بين سنتَيْ ٢٠٠ و٢٤ق.م،
١٣ ويرى المؤرخ الأثري الرابت: «أن بداية القتبانيين كانت في القرن السادس
ق.م، ونهايتها على أثر خراب مدينة «تمنع» المعروفة الآن بكخلان، حوالي سنة ٥٠ق.م.»
ويرى الدكتور جواد علي: «أن الوقت لم يحِنْ بعدُ للحكم بأن المكرب الفلاني أو الملك
الفلاني قد حكم في سنة كذا أو قبل هذا أو ذاك؛ لأننا لا نزال نطمع في العثور على
أخبار حكَّام لم تصل أسماؤهم إلينا، لعلها لا تزال في باطن الأرض … وإن خير ما
يُستطاع عمله في الوقت الحاضر هو جمع كل ما يمكن جمعه من أسماء حُكَّام «قتبان» على
أساس الصلة والقرابة؛ وذلك بأن يُضم الأبناء والأخوة إلى الآباء على هيئة جمهرات، ثم
تُدرس علاقة هذه الجمهرات بعضها ببعض، وتُرتَّب على أساس دراسات نماذج الخطوط التي
وردت فيها أسماء الحكَّام وطبيعة الأحجار التي حُفرت الحروف فيها … ولانتفاء ذلك
أصبحت القوائم التي وضعها علماء العربيات الجنوبية لحكَّام قتبان أو حضرموت أو معين
هي في نظري قوائم غير مستقرة.»
١٤
وكان حكام «قتبان» — لا قطبان كما ورد في تاريخ العرب المطوَّل
١٥ — يُلقَّبون بلقب «مكرب» ثم بلقب «ملك»، ومعنى كلمة «مكرب»: الوسيط
والشفيع والمُقرِّب الذي يتوسَّط بين الآلهة والناس، وهكذا كان أولئك المكارب وسطاءَ
بين الناس والآلهة، ولما قوي سلطان هؤلاء المكارب، وتعدَّى حدودَ قبائلهم إلى القبائل
والمدن المجاورة تلقَّبوا بلقب «ملك».
وأقدم مكارب القتبانيين هو «سمه علي وثر»، وابنه «هون عم يهنعم» الذين حكما في
حوالي القرن التاسع قبل الميلاد،
١٦ وقد عُثِر في حفريات اليمن على كتابات حلزونية
Boustrophedon؛ أيْ يبدأ السطر فيها من جهة اليمين
فينتهي في جهة اليسار، ثم يبدأ السطر الثاني من جهة اليسار وينتهي في جهة اليمين،
وهكذا …
ويظهر أن هذه الدولة قد عاصرت حكومة «معين»، وقد ذكرها بطليموس، وقال إنها تقع
على ساحل تهامة، ويقول سترابون — نقلًا عن إيراتو ستينس الذي كان في سنة ١٩٤ق.م: إن
القتبانيين كانوا يقطنون في الأقسام الغربية من العربية الجنوبية، وفي جنوب أرض السبَئِيِّين.
١٧
أما المؤرخون العرب فلا يذكرون شيئًا موثوقًا عنهم، ويقول ياقوت الحموي في معجم
البلدان: إن قتبان موضع في نواحي عدن.
١٨ ويقول الفيروزآبادي: إن قتبان بالكسر موضع بعدن. وينقل الزبيدي في تاج
العروس عن مراصد الاطلاع أن قتبان بعدن تبعًا للبكري. ويقول في موضع آخر: إن قتبان
بالكسر بطن من رعين من حمير، كذا في كتب الأنساب.
١٩ وهذا قول غير صحيح؛ لأنه لا صلةَ في النسب بين حمير وقتبان، وقد كان
للقتبانيين أصنام ومعابد وهياكل شيَّدوها على اسم تلك الأصنام، ومنها: «عشتر» و«ابنى»
و«ود» و«عم»، كما كانت لهم مجالس وندوات سياسية يجتمعون فيها لدراسة قوانين الحرب،
وإدارة الحروب، وقوانين التجارة والزراعة والقتل والضرائب، وكانوا يسمون هذه
المجالس «مشود»، وكان أعظم هذه المجالس في عاصمتهم «تمنع»، على أن المدن الأخرى لم
تكن تخلو من هذه المجالس. وقد ارتفعت الفنون عندهم، وبلغت درجة رفيعة لا تقل عن
الفنون الإغريقية، وبخاصة فن النحت، وقد عُثر في خرائب العاصمة «تمنع» على تمثالَيْن
لأسدَيْن كُتِب على قاعدتيهما كتابات قتبانية، ورد فيها اسم الفنان «ثوبم»، وهذان
التمثالان مصنوعان بأسلوب لا يقل روعةً عن الأسلوب اليوناني، ويرجع عهدهما إلى القرن
الثاني قبل الميلاد.
٢٠
ومن عظم نفوذ قتبان السياسي والعسكري أنها سيطرت حوالي سنة ٨٢٠ق.م. على الدولة السبَئِيَّة،
٢١ كما عظُم تقدُّمها الزراعي، وقد وضعت قوانين خاصة لاستغلال الأرض، وقد
وصل إلينا بعض الوثائق أو الإعلانات التي كان يعلنها الملوك القتبانيون للشعب في
العاصمة أو غيرها، فيما يتعلق بإدارة الأراضي في وادي لبخ، وهو من الأودية الخصيبة
عندهم، وكذلك وصل إلينا صور اتفاقيات معقودة لاستثمار بعض الأراضي الزراعية.
٢٢ وأما أعظم مدنهم فهي مدينتا:
- تمنع: وتقع في وادي بيجان الخصيب المنظم في ريه وتقسيم أراضيه، وتُعرف
الآن باسم كحلان، ولا تزال أطلال الأقنية ونظم الري موجودة، كما
لا تزال الحفريات فيها تكشف عن كثير من النقود الذهبية، والتماثيل،
والخزفيات الجميلة، التي جعلت علماء الآثار يقولون إن الصلة بين
«تمنع» والهيلينية والرومانية كانت قوية، وإن الرومان قد أثَّروا
في العرب، وأرى العكس قد يكون صحيحًا؛ فالقتبانيين كانوا قومًا
بارعين جدًّا في الفنون كما رأيت، وقد عُثر في حفريات «تمنع» على
آثار رائعة من المرمر والنحاس والبرونز.٢٣
- شوم: أو «شور»، وهي مدينة كبيرة كانت تسكنها قبيلة «هرية»، وقد بنت
فيها حصونًا وقلاعًا وسورًا ومعابد، وذلك في عهد الملك «دروال
غيلان بهنعم».٢٤
وكان نظام الحكم في قتبان مثله في معين؛ أيْ إنه نظام ملكي ديني وراثي، وكان يدير
شئون المملكة حكام نيابة عن الملك، كما يُسمى أحدهم: كبر أو كبير، وكانوا يجتمعون في
«المشود»، وإن ملوكهم كانوا عادلين ديمقراطيين، بل كانوا يشاورون الشعب في المجالس
والمشاود. أما نهاية عهد الدولة فلا نستطيع تحديدها بالضبط كما قلنا، وإنما نستطيع
أن نجزم بأن الدولة السبَئِيَّة قد استولت عليها كما استولت على الدولة المعينية
والحضرمية بعد أن جرت حروب عديدة بين القتبانيين والسبَئِيِّين.
(٤) الدولة الحضرمية
حضرموت هي دولة عربية عريقة، عاصرت دولتَي معين وقتبان، وذكرها في كتاب
إيراتوستينس وإسترابون باسم
Ehatromotitae،
٢٥ وفي كتاب التوراة باسم حضرموت، على أنها سُميت باسم حضرموت بن يقظان
بن عابر بن شالخ،
٢٦ وليست معلوماتنا عن بداية هذه الدولة ونهايتها جزءًا من معلوماتنا عن
دولة قتبان؛ فإن الدراسات العلمية التي جرت حتى الآن دراسات محدودة ضيقة، وقد عكف
بعض المستشرقين الاختصاصيين بدراسات تاريخ جنوب الجزيرة العربية على دراسات تاريخ
الدولة الحضرمية، وتوصَّل البروفسور «ألبرايت» أن يُحصي قائمة بأسماء ملوكها، وأن
يجعل في طليعتها اسم الملك «يدع إيل» الذي حكم حضرموت حوالي نصف القرن الخامس ق.م،
٢٧ ويعارضه المستشرق فيلبي، فيقول: إن طليعة ملوك هذه الدولة هو «صدق
أبل»، وإنه قد حكم في سنة ١٠٢٠ق.م،
٢٨ ومن مشاهير ملوك هذه الدولة: «معدي كرب» الملك القوي، العمراني، أخو
الملك «أب يدع يثع» الذي كان ملكًا على معين، ويظهر أنه في عهد هذه الأسرة القوية
خضعت الدولتان الحضرمية والمعينية لها، وكان ذلك حوالي سنة ٩٨٠ق.م، ومن أشهر
ملوكها: العذيلط الأول.
قد كانت مدينة شبوة العاصمة الجديدة لهذه الدولة، وكانت زاخرة بالمعابد الفخمة،
والقصور الشامخة، وقد كانت في الأصل مقرًّا للمكاربة، ثم صارت مقرًّا للملوك، وهي
معروفة عن المؤرخين القدماء باسم
Sabratho أو
Sabato، وقد ورد اسمها في التوراة باسم سبت،
٢٩ وقد ذكرها الهمداني في صفة جزيرة العرب، وعدَّها من حصون حضرموت ومحافدها،
٣٠ وقد زارها المستشرق فيلبي، وعثر على آثار معابدها وقصورها القديمة
وسدود واديها، وذكر المؤرخ القديم بلينوس: أن في اليمن توجد
Ostramitae، وأنها منطقة من أرض شبوة
Saboei، وأن عاصمتها مدينة شبوة
Saboei، وتسمى أيضًا
Sariba، وأنها
غنية بمناطق كثيرة الغابات … ومنها يُصدر اللبان، وأن شعب
Minaei هو الشعب العربي الذي احتكر تجارة
اللبان والطيب.
٣١
أما العاصمة القديمة للدولة فهي «ميفعة»، وهي المعروفة عند اليونان باسم
Mapharites، وقد كانت مدينة مُحصَّنة ذات
معابد وقصور.
وقد كانت الدولة الحضرمية دولة قوية برِّيًّا وبحريًّا وتجاريًّا، وكانت تعبد
الأوثان، وتقيم لها المعابد، وأجلُّها عندهم هو الإله «سين»، وهناك آلهة غيره منها:
عشتر، وصول، وحويل، وشمس.
ومن أشهر ملوك هذه الدولة:
-
معدي يكرب بن اليفع، الذي حكم البلاد حوالي سنة ٩٨٠ق.م.
-
ديدع أبي غيلان، الذي حكم البلاد حوالي سنة ١٤٠ق.م.
-
العزيلط، الذي حكم البلاد حوالي سنة ٢٩ب.م.
(٥) دولة أوسان
كانت أرض أوسان جزءًا من المملكة القتبانية، ثم انفصلت عنها، وكوَّنت دولة
مستقلة، وهي على الرغم من صغر الرقعة التي كانت تحتلها كانت دولة غنية عريقة في
الحضارة، وقد خلَّفت لنا عددًا من التماثيل الرخامية الرائعة التي تمثِّل لنا ملوك
تلك الدولة، وهي من أروع ما عُثر عليه من نفائس التحف الفنية في جزيرة العرب، وقد
كُتب على قاعدة كل تمثال اسم الملك الذي يعلوها، ونحن على الرغم من عدم عثورنا على
كتابات أثرية تكشف لنا النقاب عن تاريخ هذه المملكة وأحوال ملوكها، فإننا قد أفدنا
فوائد جليلة من طراز لباس الناس في ذلك العهد، وطرائق زينتهم وتنظيم شعورهم وحلق
لحاهم، كما عُثر في الحفريات على عدد من التماثيل الذهبية، والآثار الخزفية
الرائعة.
وعلى الرغم من قلة المعلومات الآن، فإن الآمال معقودة على كشف تاريخ هذه الدولة
وآثارها في العمران والسياسة، وقد ظلَّت هذه الدولة إلى وقت ظهور الإسلام، حتى إن
الجغرافي العربي الهمداني ذكر لنا في الإكليل أنه نقل بعض أخبار اليمن وتاريخه
القديم من محمد بن أحمد الأوساني، وزعم أنه كان يُحسِن قراءة العربية الجاهلية
المدوَّنة بالقلم المُسند.
٣٢
ولا نعرف من أحوال هذه الدولة إلا معلومات قليلة، منها أن الملك «كرب آل وتر»
بعد أن استولى على مدينة شرجب بين الحوف ونجران، ساق جيوشه إلى أوسان، فقتل من
رعاياها ستة عشر ألف رجل، وأسر أربعين ألفًا، واحتل أماكن من المملكة الأوسانية
وهي: حمان، وانضم، وجن، ودياب، ورشا، وجردان، ودتنت، وتفذ إلى ساحل البحر، وأن
قتبان كانت حليفة لسبأ في هذه الحرب، وأن السبَئِيِّين احتلوا ديار أوسان بعد انتهاء
الحرب، وقد استعادت الدولة الأوسانية سلطتها، واستمرت إلى وقت ظهور الإسلام، ولكن
معلوماتنا عنها جد ضئيلة.