الفصل الأول
(١) في البيئة العربية قبل البعثة النبوية
كانت بلاد الحجاز (ويراد بها الحجاز وتهامة معًا) قبل البعث النبوي قلب البيئة العربية في جزيرة العرب؛ ففيها الكعبة مهوى قلوب العرب أجمعين، وموضع عزهم، وفيها مكة، أم القُرى العربية، ومسكن قريش سيدة القبائل العربية وأعزها سلطانًا في الدين والدنيا، وفيها يثرب أخصب أراضي الجزيرة وأطيبها تربةً وأعمرها بقعة، وفيها جدة والجار خير فُرَض الجزيرة وأغناها تجارةً وربحًا، وفيها الطائف مدينة العلم والنشاط الفكري والتجارة، وفيها أفصح قبائل العرب وأكثرها شعرًا، وفيها أجلُّ أسواق العرب شهرةً كعكاظ ومجنَّة وذي المجاز.
وسكان الحجاز هم العرب واليهود؛ وأما العرب فهم سكانه الأصليون، وهم منتشرون في جميع مدن الحجاز، قُراه وبواديه، ومن أشهر القبائل الساكنة فيه: بطون قُريش، وسُليم، ومزينة، وهوازن، وثقيف، وخثعم، وطي، وأشجع، وغفار، وفزارة، وغطفان، والأوس، والخزرج. وأما اليهود فكانوا يسكنون في يثرب وخيبر والطائف ووادي القُرى، ومن أشهر القبائل اليهودية: بنو النضير، وبنو القينقاع، وبنو قريظة، وبنو هَدَل.
ووليت البيت نحوًا من ثلاثمائة سنة إلى أن نبغ قُصي بن كلاب بن مُرة، وكان يقيم هو وأبناؤه حوالي مكة، فعظُم سلطانه، وانتزع حماية الكعبة من خُزاعة، وتملك مكة، وبنى بها دار الندوة، ونظَّم أمور أهلها؛ فلا تُزوَّج امرأة إلا في دار الندوة، ولا يُعقَد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرَّع جارية إلا فيها، وكأنه أراد بذلك تسجيل حوادث الأحوال الشخصية، وجعل تلك الدار مقرًّا للقوم يتشاورون فيه في كافة شئونهم من خيرٍ وشر، وكانت قبائل قريش تؤدي الرفادة إلى قُصي؛ وهي أموال يؤدونها إليه يترافدون فيها، فكان يصنع الأطعمة والأشربة للحجَّاج أيام الموسم، ورتَّب سائر أمور مكة من حجابة وسقاية ولواء وما إلى ذلك ممَّا فيه تنظيم شئون المدينة، كما سترى تفصيل ذلك فيما بعد.
ولكن بعض المؤرخين يذكرون أن السيدة صفية أم المؤمنين — وهي من بني النضير — كانت منحدرة من نسل هارون بن عمران، وقد كانت لهم معابد ومدراسات وربانيون، وكان إلى جانب هؤلاء اليهود متهوِّدون من العرب.
ومن مدنه «الطائف»، وهي بطن من جبل غزوان بشرقي مكة، نزه كثير المياه والفواكه والبساتين، وسكانها من ثقيف، ومن قرى الطائف «وَجٌّ» و«النخب» و«العَرْج» و«ليه» و«جلدان» و«عكاظ» و«ذو المجاز» و«مجنَّة»، وكلها قُرى كثيرة النخل والفواكه، وللعرب فيها أسواق مشهورة ومواسم مسماة.
ومن مدنه «خيبر»، وهي مدينة كبيرة كثيرة الحصون والمزارع، قال أبو عبيد البكري: إنها باسم أحد العماليق وأهلها يهود، وكانت لبني غزة بن أسد، ومن قُراها المشهورة: «فدك».
ومن مدنه «جدَّة»، وهي الفرضة الكبرى للقُطر، وهي تابعة لمكة المكرمة.
ومنها «الجار»، وهي فرضة حسنة تابعة للمدينة المنورة.
ومنها ينبع، وهي مدينة صغيرة قريبة من الساحل آلت لبني الحسن.
ومنها تبوك، وهي مدينة تجارية حسنة الأسواق.
وفي الحجاز كثير من الجبال أشهرها: «خندمة» و«أجياد» و«أبو قبيس»، و«ثور» و«ثبير» و«عرفات»، وكلها قُرب مكة.
(١-١) الحالة الدينية
وقد كانت قريش وبطونها والحُمس وقبائلها يقومون بالشعائر الدينية التي كانت تربط جميع من كانوا يقصدون البيت الحرام برباط ديني وثيق على اختلاف قبائلهم، وما ذلك إلا لمكانة مكة وقدسية الكعبة واحترامهم لقريش التي كانت تتمتع بمكانة مرموقة بينهم، وكان للعرب أشهُرٌ مقدسة حُرُم يعقدون فيها الأسواق التجارية حول الحرم، وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فكان لا يجرؤ أحد على الإخلال بحرمة تلك الأشهر.
وكان إلى جانب هؤلاء «نصارى» جاءتهم النصرانية من بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء، وأشهر القبائل التي دخلتها النصرانية: بنو تغلب، وطي، وبعض عرب الحجاز، وقد أثَّرت النصرانية في البيئة العربية تأثيرات واضحة، وأوجدت بعض الفكرات التي كان لها علاقة بالنصرانية، مثل فكرة اتخاذ الله البنين والبنات، ومثل فكرة الشفاعة والشُّفعاء، ومثل فكرة الرهبنة وطقوسها.
وكان فيهم مُعطِّلون دهريُّون يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيى، وما يُهلكنا إلا الدهر؛ فأنكروا الخالق سبحانه، ونفوا البعث، ولم يقروا بالحشر، وقالوا بالطبع المُحيي والدهر المُفني.
والمراد بزندقة قريش أن الزنادقة فيها كانوا يُنكرون الحشر، ولا يؤمنون بالآخرة، ويثبتون أكثر من إله، وقد يُنكِرون الألوهية.
- الملائكة: اعتقد العرب بوجود الملائكة، وقالوا إنها بنات الله، وإن الله سبحانه قد أصهر إلى الجن فكانت الملائكة بناته منهم، وإنهم أجسام نورانية يرسلها الله إلى الناس رُسلًا مبشِّرين ومنذرين، وقد غالى بعض العرب فعبد الملائكة تقرُّبًا إلى الله. وذهب آخرون إلى أنهم أجسام كاللات والعزى ومناة، وأنها رموز وهياكل مادية تجسَّدت فيها الملائكة، وقد أشار القرآن إلى بعض هذه الاعتقادات الجاهلية بقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم،١٨ وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ.١٩
- الجن: كان العرب يعتقدون بوجود الجن والمردة،٢٠ ويزعمون أنهم مخلوقات هوائية لطيفة قادرة على
التشكُّل بما تريد، ويرون أنهم أقوياء يفعلون ما يعجز عنه
البشر كأنهم شركاء الله، فخافوهم وعبدوهم، وفي القرآن الكريم
والشعر القديم كثير من الأقوال التي تؤيد اعتقاد العرب بالجن،
وتُبيِّن طرفًا من اعتقاداتهم فيهم، ففي القرآن: وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ الْجِنَّ
وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ
بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ،٢١ وفيه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا،٢٢ وقال راجزهم:
من قد استعذنا بعظيم الواديمن شرِّ ما فيه من الأعاديفلم يُجرنا من هزبر عادي
وكان من عاداتهم في «الجاهلية» إذا ركب أحدهم مفازة، وخاف على نفسه من الجن والشياطين أن يُنيخ راحلته إلى واد ذي شجر، ويقول: أعوذ بصاحب هذا الوادي أو عظيمه. وقال آخر:
قد بت ضيفًا بعظيم الواديالمانعي من سطوة الأعاديراحلتي في جاره وزاديوكانوا يعتقدون أن الجن والشياطين هم أصحاب نفوذ قوي وأعمال عجيبة، وأن لهم صلات ببعض بني الأنس من السحرة والكُهَّان والشعراء، وأنهم كانوا يفعلون الأعمال الخارقة، ويَعْلَمون الأمور المغيبة، وربما سمى العرب الملائكة «جِنًّا» لاستتارهم، كما يسمونهم «حنًّا» بالحاء، وفي القرآن الكريم والأدب الجاهلي، والخُرافات والأساطير الموروثة، كثير من أخبار الجن والشياطين والمردة وأحوالهم واعتقادات العرب فيهم.٢٣
(١-٢) الحالة السياسية
ولما سيطر قُصي بن كلاب على مكة نظَّم أمور البلد ورتب شئونه، وكان حازمًا داهية، نقل السيوطي عن ابن سعد قال: رُوي عن عباس أن قُصي بن كلاب أول ولد لكعب بن لؤي أصاب مُلكًا أطاع له به قومه، فكان شريف أهل مكة لا يُنازع فيها، فابتنى دار الندوة وجعل بابها إلى البيت، ففيها كان يكون أمر قريش كله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوء بهم تشريفًا له وتيمُّنًا برأيه ومعرفة بفضله، ويتِّبعون أمره كالدين المُتَّبع لا يُعمل بغيره، فكان إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة كله، وقد قام بأمر مكة بعد قُصي ابنه عبد مناف، ثم ابنه هاشم، ثم ابنه عبد المطلب، وفي عهده أراد أبرهة الأشرم الحبشي صاحب الفيل أن يستعمر الحجاز ومكة، فخذله الله ورجع خاسرًا عن مكة والبيت الحرام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحادثة بقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ.
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له هو عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فخابره وقال له ما أمره بقوله أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد قتاله وما لنا بذلك طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم. فقال له حناطة: فانطلق معي إلى الملك فإنه قد أمرني أن آتيَه بك، فانطلق معه هو وبعض بنيه، فلما أتى المعسكر، وتقابل مع أبرهة، قال لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائة بعير قد أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه لا تكلمني فيه؟! فقال عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإن للبيت ربًّا سيحميه. ثم إنه عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن مكة ولا يهدم البيت فأبى، فخرج عبد المطلب حانقًا، وجاء إلى الكعبة، ومعه جماعة من قريش، وقال:
وكانت سنة الفيل حدثًا تاريخيًّا كبيرًا حفظه العرب، وأرَّخوا به، ولو أتيح لأبرهة النصر لانتشر دين الأحباش في الجزيرة، وانصرف الناس عن مكة إلى صنعاء، ويأبى الله إلا أن تَتِمَّ رسالتُه.
(١-٣) الحالة الاقتصادية
الحجاز بلد فقير، وصفه إبراهيم — عليه السلام — بقوله: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (سورة إبراهيم: آية ٣٧)، على أن فيه بقاعًا خصبة هي يثرب ورياضها، والطائف وضواحيها، ففي هذه البقاع سهول خضرة وبساتين مثمرة وجنات وارفة ونخيل وأثمار وزرع، كما أن فيه مدنًا ساحلية اتصلت بالعالم الخارجي، فكثرت تجاراتها، ورَبَت خيراتها. كما أن مواسم الحجاز وأسواقه جعلت منه بقعة تجارية يقصدها العرب أجمعون؛ ليشهدوا منافع لهم، وقد كانت لقريش رحلتان تجاريَّتان إحداهما: في الصيف إلى الشام، وثانيتهما: في الشتاء إلى اليمن: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ، وقد رأينا سبب حملة أحباش اليمن؛ كانت حملة تجارية الأهداف، فقد رأى أبرهة وصحبه ما لقريش من أثر في حياة الجزيرة العربية الاقتصادية، فأراد تحويل ذلك إلى اليمن وحصره فيه، ولكنه فشل وظلت لمكة خاصَّةً والحجاز عامةً سيطرته التجارية ومكانته المالية.
ثم إن يهود الحجاز قد لعبوا دورًا تجاريًّا هامًّا في الحياة الاقتصادية الحجازية؛ فكانت لهم مزارع وحصون وآطام وقصور وثروات، وكانت لهم متاجر ومصارف وحوانيت ومصانع، وكان منهم الصُّنَّاع والصُّيَّاغ والصياقلة والحدَّادون والنجارون وغيرهم من أرباب الحرف، ولا شك في أن هذا كلَّه قد رفع من مستوى الحجاز الاقتصادي، وجعل أهله يتمتعون بحياة رخصة وحركة اقتصادية نشيطة، وقد عرف العرب في الحجاز كثيرًا من ضروب المتاجرة؛ من الصيرفة والربا والنسيء والتطفيف في البيع والحيل التجارية، ولا شك في أن العرب قد أخذوا كثيرًا من هذه الأمور عن اليهود المقيمين بين ظهرانيهم أو من تجار الشام والعراق واليمن ومصر حينما كانوا يرحلون إليها متاجرين، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الأمور، وإلى تحريم الإسلام إياها، وتهديد من يتعاطاها من المسلمين.
وكما كانت التجارة مزدهرة فكذلك كان شأن الصناعة والزراعة، أما الصناعة: فقد ورد في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم أشياء كثيرة عن صناعات العرب وحرفهم، وتفننهم في بعض أنواعها؛ من نسيجٍ ونقش وحدادة وصياغة وبناء وتجارة ودباغة … وما إلى ذلك، قال تعالى: وَالله جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ (سورة النحل: ٨٠)، وقال: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ (سورة الكهف: ٣١)، وقال: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ (سورة سبأ: ١٣).
(١-٤) الحالة الاجتماعية
إن معلوماتنا عن الحياة الاجتماعية في العصر الذي سبق البعثة المحمدية يمكن استقاؤها من الشعرين الجاهلي والإسلامي، والقرآن والحديث، ويمكننا إجمال تلك الحياة بالأمور الآتية:
العصبية القبلية
فقد كان الفرد متعصِّبًا لقبيلته في البادية والحاضرة، وكانت القبيلة شديدة التعصُّب لأفرادها، وقد استمرت هذه الروح التعصُّبية في الإسلام على الرغم من محاولة الرسول ﷺ القضاء على التعصُّب القبلي الأعمى الذي كان يسيطر على الحياة الاجتماعية أملًا في إيجاد وحدة أممية مشتركة بين المسلمين بقطع النظر عن مصلحة القبيلة أو العشيرة أو البطن أو الفخذ، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (سورة الأنفال: آية ٧٢)، وقال: فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ (سورة التوبة: آية ١١)، وفي القرآن والحديث أقوال كثيرة تنهى المسلمين عن العودة إلى العصبية القبلية الجاهلية المقيتة، وقد استطاع الرسول وخلفاؤه الراشدون؛ وخصوصًا أبا بكر وعمر أن يقصوا العرب عن هذه الروح، ولكن هذا لم يدُم طويلًا، فرجع الوضع إلى ما كان عليه في الجاهلية بعدهما.
وقد كان لهذه الأحلاف والأحزاب طُرُق مُتَّبعة في عقدها وفي فسخها، ومما يلحق بالعصبية القبلية عصبيات أخرى يمكننا إجمالها فيما يلي: عصبية الولاء، وعصبية الجوار، وعصبية الأجيال، أما عصبية الولاء: فهي أن يلحق فرد أو بطن أو فخذ أو قبيلة بقبيلة أخرى فيكونون مواليهم، ويقطعون صلاتهم بقبيلتهم السابقة، وليس هذا الولاء كولاء الرق والعبودية، ولكنه ولاء الاستنصار والاعتزاز والتقوى، وقد كان لهؤلاء الموالي كافة الحقوق التي للقبيلة، وأما عصبية الجوار: فهي أن يلتحق فرد أو بطن ضعيف بآخر قوي، ويستجير به، ويطلب حمايته، ودفع الظلم عنه، فإذا قبل المستجار ذلك أعلنه في المواسم على الأشهاد، وأصبح المستجير في حِمَى المُجير كأنه فرد من أفراد عشيرته، ويظل حق الجوار محفوظًا إلى أن يتخلَّى المستجير عنه على الملأ، وأما عصبية الأجيال: فهي التعصُّب للتقاليد والموروثات التي وصلت إلى الأخلاف عن الأسلاف من أمور الدين والدنيا وتقاليدها، وقد تجلَّى هذا واضحًا في عزوف كثير من عرب الجاهلية عن الدعوة الإسلامية لبعض التقاليد الموروثة لا غير، ولما قوي أمر الإسلام ودخل العرب في دين الله، وجاء نصر الله والفتح؛ أبقى الرسول جزءًا من هذه التقاليد التي كان يتعصب لها العرب؛ لتغلغلها في النفوس من جهة، وعدم معارضتها للمبادئ الإسلامية الرئيسية كبعض تقاليد الحج من رمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة واستلام الحجر الأسود وتقبيله والوقوف بعرفة، وذبح الضحايا والقرابين وتحريم لبس المخيط وتحريم الصيد، ومن تقاليد الأجيال التي نص عليها الإسلام؛ حرمة الأشهُر الحُرُم، والإبقاء على الرضيعة، والتسرِّي بالإماء بدون تحديد، والزواج بأربعة نساء.
ومما حرمته من تقاليد الأجيال: الزواج بامرأة الأب، والجمع بين الأختين، والزنا، والسفاح، والمخادنة، وطواف العاري حول الكعبة، والذبح على الأنصاب والأزلام، واعتزال النساء في المحيض، ودخول الرجال إلى بيوت النساء بدون إذنهن، والتبرُّج وكشف الزينة لغير المحارم، والتَّبنِّي.
أحوال الأسرة
كان الرجل هو القائم بأمر الأسرة، وصاحب المنزلة الممتازة فيها، والمسئول عن أسباب الحياة والمعيشة والحماية لها، وهو الذي يُعول الأهل والمحارم، وهو المسئول عن حفظ كيان الأسرة، أما المرأة فهي ثانوية المكانة عليها القيام بخدمة البيت وربه وأولاده، ولم تكن حالتها حسنة ولا حقوقها مُصانة إلا قليلًا، وكانت مغبونة في المواريث والحقوق والمكانة، قال تعالى: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا ۖ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء (سورة الأنعام: ١٣٩)، وقال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (سورة النحل: ٥٨-٥٩)، وفي القرآن والشعر الجاهلي شواهد تبرهن عن سوء حالة المرأة، وعلى وأد البنات، وحرمانهن حقوقهن في الحياة والمال والمكانة، على أن هذا لا يمنع من بروز بعض النوابغ منهن ممن أوتين بسطة في العقل والجسم؛ ففرضن احترامهن على الرجال ولمع اسمهن في البيئة العربية من الحكيمات والشواعر والنبيلات.
- (١) الزواج والنكاح: كان للعرب طرق للازدواج «منها»: أن يخطب أحدهم الفتاة إلى وليها، فإن قبلوا به زوَّجوه على مهرٍ مُسمَّى، وهذا هو الطريق المتعارف، وهو الذي أقرَّه الإسلام، و«منها»: أن يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من حيضها: اذهبي إلى الشريف فلان واستبضعي منه، فتذهب إليه ولا يقربها زوجها حتى يتبيَّن أنها حملت، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، و«منها»: أن يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة، فإذا حملت ووضعت سمَّت من أحبَّت أن تُلحق ولدها به وتُصبح له زوجًا، و«منها»: أن يأتي الرجال بعضَ ذوات الرايات — وهن البغايا — فإذا ولدت ذهبت إلى القائِف فألحق ولدها بالذي يراه شبيهًا بأبيه، و«منها»: أن يتبادل الرجلان زوجتيهما، فيتنازل الواحد للثاني وتصبح زوجته، و«منها»: أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوج أخته أو ابنته مقابل ذلك بلا مهر، وهو المسمى: نكاح الشغار،٣٢ و«منها» نكاح المتعة؛ وهو زواج مؤجَّل … وقد حرَّم الإسلام هذه الأنكحة كلها، واعتبرها من الفواحش، وكان العرب في الجاهلية يُحرِّمون نكاح الأمهات والبنات والخالات والعمات، وقد كانت للجاهليين أحوال في زواجهم «فمن ذلك»: التماس الأبكار والشوابِّ والأصيلات والجميلات، و«البُعد» عن زواج الأقارب الشديدات القرابة:فمن لم تلده بنتُ عمٍّ قريبةٌفيَضْوَى وقد يضوى رذيل الأقارب
- (٢) الطلاق والفراق: كانت عقدة الزواج بيد الرجل، يمسك المرأة إن شاء ويُسرِّحها متى شاء، وكان بعض الأزواج يتخذون ذلك وسيلة إلى ابتزاز الأموال من النساء والتنازل عن حقوقهم المفروضة، كما كان منهم من «يظاهر» زوجته فيقول لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي؛ فتحرُمُ عليه مجامعتها ولكنها لا تُطلَّق، ويظهر أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا ولدت المرأة بنتًا، وأنهم لا يريدون أن تتزوج المرأة بعدهم برجل آخر، ومنهم من كان «يهجر» زوجته إذا ما أتت بعملٍ لا يرضيه، وكان من عادة عقلاء العرب وحكمائهم في الطلاق أن يجعلوه ثلاثًا متفرِّقات، ويقولون إن إسماعيل — عليه السلام — هو أول من فعل ذلك، ومن عاداتهم في ذلك «الخُلع»؛ وهو فراق الزوجة على مالٍ يأخذونه منها، وقد أقرَّه الإسلام؛ لأنه من نوع من الشرط، ومن عاداتهم «الإيلاء»؛ وهو الحلف على ترك قربانها مدة، قال ابن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقَّت الله لهم أربعة أشهر فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء،٣٣ وكانت النساء في الجاهلية تعتد من الطلاق والموت، وكُنَّ يبالغن في احترام حق الزوج القديم، وكانت المرأة إذا مات زوجها تربَّصَت سنة بشرِّ ثيابها وحِفْش بيتها ولم تمس طِيبًا ولا ماءً ولا تُقَلِّم ظفرًا ولا تزيل شعرًا، وقد جعل الإسلام العدة أربعة أشهر وعشرًا، ومن العادات الذميمة التي كان العرب في الجاهلية يفعلونها وحرَّمها الإسلام؛ أنهم كانوا إذا قرب موعد عدة الطلاق «راجعوهن» لا عن حاجة ولا لمحبة؛ بل لقصد تطويل مدة العدة، وتوسيع مدة الانتظار؛ إضرارًا بهن، وكان أحدهم يطلق أو يتزوج ثم يقول: عدلت عن هذا، أو إني كنت أمزح أو ألعب، فحرَّم الإسلام ذلك، وفي الحديث النبوي: «ثلاثٌ جِدُّهُن جِدٌّ وهزلُهن جِدٌ: النكاح والطلاق والرجعة.» ومن عادات أشرافهم أنهم كانوا يمنعون مُطلَّقاتهم أن تتزوجن بعدهم من آخر، وقد حرَّم الإسلام هذا الأمر إلا لنساء النبي ﷺ.
- (٣) البُنُوَّة: كان العرب في الجاهلية يرعون حق البنوَّة؛ لأنه حق طبيعي بشري، قال قائلهم: وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض، ولكنهم كانوا يفضلون في الغالب الذكور على البنات، كما كان منهم من يقتلون أولادهم ويئدون بناتهم خوف الفقر والعار، قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (سورة الأنعام: ١٥١)، وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (سورة التكوير: ٨-٩)، وكان من عاداتهم استرضاع أبنائهم في البوادي؛ ليُتاح لأطفال المدن وأبناء سراتها أن يعيشوا في جو البادية الصافي الصحيح الفصيح، قال تعالى: وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ (سورة البقرة: ٢٣٣)، كما كان من عاداتهم أن لا يستعجلوا في فطم أبنائهم، قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ (سورة البقرة: ٢٣٣)، ومن عاداتهم: التبني، وهو أن يستلحق الرجل ابن غيره بنسبه، فيصبح بمثابة ابنه فيرثه ويُعطى كافة الحقوق، وقد تبنَّى الرسول ﷺ زيد بن حارثة فصار يُدعَى زيد بن محمد حتى قال الله: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَالله يَقولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ۚ فإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ (سورة الأحزاب: آية ٤-٥).
- (٤)
الميراث: لم يكن للعرب نظام محدود في الميراث يعرف به صاحب كل سهم مقدار حصته؛ فالزوجات والبنات والأخوات لم يكن لهنَّ حق في الميراث تبعًا للقاعدة العامة في حقوق المرأة الجاهلية، وكان الأولاد هم أول من يستولي على التركة، ثم الأجداد والأعمام وذوو القرابة وأخيرًا النساء، على أن وصية الميت كانت تلعب دورًا خطيرًا في الأمر، وصاحب المال هو أحق الناس به يوزعه كيفما شاء، ولكن الورثة قد لا يُقيَّدون بالوصية، فيتصرَّفون كيفما يشاءون، وسبب ذلك كله: هو عدم وجود الوازع الديني والقانوني، ونحن إذا ما تتبعنا آيات الميراث في القرآن نخلُصُ إلى ما أسلفنا.
الحج
ذكرنا بعض شئون الحج في الفصل الخامس بالحياة الدينية، ونتوسع هنا في بيان أحوال الحج، ومناسكه، وتقاليده؛ لأنها تتعلق بالحياة الاجتماعية تعلُّقًا قويًّا، لأن الحج لم يكن مقصورًا على طائفة بعينها أو نحلة مخصوصة؛ وإنما كان للعرب أجمعين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وكانوا يتخذون موسمه فرصة للاجتماع والاتجار والتعارف والتشاور والتفاخر والتناصر والتناصح وحل المشكلات، وكان العرب أجمعون يقصدون مكة يمارسون مناسك الحج، ويشهدون منافع لهم مشاة ورجالة، نساء ورجالًا، وكان لمكة وحرمها قدسية عامة عندهم كما كان لأهلها مكانة خاصة عندهم؛ لمجاورتهم البيت الحرام، وكان أهلها بالمقابل يُحسنون إلى الحجاج، ويكرمونهم؛ لأنهم ضيوف الله، وكان الحُجَّاج يُحرِّمون على أنفسهم أعمال الشر والفسوق والرفث والجدال في الموسم، وكانت أشهر الحج هي: شهر شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، وقد ابتدع العرب بدعة إنساء أشهر الحج؛ أي تأخيرها أو تحريم بعضها وتحليل بعضها؛ فتارة يصبح شهر ذي القعدة مكان شهر ذي الحجة، وشهر ذي الحجة مكان المحرم، والمحرم مكان صفر، أو يصبح شوال مكان ذي القعدة، وقد حارب الإسلام هذه البدعة فقال: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ (سورة التوبة: آية ٣٧).
ومن التقاليد الجاهلية التي أقرها الإسلام؛ رمي الجمرات بالحصى في مِنى بعد الإفاضة من عرفات والمشعر الحرام، والجمرات هي ثلاثة أمكنة: الجمرة الأولى، والجمرة الوُسطى، وجمرة العقبة، ويجب على الحاج أن يرميها في ثلاثة أيام، ففي كل يوم سبع حصي، ثم ينصرف من مكة إلى مِنى، وسبب ذلك فيما نقلوا: أن إبراهيم — عليه السلام — فعله ليرمي الشيطان الذي جاء ليشوِّشه على المناسك.
ومن أجلِّ مناسك الحج: الطواف حول الكعبة في أوقات متعددة؛ منها طواف القدوم أو التحية — والواجب على كل قادم إلى مكة أن يطوف حولها طواف التحية سواء أكان في موسم الحج أو غيره، ويُسمَّى طواف غير الموسم «العمرة» — ومنها: الطواف قبل الوقوف بعرفة، ثم الطواف بعد ذلك، وهو دوران الحاج سبعة أشواط حول الكعبة يبدأ كل شوط من ركن الحجر الأسود، فيستلم الحجر ثم يطوف بها، و«الحجر» هو حجر من النوع الصواني اللامع، تذكر العرب أنه نزل من السماء، وإذا أتمَّ المرء أداء المناسك المُشار إليها تحلَّل من إحرامه بذبح هديه إلى الله تعالى، ثم يقصُّ شعره، ويلبس المخيط، وأقرَّ الإسلام ذلك كله.
ومن تقاليد الحج: «الطواف» بين الصفا والمروة، وهما هضبتان قريبتان من الكعبة تبتعدان عن بعضهما نحو أربعمائة متر، وكان للجاهليين عندها أصنام يُقَرِّبون لها القرابين عندهما، وقد أبقى الإسلام هذا الطواف، وعدَّه من شعائر الله.
ومن تقاليد الحج: «إهداء» البُدن والهَدي إلى الله، ومن تقاليده: «تحريم الصيد» حالة الإحرام، وتحريم القتال في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والأشهر الثلاثة الأخيرة هي أوقات الحج، وأما رجب فهو شهر مقدس عندهم، واسمه مشتق من الترجيب؛ أي من التقديس، وقد كان لهم فيه عيد يحتفلون به، وكانت مضر أكثر العرب احتفالًا به حتى سُمِّيَ «رجب مضر»، وقد أقرَّ الإسلام هذه التقاليد، وحفظ لهذه الأشهر حرمتها.
وأرى قبل أن أنتقل من الكلام عن الحج أن أبيِّن بإيجاز طقوس الحج الإسلامي؛ ليتبيَّن القارئ هل كانت ثمة فروق بين الحج في الجاهلية والحج في الإسلام، قال المسلمون: إن الحج واجب في العمر مرة على كل مسلم أو مسلمة حرٍّ بالغ صحيح مالك للنصاب، وله فروض وواجبات وآداب؛ أما فروضه، فهي: الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة، وأما واجباته: فالوقوف بمزدلفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وطواف الصدر والحلق، وأما آدابه فما عدا ذلك. وكل من يريد الحج عليه بالإحرام؛ وهو دخول الحرم المكي في الموسم، ولبس إزار ورداء طاهرَيْن غير مخيطين، وأن يتَّقي الرفث والفسوق والجدال وقتل الصيد والتطيُّب وقلم الأظفار وقص الشعر، ويُكثِر التلبية وإذا دخل مكة كبَّر وهلَّل واستقبل الحجر الأسود واستلمه ثم طاف طواف التحية، ثم يصعد نحو الصفا ويدعو ربه، ثم يسعى نحو المروة فيصعدها ويدعو بفِعْل ذلك سبع مرات، ثم يسكن بمكة مُحرِمًا، ثم يطوف بالبيت نفلًا متى شاء، وفي ثامن ذي الحجة يخرج إلى مِنى فيمكث إلى فجر يوم عرفة، ثم يذهب إلى عرفة في اليوم التاسع، وعند الغروب يأتي المزدلفة، فإذا أسفر الصبح أتى مِنى ورمى جمرة العقبة بسبع حصوات، وكبَّرَ لكل حصاة، ثم حلق شعره، وحلَّ له كلُّ شيء إلا النساء، ثم يطوف طواف الصدر فطواف الزيارة بعد طلوع فجر يوم النحر، وبه تحل له النساء، ثم يأتي مِنى ويرمي الجمرات الثلاث بسبع حصوات بعد زوال ثاني يوم من أيام النحر، ثم يأتي مكة فيطوف طواف الوداع، وهكذا ينتهي.
فأنت ترى أن الإسلام قد أبقى على كثير من التقاليد التي كان العرب يفعلونها قبل الإسلام، وذلك مما توارثوه عن أبيهم إسماعيل، كما أنه ألغى ما اخترعوه مما لا أصل ديني له.
القضاء
ليست لدينا معلومات وافرة ثابتة عن أحوال القضاء والخصومة لدى العرب في العصر الذي سبق عصر النبي، وإنما نستطيع أن نفهم من بعض الأخبار المنشورة في تاريخ الجاهلية القليل المضطرب، وشعرها، وبعض نصوص القرآن وحكاياته لأحوال القوم قبل عصر الإسلام؛ أن الناس كانوا يتحاكمون في حل مشكلاتهم القضائية والجنائية إلى قُضاة سمتهم البيئة العربية إلى هذا المنصب؛ لما امتازوا به من علم وعقل وحكمة وحنكة، وقد كان هؤلاء الحكام الحكماء يقضون في القضايا الحقوقية والقضايا الاجتماعية من ميراث ونكاح وديون وديَّات ودماء وأموال وأنساب ومفاخرات ومناظرات، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء نفر من قُضاتهم وحكمائهم وحكيماتهم، أمثال: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، وجمعة بنت حابس، وخصيلة بنت عامر.
نظام الطبقات الاجتماعية
العرب ديمقراطيون لطبيعة البداوة، ولكن هذا لم يمنع من وجود نظام طبقي، فهناك طبقة الأرقَّاء، وطبقة الموالي، وطبقة العامة، وطبقة الأشراف، وطبقة الحمس، وطبقة الحُكَّام، وطبقة الزعماء، أما الأرقاء: فهم العبيد والإماء المسبيُّون أو المجلوبون، وكانوا يعاملون بقسوة، وقد أبقى الإسلام الرق، ولكنه دعا إلى رحمته وفك رقبته، وأما الموالي: فهم طبقة من العرب المستضعفين الذين التجئوا لبعض القبائل القوية كما أسلفنا، وأما العامة: فهم سواد الأمة العربية كالرعاة والعُمَّال والزُّرَّاع، وأما الأشراف: فهم الرؤساء والشيوخ والسراة، وقد كانت لهم الوجاهة على الطبقة العامة، ولهم تمثيلها في النوادي والمجالس، ولهم الحقوق والمزايا التي توارثوها كابرًا عن كابر، وأما الحمس أو الأحماس: فهم رجال كانوا من أشرف القبائل العربية توارثوا عن آبائهم بعض الخصائص الدينية، فترفَّعوا عن الناس في المواسم الدينية في مكة والطائف في الطواف والإفاضة والإنساء، وأما طبقة الحُكَّام: فهم عقلاء القبائل وحكماؤها وقُضاتها يدين الناس بفضلهم وعقلهم، ويخضعون لحكوماتهم وأمرائهم، ويُقدِّمون إليهم الهدايا والعطايا، وأما طبقة الزعماء: فهم السادة الأعلون توارثوا زعامة قبائلهم، وفرضوا طاعتهم على قبيلتهم وعلى أحلافهم، وذاع صيتهم في الجزيرة العربية.
(١-٥) الحالة العقلية
مقدمة
إن معلوماتنا عن الحركات العقلية في «الجاهلية» هي معلومات ضئيلة لأسباب كثيرة، «منها»: أنه لم يصلنا أيُّ أثر مكتوب موثوق عن ذلك العصر، وعن مدارك أهله في النواحي العقلية أو العلمية إلا الشعر وبعض الأقوال والحِكَم المنثورة التي لا تُغني كثيرًا في هذا الباب، «ومنها»: أن كل من كتبوا عنه من المسلمين أو أكثرهم صوَّروا ذلك العصر صورة قبيحة مغرقة في الجهالة؛ ليُبيِّنوا فضل الإسلام، وعُمق أثر الحركة الإسلامية، «ومنها»: أن دراسات علمية صحيحة تعتمد على علوم الأركولوجيا والأتتوغرافيا والفيلولوجيا لم توجد بعد، «ومنها»: طول العهد وامتزاج التاريخ العربي بالأساطير والخرافات، مما جعل تمييز الصحيح من المدخول أمرًا عسيرًا، «ومنها»: أن كتابات المستشرقين كتابات لم تخلُ من الغرض — ككُتَّاب المسلمين — ولم يكتب من كَتَب منهم في هذا الموضوع إلا وهو مغرض، وعلى رأسهم كاتبان: وغولدزبير وماسينيون وديمومبين وغيرهم من أعلام المستشرقين؛ لهذا كله أرى أن القرآن هو خير ما يمكن الاعتماد عليه — الآن — في تبيين الحياة العقلية قبل البعثة النبوية عند العرب قبل الإسلام، كما أرى أن نتريَّث الآن في أحكامنا على تاريخ العرب قبل الإسلام إلى أن توجد الأدلة والبحوث الصحيحة، ونكتفي الآن بدراسة القرآن والتنقيب داخل سطوره وتحتها، والاستعانة بما نُقِل إلينا من شعر الجاهلية وشعر صدر الإسلام؛ لأنه قوي الارتباط «بالجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوِّماتها، وسيرى القارئ لهذا البحث أن أكثر الصور التي صورها المؤرخون والباحثون «للجاهلية» هي صور مغلوطة خاطئة، وإن من الجناية على الحقيقة والتاريخ أن نسمي هذا العصر «بالجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البعد عن «الجهل» و«الجهالة».
وهناك أقوال لمستشرقين آخرين، أمثال: ديموين في كتابه: «النظم الإسلامية»، وكولدزير في مقاله عن الفقه الإسلامي في دائرة المعارف الإسلامية، وساتتلانا المستشرق الإيطالي في مشروعه للقانون المدني التونسي الذي وضعه سنة ١٨٩٩، وفون كرامر في «مباحثه الإسلامية» وواضح من هذه الأقوال أن روح التعصب المقيت السخيف قد أملتها؛ لأن صلات النبي ﷺ وصحابته — رضي الله عنهم — باليهود والنصارى لم تكن صلات قوية بحيث يتدارس النبي وصحابته مع اليهود والنصارى، ويفيدون منهم هذه الفوائد العقلية التي تجلَّى أمرها في القرآن والحديث والآثار، ثم إن يهود الجزيرة ونصاراها كانوا يهودًا مستعربين أو بداة، يعيشون مثل معيشة العرب ويفكرون مثل تفكيرهم، ولم يكونوا أرقى منهم مستوًى ولا أفضل منهم درجة، وإذا قرأنا الشعر اليهودي العربي الذي خلفه يهود الجاهلية أو صدر الإسلام نرى أنه شقيق الشعر العربي الذي قاله العرب في أفكاره وألفاظه ومعانيه، وفي هذا دليل على أن القوم — من عرب ويهود بل ونصارى — كانوا على صعيدٍ فكري واحد، وإن تمسك اليهود والنصارى بدينهم ولم يكن تمسُّكًا مشينًا ولا معرفتهم بدينهم إلا معرفة ضحلة، وإلا ظهر ذلك في أقوالهم وأشعارهم وحكمهم.
هذه مذاهب المستشرقين في تبيين العقلية العربية الإسلامية، ولم يفكر واحد منهم بدراسة أوضاع العرب قبل الإسلام، والفحص عن حالتهم العقلية ومستواهم الفكري، وإنه من المعقول جدًّا أن يتأثَّر النبي ﷺ وكبار صحابته ببيئتهم العربية قبل أن يتأثَّر بالبيئات الأجنبية الغريبة عنهم؛ لهذا كله نرى أن من واجب الباحثين أن ينصرفوا إلى دراسة عصر ما قبل الإسلام؛ ليبينوا حقيقة ما كان عليه القوم والدرجة الثقافية والعقلية التي كانوا عليها. إن أركان الدين المحمدي هي خمسة: الشهادة بالتوحيد، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لله ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (سورة العنكبوت: آية ٦١–٦٣)، فهذه الآيات تدل على إيمانهم بالله القوي الجبار الخالق الضار النافع الخالق الأعظم الرزاق، وأن هذه الأصنام والتماثيل وسائط وشفعاء لديه.
وأما الصلاة فما هي إلا أدعية وحركات تعبُّدِيَّة مع التوجه إلى الكعبة، وقد كانت للعرب قبل الإسلام صلوات ذات طقوس وحركات وأدعية كما تدل عليه الآية: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (سورة الأنفال: آية ٣٥)، قالوا: والمكاء هو التصفير والتصدية هي التصفيق، وكلمة «الصلاة» في هذه الآية تعني أن العرب كانت لهم في جاهليتهم صلاة ذات طقوس دينية معينة، وليس هذا صحيحًا ما يقرره الفقهاء من أن كلمة «الصلاة» كانت تعني في الجاهلية الدعاء وحسب وأنها خُصِّصَت في الإسلام فقط لهذا النوع من العبادة، ثم إن ذكر المُكاء والتصدية يُفهم منه أنه كانت لهم حركات وأنغام في صلواتهم، وليس هذا غريبًا فقد أمر الله إبراهيم وإسماعيل — عليهما السلام — أن يُطهِّرا بيته للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود (سورة البقرة: آية ١٢٥، وسورة الحج: آية ٢٦)، فلعلَّ بعض هذه الطقوس الصلاتية قد بقيت عند عرب الجاهلية؛ بل تكاد تؤكد ذلك؛ لما روي من أن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العباد الموحدين الحُنفاء في الجاهلية كان «يسجد» أمام الكعبة.
وأما الحج: فقد رأينا مفصَّلًا ما كان عليه في الجاهلية، وما أخذه الإسلام واستبقاه من طقوسه.
وبعد، فإذا كانت هذه حال أركان الإسلام الخمسة تبين ضعف نظرية هؤلاء المستشرقين المغرضين الذين يريدون أن ينسبوا كل شيء جاء به الرسول العربي إلى تقليد اليهود والنصارى، ومن كان من الأمم السالفة؛ ناسين أو متناسين أنه نشأ في إقليم وتربى في بيئة، فيجب أن يظهر أثر إقليمه في تعاليمه، كما يجب أن يتجلَّى طابع بيئته في طقوس ديانته، وليس في هذا ما يضر الدين الجديد، ولا يضع من مكانة النبي الكريم، فإن لله سننًا ونواميس لا تخالف.
- (١)
الألوهية وما يتعلق بها: قد بيَّنَّا مفصَّلًا في المقدمة أنهم كانوا يؤمنون بإله قاهر نافع ضار، ولكنهم كانوا «يشركون» به فيعبدون آلهة متعددة، شاركوا «الله الأعظم» في ألوهيته وربوبيته، وقد اختلف العرب في هؤلاء الشركاء؛ فبعضهم جعلهم «الملائكة»، وبعضهم جعلهم «الشياطين»، وبعضهم جعلهم «الشمس والقمر»، وبعضهم جعلهم «الأصنام والتماثيل»، وبعضهم جعلهم غير ذلك، وقد جعلوا لهؤلاء «الشركاء» أو «الأنداد» أو «الآلهة» ما لله سبحانه من صفات القدرة والربوبية، وقد ذكر القرآن الكريم كثيرًا من عقائد هؤلاء المشركين، وحمل عليهم لهذا الاعتقاد السخيف، وأنذرهم بسوء العاقبة، ومما تجد الإشارة إليه أن العرب لم يكونوا متساوين في شركهم، فقد كان للعقلاء والخاصة اعتقاد يخالف اعتقاد العامة والبدو، فالأوَّلون كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود الأعظم، وأن شركاء من الأصنام أو المخلوقات الأخرى ليسوا إلا وسائل ووسائط بينهم وبينه، وأن هؤلاء الشركاء ليسوا إلا أولياء أو شفعاء يشفعون له عنده، ولا شك عندنا في أن لأهل الكتاب من اليهود والنصارى والبقايا الحنيفية تأثيرًا في إيجاد هذه العقيدة أو بعضها. أما العامة من سكان البادية والحواضر فقد انحطَّت قواهم العقلية إلى درجةٍ اعتقدوا معها أن هذه الأصنام والتماثيل والمعبودات الأخرى من روحية ومادية هي التي تضر وتنفع، وهي التي تمنع الشر وتمنح الخير، وهي التي تُحيي وتُميت، ومن أشهر هذه الأصنام «عم أنسى» وكان لبني خولان، «وسعد» لبني ملكان، «والعُزَّى» لقريش وكنانة، «واللات» لثقيف بالطائف، «ومناة» بيثرب للأوس والخزرج، و«ذو الخلعة» لدوس وخثعم وبجيلة، «والفلس» لطي، «وذو الكعبات» لبكر بن وائل، «وإساف ونائلة» لقريش في الكعبة، «وهُبَل» وهو أعظم أصنام الكعبة لقريش جميعها …
وهناك أصنام أخرى غير هذه عدَّدَها ابن الكلبي،٤٣ وقال: إن أجل الأصنام مكانة عندهم؛ «مناة، واللات، والعزى»، أما مناة فكانت منصوبة على ساحل البحر من ناحية المشلَّل بقديد بين المدينة ومكة، ويليها في المكانة «اللات»، فكانت صخرة مربعة في الطائف، ثم «العزى»، وهو أحدث الثلاثة، وهي شجرة بوادي نخلة على بعد تسعة أميال من مكة، وكانت أعظم أصنام قريش ينذرون لها، ويذبحون عندها،٤٤ وهناك رواية تقول: إن هذه الأصنام الثلاثة كانت منصوبة في فناء الكعبة،٤٥ وكانوا يستفتحون عندها ويستقسمون بالأقداح لديها لحلِّ مشاكلهم أو الاستخارة وما إلى ذلك، ويظهر أن أكثر أصنام الكعبة حظوة في الاستخارة هو «هُبَل»،٤٦ ويظهر أن العرب أخذوا — من أواسط القرن الخامس للميلاد حينما قوي اتصالهم بأهل الكتاب — يتحسسون بحِطَّة الوثنية المادية التي كانوا عليها، ويحاولون السمو بأفكارهم إلى تنزيه الإله الأعظم، وقد كان «لليهود» والنصارى وحنفاء العرب أثر فعلي في إيجاد هذه الروح، ويفهم من تتبع آي القرآن وبعض الأحاديث النبوية والروايات والأخبار الجاهلية أن مجادلات ومناقشات كانت تقوم بين العرب وأهل الكتاب، وأن شيئًا من التبجُّح والخُيلاء كان يبدو من أهل الكتاب وبخاصة اليهود على العرب، وقد أثارت هذه الأمور غيرة العرب وعزَّتهم، وأذلت فيهم روح الحماسة الدينية، وجعلتهم يتطلَّعون إلى رسالة من السماء ترفع من قدرهم، وتعلمهم الكتاب: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (سورة البقرة: آية ١٢٩)، وقد كان اليهود يخبرون العرب بقرب بعثة نبي منهم، ويقولون لهم إنه سيكون منهم نبي، ولكنهم أخذتهم العزة حين جاءهم على يد محمد: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لَّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ، وصفوة القول أن العرب في جاهليتهم كانوا على مستوى عقلي رفيع، وبرهان ذلك ما رأيناه في نظرتهم إلى الألوهية، وما سنراه في لغتهم الرفيعة وحكمتهم الموروثة وأشعارهم المتناقلة وأمثالهم المتداولة. - (٢)
تفوقهم اللغوي: إن من يدرس اللغة العربية بنحوها وصرفها واشتقاقها وعروضها وفنونها البلاغية يرى أن القوم قد بلغوا درجة رفيعة في الرقي والمستوى اللغوي.
اللغة العربية هي إحدى اللغات المعروفة باللغات السامية، وهي: الآشورية، والبابلية، والكنعانية، والفينيقية، والسريانية، والآرامية، والعبرية، والحميرية، والحبشية — وعلى الرغم من كون هذه اللغات توالدت من أم واحدة في عصورٍ متباعدة — أقدمها الآشورية والبابلية التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وأحدثها العربية التي ترجع إلى ما قبل القرن الثالث بعد الميلاد، فإنها تختلف اختلافًا كبيرًا فيما بينها، كما أنها تختلف فصاحةً ورقًّا، ويظهر أن أرقى اللغات السامية وأفصحها وأوسعها هي اللغة العربية، وأن أقدم النصوص العربية الفصيحة التي عُثر عليها ترجع إلى الفترة التي تمتد من القرن الثالث بعد الميلاد إلى القرن الخامس، وهذه النصوص هي الشعر الجاهلي والحِكَم الجاهلية، ولكن من يدقق في هذه النصوص يجدها كاملة مهذَّبة ذات نمو مُتَّسِق وصرف منظَّم وقواعد عروضية وشعرية راقية، ولا شك في أن اللغة العربية قد مرَّت بأطوار بعيدة العهد تطورت فيها، وتدرَّجت إلى هذا الكمال الذي وجدناه في الشعر الجاهلي، ثم في القرآن، ومما يؤيد هذا أن المستندات الكتابية الحجرية التي عثر عليها الأستاذ ليتمان Littmann — في جبل الصفا بحوران — والبرفسور وتسيتين Wetzstein قنصل ألمانيا في أواسط القرن الماضي بالشام،٤٧ وهي نصوص تتعلق بتاريخ تلك البقعة وسكانها وأنسابهم وقبائلهم وعقائدهم، وهي مكتوبة بلغة عربية قريبة جدًّا من الفُصحى ومُسطَّرة بحروف الخط الصفوي المشتق من الخط السيئي في القرن الثاني والثالث بعد الميلاد، والذين كتبوا هم قوم من القبائل العربية من إخوان الغساسنة، وأكثرها يتعلق بأنسابهم وأعمالهم المجيدة وحياتهم وطريق رعيهم للإبل والماشية، وحروبهم مع الرومان والفرس، كما أنها تضمنت كثيرًا من عقائدهم الدينية وآرائهم في الآلهة والملائكة والجن وما إلى ذلك، ولغة هذه النصوص عربية تشبه لغة الشعر الجاهلي مع وجود بعض الاختلافات النحوية التي تجمع بينها وبين اللغات السامية الأخرى،٤٨ ويظهر أن هذه النصوص هي صورة لما كانت عليه اللغة العربية في هذه العصور، وأنها ما زالت تتطور وتترقى حتى بلغت تمامها في الشعر الجاهلي أيام امرئ القيس ومن بعده، وهذا طبيعي فإن اللغة كسائر الكائنات الحية تمر بأدوار كثيرة، ويدخلها كثير من أحوال الحياة من نشوء ونمو وارتقاء وتفرُّع وانقسام، وإن أرقى عصور اللغة العربية كان في القرن السادس وفي الحجاز، فقد ارتقت فيه اللغة، وزادت المفردات، واتسعت أخيلتها، ودخلها كثير من الألفاظ الأجنبية مما اقتضته الحضارة العالمية والتقدم ونظام النشوء على النمط الذي نراه في شعر المعلقات وغيرها من عيون الشعر الجاهلي الإسلامي.ولما ظهر الإسلام اتسعت اللغة العربية لتعاليمه وسعة مصطلحاته ومعانيه، وقد كانت هذه اللغة متحضِّرة في جزيرة العرب وجزيرة سيناء وديار الشام وبادية الجزيرة وما بين النهرين، وقد كان لسكان هذه الديار الواسعة لهجات ولُهيجات تختلف قربًا وبُعدًا عن اللغة الأم الفصيحة؛ فلهجات أواسط الجزيرة كانت أفصح اللهجات لبُعدها عن الأعاجم من فُرسٍ وأحباش وروم وقبط ونبط، ويليها في الفصاحة لهجات عرب مشارف الشام، قال الأستاذ جرجي زيدان: «أكثر سكان أواسط جزيرة العرب من قبائل مضر، وكانت أعظمها يومئذٍ «تميم» في شرقي نجد وشمالها، و«غطفان» عبس وذبيان، و«سليم» وغيرهما في نجد، وأرقاها قريش في مكة، وكان من القبائل القحطانية هناك طي في نجد، ومذحج في أطراف الحجاز، وأكثر سكانها في الشمال من ربيعة، وفيهم «بكر» و«تغلب» في بادية العراق في الجزيرة، فلغات هذه القبائل كانت تختلف بعضها عن بعض باختلاف أحوالها ومساكنها، وكان الاختلاف على معظمه بين لغات اليمن ولغات الحجاز ونجد؛ أي بين جنوب الجزيرة وشمالها، وأحسن مثال للغات الجنوبية ما خلَّفه الحميريون من الآثار بالحرف المسند، وأحسن مثال للغة الحجاز لغة القرآن وشعر الجاهلية، والفرق بين اللغتين كبير.»٤٩ ولا شك في أن الرقي اللغوي دليل على الرقي العقلي، ونحن إذا دققنا لغة الشعر الجاهلي نجدها لغة ممتازة في نحوها وصرفها وأفكارها ودقة تعبيرها. - (٣) مستواهم العلمي والأدبي: النظرية الشائعة لدى أكثر من كتب عن عرب الجاهلية هي وصفهم بالأمية، وجهلهم الكتابة والقراءة،٥٠ وانحطاطهم العلمي، وقلة بضاعتهم في المعرفة؛ لأنهم كانوا بداة جفاة أميين يعيشون في الصحراء، لا حضارة ولا مدنية عندهم، وغاية ما امتازوا به هو إجادتهم في القول من شعر وخطابة، وبراعتهم في رصف الجمل المتناسقة، والأسجاع الموفقة، وهذا الوصف على الرغم من تناقضه وتهافته لا يستند على حقيقة، ولا يقوم أمام المناقشة؛ فلا يُعقل أن يكونوا فُصحَاء شعراء إذا لم يكونوا مثقفين كتَّابًا ذوي مستوى علمي حسن، وتفكير منطقي معقول، وذوق فني راقٍ، أما أُمِّيَّتُهُم فوصف خاطئ لا ينطبق على الحقيقة، وتنقضه نصوص موثوقة قديمة وأدلة علمية حديثة، أما النصوص العلمية القديمة: فأجلها ما في القرآن الكريم من آياتٍ كثيرة تذكر الكتاب والكتابة وأدوات الكتابة والصحف والسجل والمداد والأقلام وما إليها مما يتعلق بالخط، حتى إن الأستاذ العلامة محمد عزة دروزه قد أحصى كلمات الكتابة ومشتقَّاتها في القرآن الكريم فوجدها أكثر من ثلاثمائة كلمة، كما أحصى كلمات القراءة ومشتقاتها فوجدها نحو تسعين مرة ونيف بأساليب متنوعة، وقد علَّقَ الأستاذ العلامة على هذا بقوله: «فورود هذه الآيات الكثيرة في القرآن تحتوي أسماء ووسائل وأدوات القراءة والكتابة، وتحتفي بالقراءة والكتابة هذه الحفاوة الكبيرة؛ دليل واهن على أن العرب في بيئة النبي ﷺ وعصره قد عرفوا تلك الوسائل والأدوات واستعملوها، وعلى أن القراءة والكتابة فيهم كانتا منتشرتين في نطاق غير ضيق، فكثرة الترديد تدل على الألفة، وهذه لا تكون إلا حيث يكون المألوف ذائعًا ذيوعًا غير يسير، وإذا لاحظنا أن أولى آيات القرآن هي … اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ بأسلوب يدل على حفاوة عظيمة، وأن ثانية آيات نزلت بعدها على ما عليه كثير من الرواة هي آيات سورة القلم الأولى التي أقسم الله فيها بالقلم والكتابة: ن ۚوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مما يدل كذلك على حفاوة بالغة ازداد قولنا قوة وتأييدًا.»٥١ فهذا يدلك على كثرة الكتَّاب بين الناس في صدر الإسلام، وأن الأمر لم يكن كما ذهب إليه المؤرخون القُدامى من أن كُتَّاب مكة يوم جاء الإسلام لم يتجاوزوا السبعة عشر.وأما الأدلة العلمية الحديثة فقد بحثها المستشرق المؤرخ الإيطالي البرنس كايثاني في الفصل الذي كتبه، نشأة الخط العربي، وأثبت فيه بالأدلة المادية والاكتشافات النقشية والوثائق الخطية، وبخاصة في الشام والجزيرة، أن الخط العربي قديم الوضع، وأن الكتابة كانت رائجة في الجزيرة ومشارف الشام قبل البعثة النبوية بكثير،٥٢ ثم إن وجود الكتابيين بكثرة في الحجاز واليمن ومشارف الشام من يهود ونصارى، وصلتهم القديمة بالعرب؛ يجعل العرب من متهودين ومتنصرين يفيدون من إخوانهم وجيرانهم، فيتعلمون الكتابة والقراءة حتى الكتابة غير العربية من عبرانية وسريانية ورومية، وقد أمر النبي ﷺ كاتبه زيد بن ثابت — رضي الله عنه — بتعلُّم العبرية، كما روى البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي أن ورقة بن نوفل كان قد تنصَّر في الجاهلية وكان يكتب العبرانية، ويظهر أن الكتاتيب كانت معروفة في الجاهلية في البدو كما كانت معروفة في الحضر، فالمؤرِّخون يذكرون أن يوسف الثقفي أبا الحجاج كان معلم كُتَّاب في الطائف،٥٣ ونقل السيد الكتاني عن الماوردي في أدب الدنيا والدين نقلًا عن ابن قتيبة: «أن العرب كانت تُعَظِّم قدر الخط، وتعده أجلَّ نافعٍ حتى قال عكرمة: بلغ قراء أهل مكة أربعة آلاف، حتى إن الرجل ليغاوي على أنه يُعَلِّم الخط لما هو مستقر في نفوسهم عن عظم خطره، وظهور نفعه وأثره، قال الله لنبيه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، فوصف نفسه بأنه علَّم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم، عدَّ ذلك من نعمه العظام ومن آياته الجسام حتى أقسم به في كتابه، فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم …» هذا يبطل ما قاله ابن خلدون من جهلهم بالخط، فإن عكرمة كان يتكلم عن مشاهدة، وابن خلدون قال ما قال عن تخمين،٥٤ ويشير السيد الكتاني بهذا إلى ما قاله ابن خلدون من أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وأن العرب كانوا بعيدين عنها؛ لأنهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة غير مُجيدين لها، شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون مُحكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق٥٥ إلى آخر ذلك الكلام الطويل المبني على التخمين والزعم البعيد عن التحقيق العلمي الصحيح. هذا وقد كان للنبي كُتَّاب بلغ عددهم ما ينيف على الأربعين،٥٦ وكان أكثرهم من الشبَّان المكيين والمدنيين، ولا شك في أنهم قد تعلموا الخط والقراءة وما إليها في بعض كتاتيب البلدين، والكتاتيب كانت معروفة في بلاد الشام ومصر والعراق قبل الإسلام، فلا غرابة إذا نقل القريشيون ذلك عنهم في رحلاتهم التجارية، كما أن الجوالي النصرانية واليهود في الجزيرة قد كانت تُعَلِّم أبناءها في مدارسها وكنائسها، وليس بعيدًا أن يكون جيرانهم العرب قد أفادوا ذلك منهم.أما ما كان يُعَلَّم للأطفال في الكتاتيب فليست لنا به أية معرفة جازمة به، ولم ترمز آثار إليه، ولكن بالقياس على ما كانت عليه الكتاتيب في العصر الإسلامي نذهب إلى أنهم كانوا يتعلمون مع القراءة والكتابة شيئًا من مبادئ الحساب، ورواية الشعر القديم، والحِكَم المأثورة، وأخبار الماضين وقصصهم، وأنساب العرب الأقدمين وأحوالهم.٥٧
بعد أن بيَّنَّا أن الكتابة والقراءة كانتا منتشرتين انتشارًا ملموسًا في الجاهلية في الحواضر، وأن بعض أهل البادية كانوا قد ألمُّوا بها بعض الإلمام، وأن العرب كانت لهم في جاهليتهم كتاتيب يُعَلِّمُون فيها أبناءهم؛ ننتقل إلى بيان علوم العرب وثقافتهم، فنقول إنها كانت:
معرفة أخبار الماضين وأنسابهم من العرب والأعجميين
معلومات جغرافية
كان للعرب في جاهليتهم رحلات وأسفار برية وبحرية يقوم بها الحجازيون واليمانيون، وقد كانت رحلاتهم البرية تبدأ من اليمن إلى الشمال فمشارف الشام ووادي الكنانة وديار الرافدين، ولا غرو في أنهم كانوا يعرفون دروب هذه البلاد وطرقاتها كما كانوا يعرفون المعلومات الضرورية عن أحوال البلاد التي يزورونها، ويدل سفر المسلمين حين ضاق عليهم الأمر في مكة في أول الدعوة الإسلامية على أن الصلات كانت طيبة بين الجزيرة العربية وبلاد الحبشة النصرانية، وأن هناك روابط تجارية كانت تربط بين البلدين، ثم إن هذه الرحلات البحرية تقضي بأن يكون أصحابها عارفين بأحوال البحر مطلعين على أمور الملاحة، فاهمين لأحوال الجو والرياح والأنواء.
معلومات فلكية وطبيعية
الطب والبيطرة والصيدلة
كانت للعرب معارف طبية توارثوها عن أسلافهم أو اقتبسوها من جيرانهم وبخاصة الكلدان، أو اهتدوا إليها بتجاربهم، والطب العربي ذو شقين؛ شق يعتمد على العقاقير والأشربة والمداواة المادية من حجامة وفصد أو كي وقطع وبتر وجراحة، والشق الآخر: يعتمد على الرُّقَى والعزائم والتمائم، ومن أشهر أطبائهم: لقمان الحكيم، وقصصه وأخباره أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة حتى أدرك زمن النبي ﷺ فكان يوصي مَن مَرِضَ أن يستوصفه، ومن الجراحين المشهورين: ابن أبي رومية التميمي. وأما البيطرة والبيزرة فقد برعوا فيها، ونبغ فيها جماعة من أطباء الحيوان والطير أمثال العاص بن وائل، وكذلك علم الصيدلة؛ وهو من متعلقات الطب، وقد تفنَّنوا في معرفة العقار العربي، كما عرفوا الحشائش التي تنبت في بلادهم وفوائد كل حشيشة مع الخصائص لكل نبات، وفي كتب الطب القديم والحيوان والأدب أخبار منثورة كثيرة عن معرفة العرب بالعقاقير والنبات والمفردات الطبية، وأجمع كتاب فيها «مفردات» ابن البيطار الأندلسي المغربي.
علوم الأدب
من نثر وشعر وقصص وأمثال وخُطَب وغير ذلك مما كانوا يلقونه في المجامع والأسواق والمسامرات من الأخبار والأشعار، وقد تفنن العرب في هذا كثيرًا، وليس هاهنا مجال القول فيه.
الكهانة والسحر والعرافة
وأما السحر فكان أمره أقل فشْوًا من الكهانة، وكان العرب يزعمون أن بين السحرة والشياطين صلات روحية، وأن الساحر قادر على أشياء خارقة، وكان بعض اليهود في الحجاز يتعاطى هذه المهنة، ويقوم بعقد العُقَد، والنفث عليها، وتلاوة بعض الكلمات السرية أو الغريبة المعاني.
القيافة والفراسة والريافة
فالقيافة: هي تتبع الآثار والاستدلال منها على الأعيان، وهي نوعان: قيافة الأثر، وقيافة البشر، وقيافة الأثر: هي آثار الأقدام والحوافر والأخفاف للاستدلال عليها، وقيافة البشر: هي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخص على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب، والفراسة: هي الاستدلال بهيئة الشخص وأشكاله وأقواله وحركاته وأعضائه على أخلاقه ومناقبه، ولا شك في أن الذكاء الفطري والسياحة تلعبان دورًا كبيرًا في هذه المعرفة، وأما الريافة: فهي الاستدلال من تراب الأرض وأعشابها على المياه الجوانية وأمكنتها فيها.