(١) في البيئة النبوية ومولده وطفولته
ﷺ
كان عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (١٢٧ق.م.) من أشرف بني قومه، وأجلهم قدرًا،
وكانت إليه السقاية والرفادة؛ وهي أعظم وظائف الحرم المكي مكانة، وما زالت مكانته
تنبل في قومه وفي العرب أجمعين حتى لم يعدل به أحد منهم، وهو الذي كشف عن بئر زمزم، بئر
إسماعيل، واستخرج ما كان مدفونًا فيها؛
وهي: غزلان من ذهب كانت قد دفنتها جرهم حين أُخْرِجت من مكة، وأسياف قُلْعِيَّة
نفيسة، وأدراع ثمينة القيمة، فجعل من الأسياف بابًا للكعبة، وجعل الغزالين صفائح
ذهبية كسى بها باب الكعبة،
١ وهو الذي خذل الله على يديه أبرهة الأشرم، ودمر أصحاب الفيل، فازداد
قدره لدى العرب أجمعين، وكان عبد المطلب مثل أبيه جوادًا كريمًا؛ فقديمًا سمَّى
العرب أباه هاشمًا؛ لهشمه الثريد لهم، وإطعامهم إيَّاه في سنوات القحط، ولم يكن عبد
المطلب أقل من أبيه سماحةَ يدٍ ورجاحة عقل وشرف نفس وعلوَّ مكانةٍ.
كانت قريش بيضة فتفلَّقَت
فالمُحُّ خالصة لعبد مناف
وكان لعبد المطلب عشرة بنين وعشرة بنات؛ هم: العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبو طالب،
والزبير، والحارث، وحجل، والمقوم، وضرار، وعبد العزي، وأبو لهب (٢ﻫ)، وحنيفة،
وأم حكيم البيضاء وعاتكة، وأمية، ووبرة، وكلهم نبيل وجيه لم يؤثر عنه ما يشينه ولا
ما يحط قدره، حتى أبو لهب الذي كان يكره محمدًا فقد كان من الأشراف الشجعان
والكرماء الباذلين والأقوياء المعتزِّين بمكانتهم ونبلهم، ولذلك عزَّ عليه أن
يغيِّر دينه ويتبع دين ابن أخيه، فعارضه إلى أن قُتل بعد وقعة بدر بأيام، ولا بد
لنا من وقفة أمام أعمام النبي الآخرين؛ لنُبيِّن مكانتهم، وشرف نفوسهم، والبيئة
الطيبة التي كانوا فيها.
فالعباس (٥١ق.ﻫ/٣٢ﻫ) وصفه النبي بقوله: أجود قريش كفًّا وأوصلها رحمًا، هذا بقية
آبائي، وكان من الأجواد المحسنين، سديد الرأي، واسع العقل، مغرًى بإعتاق العبيد،
كارهًا للرق؛ اشترى ثمانين عبدًا ورقيقة فأعتقهم، وهو الذي تولى سقاية الحجاج
ورفادة البيت بعد أبيه، كما أنه كان يتولى عمارة البيت؛ وهي أن لا يدع أحدًا يسب
آخر في المسجد الحرام أو يقول هجرًا. أسلم في السنوات الأولى من الدعوة، وكتم
إسلامه، وأقام بمكة يكتب للنبي أخبار المشركين.
وحمزة (٥٤ق.ﻫ/٣ﻫ) هو صنديد قريش وسيدها الجواد القوي النبيل، ولما ظهر الإسلام
تردد في الدخول فيه، ثم علم أن أبا جهل بن هشام قد أخذ يتعرض للنبي وينال منه،
فقصده وضربه، وأعلن إسلامه، فقالت الناس: اليوم عزَّ محمد وإن حمزة سيمنعه، وكفُّوا
عن الإساءة للمسلمين.
وأبو طالب — واسمه عبد مناف — (٣ق.ﻫ)، وكان من أبطال قريش ورؤسائهم وخطبائهم
وفصحائهم وعقلائهم وآبائهم، وكان يعيش من التجارة، وهو الذي ربَّى النبي وحماه، له
أيادٍ بيض على الإسلام.
والزبير: كان أكبر أعمامه، وكان وجيهًا نبيلًا فصيحًا، رووا أنه كان يرقص النبي
في طفولته، ومما كان يقوله له:
محمد بن عيدم عشت بعيش النعم
في دولة ومغنم دام سَجِيس الأزم
٢
والحارث: كان أول ولدٍ وُلِدَ لعبد المطلب، ولكنه هلك صغيرًا.
وحجل: وكان يسمى المغيرة، وقيل مصعب، ويُلقَّب بالغيداق؛ لكثرة خيره وسعة ماله،
وكان أجود قريش وأكثرها طعامًا ومالًا.
المقوم: وكان من وجوههم وعقلائهم وفصحائهم.
ضرار: وكان فتى قريش وأكثرها نبلًا وكرمًا.
ولم يُسلِم من أعمامه سوى الحمزة والعباس،
٣ وأما بنات عبد المطلب فكُنَّ عفيفات شريفات فاضلات شاعرات شجاعات؛
٤ أسلمت منهن صفية أم الزبير، وشهدت وقعة الخندق، وقتلت رجلًا من اليهود،
وضرب لها النبي بسهم.
٥
هؤلاء هم أبناء عبد المطلب وبناته، ولم يكن فيهم إلا الجوَّاد الشجاع الفاضل،
وأما عبد الله أبو النبي فكان من أنجب أولاده وأحبهم إليه؛ لعقله وأدبه، والرواة
يذكرون أن عبد المطلب لمَّا رأى ضيق أهل مكة بقلة الماء أخذ يُفتِّش عن موضع زمزم
الذي طمره عمرو بن الحارث الجرهمي؛ لما اضطر إلى مغادرة مكة فارًّا إلى اليمن، فلما
بلغ يَسَّرَ الله على يديه الكشف عن موضع زمزم، وحفرها، واستخرج كنوز
الكعبة.
نذر لئن جاءه عشرة بنين فليذبحن أحدهم لله قربانًا، حتى إذا تكامل بنوه عشرًا أتى
هُبل في جوف الكعبة ومعه أولاده، ثم أعطى كل واحد قدحًا — وهو سهم بلا نصل — وكتب
كلٌّ اسمه على سهمه، ثم أخذ عبد المطلب القداح وأعطاها إلى قيِّم الكعبة؛ ليضرب بها
عند هُبل، فضربها القيم فخرج على عبد الله، فقبض أبوه على يده، وأخذ الشفرة، وأقبل
إلى إساف ونائلة بين الصفا والمروة؛ لينحره حيث تُنحر النسائك، فقام إليه سادة قريش
وقالوا لا تذبحه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه وتكون سُنَّة،
وأشارت عليه الكاهنة بخيبر أن يقرع بين ابنه وبين ما يدفعون دية للواحد منهم من
الإبل وهو عشرة، فقالت له: ارجع إلى بلدك وقرب ولدك، ثم قرب عشرة من الإبل، ثم اضرب
عليه وعليها قدحًا، فإن خرجت على صاحبه فزد في الإبل، ثم اضرب ثانية، وهكذا حتى
يرضى ربك، فإذا خرجت على الإبل فانحرها فقد رضي ربك وتخلص ابنك، وضرب بالقداح إلى
أن بلغت الإبل مائة فنحرها
٦ وازداد تعلقه بابنه الحبيب، ولما جاء أبرهة إلى الكعبة بفيله ورده الله
ابتهج عبد المطلب أعظم الابتهاج، واهتبل ذلك الحين فرصة للاحتفال بزواج ابنه
الحبيب، فأخذ يختار له النساء حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذٍ سيد بني
زهرة نسبًا وشرفًا، فخطب إليه وتزوج عبد الله آمنة ابنة وهب، وهي يومئذٍ أفضل نساء
عصرها حسبًا وموضعًا، وكان ذلك في المدينة في آب (٥٧٠ للميلاد) وهي السنة المعروفة
بعام الفيل، ولكن عبد الله لم يلبث طويلًا بعد زواجه، وقد اختلفت الروايات في ذلك؛
فقيل إنه بعد شهرين، وقيل إنه مات بعد سبعة أشهر، وقيل: غير ذلك،
٧ ومهما يكن من شيء فإن السيدة آمنة وضعت طفلها صبيحة يوم الاثنين التاسع
من ربيع الأول المصادف لليوم العشرين من نيسان (٥٧١)، فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده
أن قد ولدتُ لك غلامًا فأتِهِ فانظر إليه، فأتاه ونظر إليه فأخذه ودخل به الكعبة،
فقام يدعو الله ويشكره على ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وسمَّاه
محمدًا، ثم استرضعه في بني سعد، وأعطاه لحليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، فأحبته
وعُنيَت به، وكانت تلاعبه وترقصه، ومن مأثور قولها فيه:
يارب إذ أعطيته فأبقِهِ
وأعلِهِ إلى العُلا وأرقِهِ
وادحض أباطيل العدى بحقِّهِ
٨
فلما مضت عليه سنتان جاءت به حليمة إلى أمه، فقالت لها: لو تركت ابني حتى يغلظ،
فأنا أخشى عليه وباء مكة، ولم تزل بها حتى ردَّته معها، فرجعت به وبقي عندها إلى أن
بلغ خمس سنوات وشهرًا،
٩ قال حليمة: وكان يَشِبُّ شبابًا لا يشبه الغِلمان،
١٠ ولما بلغ ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة
تزورهم ومعه أم أيمن حاضنته، فنزلت به «دار التبابعة» فأقامت به عندهم شهرًا ثم
رجعت به، فلما كانت في طريقها إلى مكة هلكت بالأبواء، فكفله جده ورعاه، وهذَّبه
أحسن تهذيب، ولمَّا أحسَّ بدُنُوِّ أجله — وكان لمحمد ثماني أعوام — أوصى أبناءه
به، وبخاصة أبا طالب، ومما قال في وصيته:
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بمؤتم بعد أبيه فردِ
ولما مات عبد المطلب في السنة الثامنة لعام الفيل ارتجَّت مكة لفقده، وأكثر
الشعراء من رثائه وتعديد مناقبه، وفدح المصاب بفقده،
١٢ وأجمع أبناؤه ووجوه قريش على إسناد السقاية، وهي أجل رئاسات قريش، إلى
ابنه العباس، وهو يومئذٍ أحدث أبنائه، كما عهدوا بكفالة ابن أخيهم عبد الله إلى
أخيهم أبي طالب، فتولَّى أمر تربية محمد وتهذيبه والعطف عليه حتى ألِفَهُ محمد،
وأصبح لا يطيق مفارقته، ويذكر الرواة أن أبا طالب أراد في السنة التاسعة لعام الفيل
أن يخرج للاكتساب والتجارة، وأحس محمد بأن عمه وكافله يريد أن يبتعد عنه، فتعلق به
وألحَّ عليه في الذهاب معه؛ فأخذه في رحلة الشام، ويقال إن الركب لما بلغ بصرى
الشام، ونزلوا بصرى بقرب صومعة راهب اسمه بحيرا رأى محمدًا، فتوسَّم فيه الخير،
ودعا له، وأوصى عمه به،
١٣ فاشتد حرص أبي طالب على ابن أخيه، وأصبح لا يفارقه إلى أن عاد من
رحلته، وكان محمد يشب ويترعرع وهو مُتخلِّق بأفضل الأخلاق متصف بأنبل السجايا بعيد
عن أوضار الجاهلية، ويُجمع الرواة والمؤرخون على أنه اشترك في هذه الفترة من عمره
بحادثتين؛ «أولاهما»: شهود حلف الفضول الذي عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم
بمكة. «وثانيهما»: خروجه مع أعمامه في حرب الفجار التي وقعت بين قبائل قريش وكنانة
وبين قيس وعيلان،
١٤ وقد كان محمد يذكر حرب الفجار ويقول: «كنت أنبل على أعمامي.» أي: إنه
كان يردُّ عنهم سهام الأعداء، كما كان يذكر حلف الفضول، ويقول: «لقد شهدت في دار
عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيتُ إليه في الإسلام
لأجبت.» أي لما كان عليه ذلك الحلف من المبادئ الإنسانية السامية والأخلاق
الرصينة.
وبعد، فهذه لمحة عن بيئة محمد، وشيء عن طفولته، وهي كما ترى بيئة رفيعة رضيَّة،
وطفولة طاهرة مرضية.
(٢) في سيرة محمد
ﷺ قبل البعثة
نشأ الطفل النبيل محمد في تلك البيئة النبيلة مُتحلِّيًا بالأخلاق الفاضلة،
والسجايا العربية الشريفة والمزايا القدسية الحسنة، فلما أدرك سن البلوغ ظهرت
كمالاته، ففحص ما حوله، ودقق فيما كان عليه قومه، فرأى بعقله السديد أن العرب في
جهالة جهلاء، وأنهم قد ابتعدوا عن الدين الحنيفي القويم، وسلكوا مسالك الزيغ
والضلال؛ بما أشركوا مع الله وما أفسدوا من شعائر دين الله، على أنه قد رأى فيما
كان عليه آباؤه من حلم ونبل وأخلاق وعقل؛ شيئًا من ديانة إبراهيم وابنه إسماعيل،
فأعجبته وتمسَّك بها.
ثم رأى أن في العرب من سكان الحجاز نفرًا قد نفروا عن الإشراك بالله، وتخلَّوا عن
التقاليد الوثنية إما إلى النصرانية أو اليهودية أو إلى الحنيفية، فأعجبه ذلك، وأخذ
يلتمس الحنيفية، ويبحث عن الطريق السوي، ولكنا لا نعرف بوجه يقين ما كانت عليه
حقيقة أمره في تلك الفترة من حياته، وعلى أن هناك بعض آيات قرآنية نستطيع أن نفهم
منها ما كانت عليه نفسُه في تلك الفترات من عُمره من التفتيش عن دين الله والاهتداء
إلى الصراط المستقيم، كقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي
رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ
ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ (سورة الأنعام: ١٦١–١٦٣)، ولم يكن عمل محمد هذا بدعًا،
فقد تواردت الأخبار في القرآن والسنة والشعر الجاهلي وكتب السيرة عن جماعات من
العرب في مكة ويثرب والطائف وسائر الحجاز والجزيرة تخلوا عن الشرك وقدَّسوا الله
ووحَّدُوه، واتبعوا ما بقي من ديانة إبراهيم أو ما ظنوه من بقايا ديانة إبراهيم:
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ
اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة النحل: آية: ١٢٠–١٢٣).
ولم نعثر فيما بين أيدينا من نصوصٍ قرآنية وتاريخية وشعرية على شيء يبين كيف كان
يتعبد محمد، أو كيف كان يقضي أوقاته في التحنُّث، فهل كان يمارس الطقوس الدينية
التي كان يمارسها العرب من السجود أمام الكعبة أو القيام بطقوس الحج أو ما إلى ذلك؟
وهل كان يجاري قومه في القيام ببعض الشعائر الدينية الأخرى مما عرفناه سابقًا! الحق
أن معلوماتنا في هذا الصدد قليلة جدًّا، ولا نرى ما رآه الأستاذ عزة دروزة في كتابه
القيِّم «سيرة الرسول» حيث يقول: «أن ليس في القرآن ما يمكن الاستدلال به على كيفية
تعبُّد النبي
ﷺ لربه قبل البعثة، ولقد استدللنا في كتابنا «عصر النبي»
وبيئته قبل البعثة
ﷺ على أن أهل هذه البيئة من العرب كانوا يعرفون أن الصلاة
مظهر من مظاهر العبادة لله أو إلههم، وأنهم كانوا يقومون بصلاة تعبدية، وأن حالات
الركوع والسجود كانت معروفة وممارسة ككيفيَّات تعبُّديَّة عند العرب والكتابيين،
وعند العرب أمام الكعبة بنوعٍ خاص، وبناء على هذا فإننا نستطيع أن نُقرِّر أن النبي
ﷺ كان يعرف هذه الكيفيات، وأنه كان يمارسها جهرًا عند الكعبة وفي صلواته
كعمليات تعبدية قبل بعثته لله وحده.»
١٥ ولا أدري حجة الأستاذ في هذا القول، فإن أحدًا ممن كتب في سيرة الرسول
من القدامى الموثوق بأقوالهم لم يذكر شيئًا من كيفية تعبُّد محمد قبل البعثة،
والقرآن الكريم على الرغم من تقصيه لأحوال النبي لم يُشِر إلى شيء من هذا القبيل
كما رأينا، وإنما ذكر أنه كان يتطلب الهداية من ربه إلى أن هداه إلى الصراط
المستقيم دين أبيه إبراهيم، على أنهم رووا أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء، وأن
النبي كان يصومه، وهو يوم تجديد أستار الكعبة.
وهنا أمور لابد من الإشارة إليها، وهي تتعلق بمعرفة النبي القراءة والكتابة،
وبعلمه وثقافته واطِّلاعه على ديانات الأقدمين، وما إلى ذلك.
(٢-١) كتابة النبي وأُمِّيَّته
يذهب جمهور المسلمين من علماء دين ومؤرِّخين إلى وصف النبي بالأمية، ونفي
اكتسابه العلوم، وتوكيد ذلك، والإصرار عليه تصحيحًا لجلال نبوَّته، وتفخيمًا
لحركته؛ ظنًّا منهم أن أمية النبي وجهله للكتابة والقراءة يرفع من قدره، وأن
القول بكتابته يحطُّ من قدره، وسنعرض فيما يلي لبيان هذا الأمر حسبما توصَّلنا
إليه.
يستند القائلون «بأمية النبي»
ﷺ على الآية القائلة:
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (سورة
العنكبوت: آية ٤٨)، والآية القائلة:
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا (سورة الفرقان: آية ٥)، أما الآية الأولى فهي في أن
النبي كان قبل البعثة النبوية لا يقرأ ولا يخطُّ، وأما الآية الثانية فتقول
كذلك بأميته وأنه كان يستكتب بعض القصص، وأنها كانت تُملى عليه فيستمع إلى من
يتلوها صبحًا ومساءً حتى يحفظها، ثم يقُصُّها زاعمًا أن الله أوحاها إليه،
١٦ وليس في القرآن الكريم أو كتب السنة الصحيحة حجة على أميته أقوى من
هاتين الآيتين، وما يقال من أن هناك آية ثالثة تؤيد ذلك وهي وصف الله له
«بالنبي الأمي» (في سورة الأعراف: ١٥٧) فقولٌ مردود؛ لأن كلمة «الأمي» يُراد
بها في القرآن الكريم من لم يكن كتابيًّا؛ أي يهوديًّا أو نصرانيًّا ذا كتاب.
«والأميون» في القرآن هم يقابلون «أهل الكتاب»؛ ففي سورة آل عمران:
وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا، قال ابن جرير
الطبري في تفسيرها: قل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى
والأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم؟ … ومثلها قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولًا (سورة الجمعة)، وقوله:
لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ (آل عمران: ٧٥) … على أن في
القرآن آية واحدة يُفهم منها أن المراد بالأميين هم الذين لا يقرءون ولا
يكتبون، أو الضعفاء في القراءة والكتابة، وهي آية (البقرة: ٧٨):
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ.
وبعد، فإذا صح أن «النبي الأمي» أنه لم يكن من أهل الكتاب، وهذا أمر لا شك
فيه، لم يبقَ هناك دليل يمنع من وصف النبي بأنه كان يكتب ويقرأ، وخصوصًا بعد
الهجرة تماشيًا مع آية العنكبوت، فليس من المستبعد أن يكون محمد قد عرف شيئًا
من الكتابة والقراءة بعد البعثة أو الهجرة؛ فقد وردت عدة شواهد في كتب السيرة
والحديث تفيد أنه كان يكتب ويقرأ شيئًا قليلًا، فقد أجمع المؤرخون ورجال السيرة
على أنه لما عقد مع كبار قريش صلح الحديبية دعا عليًّا كما في صحيح مسلم، وقال:
«اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال زعيم قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس:
١٧ لا أعرف هذا ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال: اكتب. فكتبها، ثم قال:
اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لما
قاتلتك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال محمد لعليٍّ: امح محمد رسول الله. قال:
لا والله لا أمحوك، فأخذ رسول الله الكتاب فكتب: ابن عبد الله،
١٨ وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عتيبة بن مسعود قال: ما مات
النبي
ﷺ حتى كتب وقرأ، قال عجالة: فذكرت ذلك للشافعي فقال: صدق، سمعنا
قومًا يذكرون ذلك.
١٩ وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أن منده بسنده إلى عوف بن
عبد الله بن عتيبة عن أبيه قال: «ما مات النبي
ﷺ حتى قرأ وكتب.»
٢٠ وروى البخاري في باب عمرة القضاء: «فأخذ رسول الله الكتاب، وليس
يحسن، فكتب: هذا ما قاضى محمد بن عبد الله.»
٢١
فنحن نرى من أقوال البخاري ومسلم في صحيحيهما وابن أبي شيبة في مسنده والذهبي
في تذكرته أن النبي
ﷺ كان يكتب، وقد بحث هذه القضية كثير من أئمة
المؤلفين القُدامى، وناقشوها، ولم يجدوا في القول بها ما يحط من قدر
النبي.
ومن أقدم من بحث في أمر «كتابة النبي» الإمام المؤلف المؤرخ المحدث الراوية
عمر بن شبة بن عبيد النميري البصري (٢٦٢)، فقد ألف كتابًا «في الكتاب» ذكر فيه
هذه القضية، وقال: كتب النبي
ﷺ بيده يوم الحديبية.
٢٢ ثم جاء الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي المالكي
الفقيه المحدث (٤٧٤) فجزم بأنه
ﷺ كان يكتب، وقد حمل عليه بسبب ذلك
جماعات من الفقهاء حتى إن بعضهم كفَّره، قال برهان الدين بن فرحون في الديباج
المذهب: إن الذي أنكر على الباجي وكفره هو أبو بكر بن الصائغ الزاهد، وتكلم في
ذلك من لم يفهم الكلام حتى أطلقوا عليه اللعن، فلما رأى ذلك الباجي ألف رسالته
المسماة «بتحقيق المذهب» بيَّن فيها المسألة لمن يفهمها، وأنها لا تقدح في
المعجزة، كما لا تقدح القراءة في ذلك، فوافقه أهل التحقيق بأسرار العلم، وكتب
بها لشيوخ صقلية، فأنكروا على ابن الصائغ، ووافقوا أبا الوليد على ما ذكره،
٢٣ وقال ابن التلمساني في شرح الشفاء الشريف بعد ذكر مذهب أبو الوليد
الباجي: وصوَّب أهل الحق مقالته، وإنه لا يقدح في المعجزة كونه كتب مرة، وقد
ألَّف الفقيه الزاهد أبو محمد عبد الله بن منصور المعاقري جزءًا انتصر فيه لابن
الصائغ وردَّ على الباجي.
٢٤
وجاء القاضي الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري المشهور بابن العربي
الإشبيلي المحدث الفقيه الأديب (٥٤٣) فذكر في كتابه «سراج المريدين» حين
تكلم على «الغربة» وقال: وأشد أنواعها فقد النظير وعدم المساعد، والاضطرار إلى
مصاحبة الجاهل، وذكر بَقِيَّ بن مخلد ومحسن بن موهب، وما لقيا من أهل بلدهما
بعد الرجوع من الرحلة حسدًا على ما رجعا به، ثم قال … وهذا أبو الوليد الباجي
رحل وأبعد، وجلب علمًا جمًّا، وقرئ عليه البخاري وفيه أن النبي محا وكتب، فقيل
له: على من يعود قوله «وكتب»؟ فقال: على النبي، فقيل له: وكتب بيده؟ فقال: نعم،
ألا ترونه يقول في الحديث: «فأخذ رسول الله
ﷺ الكتاب، وليس يُحسن
الكتابة، فكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله»، فقوَّلوا عليه، وحملوا كل
تكذيب وتعطيل عليه، وانتدب جاهل من المقرئين — فأخبرني أبو محمد عن ابن أبي
عصام — بالمسجد الأقصى قال: رأيته يصيح في المسجد الجامع ويعلن بالزندقة إليه،
بيد أن الأمير كان متشبثًا فدعا بالفقهاء، فاتفقوا على أن هذا القول كفر،
فاستظهر الباجي ببعض الحجة في ذلك، وقال للأمير: هؤلاء جهلة، ولكن اكتب إلى
علماء الآفاق، فكتب إلى أفريقيا وصقلية، فجاء الجواب: أن يَكْتبَ بعد أمِّيته
فيكون ذلك من معجزته، لا يطعن أحد بذلك عليه؛ لأنهم تحققوا أميته، ثم شاهدوا
معجزته، فوقفوا ولم يطعنوا.»
٢٥ ثم جاء الإمام أبو الفرج بن الجوزي (٥٩٧) فقال في كتابه «المشكل»:
إن إطلاق يده
ﷺ بالكتابة ولم يُحسنها كالمعجزة، ولا ينافي هذا كونه
أميًّا لا يحسن الكتابة؛ لأنه ما حرَّك يده تحريك من يحسن الكتابة، إنما حركها
فجاء المكتوب.
٢٦
ثم جاء الحافظ الحجة الإمام عمر بن الحسن بن دحية الكلبي الأديب الكاتب
المحدث (٦٣٣) فقال بذلك، ونقله عنه قطب الدين محمد بن محمد الحضيري محدث الشام
(٨٩٤) وقال: إن جماعة من العلماء وافقوه على ذلك فيهم شيخه أبو زر الهروي
وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء أفريقيا.
٢٧ ثم جاء الإمام المحدث الفقيه الحجة مؤرخ الإسلام محمد بن أحمد
الذهبي (٧٤٨) وتعرض لهذه القضية، فقال في ترجمة أبي الوليد الباجي: إن الباجي
لما ألَّف رسالته التي بيَّن فيها أن ذلك — أي كون النبي كان كاتبًا — غير قادح
في المعجزة رجع عنها جماعة، ثم قال: ما كل من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن
كونه أميًّا؛ لأنه لا يُسمَّى كاتبًا، وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة
العلامة — أي توقيعهم وإشارات ملكهم — وهم أميُّون، والحكم للغلبة لا للصورة
النادرة، فقد قال عليه السلام: «إنا أمَّة أمِّيَّة» أي: أكثرهم كذلك، لنُدُور
الكتابة في الصحابة، وقال تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ،
٢٨ وقال في ترجمة الحافظ ابن منده: إنه روى بسنده إلى عوف بن عبد الله
بن عتيبة عن أبيه قال: «ما مات النبي حتى قرأ وكتب.» ثم علق على هذا الحديث
بقوله: قلت: وما المانع من جواز تعلم النبي
ﷺ يسير الكتابة بعد أن كان
أميًّا لا يدري ما الكتابة؟ فلعله لكثرة ما أملى من كتاب الوحي وكتاب السنن
والكتب إلى الملوك هذه عرف من الخط وفهمه، وكتب الكلمة والكلمتين، كما كتب اسمه
الشريف يوم الحديبية «محمد بن عبد الله»، وليست كتابته لهذا القدر اليسير مما
يخرجه عن كونه أميًّا ككثير من الملوك أميين يكتبون العلامة،
٢٩ وقال أبو عيسى المهدي بن أحمد الفاسي في كتابه «سمط الجوهر الفاخر
في مفاخر سيد الأوائل الأواخر»: كتب
ﷺ بيده كتبًا لأهل الإسلام في
الشرائع والأحكام، منها كتابه
ﷺ في الصدقات، كان عند أبي بكر، وكتابه
ﷺ في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر، وكتابه
ﷺ إلى أهل
اليمن في أنواع من الفقه وأبواب مختلفة، وهو كتاب جليل احتج الفقهاء كلهم بما
فيه من مقادير الديات.
٣٠ وقال الإمام عبد الله بن الحسن بن أحمد القرطبي المحدث القارئ
المفسر (٦١١) في مختصره عن شرح البخاري عند حديث «عمرة القضاء» قوله: فأخذ
الكتاب فكتب «ظاهر قوي في أنه عليه السلام كتب بيده، وقد أنكر قوم تمسُّكًا
بقوله تعالى:
وَمَا كُنتَ تَتْلُو … إلخ.» قال:
«ولا نكرة فيه؛ الخطُ المنفي الخطُ المكتسب عن التعليم، وهذا خط خارق للعادة
أجراه الله على أنامل النبي مع بقائه لا يُحسن الكتابة المكتسبة، وهذا زيادة في
صحة نبوته.»
٣١ وقال الشهاب أحمد بن محمد الخفاجي قاضي القضاة الأديب العلامة
(١٠٦٩) في شرح الشفاء بعد أن لخص ابن العربي السابق علق عليه بقوله: ورأيت في
بعض الكتب أنه مما يدل على ذلك — أي على معرفته الكتابة — أنه
ﷺ قال
لكاتبه طول السينات، وقوله تعالى:
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن
قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، فقوله
مِنْ قَبْلِهِ يدل على أنه
ﷺ بعد ذلك كان يكتب نادرًا.
٣٢
وعقد السيد عبد الحي الكتاني فصلًا في كتابه التراتيب الإدارية النفيس الذي
اعتمدنا عليه كثيرًا من فصول هذه البحوث، عنونه بقوله: «هل كتب عليه السلام
بنفسه شيئًا، وأمضى بعد كتبه بيمينه الشريفة أم لا؟»
٣٣ وبعد أن أورد أكثر النصوص السابقة، وأيَّد وجهة نظر القائلين بأنه
ﷺ كان يكتب ويقرأ، وأن ذلك لا يطعن في معجزاته
ﷺ، وأنه يرى أن
مذهب الذهبي هو أحسن المذاهب، وقد علَّق عليه بعد أن أورده بما نصه: كلام
الذهبي وهو وجيه لا غبار عليه … وما أشار إليه الذهبي أقوى صدمة للمعارضين من
كون كتابته
ﷺ كانت معجزة، وقال بعد أن أورد كلام القرطبي: قلت أحسن منه
ما سبق عن الذهبي في ترجمة ابن بنده، ثم قال الكتاني: ووقفت في المدينة المنورة
على رسالة حافلة للعلَّامة المحقق الشمس محمد بن عبد الرسول البزرنجي الشافعي
المدني في إثبات الكتابة والقراءة لرسول الله
ﷺ ولم يتيسر لي تلخيصها.
وعندي جزء للفقيه الزاهد محمد بن عبد الله بن مفوز المعافري في نحو كراسة
عنوانه: جزء فيه التحرير من ترك الواضحة والتنبيه على غلط القائل «كتب» في يوم
الحديبية النبي الأمي، وفي آخره سماعات لأعلام أندلسيين وتونسيين، وموضوعه
الانتصار لابن الصائغ في المسألة، والرد على الباجي والله أعلم، وسيأتي في
القسم العاشر عن «سمط الجوهر الفاخر» أنه
ﷺ كتب عدة كتب بيده الشريفة،
٣٤ وأورد الكتاني في الجزء الثاني من كتابه نص كلام صاحب سمط الجوهر
كما أوردناه سابقًا، ويمكننا إجمال أقوال الأئمة العلماء الذين قالوا إن النبي
كان يكتب بما يلي:
- (أ)
أنه
ﷺ كان يكتب اسمه فقط، وهو قول الذهبي.
- (ب)
أنه
ﷺ كان يكتب الكلمة والكلمتين، وهو قول الذهبي
أيضًا.
- (جـ)
أنه
ﷺ كان يكتب ولكنه لا يُحسن الكتابة، وهو قول ابن
الجوزي.
- (د)
أنه
ﷺ كان يكتب ولكن كتابته لا بالتعليم والاكتساب بل
معجزة، وهو قول القرطبي.
- (هـ)
أنه
ﷺ كان يكتب ولكن ذلك كان نادرًا، وهو قول
الخفاجي.
- (و)
أنه
ﷺ كان يكتب كل شيء ويُحسن الكتابة، وأنه كتب بيده عدة
كتب، وهو صاحب سمط الجوهر.
أما المحدثون من المسلمين فقد تحيروا في هذا الأمر، وخبطوا فيه خبطًا ظانين
أن البحث في هذا الأمر الحرج مُخرِج للمرء عن دينه مثير للعامة عليه، وخير مَن
بحث فيه هو الأستاذ العلامة الصديق: محمد عزة دروزة في كتابه «سيرة الرسول»،
فهو بعد أن أورد آية العنكبوت (٤٨) قال: إنها تضمنت نصًّا صريحًا على أن النبي
لم يكن يكتب أو يقرأ قبل البعثة … ثم أورد آية الفرقان، فقال: وهذا يؤيد أنه
كان لا يقرأ ولا يكتب … وننبه أولًا إلى أن هاتين الآيتين هما اللتان تفيدان أن
النبي لم يكن يقرأ أو يكتب لا كلمة «الأمي» … إذ إن هذه الكلمة قد استُعمِلت …
بمعنى «غير كتابي» … وثانيًا إلى أن آية العنكبوت إنما تنفي معرفة القراءة
والكتابة عن النبي قبل البعثة، ولقد وردت روايات تفيد أنه
ﷺ كان بعد
بعثته يكتب اسمه، وأنه محا كتابة معينة بيده في أثناء مفاوضات صُلح الحديبية،
وكتاب عقد الصلح، وبقطع النظر عن سند ومضمون تلك الروايات، فليس من المُستبعد
أن يكون قد تعلم القراءة والكتابة بعد بعثته، كما أن الآية لا تنفي ذلك، غير أن
هذا إن كان وقع قد ظل فيما نعتقد في دائرة محدودة لا تتعدى كتابة الاسم أو
قراءة بعض الجمل؛ لأنه لو تعدى هذه الدائرة لأُثِر في الروايات والأحاديث على الأقل،
٣٥ ويتجلى من هذا أن الأستاذ دروزة يميل إلى مذهب الذهبي في أن الرسول
قد تعلم القراءة والكتابة بعد البعثة؛ لكثرة ما أملى، واتصل بالكتاب، ولكن علمه
لم يتجاوز الجملة أو بعض الجمل.
أما المستشرقون فقد بحثوا في الأمر مُفصَّلًا، وأفضل من بحث فيه هو شيخ
المستشرقين في هذا القرن، وهو البرنس كايثاني، فقد ذهب إلى: «أنه من غير
المعقول أبدًا ألا يكون النبي قارئًا وكاتبًا، وحجة ذلك ما في القرآن من
المعارف والعلوم والأخبار، وأحوال الكتابة والكُتَّاب، فمن المستحيل أن يصدر عن
رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، وأن فتيان قريش وشبابها من لداته وبيئته وأبناء
عمومته وخئولته كانوا يقرءون ويكتبون، وأن الفترة التي كان بها محمد كانت فترة
تتجه نحو الثقافة والتكامل العقلي، فلا يُعقل أن يشب محمد أُمِّيًّا في هذه
البيئة، ولكن محمدًا — إظهارًا لكون حركته حركة إلهية ومعجزة — كان يُخفي علمه
بالكتابة والقراءة، ويكتم ذلك على الناس وعن أصدقائه.»
٣٦
أما الشق الأول من كلام المستشرق كايثاني فلا غبار عليه، ولكنا نخالفه في
الشق الثاني؛ وهو دعواه أن النبي كان يكتم أمره ويتظاهر بالأمية؛ ليكون ذلك
أوقع في قلوب سامعيه، وهو أمر يأباه ما أُثِر عنه
ﷺ من خلق نبيل وصدق
متوافر مقطوع به، كما يَجِلُّ على أن يتصف ذلك «الأمين» الذي خبره قومه، وعرفوا
سموَّ خلقه، ونبل نفسه، وصدق حديثه، ثم إن سورة العنكبوت لَتدل دلالة صريحة على
كون النبي أميًّا لم يتعلم الكتابة كما كان يتعلمها لداته؛ لأن القرآن كان
منتشرًا بين الناس يقرءونه ويعونه، فلو كان فيهم من عرف أن محمدًا قد تعلم معه
أو فيهم ما قد يدل على تعلمه الكتابة والقراءة لأنكر عليه مضمون تلك الآية،
ولكن شيئًا من ذلك لم يكن.
وصفوة القول في هذه القضية — وهو الذي نرتئيه — هو أن محمدًا كان قبل البعثة
لا يقرأ ولا يكتب، ولم يؤثَر عنه أنه تعلم في كتَّاب، ولا درس في مدارس، ولا
لازم شخصًا من لداته أو شيوخه تعلم منه الكتابة والقراءة، وإنما كان واسع
الإدراك ذكيًّا فطنًا لبيبًا، ولما أوحى الله إليه أن يُبشِّر بدينه ويدعو إلى
تقديسه كثُر اختلاطه بالناس من كُتَّاب وقُرَّاء في مكة والمدينة اللتين كانتا
تَعِجَّان بالقراء والكتاب، وكان لأماليه على كتَّابه، وقراءاتهم أمامه وتدقيقه
في رسائلهم وأوراقهم ووثائقهم وشدة تعمقه في تتبع كل جليل ودقيق، وبخاصة في أمر
الرسائل — كما سنرى ذلك مفصَّلًا فيما بعد — أثر كبير في تعلمه الكتابة
والقراءة، وإحاطته ببعض متعلقاتها، ومعرفته ببعض قواعد الخط وأصوله، ولسنا نرى
في هذا أيه غضاضة على معجزاته، فإن العلي القدير قد حباه بمواهب انفرد بها،
ومزايا كانت موضع الغرابة والعجب والفخر
ﷺ.
(٢-٢) مواهبه وثقافته
كان لمحمد اطِّلاع واسع على تاريخ قومه وآدابهم، ويظهر لنا ذلك مما نجده في
كتب السنة من رسائله ومعاهداته ومواثيقه وخطبه وحكمه ومواعظه، كما تتجلى لنا من
مطالعة آثاره فصاحةٌ معجزة، ولا غرو فإن مواهب محمد
ﷺ مواهب انفرد بها
من بين لداته سواء منهم من كان خطيبًا أو حكيمًا أو شاعرًا، فقد نشأ في بيت
عُرِف أهله بالعقل الرجيح، والقول الفصيح، والحكمة البليغة، واللهجة الفصيحة،
ثم إنه نشأ في بني سعد، فقد أجمع كلُّ من كتب عن فصاحته ومواهبه أنه كان ذا
اطلاع واسع على لهجات عرب الحجاز وسائر بقاع الجزيرة، وكان يكلم كل قوم بلهجتهم
وفصيح عبارتهم، وكان يعيد أقواله، ويكرر كلماته ليُعقَل عنه، وكان يكره التشادق
والتفاصُح والتحلُّف والتقعُّر، ويقول: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي
يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها.» وكان يكره سجع الكُهَّان المصنوع الثقيل
على الأسماع، أما السجع المستساغ المحبوب المطبوع الصادر عن السليقة الطبيعية؛
فإنه كان يحب قوله وسماعه كما كان يحب الشعر الجيد، ويطرب له، ويُجِيز عليه،
ولما سمع قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيمٍ لا محالة زائل
طرب له وقال إنها أصدق كلمة قالها شاعر، ولما سمع بعض شعر أمير الشعراء
الجاهليين وسيد فحولهم امرئ القيس، قال إنه صاحب لواء الشعر، ولكنه كان لا يرضى
عن عهره وفسقه في شعره، فيقول: «إنه صاحب لواء الشعراء إلى النار.» وكان يطرب
لشعراء الإسلام الداعين إلى محاسن الأخلاق ومكارم الشيم، والمنافحين عن الدين
الجديد أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكان يستحسن أشعارهم، ويُرَدِّد
جميل أقوالهم، ويُدرِك مواطن الفصاحة ومواضع سحر القول وجماله، ولا عجب فإنه
أفصح العرب، وصاحب جوامع الكَلِم، ومالك أعِنَّةَ القول، حَسَنُ المنطق، سليم
اللهجة، خالٍ من عيوب اللفظ، بارع الإشارة، وقد وصفت السيدة عائشة طريقه في
القول، فقالت: «ما كان رسول الله
ﷺ يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم
بكلامٍ بيِّن فصل، يحفظه من يجلس إليه.»
وقد قضى محمد سني شبابه وهو يفكر فيما حوله، ويدرس هذا الكون في أرضه وسمائه
وحيوانه، وأناسه وشجره وزهره، فيحلل كل شيء يراه، ويستخلص منه العبر.
أما اطلاع محمد على أخبار النبوات السابقة فلا شك في أنه قد عرفه مما كان
يسمعه من أقوال أحبار اليهود أو متهودة العرب وحنفائهم، أما أنه كان يتدارس ذلك
ويتلقاه كما زعم بعضهم حتى في زمن النبي فأمرٌ لم يثبُت، وقد ردَّ القرآن على
هؤلاء فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (سورة النحل آية:
١٠٣)، فقد زعم بعض مشركي قريش أن محمدًا إنما كان يتردد على بعض الحدادين
النصارى في مكة واسمه «جبرا»، وأنه كان يتعلم منه ويطَّلِعُ على أخبار النبوات
السابقة، فردَّت عليهم الآية وهي وإن لم تُنكِر التردد على الرجل أصلًا، وإنما
أنكرت عليهم أن يقولوا إن محمدًا كان يتعلم من هذا الأعجمي، إن ما يجيء به عربي
مبين، وقد أورد المفسرون في تأويل هذه الآية أن محمدًا كان يتردد قبل البعثة
إلى رجل نصراني فيسمع منه، وليس هذا بالغريب ولا بالمستحيل ولا بالطاعن في
النبوة، ومثل هذه الآية آية الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ
آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، والآية لا تنفي كون
محمد قد اتَّصل قبل البعثة أو بعدها بفردٍ أو جماعة آخرين تذاكَر وإياهم ببعض
أمور الحياة الأخرى والدين؛ أمثال سلمان الفارسي، وصُهيب الرومي، وبلال الحبشي،
وأبي بكر الصديق، وعثمان، وإنما تنفي مزاعم الكفار أن ما جاء به محمد هو إفك
وباطل.
(٢-٣) شخصيته
كان محمد
ﷺ فتًى عربيًّا أصيلًا لم يطعن أحد في حسبه أو نسبه، وكانت
له أسرة محترمة وجيهة من أعمام وعمَّات وأخوال وخالات وأبناء عمومة وخئولة، وقد
نشأ منشأ متواضعًا في حضانة رحيمة على يد أمه وجده وعمه — رضي الله عنهم — وكان
منذ نعومة أظفاره رهيف الإحساس، يتطلع إلى ما يتطلع إليه لداته، وقد أفاد معارف
كثيرة في العلم من اتصاله ببعض النبهاء الأجانب كسلمان وبلال وصهيب وجبرا، أو
العرب أمثال أبي بكر الصديق وعثمان وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن
عوف وأبي عبيدة وغيرهم من أصدقائه في الجاهلية وأوائل المسلمين، وكلهم عُرف عنه
الفضل والعقل، وليس في هذا أي مطعن عليه فإنه بشر، وهذه سنة البشر.
وقد اشتهر
محمد
ﷺ في قومه قبل البعثة بالأمانة والعقل والصدق وعدم الفضول وحب
الخير والبعد عن مساوئ الأخلاق، وكانوا يلقبونه «بالأمين»، وقد فرحوا لما رأوه
مقبلًا عليهم حين اختلفوا في يوم بناء الكعبة في من يضع «الحجر الأسود»، فحل
المشكلة أحسن حلٍّ ووضعه في مكانه، وفي القرآن والشعر الإسلامي شواهد كثيرة
تنطق بسمو شخصيته، وتعدد مزاياه وفضائله، وتعطينا صورة نضرة عنه تهدم كل ما
بناه المستشرقون والمبشرون من التهجم عليه، ووصفه بمرذول السجايا قبل الطعن في
شرفه وأصالته، ووصفه بالجنون والسفه والصرعة، وما إلى ذلك،
٣٧ على الرغم مما كان عليه من الخلق العظيم والأمانة والصدق والزهد
والثقافة في الله، والأخلاق التعبُّدية:
وَإِنَّكَ
لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: ٤)،
الله
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (الأنعام: ١٢٤)،
وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ (سورة آل عمران: آية ١٥٩)،
لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة: ١٢٨).
ولم يكن محمد على شيء من عنجهية الشباب المغرورين بجاههم ومكانتهم، بل
كان متواضعًا متفانيًا في دعوته؛ ليسهل كل شيء في سبيلها، ويستوي عنده الغِنَى
والفقر والجوع والشبع والنوم والسهر في الوصول إليها، وكان ناصرًا للحق صابرًا
على المكروه آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر داعيًا بالموعظة، مسالمًا وقت
السلم محاربًا وقت الحرب، وصفوة القول أن شخصيته تتحلَّى بما أودعه الله في
القرآن من السجايا النبيلة والصفات الكاملة، ولقد صدقت عائشة حينما سُئِلَت عن
أخلاق النبي وشخصيته وما كان يتحلى به فقالت: إنها كانت أخلاق القرآن، وهو جواب
صادق.
(٣) في الحوادث الكُبرى قبل البعث
(٣-١) زواجه من السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي
كان محمد في شبابه يعيش في كنف عمه أبي طالب، وربما رعى الغنم لبعض أهل مكة
على قراريط كما ذكر ذلك البخاري وابن إسحاق،
٣٨ ولما جاوز العشرين بعثت إليه خديجة بنت خويلد — التي رأت فيه
الأمانة والثقة — غلامها ميسرة، فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرًا في رحلة
الصيف على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي التجار، وكانت امرأة تاجرة ذات مال وشرف،
تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، فقبل محمد وخرج سنة ٥٩٤م
ومعه ميسرة حتى قدم الشام فتاجر، ثم قفل إلى مكة فباعت ما جاء به وربحت، ثم
إنها بعثت إليه قائلة: يا ابن عمِّ إني قد رغبتُ فيك لقرابتك وسِطَتِك في قومك،
وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، فانشرح صدره لذلك لما كانت عليه من الشرف
والنُّبل والجاه.
ولدت خديجة في أواسط القرن السادس، وكان لها — لمَّا خطبها محمد — نحو من
أربعين سنة، وهي من أعرق أُسَر قريش شرفًا وأكثرهم مالًا؛ فأبوها خويلد كان ممن
قاد قريشًا في حرب الفجار، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي،
ويذكر الذهبي أن جدها عمرو بن خنثر المزني كان من أبطال الجاهلية وشيوخها،
وعمها عمرو بن أسد كان من سادات قومه ووجوههم وأثريائهم، وأخوها العوام بن
خويلد كان من عُقلاء قريش، وأما جدها وهو والد الزبير بن العوام […] وأبناء
عمومتها حكيم بن حزام، وورقة بن نوفل، وقتيلة بنت نوفل. فأما حكيم فقد كان من
أنبل الرجال وأكرمهم، وكان له موقف مجيد يوم حاصرت قريش بني هاشم في الشِّعب؛
فإنه لم يتأخر عن خدمتهم ومعونتهم بكل ما يستطيع، وورقة بن نوفل كان من
الحُنفاء والعُقلاء في الجاهلية؛ قرأ التوراة والإنجيل وكتب العبرانية، وقتيلة
أخته كانت نبيلة عاقلة نظرت في الكتب القديمة ودرستها.
تزوجت خديجة قبل محمد رجلين؛ أولهما: النباش بن أبي زرارة، لم يلبث أن مات،
فتزوجت بعده عتيق بن عائد المخزومي،
٣٩ وقد ورثت عن أبيها وزوجها مالًا كثيرًا كانت تستعمله في الاتجار،
ولما عرضت خديجة على محمد الزواج شاور أعمامه فقبلوا، وخرج هو وعمه الحمزة حتى
أتيا وليها — أباها وفي رواية أخاها — فخطبها إليه، ووافق على ذلك، فاحتفل
القوم بهذا، وخطب أبو طالب في ذلك الحفل فقال: «الحمدُ للهِ الذي جَعَلَنا مِن
ذُريَّة إبراهيمَ، وزَرعِ إسماعيل ضِئضِئ معد، وعُنصرِ مُضَر، وجَعَلَنا
حَفَظةَ بيتهِ، وسُوَّاسَ حرمهِ، وجعل لنا حَرَمًا محجوجًا، وبيتًا آمنًا،
وجَعَلَنا الحُكَّامَ على الناس، ثمَّ إن ابنَ أخي هذا محمد بن عبد الله لا
يُوزَن برجلٍ إلا يرجح عليه، فإن كان في المال فلا فإن المال ظِلٌّ زائل، وأمرٌ
حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطبَ خديجةَ بنت خُوَيلد، وبذل لها مِن
الصَّداق ما آجِلُه وعاجِلُه اثني عشر أوقية ونَشٍّ (النَّش نصف أوقية والأوقية
أربعون درهمًا)، وهو واللهِ بعد هذا له نبأٌ عظيم، وخطرٌ جليل.» ثم تمت
الخطوبة والزواج، وحضره رؤساء مضر وشيوخ قريش.
٤٠
ولما تزوجها نحر جزورًا أو جزورين وأطعم الناس، وهي أول وليمة أولمها محمد،
٤١ وكانت به برَّةً رحيمة وفيَّة، تعطف عليه وتحنو وتفديه بمالها
وجاهها، وقد استطاع محمد بجانبها أن يجِدَ السَّكِينة والهدوء، وينصرف عن
التكسُّب للمعاش إلى التفكير والتحنُّث، ودراسة الكون، والتطلُّع إلى السماء،
ولولاها للقي من دهره عنتًا، فقد كانت — رضوان الله وسلامه عليها — على جانب
كبير من الحنان والعطف، وقد أحسَّت بنبل قلب محمدها وعظم نفسه، فهيَّأت له
الأسباب للهدوء والطمأنينة لمَّا قرأت في عينيه من الإخلاص والإيمان، وما وجدت
في قلبه من سموِّ الأخلاق والفضل، وكان هو يُقدِّر فيها هذا الحُنُو والحب
فبادلها حبه وإعجابه، ولم يكن محمد كسائر رجال العرب، فهو فذٌّ في أفكاره، فذٌّ
في طعامه، فذٌّ في شرابه، فذٌّ في حركاته وسكناته، وكان لا يفكر بما يفكرون،
ولا يأكل كما يأكلون، ولا يشرب كما يشربون، ولا يتحرك كما يتحركون، كان
ميَّالًا إلى العُزلة، يطيل الانفراد والخُلُو بنفسه بعيدًا عن ضوضاء المجتمع
المكي الصاخب، فهيَّأت له ما يحب ويتمنى، وكان يشتهي أكلات خاصة من الدباء،
والعسل، والخزبر، والثريد، والخزيرة،
٤٢ والخبيص والشواء ولحم الدجاج، والكبد، والسمك، والسلق، والتمر،
والمنقوع باللبن المخلوط بالقثاء،
٤٣ ويكره الثوم، والبصل، وكل كريه الرائحة، فتُكْثِر له ما يُحب،
وتبعده عما يكره، وكانت تُعْنَى بلباسه وطيبه ونظافته.
وقد رأت رغبة محمد في الانزواء والتحنُّث في غار حراء، فكانت تهيئ له ما
يحتاج إليه في خلوته الإلهية من زاد وماء، كما كانت تتعهده إذا طالت غيبته
عنها، ولكنها كانت رفيقة به لطيفة معه لا تقطع عليه تأملاته، ولا تُكَدِّر صفو
تحنُّثه.
وكما كانت زوجة برة، كانت أُمًّا صالحة تعتني بأولادها منه، وتحنو عليهم، وقد
ولدت له كل أولاده ما عدا إبراهيم ابن مارية القبطية، فقد رُزق منها: القاسم،
فزينب، فرقية، ففاطمة، فأم كلثوم، وهؤلاء جميعًا قد ولدتهم قبل الإسلام، ثم
ولدت له بعد الإسلام: عبد الله الطيب، وأخاه الطاهر، وقد ماتا صغيرين، أما
البنات فقد أدركن الإسلام، وتزوَّجن وهاجرن معه، وقد ضمَّ محمد إلى أسرته ابن
عمه علي بن أبي طالب برًّا بعمه أبي طالب وتكريمًا لعلي، وكانت خديجة حفيَّة
بأبنائها وبناتها تنشِّئهم أحسن تنشئة، وتعقُّ للغلام منهم بشاتين والفتاة
بشاة، وتسترضع لهم أحسن المراضع على الطريقة العربية القديمة. «وبعد»، فإن عظمة
هذه السيدة الفاضلة تتجلَّى في تثبيت قلب محمد بعد الدعوة، وإعانته على تحمُّل
أعبائها، وبخاصة في السنوات الأولى من البعثة حين تألَّب الناس عليه
ﷺ
فأنكره الأقربون وآذاه المشركون، فوقفت هي وقفة السيدة الكبيرة العاقلة
المفكرة، تُمَتِّنُ فؤاد محمد، وتُسَكِّن خاطره بقولها: «والله لا يخزيك الله
أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، إلخ …» تلك الأقوال الجميلة الجليلة التي سنعرض إليها
فيما بعد، وقد شاطرت هذه السيدة الفاضلة النبي كل ما تحمله في سني الدعوة
الأولى من المحن، وعملت على نصر دين الله، ولما اشتدت خصومة قريش على النبي وآل
البيت الهاشمي وحصروهم في الشِّعْب، ومنعوهم من وصول الطعام والماء إليهم أنفقت
خديجة كل أموالها في سبيل تأمين معيشتهم، وقاست هذه السيدة المرفَّهة في أواخر
عمرها ظروفًا قاسية، فأضرَّ ذلك الحصار بجسمها، ولم تعِش طويلًا بعد أن خرج
النبي
ﷺ وآل البيت من الشِّعْب، ماتت في عاشر رمضان من السنة العاشرة
لمبعثه
ﷺ،ولها من العمر خمسة وستون عامًا، فدفنها الرسول في الحجون،
وكان كثير البر بها والذكر لها.
(٣-٢) اشتراكه في بنيان الكعبة ووضع الحجر الأسود
كانت الكعبة أقدس مكان لدى العرب منذ جاهليتهم الأولى، توارثوا تقديسها
كابرًا عن كابر منذ أيام إبراهيم، ولقد بُنيت الكعبة خمس مرات «أولاهما» أيام
النبي شيت
ﷺ في العهد الغابر، «والثانية» أيام إبراهيم وكانت أول أمرها
رضمًا فوق القامة؛ أي حجارة تتجاوز قليلًا طول الإنسان، وقيل إنها كانت تسعة
أذرع، وقد استمرت على ذلك إلى ما قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، «والثالثة»
أيام قريش؛ قال ابن إسحاق: اجتمعت قريش قبل مبعث النبي
ﷺ بخمس سنوات
لبنيان الكعبة، وكانوا يهمُّون بذلك ليسقفوها — إذ لم يكن لها سقف من قبلُ —
ولكنهم يهابون ذلك، ثم أقدموا عليه، «والرابعة» حين احترقت أيام ابن الزبير،
«والخامسة» أيام عبد الملك بن مروان، ولما استُخلِفَ أبو جعفر المنصور أراد
هدمها وبناءها من جديد فقال له مالك بن أنس: أنشدك بالله يا أمير المؤمنين أن
لا تجعل هذا البيت ملعبة الملوك من بعدك.
٤٤
أما البناء الذي اشترك فيه محمد
ﷺ فقد كان في السنة الخامسة والثلاثين
من عام الفيل، حين رأت قريش أن كنوزها قد سُرِقَت، وأن اللصوص قد عاثوا فيها؛
لأنها لم تكن مسقوفة ففكروا في سقفها، ولكنهم خافوا مغبة ذلك أول الأمر، ثم قال
الحكماء: ليس في هذا بأس، فأقدموا على هدمها، وباشر ذلك الوليد بن المغيرة،
وأحضروا لها الخشب من سفينة ألجأتها الرياح إلى ساحل جدة، وعهدوا بها إلى نجار
قبطي أن يقوم بذلك، فأخذ يهيِّؤه وهم يبنون، وكان المُشرف على ذلك أبو وهب بن
عمرو بن عائذ المخزومي خال النبي، وقال لقريش: لا تُدْخِلوا في بنائها من كسبكم
إلا طيِّبًا حلالًا، ولا تدخلوا فيه مهر بغيٍّ أو بيع ربًا ولا مظلمة أحد من
الناس، ثم إن قريشًا تجزَّأت الكعبة؛ فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان
ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم،
وكان ظهر الكعبة لبني جمع وسهم، وكان شق الحجر وهو المعروف بالحطيم لبني عبد
الدار بن قصي، وبني أسد بن عبد العزى، وبني عدي بن كعب.
قال ابن هشام: ولما أرادوا هدمها قال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في
هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا نريد
الخير، ثم هدم من ناحية الركن، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: انتظروا فإن
أصيب لم نهدم شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا
فهدمنا، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى إذا
انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسمنت آخذ
بعضها بعضًا،
٤٥ ولما شرعوا في البناء، وبلغوا موضع الركن اختصموا فيه؛ كل قبيلة
تريد أن ترفعه إلى موضعه حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال أنفسهم، فقربت
بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، وتعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت،
وأدخلوا أيديهم في الدم، ومكثت قريش أربع ليالٍ أو خمسًا وهم مختلفون، ثم إنهم
اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله المخزومي —
وكان أسنَّ قريش: يا معشر قريش، اجعلوني بينكم فيم تختلفون فيه؛ إن أول من يدخل
من باب هذا المسجد يقضي بينكم، ففعلوا فكان أول من دخل محمدًا، فلما رأوه
قالوا: هذا الأمين رضينا به هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال:
هلمَّ إليَّ ثوبًا؛ فأُتِيَ له، فأخذ الركن فوضعه بيده فيه، ثم قال: لِتأخذْ كل
قبيلة ناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه
بيده، ثم بنى عليه، فلما فرغوا من البنيان من ذلك قال الزبير بن عبد المطلب
قصيدة منها:
فقمنا حاشدين إلى بناء
لنا منه القواعد والترابُ
غداة نرفع التأسيس منه
وليس على مسوِّينا ثيابُ
أقرَّ به المليك بني لؤيٍّ
فليس لأصله منهم ذهابُ
وقد حشدت هناك بنو عديٍّ
ومُرَّة قد تقدمها كلابُ
فبوَّأنا المليك بذاك عزًّا
وعند الله يُلتمس الثوابُ
وكان بناؤها هذا ثماني عشر ذراعًا، وجعلوا لها كسوة من القباطي
والبرود.
(٣-٣) الوحي
مقدمة في الوحي والنبوة. الوحي هو في اللغة الإلهام الغريزي، أو الإشارة
الخفية السريعة، والإلقاء في الروع، وفي الاصطلاح: هو الإلهام الذي يقذفه الله
في قلب النبي أو الرسول، وقد استُعملت هذه الكلمة في القرآن سبعين مرة؛ «تارة»
بمعنى الإشارة والقول: فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا (سورة مريم: ١١)، «وتارة» بمعنى الوسوسة: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ
الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ، «وتارة»
بمعنى الإلهام الغريزي: وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا (سورة النحل
آية: ٦٨)، «وتارة» بمعنى الفزع والروع: وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا (المائدة: آية ١١١)، «وتارة»
بمعنى الإلهام للأنبياء والرسل، وهو الأكثر: وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ (الأنعام: آية ١٩)،
ولكن أكثر استعمالاتها في القرآن هو المعنى الأخير؛ أي الإلهام للرسل، ووحي
الله يكون بطرق، منها: القذف في القلب، ومنها: إنزال الملائكة كجبريل وغيره
رسلًا بين الله وبين أنبيائه، ومنها: سماع صوت الله لمن يريد بواسطة شيء ما،
قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ
إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى: آية
٥١)، وجمهور المسلمين يرون أن جبريل الروح الأمين كان ينزل إلى محمد
ﷺ
فلا يراه أحد غيره، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه كان ينزل إلى النبي في صورة
دحية الكلبي، فيراه غير النبي على صورة رجل، أو يأتي إلى مجلس النبي على صورة
رجل ما فيراه الناس جميعًا.
أما كيفية بدء النبوة فقد حدثتنا به السيدة عائشة؛ فقد روى عنها البخاري: أن
أول ما بُدئ رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا
جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء؛ وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه،
والتحنُّث التحنف والتعبُّد في الليالي ذات العدد، حتى جاءه الحق وهو في غار
حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ: قال: فأخذني فغطَّني حتى بلغ
بي الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ: قال: فأخذني فغطَّني
الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني
فغطني الثالثة ثم قال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده،
فدخل على خديجة وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا
والله ما يخزيك ربك أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري
الضيف، وتعين على نوائب الحق، وانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد
بن عبد العزى ابن عمها، وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب
العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا
قد عميَ، فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ، اسمع ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن
أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله
ﷺ خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس
الأعظم الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال
رسول الله
ﷺ: أَوَ مخرجِيَّ هُم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به
إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزَّرًا …
٤٦
وقد كان الرسول يقول عن هذا الوحي إنه يأتيه مرة بعنف مثل صلصلة الجرس، ومرة
بغير عنف فيكلمه كما يكلم الرجل، فيعي منه ما يقول، وقالت عائشة: ولقد رأيته
ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فينفصل عنه وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا.
٤٧
وهناك أحاديث وأخبار كثيرة بلغت مبلغ التواتر تُبيِّن أن النبي كان يأتيه
الوحي الإلهي، فينصرف عن هذا الكون، ويُصبح في عالمٍ ثانٍ، ثم ينفصل عنه الوحي
فيُملي الرسول على كُتَّاب الوحي ما أوحاه الله إليه، وقد اختلفت الأقوال في
أول ما أُوحِيَ به إلى محمد
ﷺ، فالقول المشهور أنه أول «سورة العلق»،
وفي قولٍ آخر أنه «سورة الفاتحة»، وقول ثالث أنه «سورة الضحى»، وفي قولٍ أنه
«سورة المُدَّثِّر» وفي خامسٍ أنه «أول سورة المزمل»، ولكن الأشهر هو ما ذكرناه
أولًا من أنه أول «سورة العلق»، وعلى هذا جرى المصحف العثماني ومن نقلوا عنه،
ثم إن السورة الثانية هي سورة «القلم»، والثالثة هي «المزمل»، والرابعة هي
«المدثر»، وعلى هذا جرى إجماع كافة أصحاب التراتيب والمصاحف، والخلاف يبدأ بين
أصحاب التراتيب عند السورة الخامسة، فالأكثر على أنها: «الفاتحة»، وقال ناسٌ بل
هي «سورة المسد»، وقال آخرون: بل هي «سورة التكوير»، ونحن إذا أمعنَّا في هذه
السور وجدناها تدور حول الدعوة والإنذار والتبشير بالدين الجديد، وبما قوبل
ﷺ من التكذيب والارتياب في دعوته؛ فقد نزلت سور القرآن تحتوي على الردود
والحملات الشديدة على المكابرين، والوعظ والإرشاد للتائهين، ولما سار الرسول
شوطًا في دعوته انقطع عنه الوحي، فاضطربت نفسه، وظنَّ أن ربه ودَّعه وقلاه،
فنزلت سورة الضحى بعد فترة قصيرة من الوحي، وفيها يخاطبه ربه بقوله: وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ، ثم تعاقب الوحي في مكة
والمدينة.