الفصل الرابع

مغناطيس حقل الذهب

أنهى ماكيلر الشابُّ المُفعَم بالحيوية شراءه للباخرة «راجا» في أقل من ثلاث ساعات، بدلًا من اليومَين اللذَين سمح له بهما اللورد سترانلي. من السهل جدًّا شراء سفينة في ساوثهامبتون إذا كان بحوزتك المال. نقَلَه بسرعة قطارٌ سريع ممتاز في الخط الجنوبي الغربي إلى لندن مرةً أخرى، وقضى فترةَ ما بعد الظهر في الحصول على ما يحتاجُه للرحلة البحرية الطويلة التي كانت تنتظره، وأرسل مشترياته، كما أمر اللورد، إلى عهدة اليخت في بليموث. مع تقدُّم معرفته بلورد سترانلي، تغيَّر انطباعه الأول عن لورد ويتشوود بشكلٍ كبير. فعلى الرغم من أسلوب الشاب النبيل المرح غير المُكترِث في الحديث عما اعتبره المهندس الشاب مواضيع جادة، بدأ ماكيلر يدرك ببطء أن هناك فكرًا وطريقةً وراء كلِّ هذه السخرية التي لم تَرُق له كثيرًا، وبدأ يشك في نظريته أن لقاء سترانلي الناجح مع النقابة كان مجرَّد صدفة، كما افترض في البداية. الخطة التي رسمها اللورد بشكلٍ مبدئي، لاستعادة منطقته الخاصة في أعالي البحار، صدمَت عقل ماكيلر العملي بسبب احتمال نجاحها، ولكن على الرغم من أن اللورد مُلتزم بالقانون، وعلى الرغم من أن خصومه كانوا مُنخرِطين في مخططٍ عملاق للسطو بشكل سافر، إلا أن ماكيلر طاف أرجاء الأرض كثيرًا من شرقها لغربها؛ لذا فهو لا يجهل حقيقةَ أنه في بعض أجزاء العالم، لم تكن شرعيةُ الأعمال إلا نقطة ثانوية في اللعبة. في الواقع، كان المُواطن الملتزم بالقانون في وضعٍ غيرِ مُواتٍ بشكل واضح ما لم يكن لديه قوة عليا تحت إمرته للإجبار بدلًا من الإقناع. لا فائدة تُذكر في الجدال مع رجلٍ يحمل مسدسًا محشوًّا؛ لذلك فشل اللورد سترانلي في إقناع مرءوسه في مرحلةٍ ما. اعتقد ماكيلر أنه من الحماقة التوجُّه إلى غرب أفريقيا بعددٍ قليل من الرجال، ومن دون ذخيرةٍ مُقنِعة سوى الشمبانيا والسجائر. لذلك، عند شراء معداته الخاصة، اتخذ ماكيلر الاحتياطات اللازمة لشراء عشرات من أحدث البنادق المتعدِّدة الطلقات، بالإضافة إلى عدة آلاف من الأعيرة النارية التي تَتناسب معها، وأمر بإرسال هذه المجموعة من البنادق إلى اليخت لإضافتها إلى البنادق الرياضية التي جهَّزها اللورد سترانلي لحراس الطرائد ورجال الغابات الذين أحضرهم معه. اعتقد ماكيلر أن هؤلاء سيكونون شبَّانًا صامدين، عنيدين، قادرين، وعلى الرغم من قلة عددهم، إلا أنهم إذا كانوا مسلحين جيدًا، قد يتسبَّبون في فِرار الرعاع البالغ عددهم ١٥٠ رجلًا في حالة حدوث صراع.

الرجل الأسمر الذي ركل ماكيلر لأسفل في المخزن، والذي أجرى مقابلةً معه بعد ذلك بمفرده على ضوء المصباح، أثار إعجاب ماكيلر بوصفه قائدًا مقتدرًا للرجال، ومن المحتمل أنه سيدرِّب أتباعه خلال الرحلة الطويلة إلى الجنوب. شكَّ ماكيلر بشدة في أن القبطان، والضباط، والطاقم، أو أيًّا من المائة والخمسين رجلًا كانوا على علمٍ بالطبيعة القرصانية للرحلة الاستكشافية، لكن الطريقة السريعة التي خرق بها القائد، بقدمه القوية، القانون، وكاد أن يكسر عنق ماكيلر، أقنعت المهندس أن الرجل الأسمر كان مُدرِكًا تمامًا للطبيعة الإجرامية لإجراءاته، ولا شك أنه بمجرد هبوط القوة، سيكون متأهبًا بشدة، مُتوقِّعًا أنه بمجرد أن يصبح هروب الباخرة معروفًا، سيتمُّ إجراء ترتيبات فورية لتعقبها. وبلا شك سيُرسل الكشافة، ويحاول جاهدًا بكل وحشية فهْم الموقف الذي وجد نفسه فيه. كان من المؤكد أخلاقيًّا، كما يعتقد ماكيلر، أن واحدًا أو أكثر من هؤلاء الكشافة سيَعثُرون بمحض الصدفة في النهاية على اليخت، بصرف النظر عن إجراءات الأمان التي اتخذوها لإخفائه، وبمجرَّد أن يعلم قائد القراصنة الحازم مكانه، فمِن المؤكَّد حدوث هجوم على اليخت، ومن المرجَّح أن يتم الاستيلاء عليه أو تدميره، ما لم يتمكَّنوا من الهروب بسرعةٍ إلى عُرض البحر. ولأنَّ ماكيلر كان يعلم أنه لا توجَد مَتاجرُ أسلحةٍ على طول نهر باراماكابو، فقد اتخذ الاحتياطات اللازمة لتوفير ذلك مُسبقًا دون أن يقول أي شيء لسيده المحب للسلام. فالرجل الذي يتنزَّه يوميًّا في بيكاديللي هو بالكاد في وضعٍ يُمكِّنه من التنبؤ بما قد يحدث في باراماكابو.

في الساعة ٩:٥٠ من تلك الليلة، كان ماكيلر في غرفته الصغيرة الأكثرِ راحة في عربة النوم في قطار بنزانس السريع، واستراح في هذه اللية الرائعة بعد يومه الحافل. في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي تناول وجبةَ الإفطار في ريدروث، وتولَّى بحزمٍ عمله حتى إنه في غضون يومين أتمَّ تشكيل المجموعة التي كانت ستدير منجم النحاس القديم. ثم استقل القطار إلى بليموث، واستنفد قوَّته في التجديف بالمساء إلى اليخت الأبيض الراسي في الميناء، الطافي بشكلٍ جميل مثل بجعةٍ في مياهٍ هادئة. اندهش ماكيلر عندما وجده قاربًا رائعًا. كان تقريبًا بحجم الباخرة «راجا»، لكنه كان ذا شكلٍ أكثرَ رقة، وتُعطي حوافه الدقيقة وعدًا بسرعة كبيرة. وأدرك أن الكبلات الرفيعة، التي تمتد من صارٍ مائلٍ إلى آخرَ هي الأدوات الخارجية لإرسال برقيات لا سلكيًّا، وعلى الرغم من أنه رأى من هذا أن اللورد سترانلي اشترى لنفسِه أحدث الاختراعات العِلمية، إلا أنه لم يكن مُستعدًّا تمامًا للرفاهية الرقيقة التي رآها في كل مكان بمجرَّد صعوده على متن اليخت.

ووجد اللورد سترانلي في مؤخِّرة اليخت جالسًا على كرسي خيزران، وقد استراحت قدماه على كرسي آخر. وكان يقرأ آخر صحيفة مسائية تمَّ إحضارها على متن اليخت، ووضعها على ركبته وهو ينظر بتكاسل إلى مهندس التعدين الخاص به.

سأل: «هل انتهيت من موضوع النحاس، ماكيلر؟» «نعم، أيها اللورد.»

«لم أكن أتوقَّعك قبل ليلة الغد. أتخيَّل أنك أطلقت العِنان لطاقتك المربكة في كورنوال.»

«لقد كنتُ مشغولًا بشكل معقول، أيها اللورد.»

«هل تمانع الضغط على الزر الكهربائي؟ إنه بَعيدٌ عني.»

فعل ماكيلر ذلك، وظهر على الفور واحدٌ من خدم السفينة.

«اذهب، واسأل القبطان ويلكي إذا كان بإمكانه التكرُّم والسماح لي بالتحدُّث معه.» كان القبطان ويلكي بحَّارًا عجوزًا أشيبَ من أصل اسكتلندي بشكلٍ لا لبس فيه. وجاء إلى مؤخِّرة اليخت وحيَّا صاحبه.

«هل كل شيء جاهز، أيها القبطان؟»

«كل شيء جاهز يا سيدي.»

«ممتاز؛ فلترفع المرساة ولنَنطلِق.»

تقدَّم القبطان إلى الأمام وصعد الجسر.

«اسحب مقعدك، يا بيتر، ودعني أحصُل على تقريرك الشفهي، وبينما تجلس على الكرسي، أرجو أيضًا أن تتخلَّص من عبارة «أيها اللورد». إذا كنت تُريد أن تكون أكثر احترامًا في أي وقت، فقل «سيدي» كما يفعل القبطان، وسأفعل نفس الشيء، إذا كنتَ تُريد ذلك.»

قدَّم له ماكيلر تقريرًا كاملًا عما فعله خلال الأيام الثلاثة الماضية، ولكنه لم يكن متأكدًا مما إذا كان سترانلي نائمًا أم لا طوال حديثه. على أيِّ حالٍ لم يُقاطعه سترانلي، بل استلقى على كرسيه وعيناه مُغمضتان. ثم، دون أن يفتحهما، قال:

«لقد أبليتَ بلاءً حسنًا يا ماكيلر، وكمُكافأة سأمنحك اختيار مكان في خليج بسكاي أو المحيط الأطلسي؛ حيث قد تَرغب في إلقاء صندوق البنادق والذخيرة في البحر.»

سأل ماكيلر: «أوه، هل كنت تتفحَّص أغراضي يا سيدي؟»

أجاب سترانلي بفتور: «يا إلهي، لا. الأحمق صانع السلاح الخاص بك لم يفهم تعليماتك، ولم يكن يعرف أين يجدُك، وافترض أنك كنتَ تنوب عني؛ لذا أرسل برقيةً يسأل فيها عن أي من البندقيتين المحدَّدتين يجب إرسالها. وعندما علمت أنه قد تمَّ طلب ١٢، فكرت في إرسال العبارة القديمة: «ستة من واحدة ونصف دزينة من الأخرى»، لكنني في نهاية الأمر أخذت ٢٠، عشرة من كل نوع مع الذخيرة المناسبة.»

«لماذا تَشتري أسلحة أكثر مما فعلت، إذا كنت ستُلقيها في خليج بسكاي.»

«أوه، ستُصدر صوتًا أعلى عندما تسقط.»

«وما الضرر الذي ستتسبَّب فيه على متن السفينة، يا سيدي؟ إذا لم نكن بحاجة إليها، فلن نستخدمها. وإذا كنا بحاجة إليها، فحينها ستأسَف لوجودها في خليج بسكاي.»

«إذن ستَختار خليج بسكاي، أليس كذلك؟ اعتقدت أنه ربما يُمكنك رميها لمسافة أبعد من ذلك. أتمنَّى أن تفهم، ماكيلر، أنا في مُهمة سلام، وإذا كان لا بدَّ مِن تفتيش اليخت لأي سبب من الأسباب، فستُفشي بنادقك وذخيرتك السرَّ، أليس كذلك؟»

«أنا لا أرى ذلك. لديك أكثر من ٢٠ رجلًا على متن اليخت هنا، ويُمكن استخدام البنادق المتعدِّدة الطلقات للأغراض الرياضية.»

«حسنًا، ماكيلر، لا تنزعج. تمَّ تخزين الصناديق بأمان بعيدًا في مخزن بالمقدمة، ولن نقوم بإلقائها في أيِّ مكان في البحر. فعلى كل حال، أنت تعرف المنطقة التي نتَّجه إليها أفضل مني، وبالتالي قد نحتاج إلى بنادقك وذخائرك في وقت الشدة. أرى الخادم ينتظر بالقرب منك، وأنا متأكد من أنه يودُّ أن يُرشدَك إلى مقصورتك. حينما تغسل غبار السكة الحديد من على جسدك النحيف الرشيق، سيرنُّ جرس العشاء في أرجاء اليخت بلحْن ترحيبي. معي الشيف المفضل لديَّ، وأفهم أننا لن نحتاج إلى العيش على العصيدة والحليب المعلَّب. وبالمناسبة، يا ماكيلر، هل حدَث وحزمت ملابسَ مناسبة للعشاء في أمتعتك، كما تُسميها؟»

«ملابس للعشاء؟» ردَّد ماكيلر، مذعورًا. «لماذا، يا إلهي، أنا مهندس تعدين. أنا ليس لدي حتى قميص منشى، ناهيك عن بدلة رسمية. لم أكن أعرف أنني قادم إلى حفلة مسائية؟»

«لا، لقد اهتممت بتفاهات الحياة، مثل البنادق والذخيرة، وأهملت تمامًا مسألة الملابس الأكثر أهمية.»

قال ماكيلر بفظاظة: «سوف أتناول الطعام بالمقدِّمة مع الرجال.»

«أوه، ليسَت هناك حاجة لذلك. عندما حاولت الهرب من باب غرفة الإفطار الخاصة بي ذلك اليوم، عندما كان بونديربي على أهبة الاستعداد، رأيتُه يأخذ مقاساتك بعينه بدقة، في حال كان من الضروري أن يستخدم تلك القوة التي أستنكرها؛ لذلك طلبت منه أن يُخمِّن ما قد يناسبك، وأن يجازف ويُحضر ثلاث بدلات سهرة بمَقاسات مختلفة مصنوعة حسب الطلب. سوف تجدها كلها موضوعة في غرفتك، وسيُقدِّم لك بونديربي الماهر نصائح بالغة الأهمية بشأن أفضل ما يُناسبك.»

«حسنًا، سيدي، إذا كنت تتوقَّع منِّي أن أبدو وسيمًا كل ليلة …»

قاطعه اللورد: «أوه، لا، أنا لا أتوقَّع المستحيل أبدًا، لكن كما ترى، فإن القبطان ويلكي متمسِّك بآداب السلوك. وسيشغل هو أحد طرفي الطاولة، شجاعًا في زي من الدانتيل الذهبي صنعه أفضل خياط بحري في لندن؛ لذلك يجب علينا أن نكسب رضاه، يا بُني، ونبذل قصارى جهدنا. بعد ذلك سيكون هناك كبير المهندسين لدينا، بالزي الرسمي أيضًا، ومشغل التلغراف اللاسلكي، وهو بالأحرى شابٌّ مُتغطرِس، وأخيرًا هناك الطبيب، وهو خريج جامعة أكسفورد؛ ولذا يجب علينا تكريم الجامعة. أنت وأنا أقلية، وسنحتاج فقط إلى التعامل مع الموقف على أفضل نحوٍ ممكن.»

غادر ماكيلر حزينًا إلى غرفته، التي وجدها واسعة للغاية ومجهزة بشكل فاخر لدرجةِ أنه وقف على عتبة غرفته لبضع لحظات، مشدوهًا، ينظر إليها بأسًى. ظهر عندما رن الجرس، ودخل الصالون الطويل الواسع الذي كان يمتد من جانب السفينة إلى الجانب الآخر. شغل اللورد سترانلي رأس الطاولة، وقدَّم ماكيلر للدكتور هولدن، والسيد سبنسر، الكهربائي والمسئول عن التلغراف. لم يظهر القبطان ولا المهندس أثناء العشاء، فأوَّلهما كان ينتظر رؤية سفينته في المياه المفتوحة، والآخر يقف لمراقبة سلوك الآلات في بداية الانطلاق لمسافة طويلة.

قال الطبيب: «لديك قارب جيِّد هنا يا سترانلي.»

اعترف اللورد: «إنه جيد جدًّا». «ومع ذلك، هناك عيب وحيد. فأنا أُطلِق عليه اسم «ذات الرداء الأبيض»، تيمُّنًا بعنوان رواية ويلكي كولينز الشهيرة. أظن أنك تعرف الكتاب، ماكيلر؟»

«لم أسمع عنه قط. فأنا لا أقرأ الروايات.»

«أوه، حسنًا، يجب أن نُغيِّرك قبل انتهاء الرحلة. ستجد الكثير من الروايات على متن هذا القارب. توجد نسخة من «ذات الرداء الأبيض» في كل غرفة، كبيرة وصغيرة، كل نسخة بنمط تغليف يُناسِب ديكور الغرفة؛ لذا أتوسَّل إليك، ماكيلر، لتبدأ في قراءة القصة في غرفتك الخاصة، وإذا بدأت تهتم بها، ورغبت في الاستمرار في قراءتها في الصالون أو على ظهر السفينة، آمُل أن تأخذ نسخة الصالون أو سطح السفينة، حتى لا يتعارَضَ لون الغلاف مع البيئة المحيطة. يجب أن أقيِّد النسخ بالسلاسل في أماكنها، كما كان الحال مع الكتب القديمة في كنائسنا؛ لأنه مشهد مؤلم للغاية أن أرى رجلًا يقرأ كتابًا بنفسجيًّا في صالون أبيض وذهبي، أو نسخة قرمزية على سطح السفينة.»

سخر ماكيلر قائلًا: «نعم، أعتقد أن هذا سيكون مُروِّعًا.»

«الآن، لا تكن ساخرًا، يا بيتر، ومن ثم تُزعج أذواقي الفنية الرقيقة. قد تعرف، يومًا ما، عندما تتضوَّر جوعًا في برية على الساحل الغربي، أن هذه هي الأشياء الجادة في الحياة.»

أجاب بيتر بفظاظة: «أتَّفق معك.»

قال الطبيب: «إذن فالعيب الوحيد هو حقيقة أن الركَّاب يُصرُّون على أخذ الكتب من الغرف التي تنتمي إليها؟»

«أوه، لا؛ بل حقيقة أن الرجل الذي يُسمِّي يخته «ذات الرداء الأبيض»، يجب أن يكون لديه قبطان اسمه ويلكي كولينز. وقد بحثتُ في إنجلترا واسكتلندا عن أحدٍ بهذا الاسم، ولم أتمكَّن من العثور عليه؛ لذلك كنت مُضطرًّا لتقديم تنازلات، وهو أمرٌ لا أحب فعله دائمًا. فاسم قبطاني هو ويلكي، واسم كبير المهندسين هو كولينز، ومن ثمَّ أقسِّم عبء التطابق على أكتاف رجلين مختلفين، في حين أن واحدًا كان سيَكفي لو أن والدَيه أظهَرا فقط بعض التفكير السليم عند تعميده. كنتُ سأدفع أي راتب من أجل قبطانٍ يُدعى ويلكي كولينز.»

قال الطبيب: «أعتقد أنني سأكتب كتابًا بنفسي يومًا ما، وسأُطلق عليه «المخاوف الجسيمة للمليونير». هل ستَعترِض إذا اعتبرتُكَ نموذجِي لقارون الخاص بي؟»

«على العكس من ذلك، يجب أن أشعر بالإطراء، ومع تقدُّمك في العمل قد أكون قادرًا على تزويدك بالوقائع لتَنسجها في روايتك.»

جلس ماكيلر صامتًا بينما استمرت هذه المحادثة التافهة، وحافظ على هذا الصمت خلال الجزء الأكبر من الرحلة. كان عقل ماكيلر مُضطربًا. فقد كان شابًّا جادًّا، وكانت آراؤه ترتكز بقوة على التفكير السليم، وكان هناك العديد من العناصر في الموقف والتي أعطته سببًا للقلق. وعندما وصل الأمر إلى نهايته، كان لدَيه إيمان قوي بكفاءة القوة. وعلى حد علمه، كان اللورد يقف دائمًا إلى جانب الكتيبة الأكبر. فقد مثَّل الثقة الأمريكية في التهديد باستعمال القوة، والإيمان البريطاني في الالتزام بالحذر، والاعتماد الألماني على التهديد باستخدام العنف.

والآن ها هو ذا يسير على سطح تُحفةٍ في البناء البحري؛ أفضل وأرقُّ ما قدمته العمارة البحرية، تتحرَّك بسلاسة وبرشاقة على سطح الماء كما لو كانت بجعة بيضاء تسبح. كانت جوانبها البيضاء كالثلج، المصبوبة جيدًا من أجود أنواع الفولاذ المضغوط، رقيقة جدًّا في سُمك الورقة تقريبًا، وكان مقتنعًا أنه حتى طلقة واحدة من مدفع صغير ستجعلها تتحطم وتسقط في قاع البحر، ويتهشم الغطاء المعدني الخاص بها مثل لوح زجاج ينكسر بسببِ حجرٍ مُلقًى بشكل جيد، وغالبًا لا يُمكن لومه على هذا الوهم؛ لأنَّ تعليمه كان مركَّزًا على هندسة التعدين، ولم تكن آلية المقصورات المُحكمة السد المانعة لدخول الهواء والماء جزءًا من منهجه. كان يعلم أنه في عُرض البحر، لا يُمكن لأي سفينة أن تتفوَّق على «ذات الرداء الأبيض»، باستثناء واحدة أو أخرى من مدمِّرات القوارب الأحدث المزوَّدة بطرابيد، والتي لم يكن من المُحتمَل مواجهتها على طول الساحل الغربي لأفريقيا، لكنه كان يعلم المنطقة التي كان يختُه «ذات الرداء الأبيض» يتجه إليها، وقد تخيَّله بعيدًا عن الساحل بما يتراوح من ١٢ إلى ٢٤ ميلًا؛ حيث إذا اكتُشف، فسيحتاج إلى شقِّ طريقِه عبر نهر ضيِّق، محاط بأرضٍ مسطَّحة من كل جانب، بعد أن يُغادر مأوى التلال. في هذا الوضع، سيكون من المُستحيل، بسبب التواءات مجرى النهر، الاستفادة من سرعة اليخت الكاملة، وبسبب الفكرة الخاطئة أن تسديدة واحدة جيدة التصويب ستُعطله، إن لم تُغرِقه، فقد تخيَّل اليخت الجميل وطاقمه محاصرًا بلا حول ولا قوة في مكانٍ ما بين التلال والبحيرة، تحت رحمة رجال مدجَّجين بالسلاح، يائسين، في منطقةٍ لا يوجد فيها قانون، باستثناء قانون القوة: رجال لن يشعُروا بأي تردُّد في أن يمحوا من على وجه الأرض كلَّ أثر للسفينة ومَن كانوا على متنها.

ماكيلر لن يُصدِّق إذا قيل له إن المركب الصغير يمكن أن يتمَّ خرقه مثل الغربال، ويستمر طافيًا، وإنه ما لم تُدمِّر طلقةٌ طائشة قوَّته المحرِّكة، يمكنه، في غضون بضع دقائق، الخروج من نطاق أي قوة بريَّة، ما دام هناك عُمقٌ كافٍ للمياه في النهر. وكان يعتقد بشدة أنه تم تزويد الباخرة «راجا» بشكل جيد ليس فقط بالمدافع والذخيرة، ولكن أيضًا بألغام عائمة لإغلاق النهر، مما يجعل الخروج مستحيلًا. إلى هذا «الطريق المسدود» القاتل، كان اللورد سترانلي، بطيشٍ أحزن ماكيلر، يوجِّه سفينتَه غير المحمية، المسلَّحة بالرفاهية فقط. فلن يكون للضباط والطاقم فائدةٌ تُذكَر في القتال، والرجال الإضافيون، مهما كانت براعة حراس الطرائد ورجال الغابات الذين أحضرهم سترانلي من ممتلكاته في إطلاق النار، كانوا غير منضبطين تمامًا، وعلى الرغم من أن معظمهم كانوا بلا شك خبراء بما فيه الكفاية لاستعمال بندقية صيد، كان يشكُّ إلى حدٍّ بعيد في كفاءة استخدامهم للبنادق الدقيقة ذات مخزن الذخيرة مثل التي أرسلها على متن اليخت.

سعى ماكيلر مرةً أو مرتين خلال الجزء الأول من الرحلة، إلى أن ينقُل إلى اللورد سترانلي بعض مخاوفه، لكن الشاب النبيل كان عادة بصحبة الطبيب، أو المسئول عن التلغراف، أو أحد الضباط، ودائمًا ما كان يتجاهَل مُحاولات ماكيلر بمزحة، رافضًا مناقشة أي شيء بجدية. وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى ذلك الجزءِ من المياه حيث كان من المفترض أن يجتازوا الباخرة «راجا»، وفقًا لحساب ماكيلر، كانوا يُبحرون في بحرٍ خالٍ. ويومًا بعد يوم، كان ماكيلر، من مقدمة السفينة، يمسح الأفق الخالي بأقوى المناظير، لكنه لم يرَ شيئًا من الباخرة المتجوِّلة. أصبحت الرحلةُ مُملة مع طقسها الجيد. لم يحدث شيء، سواء عن طريق تعطُّل الآلات، أو حتى مواجهة عاصفة معتدلة.

أدرك اللورد سترانلي بحثَه القلِقَ بابتسامةٍ مُستمتعًا، لكنه لم يَقُل شيئًا. أخيرًا، توقَّف ماكيلر عن فحص البحر والسماء. لم يَعُد من المُمكن أن تكون الباخرة «راجا» قد قطعت المسافة التي قطعها اليخت «ذات الرداء الأبيض» بالفعل. ومع ذلك، فإنَّ تأملاته الجادة طوَّرت أخيرًا خطة، ولاعتماد تلك الخطة يجب عليه الآن أن يحثَّ رئيسه؛ لذلك عندما رأى أن سترانلي لمرة واحدة كان بمفرده، سار دون تردُّد لمؤخرة اليخت إلى النقطة التي كان رئيس البعثة يسترخي فيها على كرسي خيزران ظهره مائل للوراء، مُمدِّدًا قدمَيه وهو يرتدي شبشبًا على المسند القابل للضبط. مثل المرأة التي سُمِّيَت سفينتُه باسمها، كان يرتدي ملابس بيضاء بالكامل؛ لأن الطقس كان دافئًا، على الرغم من أن اليخت كان يتحرَّك بسرعةٍ على المياه الزيتية وشعر كل واحد على سطح السفينة بنسيمٍ مُنعِش. وضع الشاب الكتاب الذي كان يقرؤه ووجهه لأسفل على الطاولة الصغيرة بجواره، ونظر إلى الوافد وعلى وجهه تعبير ينمُّ عن التسلية.

صاح: «حسنًا، ماكيلر، هل عثرت عليها؟»

«عثرت على مَن يا سيدي؟»

«أوه، الباخرة «الراجا»، بالطبع.»

«كيف عرفتَ أنني كنتُ أبحث عنها؟»

«لقد كنتَ تبحث عن شيءٍ ما في الأيام القليلة الماضية؛ لذلك سمحتُ لنفسي بتخمين أن ذلك الشيء هو الباخرة «راجا».»

«أنت مُحقٌّ تمامًا.»

«أنا دائمًا كذلك، ماكيلر. ألم تَكتشف ذلك بعد؟ كن دائمًا على حق وستكون سعيدًا، على الرغم من أنك ستكون أيضًا مكروهًا للغاية من قِبَل أيِّ شخص آخر. ومع ذلك، لم أسعَ أبدًا إلى الشعبية، ولا أرغب في تأليف كتاب، أو الترشُّح للبرلمان؛ لذا لا يُهمُّ عدم الشعبية.»

«أنا لا أتظاهر مطلقًا بأنني على حق يا سيدي.»

«حسنًا، هذا شيء جيد. فأنا نفسي أكره التظاهر؛ ومع ذلك، من السهل أن تكون على صواب لدرجةِ أنني أتعجَّب أحيانًا من أنك لا تُمارس الفن. كلُّ ما هو ضروري هو المعرفة والذكاء.»

«أنا لا أفتقر إلى المعرفة في مجال عملي الخاص، ولم يُلمِّح أحد من قبل إلى أنني أفتقر إلى القدرة على التفكير.»

«أنا لا أُلمِّح إلى ذلك على الإطلاق، ماكيلر. فأنا مُستعدٌّ لتأكيد قدرتك على التفكير، لكنني أعتقد أحيانًا أنك لا تمارسها بشكلٍ كافٍ. على سبيل المثال، أنت تدرس الأمور في صمتٍ كئيب، في حين أن السؤال في بعض الأحيان قد يُلقي قدْرًا كبيرًا من الضوء على مشكلتك. خذ أفعالي، على سبيل المثال. هل تظنُّ أنني أتمنَّى أن يتمَّ الإبلاغ عن مكان وجود اليخت الخاص بي في أعمدة الصحف الإنجليزية المتعلِّقة بالأمور البحرية يومًا بعد يوم، مما يُعرِّضني لخطرِ أن يبدأ بعض الناس في التساؤل عما أفعله في أقصى الجنوب؟»

«بالطبع لا.»

«ممتاز. لماذا لم نلتقِ بأيٍّ من السفن الجنوب أفريقية، أو لم نتجاوَز أيًّا من السفن المتجوِّلة التي تشق طريقها إلى كيب تاون؟»

«بالتأكيد لا أدري.»

«أوه، بل تَعرف، إذا كنت تُفكِّر فقط. والسبب هو هذا: بعد أن أمضى اليخت وقتًا كافيًا تحت قيادتي، انحرف مساره من الجنوب إلى الجنوب الغربي عندما وصلنا إلى دائرة عرض ٤۰ شمالًا. تحرَّكنا بسرعةٍ وفي مرحٍ في هذا الاتجاه حتى ظهر ضوء النهار، ثم استأنفنا تقدُّمنا جنوبًا. ومررنا خارج الجزر وبعيدًا عن مسار أي باخرة قد تُبلِّغ عنا. الآن ركِّز قدرتك على التفكير على ذلك الرجل الودود الذي ركَلَك إلى الطابق السفلي. لا بدَّ أن يظن أنه منخرط في رحلةٍ استكشافيةٍ غيرِ قانونية. هل سيَنحرِف عن مساره، في رأيك، ويُضيِّع وقتًا ثمينًا على سطح المحيط؟»

«لا، لا أعتقد ذلك.»

«بالطبع لا تَعتقِد ذلك. لأنه سيسير في خطٍّ مستقيم ليصل إلى هذا النهر الذي لا أتذكَّر اسمه. إن المسار الذي سلكناه يضعنا على بُعدِ ٢٠٠ ميل، أكثر أو أقل، من طريقه، وكما أخبروني أنه لا يُمكنك رؤية أكثر من ٣٠ ميلًا على الماء، يُمكنك الآن تخمين مدى عدم جدوى مسحك للمحيط. لم تكن لديَّ رغبةٌ في رؤية الباخرة «راجا»، لكن على أيِّ حالٍ لم أكن أرغب في أن تراني الباخرة «راجا». سنُبحر في اتجاهنا إلى أن نكون مباشرة أمام منجم الذهب الخاص بك؛ ثم الدَّوَران بزاويةٍ قائمة والتوجُّه مباشرة شرقًا هو مسارنا. يجب أن تَفعل ما أفعله أنا، ماكيلر، وأن تقرأ للكاتب البحري الذي لا يُضاهى، دبليو كلارك راسل، حينها ستبدأ في فهمِ ما أنت بصددِه. سيَدفعُك للقيام بجميع حِيَل المهنة. إنني أقرأ بتمعُّن أحدَ كتبه الآن، وهو ما يُفسِّر الخدع التي أقوم بها في البحر. هل سبق لك أن قرأت أيًّا من رواياته؟»

«لا، لم أفعل.»

«جيد جدًّا، إذن ابدأ برواية «حطام جروسفينور». لدينا جميع أعماله على متن اليخت، وسرعان ما ستعرف ما يجب فعله مع التمرُّد، وكيف تتصرف عندما تجد نفسك على جزيرة مهجورة، والتصرُّف المناسب اعتماده لمواجهة إعصار حلزوني، وماذا تقول عندما تكون بمفردك مع فتاةٍ لطيفةٍ وسط حطام سفينة. بالطبع أنا أعترف بأن دبليو دبليو جيكوبز ممتاز، وأنه ينشر أكثر الكتب التعليمية إثارة للإعجاب عن الملاحة، لكنه جيد فقط لما هو تحت الجسر، كما قد تقول؛ أي للأنهار والمياه الأخرى داخل البلاد، وربما جزء من الساحل. وعندما تبدأ بالإعجاب بملاحة أعماق البحار، فعليك بكلارك راسل، يا بُني. خذ النصيحة من بحَّار خبير ملطَّخ بالقطران مثلي، واقرأ لكلارك راسل. لا تَنخدِع بملابسي البيضاء؛ فأنا بحَّار من رأسي حتى أخمص قدمي، وبطني مُمتلئ باللحم المملَّح؛ لأنني أنهيت ثلاثة أرباع كتابه الأخير.»

«أظن أنه سيكون من غير المُجدي بالنسبة إليَّ أن أقول، يا سيدي، إنَّني أعتقد أنك وقعت في فخ؟»

«أوه، جدًّا. شر هذا اليوم يكفينا. أنت تشير، بالطبع، إلى كونِنا مُحاصَرين في ذلك النهر الذي لا يُمكنني نطقُ اسمه، وعادةً يجب أن أُعطيَ بعض الاهتمام لهذه المسألة، لكن لا يُمكنني الآن؛ لأنَّني في مُنتصَف الفصل الأكثر إثارة في هذا الكتاب الأكثر إثارة. وبمجرد دخولنا الفخ، ماكيلر، سنَدرُس بناءه ونجد مخرجًا. يبدو لي أن هناك القليل من الاستخدام العملي في دراسة فخٍّ وهمي قد لا يكون موجودًا عند وصولنا. وهذا يُؤدِّي إلى خيبة أمل. دعنا أولًا ندخل في الفخ إذا استطعنا؛ ثم إذا لم يكن هناك مخرج، فسوف نواسي أنفسنا من خلال معرفة أن هناك الكثير من المؤن والكتب التي يُمكن قراءتها على متن اليخت. وإذا ازدادت الأمور سوءًا، فسنعمل على تشغيل التلغراف اللاسلكي لدينا حتى نَلتقِط سفينةً مجهَّزة بتلغرافٍ لا سلكي أيضًا، ومن ثمَّ نتواصَل مع كلارك راسل، ونُخبره بموقعنا، ونسأله عما يجب فعله. أراهنك بخمسة جنيهات أنه سيرسل حلًّا للمشكلة.»

ضغط ماكيلر على شفتَيه، وخرج غاضبًا دون أن ينبس ببنت شفة.

قال سترانلي ضاحكًا: «حسنًا، افعل ما تُريد. جرِّب جيكوبز إذا كنت ترغب في ذلك، لكنني أعتمد على راسل»، وبتلك الملاحظة الفاصلة استأنَفَ اللورد قراءته.

عقد ماكيلر العزم على عدم القيام بأيِّ مُحاوَلةٍ أخرى لغرس التفكير السليم في رأسٍ فارغ، كما أنه لم يبدأ بالقراءة لمؤلِّفي المياه العذبة أو المياه المالحة. وكرَّس الوقت المُتبقِّي له في دراسة بعض الأعمال العِلمية التي اكتشفها في المكتبة.

ذات ليلة استيقظ فجأة. وكان القارب ثابتًا على نحوٍ غريب. أيقَظَه توقُّف أزيز التوربينات المُتواصِل الهادئ على الفور. وتوجَّه إلى السطح. كانت الباخِرة تَتمايل برفقٍ على أمواج البحر. ومن الشرق أتَت خرخرةٌ هادئة لصوت ارتطام الأمواج بالشاطئ، التي بدَت وكأنَّها شلَّال بعيد. وكان يُمكن تمييز الخطوط العريضة القاتمة للتلال المُظلِمة مقابل السماء الأقل ظلمة، وكان هذا كلَّ ما استطاع أن يراه. سار ماكيلر على سطح السفينة ذَهابًا وإيابًا حتى ضوء النهار، عندما تحرَّكت الباخرة مرةً أخرى، واقتربت بحذر من الشاطئ. كان أحد قوارب السفينة يتأرجَح في الماء، وبتوجيهٍ من ماكيلر تم قياس عُمقِ القناة، واليخت يزحف من ورائهم، حتى دخل النهر أخيرًا. وبحُلول الساعة التاسعة صباحًا، كان يرسو بجانب حقول الذهب. بعد بضع دقائق، ظهر اللورد سترانلي على ظهر المركب، مُتأنِّقًا جدًّا، بعينَين برَّاقتَين، ومُنتعشًا كشابٍّ لم تَضطرب راحته ليلًا. لم يُعرب عن استغرابه من رؤية موقع الباخرة الخاصة به، لكنه أشار فقط إلى قبطانه:

«كانت هذه محاولة جيدة، أيها القبطان، بالنظر إلى حجم الهدف والمسافة. متى رأيت الساحل؟»

«عند أربعة أجراس يا سيدي.»

«هل احتجت إلى الإبحار لأعلى ولأسفل للعثور على المكان؟»

«لا يا سيدي.»

«انظر إلى ذلك الآن، ومع ذلك يعتقِد ماكيلر أننا سنكون مُحاصَرين.»

بعد الإفطار، أصدر اللورد سترانلي أوامره بأن الباخرة يجب أن تتقدَّم إلى أبعدِ نقطةٍ فوق منبع النهر، أينما كانت؛ لذا انطلقوا، وبدءوا في الاستكشاف. واكتشفوا أن المجرى الذي كانوا يُبحرون فيه كان مجرد تفريعة، وليس النهر الرئيسي، كما ظنَّ ماكيلر. على بُعد حوالي ميل واحد فوق المناجم، بدأت الأرض تظهر، وكانت كلتا الضفتين مغطاةً بغابات رائعة. عند وصولهم إلى رأس الدلتا، وجدوا أن النهر نفسه يتجه شمالًا مباشرة، في حين أن تفريعةً مشابهةً لتلك التي تمر عبر حقول الذهب تنطلق عبر الغابة إلى الجنوب الغربي. كانت التفريعة الجنوبية الغربية هي الأصغر بين المجاري الثلاثة؛ لذلك لم يشغلوا أنفسهم بها، بل تحرَّكوا باتجاه النهر الرئيسي حتى وصلوا إلى ممرٍّ ضيق بين التلال باتجاه الغرب يطلُّ على سلسلة الجبال ناحية الشرق.

قال سترانلي: «سيكون هذا مكان التخييم، كما أتخيَّل.» «سنعود إليه، لكنَّني أرغب أولًا في فحص القناة عند مصب النهر.»

اكتشفوا، وهو ما أدهش ماكيلر، أنَّ التيار يتدفَّق حتى الآن إلى الشمال لدرجةِ أنه عندما تحوَّل أخيرًا إلى الغرب، أصبح بمَقدور الباخِرة أن تصل إلى المحيط دون أيِّ احتمال لرؤيتها من منطقة الذهب. ضحك سترانلي عندما تم توضيح هذه الحقيقة، وربَّت على كتفي ماكيلر.

وصاح: «أين فخُّك الآن، يا بني؟ كنتَ ستوفِّر على نفسك بعض القلق إذا كنتَ تعلم أن الموقع كان هكذا.»

قال ماكيلر: «مع ذلك، إذا اكتشفوا هذه القناة فقد يملئونها بألغامٍ عائمة.»

«إذن قد يكونون عند مصبِّ نهر التايمز، لكنَّهم ليسوا كذلك. المهندس يجب أن يلتزم بالاحتمالات، بيتر. الآن سنعود، ونبحث عن وادينا المُنعزل، الراسخ على الضفة الشرقية، حتى إذا اكتشفَنا خصومُنا، كما تقول الأغنية، سيكون عليهم عبور نهر آخر.»

وصلوا إلى الوادي في المساء، وتذمَّر اللورد سترانلي من يومِ عملٍ شاقٍّ تمَّ إنجازه بنزاهة، مع استحقاق العشاء المُرتقَب عن جدارة، على الرغم من أن مجهوداته كانت تتكوَّن أساسًا من الجلوس على كرسيٍّ بذراعين في المقدمة، وقدميه على الحاجز.

في صباح اليوم التالي، عبر النهرَ مع ماكيلر ومجموعة من رجال الغابات، بعضهم يحمل فئوسًا، وأحدهم يحمل تلسكوبًا ضخمًا بالحامل الخاصِّ به، وآخر يحمل خيمةً صغيرة. في الجزء العلوي، قام رجال الغابات بإزالة الشُّجَيرات المُتداخلة بحيث يُمكن رؤية حقول الذهب البعيدة. ووُضع حامل التلسكوب على الصخرة، ونُصبَت الخيمة فوقه. حدَّق سترانلي، وهو يضبط التركيز، في حقول الذهب، ثم فرك يديه بارتياح.

وقال: «يا إلهي، يُمكننا أن نرى أفكارهم العميقة بهذا.»

عندما نزلوا، أرسل سترانلي مجموعةً أخرى إلى القمة، واحدًا مُحمَّلًا بجهاز تلغراف لاسلكي طُلب من المسئول عنه تشغيله.

قال اللورد: «إذا نجح هذا فسوف يوفِّر لنا سلك هاتف.»

وكان الباقون محمَّلين بالمؤن.

قال: «ماكيلر، لقد قمت بتعيينك في المراقبة، وسيكون رفيقك مشغِّل التلغراف الثاني لدينا. لا يعرف المرء أبدًا ما قد يحدث في هذه المنطقة؛ لذلك إذا اضطُرَّت باخرتنا إلى أن تلوذ بالفِرار، يمكنكما الاختباء في القمة، ومعكما جميع الأشياء مع الحرص على إخفائها جيدًا، ومع ذلك، ابقَيا على اتصال معنا ما دمنا في نطاقِ أربعة أميال، أو أيًّا كان الحد الأقصى للتلغراف اللاسلكي. لقد لاحظت ينبوعًا صغيرًا في منتصف الطريق تقريبًا إلى الغابة، سيزودك ذلك بمصدرٍ للماء أقربَ من النهر، وأنا أنصحك أنها أفضل لك من الشمبانيا، على الرغم من أنني قد أرسلت الكثير منها. والآن، لكي أريكَ كم أنا اقتصادي، ومن ثمَّ أوجِّه نداء إلى قلبك الاسكتلندي، سأرسل الحطَّابين إلى الغابة معك، بينما هنا لن نَحرق شيئًا سوى الخشب الصلب، ونوفر الفحم. في الواقع، لقد تشاورت مع كبير المهندسين، وبموافقته سأقوم بملء مستودع السفينة بالأخشاب الأكثر قابلية للاحتراق التي يُمكنُني العثور عليها. فأنا غير مُهتم بقمة الجبل حتى يتم رصد الباخرة «راجا»، لكن بينَما يملأ الحطَّابون، بفئوسهم ومناشيرهم، المستودعات، سأذهب إلى موضعِ حفظِ الطعام بمعدات الصيد والبندقية، وهنا تأتي وظيفة حراس الطرائد والتي سيَتقاضون عليها أجورهم.»

كانت الطرائد وفيرة، وتمَّ صيد العديد من الأسماك الرائعة.

«أوه!» صاح سترانلي، في إحدى الليالي بعد عشاء جيد بشكلٍ استثنائي على الأسماك والطرائد. «بيكاديللي مكان أحمق مقارنة بهذا. إذا كانت الترتيبات البريدية أفضل قليلًا، فسنَكون بخير. يجب أن أبعث برسالةٍ إلى صحيفة «التايمز» حول إهمال حكومتنا، وأن أنتقدَ المدير العام للبريد، كما يفعل جميع المُراسِلين أصحاب المبادئ القويمة. لقد نسيت تقريبًا كيف يبدو ساعي البريد، لكنَّني أتوقَّع أنه عندما نجعل التلغراف اللاسلكي الخاص بنا يعمل، سنكون قادرين على إعطاء بعض التلميحات لسنيور ماركوني عندما نعود.»

تأخَّرت الباخرة «راجا» ثلاثة أيام، وفقًا لحسابات ماكيلر، ولكن في صباح أحد الأيام، تعرَّف عليها ماكيلر وهي توقف ببُطء تيار نهر باراماكابو، وفي الحال تمَّ إرسال المعلومات تلغرافيًّا إلى سترانلي، الذي لم يتلقَّ الرسالة؛ لأنه كان بالخارج يصطاد. كان الشاب قد أخذ غداءه معه؛ لذلك أبلغ مُشغِّل التلغراف على السفينة البخارية أولئك الموجودين عاليًا، ولم يعرف أحدٌ متى سيعود.

شاهد ماكيلر، وعينُه ملتصقة بالتلسكوب، هبوط الجيش الذي كانت تحمله «الراجا»، ورأى الرافعتَين البخاريتَين، واحدة بالمقدمة والأخرى في الخلف، تنقلان على الفور الحمولة من المخزن إلى الشاطئ. توقَّع وصول رئيسه في أي لحظة، ولكن جاءت ساعة العشاء، ولم يحضر أي زائر إلى قمة التل. نزل ماكيلر والعامل، وهناك لدهشتِه رأى سترانلي جالسًا على ظهر السفينة، يقرأ بهدوء رواية، وينتظر صوت الجرس.

سأل ماكيلر: «ألم تَصلك رسالتنا؟»

«أوه، نعم، من ساعتين. لقد وصلت «الراجا»، أليس كذلك؟ هذا مثير جدًّا للاهتمام. ستسعد، يا ماكيلر، بمعرفة أنني حظيت بأنجح يوم في الصيد.»

أجاب ماكيلر بجفاف: «نعم، هذا مثير للاهتمام للغاية، كما لاحظت. اعتقدت أنكَ إذا تلقيت رسالتي في الوقت المناسب، فستصعد إلى المراقبة.»

«أنا آسفٌ لأنني أصبتك بخيبةِ أمل يا بيتر، لكن عندما أضع رجلًا ممتازًا في موقعٍ ما، لا أتدخل معه أبدًا. لا حاجة لي تمامًا على قمَّة التل، والوضع مريح أكثر بكثير هنا.»

«ربما تفاجأت بمعرفة عدد الرجال الذين هبطوا من الباخرة «راجا». هم يكفون، حسب تقديري، للقضاء علينا في وقتٍ قصير إذا عثروا علينا.»

«حسنًا، دعنا نأمُل ألا يعثروا علينا يا بيتر.»

«لقد نصبوا عددًا من الخيام بالفعل، وبدءوا عمليات التفجير في الساعة الواحدة.»

«إنهم لا يُضيِّعون أي وقت، أليس كذلك؟»

«لا، بالتأكيد. أرى أنهم جهَّزوا كشافات كهربائية على الصاريتَين، على ما يبدو لتغطية مجال العمليات؛ لذلك أظن أنهم سيعملون ليلًا ونهارًا.»

قال اللورد بإعجاب: «أنا أحبُّ الرجال النَّشِيطين. لو كان هناك قطار معلَّق يصل إلى أعلى التل، لكنت أخذت كرسيًّا بذراعين لمجرد الاستمتاع بالجلوس ومشاهدتهم. آه، ها هو ذا جرس العشاء، الحمد لله. بيتر، لقد اصطدتُ بعض الطيور اليوم والتي أعتقد أنك ستَستمتِع بها.»

«شكرًا لك، لكن كل ما أريد هو شطيرة. وسأعود إلى المراقبة. لم نَفتح صناديق المؤن بعد. يجب أن أعلم ما إذا كان هؤلاء الأشخاص سيعملون بالفعل طوال الليل.»

«خذ بنصيحتي يا بيتر ولا تفعل. استمتع بفترة راحة جيدة في سريرك المريح. أولئك الذين ينامون جيدًا يعيشون طويلًا.»

قال بيتر: «سأعود.»

«آه، أرى ما تُحاول القيام به. ستجبرني على منحك أجرًا لنوبتَي الليل والنهار معًا، أو ربما تتوق لتقليد طاقة هؤلاء الأشخاص على صخرة الذهب. الآن اقتنع، من أجلي، بتناول عشاء جيد عندما يكون كل شيء جاهزًا لك. ضع الشطائر في جيبك، إذا كنت ترغب في ذلك، لقضمها أثناء مراقبتك بالليل، إذا كنت ستَستمرُّ في تسلق ذلك التل الشديد الانحدار.»

هز ماكيلر رأسه.

«أناشدك أن تقتنع، يا بيتر؛ لأنك إذا لم تَخضَع للإجراءات اللطيفة، فسوف آمرك، وبعد ذلك إذا رفضت، فسأُقيِّدُك بالأصفاد. لن أتنزَّه طوال اليوم في أفريقيا نيابةً عنك، وبعد ذلك يتم تجاهل ما اصطدتُه عندما أعود. سأُقدِّم تنازلًا واحدًا: لا تقلق الليلة بشأن ملابسك المسائية. ولا تخجل من روعة رفقائك على المائدة، بل كرِّس انتباهك إلى العشاء، الذي أتمنَّى أن ينول إعجابك، وسأطلب من المضيِّف أن يُحضر لك بعضًا من الشطائر اللذيذة.»

لذلك اضطر ماكيلر، كونه موظفًا مستأجرًا، إلى الامتثال. على رأس المائدة في ذلك المساء، أبدى اللورد سترانلي رأيه ببلاغة عن الأذى القادم من العمل.

قال: «أنا لا أتفق مع صديقي، الرئيس روزفلت، فيما يتعلَّق بالحياة الشاقة. فإنه يتغاضى تمامًا عن حقيقة أن العمل وُضع على هذه الأرض باعتباره لعنة، والآن يتظاهر العديد من الأشخاص غير المفكرين باعتباره نعمة. يُذكِّرُني روزفلت بشيء من ماكيلر هنا، باستثناء أنه أكثر لطفًا، ولديه حسُّ دعابة أكبر. وماكيلر في الواقع، مدفوعًا بدعوات الواجب، وبمساعدة عضلةٍ تُغذِّيها العصيدة، سوف يتسلق الليلة قمة التلِّ هذه، بينما نلعب الورق. وهذا سيَمنحه شعورًا بالتفوق علينا ولن يتمكَّن غدًا من إخفائه. أنا أتعاطف دائمًا مع أولئك الأشخاص الذين قضوا على أريستيدس الملقَّب بالعادل.»

ظلَّ ماكيلر صامتًا طَوال كل هذا الهزل، لكنه مع ذلك استمتع بعشائه، على الرغم من أنه في اللحظة التي تمَّ فيها تقديم القهوة وتجهيز طاولة الورق، جدَّف إلى الجهة الأخرى من النهر، وربط قاربه بأمان، وصعد عبر ظلام الغابة ليرى المصابيح الكهربائية المضاءة فوق منجم الذهب عندما وصل إلى القمة.

على الرغم من لا مبالاة اللورد سترانلي الواضحة، ظهر على القمة بعد الإفطار بوقت قصير. ووجد ماكيلر مُمدَّدًا على الصخرة، ويبدو نائمًا، فلم يُزعجه، لكنه حوَّل انتباهه بدلًا من ذلك إلى التلسكوب، الذي رأى من خلاله ما يكفي من العمل الشاق الذي سيرضي أكثر الناس كسلًا. أدار التلسكوب في كل اتجاه، وفي النهاية ثبَّته في نقطةٍ تغطي النهر أسفل المنجم. هناك حدَّق بهدوء لفترة طويلة، حتى قاطعه ماكيلر مُستيقظًا من نومه، معربًا عن تعجبه من رؤية رئيسه جالسًا على جذع شجرة مقطوع يحلُّ محلَّ الكرسي.

«صباح الخير، بيتر. أخبرني بشأن الليلة، أيها المراقب.»

«لقد عملوا طوال الليل، سيدي، سواء في تفجير المعدن أو تفريغ السفينة.»

«إذن هذا يعني أننا سنحتاج قريبًا إلى أن نتحرك مرة أخرى. إذا قاموا بتحميل الباخرة «راجا» بالسرعة التي قاموا بتفريغها، فستَخرُج في المحيط قبل أن نعرف أين نحن.»

«لهذا السبب أتيت الليلة الماضية، سيدي. اعتقدت أنك لم تُدرِك تمامًا مدى السرعة التي تقترب بها زيارتنا هنا من النهاية.»

رد سترانلي بتكاسُل: «ومع ذلك، يبدو أن ما يفعلونه الآن يُشير إلى إقامةٍ مطوَّلة من جانب الباخرة «راجا».»

سأل ماكيلر: «ماذا يفعلون الآن؟»

«إنهم يزرعون ألغامًا عائمة في النهر على بُعد حوالي نصف ميل تحت حقول الذهب. لقد أنهوا للتوِّ صفًّا واحدًا يمرُّ بوضوحٍ عبر مجرى النهر، ويعملون على السلسلة الثانية على بُعد ربع ميل، وفقًا لتقديري للمسافة، بالقرب من المحيط. يستخدمون قاربين عاديين، وزورقًا بخاريًّا واحدًا. النهر مُغلَق، وهناك إعلان فعليٌّ للحرب يا بني، وماكيلر يبدو نائمًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤