دعوة للغداء
قفز ماكيلر على قدمَيه، وقد أصبح مُستيقظًا تمامًا، وحدَّق عبر التلسكوب. وصاح منتصرًا: «كما ترى، كنتُ على حق بعد كل شيء!»
«نعم، لقد كنت محقًّا في جانب ومخطئًا في جانبٍ آخر. أعترف أنني لم أومن باللغم العائم، لأنه ليس سلعةً يُمكنك شراؤها من كل تاجر حديد؛ لكنك كنت مخطئًا في توقُّع أنهم سيتركون قناة للباخرة «راجا» لتخرج منها: لقد أغلقوا النهر تمامًا. بالطبع هذه ميزة. فعندما يحين وقت مغادرة الباخرة «راجا»، سيتم التقاط تلك الألغام وإحضارها إلى الشاطئ؛ لذلك، من خلال مراقبة حقل الألغام على النهر، سنتلقَّى إشعارًا برحيل الباخرة «راجا».»
«وهل تنوي اللَّحاق بها عندما يتم إزالة الألغام؟»
«يا إلهي، لا. سنَرحل من القناة الرئيسية.»
«إذن لن تفعل شيئًا حيال وكر المتفجرات هذا؟»
«وماذا عسانا أن نفعل؟ لو كنا يابانيِّين، ومُستهترين بالحياة البشرية، فربما تسللنا إلى هناك وجعلنا الألغامَ تطفو على الماء؛ لكن هذا سيكون عملًا خطيرًا، وإذا خرج واحد أو أكثر إلى المحيط، فقد نجد أنفسنا مسئولين فعليًّا عن تدمير إحدى سفن الركَّاب في كيب تاون.» واصل اللورد على نحوٍ حالم، مُمدِّدًا جسده بأقصى حد في المكان الذي هجره ماكيلر: «ولكن مع كل ذلك، ما فائدة هذا الذهب؟ لا يُمكنك الاستمتاع به، إلا في لندن أو باريس، أو ما يُسمى بمركز حضارة. لقد رأيت للتو كيف يُحوِّل البشر الذين يبحثون عنه إلى وحوش، عندما يستعدون بدم بارد لإبادة رفاقهم من المخلوقات.»
«لكنك عرفتَ كل ذلك، سيدي، قبل أن تُغادر إنجلترا.»
«صحيح، صحيح، هكذا فعلت؛ لكن هنا تركت الحقيقة انطباعًا أكبرَ في ذهني. وتوصَّلت إلى نظرية. أعتقد أن هذه البقعة هي جنة عدن. فالتربة والمناخ يُساعدان على نمو أي شيء. ويُمكنُك الاستمتاع بأي درجة حرارة تريدها ببساطةٍ عن طريق الصعود أعلى وأعلى في التلال؛ فكلما صعدت لأعلى، انخفضت درجة الحرارة. هناك الكثير من الأخشاب من جميع الأنواع، وقد اكتشفتُ بالأمس شلالًا جميلًا من شأنه أن يمنحنا ما يكفي من الكهرباء لتزويد مدينة بالطاقة؛ لذلك أعتزم إنشاء مدينة فاضلة حديثة، واخترتُ مكانًا سنَبدأ منه اليوم في إخلاء الغابة وبناء أكواخ من الخشب. ستقع نواة مُستعمرتنا على رأس الدلتا بجانب المجرى الذي يمرُّ بحقل الذهب ويتدفَّق مباشَرة إلى المحيط. وسأنقُل الباخرة إلى هناك، ومن ثمَّ ستُترك وحيدًا يا بيتر؛ لأنني أصرُّ على مراقبتك لأعدائنا المحتمَلين من هذه البقعة، والإبلاغ عما يفعلونه بالتلغراف اللاسلكي.»
«إذن أنت تنوي التخلي عن منطقة التعدين هذه دون مقاومة؟»
«أوه، أنا أكره المقاومة. ولا أرغب في إهدار هذا المناخ المثالي في المقاومة. دعنا نكن سعداء عندما تكون هناك فرصة للسعادة.»
استلقى الشاب هناك ويداه مشبوكتان خلف رأسه، ورفع بصره إلى ماكيلر الحائر متسائلًا بعينين نصف مغمضتين:
«بالمناسبة، ماكيلر، هناك شيء يطفو على صفحة النهر بالقرب من اليخت من شأنه أن يُثير اهتمامك. هل أخبرتك أنني أحضرت معي قاربًا صغيرًا مُميَّزًا بمحرك من «ثورنيكروفت»، وهو بالفعل مصفَّح ومضاد للرصاص؟ يمكننا استخدامه لزيارة المنجم، والعودة، ونتركهم يُطلقون الرصاص علينا، ونحن ممدَّدون على سطحه محميون بجوانبه المصفحة. لا يمكن إصابة أحد، إلا إذا كان مطلق النار على قمَّة برج كنيسة. أعتقد أنني سأزور معسكر التعدين.»
«أنصحك بشدة يا سيدي ألا تفعل شيئًا من هذا القبيل.»
«أوه، حسنًا، لن أفعل، لكن هذا القارب الصغير سيكون مفيدًا لزيارتك. إنه وحش صغير رشيق، وأكثر فاعلية على هذه المياه من قارب التجديف.»
«هل أنت جادٌّ بشأن تلك المدينة الفاضلة، سيدي؟»
«بالتأكيد، وهذا يُذكِّرني أنه يجب أن أبدأ.»
نهض، وتمطَّى بتكاسل، وأومأ برأسه مودعًا ماكيلر، ومضى في طريقه على مهلٍ أسفلَ التل.
تلقَّى الحطَّابون على متن اليخت المسمَّى «ذات الرداء الأبيض» الإعلان عن المدينة الفاضلة الجديدة بروحٍ مختلفة تمامًا عن روح ماكيلر، لكنهم بالطبع لم يعرفوا شيئًا عن الذهب الذي كان سبب الرحلة البحرية. انطلق اليخت إلى جانب الهضبة التي اختارها سترانلي كموقع لقريته الأولى، وامتلأ الهواء في الوقت الراهن بصوتِ تحطُّم الأشجار المتساقطة، مع صوت رنين الفأس، وزمجرة المنشار. كان حرَّاس الطرائد والطاقم جاهزين للعمل، مع الاستعانة بأولئك الذين لم يتمكَّنوا من تقطيع الخشب في استخدام المنشار اليدوي، أو دحرجة جذوع الأشجار إلى ضفة النهر؛ حيث أمر سترانلي بتكديسها.
احتل ماكيلر ومسئول التلغراف مكانهما الوحيد ليلَ نهار، وأرسلا تقاريرَ عن التقدُّم المحرَز. أخيرًا، أعلن ماكيلر أن تحميل الخام قد وصل إلى حدِّ أن علامة الحمولة القصوى على جانب الباخرة «راجا» كانت مغمورة بالفعل، وأضاف ماكيلر أن هذا من شأنه أن يُظهِر أن الباخرة لم تكن تنوي الإبحار إلى إنجلترا. في غضون نصف ساعة من تسلُّم هذه الرسالة، أحضر القارب الصغير السريع ذو المحرك سترانلي والطبيب إلى سفح تلِّ المراقبة، ووصل الاثنان الآن إلى القمة في وقت قصير.
قال سترانلي: «ماكيلر، أدرِ التلسكوب الخاص بك باتجاه منبع النهر إلى أول جزء من الماء الصافي الذي تراه.»
بينما كان ماكيلر يفعل ذلك، التفت الرئيس إلى مشغِّل التلغراف وقال:
«أرسِل رسالةً إلى زميلك بهذه الكلمات: «دعهم يأتون جميعًا».» وتابع: «اطلب منه أن يُكرِّرها ليبيِّن أنه قد فهم.»
سأل ماكيلر، واضعًا تفسيره الخاص على عبارة التحدِّي المألوفة: «هل تتوقَّع هجومًا؟»
أجاب سترانلي: «نوع من الهجوم. راقب سطح تلك المياه، وأخبرني بما تراه.»
صرخ ماكيلر: «أوه! يبدو أن هناك طوفًا ينزل.»
«لا، إنها جذوع أشجار مُنفصلة. لقد فهموا إشارتنا، أيها الطبيب، وتصرَّفوا على الفور. الآن، ماكيلر، أدرْ عدستك باتجاه الألغام العائمة، واترك مكانك للطبيب. لقد وعدته بإلقاء النظرة الأولى. كم عدد الألغام التي زرعوها، ماكيلر؟»
«لا أعرف يا سيدي.»
«آه، نعم أتذكَّر؛ كنت نائمًا في موقعك. حسنًا، يُسعدني أن أبلغكم أن الرقم الذي رأيته في النهر كان بالضبط ٢٧. الآن، أيها المسئول عن التلغراف، قف هنا وقم بعملٍ مفيد. إذا حدثت انفجارات، فلا يتحدَّث أحد، ولكن يجب على كل واحد أن يحسب عدد اندفاعات المياه التي يراها، ثم سنقارن الملاحظات في نهاية الوابل.»
هتف الطبيب وعيناه ملتصقتان بالمنظار: «يا للعجب!»
صعد عمود طويل من الماء، أبيض كالثلج، في الهواء، وتوقَّف مؤقتًا، وتحطَّم مثل صاروخ جوي، وهبط في شكل مطرٍ ضبابي، حملته الرياح ونفخته على سطح الماء. ثم انطلق ثلاثة آخرون في الهواء كما لو كانوا في مُسابقة. جاء صوتٌ مثل رعد بعيد عبر الدلتا، والآن يبدو أن أحد الألغام فجَّر آخر، أو أن جذوع الأشجار كانت أثخن مما كان متوقعًا؛ لأن جدارًا من الماء ارتفع من سطح النهر، ممتدًّا من الشاطئ إلى الشاطئ الآخر، مع وجود حطام هنا وهناك، وبدلًا من القعقعة، سمع الرجال الأربعة على الجبل قصفًا رعديًّا حادًّا. جعل هذا الأمر العد مستحيلًا. لبضع لحظات لم يحدُث أي شيء آخر، ثم انفجر خط الألغام على بُعد ربع ميل من النهر عمليًّا في وقت واحد، مما شكَّل على الفور لفترة وجيزة شلالًا من شلالات نياجرا في السماء.
قال سترانلي بهدوء وهو يُعلِّق فوق كتفه مرةً أخرى المنظار الذي كان يستخدمه: «أعتقد أننا تمكَّنا منهم. أدرِ التلسكوب الخاص بك إلى البرِّ مرةً أخرى، أيها الطبيب، وشاهد هؤلاء الأشخاص الهزليين يتعثَّرون بعضهم فوق بعض في عجلةٍ من أمرهم لمعرفةِ ما حدث. إنهم يُشبِهون عش النمل المضطرب.»
سأل ماكيلر: «ماذا فعلت باليخت؟ إذا رأى أيٌّ من هؤلاء الأشخاص جذوع الأشجار المنشورة تطفو على النهر، فسيكون هناك تحقيق سريع للغاية لاكتشاف مَن قام بنشر تلك الجذوع.»
«هذا صحيح، ماكيلر. لذلك أخذت اليخت عبر النهر بعيدًا عن الطلق الناري، أو بعيدًا عن أنظار مدينتنا الفاضلة المهجورة. إذا أتوا عن طريق البرِّ فلن يتمكَّنوا من الوصول إليه.»
قال الطبيب: «لن يأتوا برًّا. يتمُّ تجهيز الزورق البخاري، ويقف ثلاثة رجال على حافة الصخرة يستعدون للصعود على متنه، كما أتخيَّل. وهم مسلحون بالبنادق أيضًا.»
قال سترانلي: «فقط انظر من خلال التلسكوب، ماكيلر، وأخبرني إذا كنت تعرف الرجال الثلاثة.»
«نعم؛ هناك المدير الطويل القامة، مع قبطان الباخرة «راجا» بجانبه، والضابط الأول بالجانب الآخر.»
قال سترانلي مُصحِّحًا: «لا تقل الضابط الأول، بيتر. يقول كلارك راسل إنه لا يوجد شيء اسمه ضابط أول. إنه مجرد ضابط؛ ومن ثم لديك ضابط ثانٍ وثالث، ولا أعرف عددهم. حسنًا، أيها الطبيب، دعنا ننطلق ونَلتقي بهم في القارب ذي المحرك. نحن حطَّابون أبرياء، نبحث عن الأخشاب التي سقطت من الضفة، تذكَّر.»
احتجَّ ماكيلر قائلًا: «أنت بالتأكيد لن تذهب إلى هناك.»
«يا إلهي، بالطبع. سنُخبرهم بقصتنا قبل حتى أن يبدءوا في طرح الأسئلة.»
«لكنَّك أعزل.»
«تمامًا.»
«وهم يمتلكون بنادق.»
«هكذا يبدو الأمر.»
«إذن من التهور أن تَلتقيَ بهم دون أن يرافقك عددٌ متساوٍ من الرجال المسلحين لحمايتك، على الأقل. يجب أن آخذ كلَّ ما سيحمله القارب ذو المحرك.»
«أعلم أنك ستفعل ذلك يا بيتر، ولكن، كما قلت كثيرًا، أنت شخص مُتعطِّش للدماء. يمكننا أن نختبئ خلف الجوانب مُستلقِين على وجوهنا، قبل أن يتمكَّن أيُّ واحد من الثلاثة من إطلاق النار؛ ثم في هذا الوضع الراقد سأشرح لهم بقدْر ما أستطيع أن القارب ذا المحرِّك «ثورنيكروفت» يمتلك مقدمة غواصة فعَّالة مثل تلك الخاصة بسفينة حربية، وإذا لم يرغبوا في صدم زورقهم البخاري وإغراقه، فمن الأفضل إلقاء بنادقهم على السطح. وسأُصرُّ على أن مَن يتحدَّث معي سوف يتحدَّث كرجل نبيل إلى آخر. وسأقول لهم إنني عضو في مؤتمر السلام في لاهاي. هيا بنا أيها الطبيب. سوف ندعو هؤلاء الأشخاص إلى الغداء، ونُبهجهم بأفضل أنواع النبيذ والسيجار التي يمكن الحصول عليها في أفريقيا»، وبهذا غادر سترانلي والطبيب إلى القارب ذي المحرِّك المُنتظِر.
جثم قائد القارب الصغير ذي المحرِّك على عجلته، التي كانت تُشبه إلى حدٍّ ما تلك الخاصة بالسيارة؛ حيث انطلق القارب السريع في النهر حتى وصل إلى التفريعة التي تؤدي إلى المنجم، ثم انطلق بأقصى سرعة في هذا الممر المائي. كان سترانلي والطبيب واقفَين، وعند الالتفاف حول أحد المُنحنيات رأيا الزورق البخاري يهتزُّ بصعوبة نحوهما عكس التيار.
قال سترانلي: «أوقف المحرِّك. أدرْ مقدمة الزورق، واقترب بمحاذاته لتكون على مسافة حوالي ٢٠ قدمًا، ثم اضبط سرعته لتُلائم سرعة الزورق.»
بدا أن المدير، والقبطان، والضابط، الذين كانوا واقفين جميعًا، قد أصيبوا بالشلل المصحوب بالدهشة لرؤية مثل هذا القارب السريع في مثل هذه المنطقة.
لم يتحركوا لرفع بنادقهم، أو حتى لتحية الوافد. مرَّ بهم القارب ذو المحرِّك مثل بطة برية، دون سماع صوت الآلات أو رؤية البخار، يدور برشاقة، ويقترب بمحاذاتهم بدقة خفيفة كان من المفترض أن تثير إعجابَ بحَّارٍ خبير مثل قبطان الباخرة «راجا».
لكن أصاب الذعر الرجال الثلاثة. تحوَّل وجه القبطان المتوهِّج المتأثر بالعوامل الجوية إلى أرجواني مرقَّش؛ وفتح فمه، ووقف هناك مُحدِّقًا، والخوف في عينيه المنتفختَين. أوحى على الفور مظهر سمو اللورد سترانلي غير القلق، وقامته المنتصبة، وملابسه البيضاء، من وجهة نظره الخبيرة، أنه ضابط في البحرية البريطانية. وقد زاد هذا الخطأ من خلال القبعة المَجدولة الذهبية الأنيقة التي كان يرتديها الطبيب؛ لكن سلوك الرجلَين بالملابس البيضاء لم يكن مقلقًا مثل سلوك القارب نفسه ومظهره. فقد تمَّ التعامل معه بمهارة عالية، وجاء إلى جانبهم بتلك الطريقة الوقحة الصفيقة لضباط البحرية والوحدات الأصغر في البحرية البريطانية. كانت هناك لمسة من الغطرسة في هيكلِه الفخم، كما لو كان يعرف أن القوة الكاملة للأمة البحرية تتجسَّد فيه. لم تُفقد أهمية جوانبه المدرعة مع الرجلين البحَّارين، على الرغم من أن مدير المنجم لم يدرك ذلك على الفور، لكن الثلاثة أدركوا الأهمية الشريرة لتلك المقدمة البارزة من الفولاذ، والتي كانت تظهر بوضوح، وإن كانت تتمايل، من خلال المياه الخضراء الشفافة، خطيرة مثل أنفِ سمكةِ قرشٍ آكلةٍ لحومَ البشر.
ابتسم اللورد سترانلي وهو يدرك الذعرَ الذي سبَّبه ظهوره المفاجئ.
حيَّاهم بسرور: «صباح الخير. هل رأيتم أيَّ أخشاب تطفو على سطح هذا النهر؟»
«أخشاب؟» شهق مدير المنجم. «نعم، نعم، رأينا.»
«هل فُقدت، في رأيك؟»
«أنا أظن أن معظمها يتمايل في أمواج المحيط الأطلسي.»
غمغم الطبيب: «لم تُفقد، لكنها ذهبت سلفًا.»
ظنَّ سترانلي أن القبطان والضابط يعرفان الكثير عن الطبيعة القرصانية اللصوصية لرحلتهم أكثر مما كان يفترض. كان كلاهما يُدرك جيدًا أن السفن الحربية البريطانية كانت في الغالب تحشر أنفها في شئون جميع القادمين الغرباء في العالم؛ حيث لم يكونوا مطلوبين، ومع ذلك إذا كان هناك بحَّارٌ جديرٌ، يمارس مهنته القانونية، فليس ثمَّة سببٌ لإصابته بانهيار عصبي عند رؤيةِ مركبٍ يُشبه قاربَ طوربيدٍ صغير. وكان يعتقد حتى هذه اللحظة أن القبطان، والضباط، وطاقم الباخرة «راجا» كانوا مشاركين أبرياء في مخطَّط للنذالة والسرقة، لكنه الآن علم أن القبطان والضابط كانا على قدم المساواة في المؤامرة مع المدير الأسمر الطويل القامة، ووضع هذه المعلومات في الجزء الخلفي من دماغه لاستخدامها في المستقبل عندما يلتقي القبطان في عُرض البحر.
تلعثم القبطان، وهو يتحدَّث لأول مرة: «هل أنت ضابط في البحرية، يا سيدي؟»
أجاب سترانلي بمرح: «أوه عزيزي، لا؛ أنا مجرد شخص عادي.»
تنفَّس الثلاثة الصعداء في وقت واحد، وفقدت وقفتهم المتحنطة شيئًا من صلابتها.
«أنا أُبحِر في الساحل في يختي.»
سأله مدير المنجم: «هذا ليس يختك، أليس كذلك؟»
«بلى، يقع اليخت الخاص بي على بُعد أميال قليلة من أعلى النهر، وهو يخت عابر للمحيطات. لقد بُني بهدف الراحة وإسكان عدد لا بأس به من الرجال.»
سأل المدير، وهو يستعيد شجاعته بشكل واضح: «آه، كم تَحمِل من الرجال؟»
أجاب اللورد: «فليباركني الرب لو كنت أعرف.» ثم سأل: «كم عدد الرجال لدينا أيها الطبيب؟»
أجاب الطبيب بطريقةٍ مُبهَمة من اللامبالاة: «لم أُحصِهم أبدًا يا سيدي.»
تابع الرئيس: «إنهم مشتَّتون في أرجاء البلاد. كثير منهم من الحطابين، والباقي حراس طرائد من الأراضي التي أملكها في إنجلترا. يُمكنُهم جميعًا إطلاق النار — ضع ثقتك في حراس الطرائد فيما يتعلَّق بهذا الأمر.»
«وهل اليخت الخاص بك مبنيٌّ على طراز قاربك هذا؟»
«لا. كما أخبرتك؛ فهو مصمَّم للراحة. يسرني أن أريَه لك إذا منحتَني شرف الزيارة. في الواقع، يقترب الوقت من مُنتصَف النهار؛ لذلك سأكون مسرورًا إذا تفضلتم أنتم الثلاثة أيها السادة الكرام لتناول الغداء معي. يُمكنني أن أعدَكم بوجبةٍ مقبولة، وبعض النبيذ الممتاز، والسيجار الذي سيَستحضِر ذكرياتٍ من هافانا.»
همس المدير للقبطان، الذي أومأ برأسه ببعض الشك، كما لو كان يقول: «حسنًا، أعتقد أنه من الأفضل أن نرى ما يدور هناك، على أيِّ حال.»
ثم رفع المدير صوته وقال:
«شكرًا يا سيدي. سنكون سعداء للغاية بالحصول على لقمة، ومشروب، ودخان. صديقي هنا هو قبطان الباخرة «راجا»، وهذا هو السيد طومسون، الضابط. أنا فراونينجشيلد، أُمثِّل مالكي هذه المنطقة.»
«يسرُّني التعرُّف إليكم، أيها السادة. اسمي سترانلي.»
«وهو اسم مشهور جدًّا في أفريقيا، سيد ستانلي.»
تهجَّى اللورد: «س-ت-ر-ا-ن-ل-ي». «لا يُمكنني ادعاء ميزة أنه نفس اسم أحد المستكشفين.»
سأل المدير: «هل لي أن أستفسر عن سبب زيارتك لهذه المناطق؟»
«ببساطة أنا أهتم بالطرائد الكبيرة؛ لذا أحمل بعض حراس الطرائد معي. ثمَّ مرة أخرى، كما تعلمون على الأرجح، أنا مُهتم بالأخشاب، ومن هنا يأتي الحطَّابون بفئوسهم ومناشيرهم. لقد قطعنا كميةً كبيرة من الحطب، ونأمُل أن نُكمل بها الفحم لدينا. قد يبدو لك سببي الثالث غير عملي إلى حدٍّ كبير. كان لديَّ بعض الأفكار حول إنشاء مُستوطنة هنا، أو في أي مكان آخر صحي ومُناسِب ليس بعيدًا عن الساحل. أنا سعيد بهذا الجزء من البلاد. اكتشفت في التلال أثناء إطلاق النار العديد من الشلالات التي يُمكِن أن توفِّر طاقة رخيصة. ومنذ بضعة أيام، أعطيتُ أوامر للحطَّابين بإعداد جذوع الأشجار لبناء الأكواخ. وكنتُ بعيدًا أطلق النار في الوقت الذي بدءوا فيه العمليات، وأخشى نوعًا ما أن أتجاهل واجباتي بوصفي مؤسسًا لمستوطنة. أيًّا كان الأمر، فقد كدَّسوا جذوع الأشجار بالقرب من حافة النهر؛ حيث يكون الانحدار شديدًا. وهذا الصباح، مثل خنازير مُتهوِّرة، يبدو أن جذوع الأشجار قد سقطت واحدًا تلو الآخر في الماء. أظن أن كومةً واحدة دفعت باقي الأكوام. كما أخبرك، كنتُ غائبًا، ولكن عندما وصلتني الأخبار، أخذت هذا الزورق وتعقَّبتها في النهر؛ حيث ظننت أنه ربما استقرت الأخشاب المنشورة أو تكدَّست في مكانٍ ما، ويمكن سحبها وإعادتها؛ ولكن إذا كانت، كما قلت، في المحيط بالفعل، فأخشى أن نكون قد فقدناها، وسنحتاج إلى قطع المزيد.»
استمع فراونينجشيلد إلى هذه القصة بجبينٍ مُتجعِّد، ونظرة حادة إلى المتحدِّث، الذي تحدَّث بطريقةٍ سهلة وبطيئة، مما جعل المدير يعتقد بأنه في مواجَهة أحمق ثري لديه أموال أكثر مما يحتاج، وتدريجيًّا، بدأ الرجل الذي ركل ماكيلر في المخزن يستعيد شجاعته. لقد شعر بالخجل من إخفاقه في التحلِّي بالشجاعة عندما افترض أنه بمواجهة سلطة من بريطانيا العظمى.
«ربما لا تدرك، سيد سترانلي، أن الأخشاب التي تقطعها تقع في ملكية خاصة.»
احتجَّ الشابُّ قائلًا: «أنت مُخطئ بالتأكيد. كلُّ الخرائط التي رأيتُها — والتي سأعرضها لك عندما نصعد على متن اليخت — تصفُ هذه المنطقة على أنها أرضٌ غير مَملوكة لأحد.»
«هذا ليس هو الحال، سيد سترانلي. تمَّ الاستحواذ على أكثرَ من مائة ميل مربَّع من هذه المنطقة من قِبل نقابة أوروبية، وأنا أمثِّلها.»
«أنت تُدهشني. من أيِّ حكومة قامت هذه النقابة بشراء المِلكية؟»
«لم يشتروها من أي حكومة؛ لقد حصلوا على حق الامتياز من زعماء السكَّان الأصليين. لا توجد حكومة أوروبية لديها ولاية قضائية على هذا الجزء من أفريقيا.»
«هذا ما اعتقدته. إذن هل تُؤسِّس مُستوطنة أقصى النهر؟ هل هذا هو المكان الذي أتيت منه؟»
«نعم.»
«لقد وصلت في الباخِرة التي تحدَّثت عنها — نسيت الاسم؟»
«الباخرة «راجا». نعم. أنا مهندس تعدين، ونحن نُجرِّب الموارد المعدنية لهذا البلد.»
«فهمت. إذن من المُحتمَل أنك تُحمِّل الباخرة «راجا» بمثل هذا الخام الذي يُمكنُك العثور عليه، وتُعيده إلى أوروبا لاختبارِه.»
«بالضبط.»
«ما تُخبرني به هو الأكثر إثارة للاهتمام، لكن بالتأكيد لم تكن هنا عندما أتيت إلى هذا النهر في يختي قبل أقل من شهر؟»
«نعم، لم نكن هنا في ذلك الوقت، لكنَّنا توقعنا هذا، وحصلنا على الحيازة منذ أكثر من عام.»
«إذن أنت لديك السلطة لتأمرني بالمضي قُدمًا؟»
«أؤكِّد لك، سيد سترانلي، أنه فيما يتعلَّق بي شخصيًّا، يُمكنك تأسيس مستوطنتك، أو البقاء هنا طالَما تريد، لكنَّني لا أتصرَّف نيابةً عن نفسي. وتحقيقًا لمصلحة أصحاب العمل، ولمنع حدوث تعقيدات في المستقبل، إذا اكتشفنا معادن ثمينة، فمن واجبي أن أحذِّرك.»
«هل يمكن أن تتفضَّل بإعطائي عنوان تلك النقابة الأوروبية؟»
«سيكون هذا عديم الفائدة يا سيدي. فقد تلقَّيت تعليماتٍ بأنهم لا يعتزمون منح أي امتيازات أو تراخيص لأجانب. سواء أكانوا يربحون أم يخسرون، فهم ينوون استغلال هذه المنطقة لمصلحتهم الخاصة. وإذا اعترضت على سلطتي، فسيُسعدني تقديم أدلة موثقة تؤكد ما أقوله.»
احتجَّ سترانلي قائلًا: «عزيزي سيد فراونينجشيلد، لا يجب أن أحلم بالاعتراض على سلطتك. أعترف أنني كنتُ مغرمًا بهذه المنطقة الخالية من السكان، على الرغم من أنني لا أفكِّر كثيرًا في المنطقة على طول الساحل. ومع ذلك، فإن أفريقيا كبيرة، ولا أشك في أنني قد أجد مكانًا مناسبًا بنفس القدْر لتنفيذ خططي. ما تقوله لا يُظهِر إلا مدى ضآلة العالم. مَن كان يتخيَّل أنه في هذه المنطقة التي تبدو بكرًا، على بُعد آلاف الأميال من ما نُسميه بالحضارة، يتمُّ الاستحواذ على الأرض كلها، تمامًا كما لو كانت قطعة أرض مخططة حديثًا بالقرب من نيويورك أو لندن، سيتم استغلالها في بناء فيلات رديئة الجودة. حسنًا، حسنًا، نحن نعيش ونتعلم. إنه أمرٌ محبط إلى حدٍّ ما، لكن ما بيدي حيلة. آمُل ألا ترسل فاتورة باهظة للأشجار التي قطعتها بشكل غير قانوني، خاصة عندما تتذكَّر أنني فقدت معظم الأخشاب.»
قال فراونينجشيلد ضاحكًا: «أوه، لا. لا تقلق.»
«يبدو من الغريب جدًّا أنني، من بين جميع الناس، أصبحت مُتعديًا وصائدًا غير قانوني؛ لأنني عندما أكون في بلدي الأم أكون من أشد المؤيدين لحقوق الملكية. فأنا أملك العديد من الممتلكات في إنجلترا، وأنا من المحافظين المتعنِّتين جدًّا عندما يتعرَّض أيٌّ من امتيازاتي للتهديد؛ لذلك يجب أن أكون آخرَ رجلٍ يتعدَّى على حقوق الآخرين، وآمل، سيد فراونينجشيلد، عندما تتواصل مع المالكين، أن تنقل إليهم اعتذاري المتواضِع، مع التأكيد على أنني إذا أسقطت مرة أخرى شجرة، فسأبذل ما في وسعي لأعرف أنها نمَت على أرضي.»
كرَّر فراونينجشيلد على نحو مطمئن: «أوه، لا تقلق.»
صاح سترانلي، وهم يقتربون من التدفُّق المائي الثلاثي، ملوِّحًا بيده إلى اليمين: «هناك! هل ترى الجرح العميق الذي أحدثته في غابتك؟ ذاك هو المكان الذي اخترته ليكون نواةً لمستوطنتي. وهناك ما تبقَّى من جذوع الأشجار، وأنا أُقدِّمها لك مجانًا دون مقابل لقطعها.»
علَّق فراونينجشيلد: «إنها مكدَّسة بالقرب من الحافة إلى حدٍّ ما.»
«نعم، كلنا ندرك ذلك الآن، بعد فوات الأوان. إنه مثل غلق الباب بعد سرقة الحصان. يجب أن أستفسر عن كيفية حدوث ذلك. لم أرَ رجالي منذ أن سمعت بالكارثة. أظن أنهم سيُقدِّمون الكثير من الأعذار المعقولة، وسيَربطون خطأ الحادثة بأيِّ شيء سوى غبائهم. حسنًا، أيها القبطان، ما رأيك في اليخت الخاص بي؟»
أجاب القبطان: «حواف دقيقة جدًّا يا سيدي»، بينما كان هو والضابط يُحدِّقان في الباخرة البيضاء الواقعة على الضفة الأخرى من المجرى الرئيسي.
قال سترانلي: «إذا سمحت لي، سوف أسبقك على متن الباخرة، لإبلاغ الطاهي والمضيِّف أنه سيتمُّ تقديم ثلاثة أطباق إضافية.»
صعد هو والطبيب الدَّرج؛ واستقرَّ القارب ذو المحرك خلف السفينة، ثم جاء الزورق البخاري عند الجزء السفلي من دَرج السفينة. رحَّب سترانلي بضيفَيه على رأس الدَّرج، وأرشد القبطان والمدير إلى المقاعد المريحة في مؤخِّرة السفينة، وأمر مُضيِّفَ سطح السفينة بإحضار النبيذ والخمر. ودوَّن ملاحظةً ذهنية عن حقيقة أن الضابط بقي في الزورق، وظن من هذا الأمر أنه لم ينجح في تهدئة شكوك القبطان والمدير. وعقد العزم على منحهما فرصةً للتشاوُر على انفراد معًا، متسائلًا عما سيفعلانه عندما يتوصَّلان إلى قرارٍ بشأن الأحداث الأخيرة.
«يجب أن أذهب للأسفل لتحضير النبيذ. فأنا أحمل مفاتيحَ صندوق النبيذ بنفسي كأي مالك حكيم. مع طاقم مختلط أنت تعرف الحكمة وراء فعل هذا الأمر، أيها القبطان.»
«نعم سيدي، أنا أعرف»، وبهذا ذهب المضيِّف اللطيف إلى الدَّرج المتَّجه لأسفل مع الطبيب.
«ما رأيك فيه؟» تمتم القبطان، عندما أصبح وحده مع المدير في القسم الخلفي من ظهر السفينة.
قال فراونينجشيلد بثقة: «أوه، إنه جيد. لقد قابلتُ الكثير من هذا النوع من قبلُ. أحمق ثري، حسن الأخلاق، لا يتمتَّع بذكاء شديد، ينفق المال الذي ورثه.»
أجاب القبطان: «لست متأكدًا من ذلك.»
«أوه، أنت تشكُّ في الجميع. لقد ارتكب خطأ هنا، وأجرؤ على القول إنه قد استمتع كما قال، بإطلاق النار وتقطيع الأشجار، وما إلى ذلك.»
غمغم القبطان: «أرأيت أن هذا القارب مُجهَّزٌ لإرسال برقيات لا سلكيًّا؟ هذا هو الغرض من السلك الواصل بين الصاريتَين.»
نظر فراونينجشيلد عاليًا.
«أوه، هذا هو، أليس كذلك؟ حسنًا، لا أرى أي شيء يدعو إلى القلق، حتى لو كان الأمر كذلك. أظن أن الكثير من اليخوت مزوَّدة بجهاز ماركوني في الوقت الحاضر. بالتأكيد لا يمكن أن يفيده كثيرًا هنا في غرب أفريقيا.»
«قد يكون على اتصال مع شخصٍ ما في الخارج.»
«في المحيط، تقصد؟ ما فائدة ذلك؟»
أجاب القبطان: «لا أعرف.» وتابع: «هذا الرجل معسول اللسان جدًّا بدرجةٍ غير ملائمة لي.»
«ماذا تقترح أن تفعل؟ هل تريد إغراق قاربه وإغراقهم جميعًا؟»
«لا.»
«ماذا إذن؟»
«راقِبه ولا تَشرب الكثير من نبيذه.»
«لستَ بحاجةٍ إلى تحذيري بهذا الشأن، أيها القبطان. سيكون من المناسب أكثرَ تحذيري عندما نَقترب من الوطن.»
اعترف القبطان: «أنت على حق. إذا لاحظت أنني أصبحت ثَرثارًا، فقط أعطِني وكزة، حسنًا؟ يجب أن يجلس كلٌّ منا بجانب الآخر على الطاولة.»
«أعتقد أنك مُرتاب دون داعٍ أيها القبطان. لا بد أن هذا القارب قد غادر إنجلترا قبل أن نرحل.»
«لستُ متأكدًا من ذلك. بعض هذه اليخوت العابرة للمُحيطات سريعة جدًّا. ربما يعمل بمحرك توربيني.»
«ألا يُمكن لرجلٍ حكيم مثلك بالأمور البحرية أن يُخبرنا بما إذا كان مزوَّدًا بمحرك أم لا بالنظر إليه؟»
«لا، ليس من الخارج. سؤال لأحد الرجال سيحسم الأمر.»
«آه، ها هو ذا النادل يأتي بالمشروبات. حسنًا، يا رجل، لديك يختٌ لطيف جدًّا هنا.»
«نعم يا سيدي.»
«محرِّكات توربينية، على ما أعتقد؟»
«لا أعرف يا سيدي. سيكون المهندس قادرًا على إخبارك.»
«أجل، أعتقد أنه سيفعل. منذ متى غادرت إنجلترا؟»
«آسف جدًّا يا سيدي، لكني لا أتذكَّر التاريخ. سيعرف القبطان أو المالك.»
«أوه، بالطبع. هل توقَّفت في العديد من الأماكن منذ أن تركت الوطن؟»
«نتنقل هنا وهناك يا سيدي.»
«لشبونة، أو تينيريفي، ربما؟»
«حسنًا يا سيدي، لست خبيرًا بالأماكن الأجنبية. فجميعها متشابهة بالنسبة إليَّ يا سيدي. بليموث، أو ساوثهامبتون، أو ليفربول، سيدي، هناك بعض الاختلاف بينها.»
غمغم فراونينجشيلد بينما انسحب الرجل باحترام: «حسنًا، حسنًا.»
قال القبطان: «انظر، حتى الخدم حذرون.»
«أوه، هذه هي الطبيعة المُبهَمة للخادم الإنجليزي. أعتقد أن سترانلي يتفاخر بطريقةٍ ما. هناك شيء في ذلك الانطباع اللعين الذي يُعطيه، على الرغم من لطفِه، وخدم هؤلاء الناس يعرفون متى يكون التوقيت مناسبًا، ويبقون أفواههم مغلقة. ومع ذلك، لا أستطيع تخيُّل أنه تم إرسال مثل هذا الرجل المدعي، مع يخت عصري، وعصابة من حراس الطرائد للتدخل معنا. ماذا يمكن أن يفعل؟»
صاح القبطان قائلًا: «المقدمة الفولاذية لذلك القاربِ ذي المحرك لم تبدُ عصرية. بإمكانه إغراق الباخرة «راجا»، محملة كما هي، في حوالي ١٠ ثوانٍ، على الرغم من أنه سيَنهار إذا حاول ذلك، وفيما يتعلَّق بما يُمكنه فعْله، انظر إلى ما فعله بالفعل. قد يكون سقوط كل تلك الأخشاب في النهر من قبيل الصدفة، كما يقول، لكنَّني لا أُصدِّق ذلك. فقد تناسب الحدث مع مسألة الألغام على نحوٍ يجعلني أرتاب في الأمر بشدة. لم يكن بإمكانه أن يرتطم بها بشكل أفضل، وبتكلفة أقل، لو كان قد درس الأمر لمدة عام.»
«نعم، يتطلَّب الأمر بعض الشرح، أليس كذلك؟ ومع ذلك، لا يوجد شيء يُمكن فعله مع طاقمه من البحَّارة القليلي الخبرة. وهو لا يجرؤ على مهاجمتنا؛ فهناك الكثير منا.»
«أعتقد أنك ستُغيِّر رأيك قبل نهاية الأسبوع، سيد فراونينجشيلد. شاهد ما فعله بالفعل. لقد أخلى النهر، والممر المائي من المحيط إلى المنجم مفتوح. سأقول لك ما الأمر، سيد فراونينجشيلد؛ كان هناك سوء تقدير، وهذا الرجل شوارتزبرود ليس ذكيًّا كما كنت تعتقد.»
«لماذا تقول هذا؟»
«لأنه وفقًا لقصتك، كان من المفترض أن يستغرق الأمر أسبوعًا أو أسبوعين لتجهيز سفينة بخارية أخرى، وبحلول ذلك الوقت كنت تتوقَّع حماية النهر وإقامة بضعة حصون. الآن ماذا حدث؟ بدلًا من ذلك، قاموا باستئجار أسرع يخت يُمكنهم العثور عليه في إنجلترا، وقطعوا الطريق أمامنا. إن كلام هذا الرجل المعسول عن تأسيسِ مستعمرةٍ كلُّه هراء. لقد كانوا يتجسَّسون علينا منذ أن جئنا إلى هنا. وأخذ الرجال الآخرون في إنجلترا وقتهم في تجهيز باخرة، أو ربما اثنتين، أو ربما ثلاثة. وقام هذا الرجل بإخلاء القناة لهم، وفي أي صباح جميل قد ترى ثلاث أو أربع سفن في عُرض البحر، تَحمِل ربما ٣٠٠ أو ٤٠٠ رجل. حينها ماذا ستفعل؟»
«لن يكون هناك أي شيء نفعله، بالطبع، إذا حدث كل هذا. ومع ذلك، كلُّ ما تقوله هو مجرد تخمين، ولكن إذا تطوَّر الموقف فلن يتمكنوا من المساس بنا. نحن لا نفعل شيئًا غير قانوني. أقول لك إن شوارتزبرود العجوز أكَّد لي أنه سيَحصُل من المالكين الجدد على وثيقة قانونية تُغطي كلَّ ما أمر بفعله.»
«لكن افترض أنه لم يحصل على تلك الوثيقة؟»
«كلانا سجينان ملعونان، هذا ما نحن عليه!»
«أوه، ثِق به! بالطبع حصل عليها، ولكن حتى لو لم يفعل ذلك، فنحن لا نفعل شيئًا غير قانوني. ها أنت ذا يُمكنك تجميع ثروتك إذا قمت بثلاث رحلات إلى لشبونة ومنها. أنت آمن تمامًا، مهما حدث؛ لأنك مُلزَم بإطاعة أوامر أولئك الذين استأجروا السفينة. لكن بصرف النظر عن كل ذلك، نحن خارج الولاية القضائية البريطانية هنا، وستكون خارج الولاية القضائية البريطانية في لشبونة. لم تفعل شيئًا، ولا يمكنك فعلُ أيِّ شيء، ما دمت تطيع الأوامر؛ فهذا سيجعلك خاضعًا للقانون البريطاني.»
«أنا لا أحب المهمة نوعًا ما، سيد فراونينجشيلد؛ أقول لك ذلك بصراحة.»
«هراء يا رجل. إذا كان هناك أي شخص في خطر، فهو أنا، وأنا لستُ خائفًا. أنت محمي بأوراق سفينتك. أنت مُلزَم بالأوامر، ويجب أن تطيعها. إذا كان هناك أي خطأ، فإن الأشخاص الآخرين هم الذين يجب أن يتحملوا العبء الأكبر. ليس من الإجرامِ الإبحارُ بسفينة من ساوثهامبتون إلى ساحل غرب أفريقيا، وليس من الإجرامِ القيامُ برحلات بحرية إلى لشبونة ومنها. أنت بخير، أيًّا كان من تأذَّى؛ لذلك لا تهلع، أيها القبطان، لمجرد أن أحمقَ غنيًّا لديه يخت اكتشف نهر باراماكابو.»
القبطان، الذي كان مُضطربًا للغاية، ولكنه اطمأنَّ إلى حدٍّ ما من نبرة الصوت الواثقة لرفيقه، كان يقلِّب بذهن شارد الصفحات المصوَّرة في صحيفة «سِفير»، التي أخذها من على الطاولة المصنوعة من الخوص بجواره. فجأة لفَتَ انتباهه شيء.
«يا إلهي، فراونينجشيلد، انظر إلى تاريخ صحيفة «سِفير»! مكتوب ۲٤ من مايو، ونحن أبحرنا في اليوم ۱۳ — وهو يوم مشئوم جدًّا كما أصفه دائمًا. لقد اشترى هذه الصحيفة بعد أكثر من أسبوع من مُغادرتنا! أقول لك يا فراونينجشيلد، لقد انتهَينا. نحن سجينان ملعونان، هذا ما نحن عليه!»