الفصل الأول

ما الجيوسياسية؟

حادثة مروعة

دعوني أبدأ بالحديث عن حادثةٍ مروعة. في مارس ٢٠١٨، في مدينة سلوزبيري الإنجليزية المشهورة بكاتدرائيتها العريقة، اكتُشف شخصان فاقدان للوعي وغير مستجيبَين للمثيرات الخارجية على مقعد حديقة عامة. لم يتبين على الفور السبب المحتمل لدخولهما في هذه الحالة. وفي غضون الساعات التالية، ازداد الموقف تعقيدًا، ذلك حين جرى تحديد هوية الشخصين واتضح أنهما سيرجي سكريبال وابنته يوليا. كان سيرجي سكريبال ضابطًا بوكالة الاستخبارات الروسية، وكان قد مُنِح تصريح إقامة في إنجلترا إلى أجلٍ غير محدد إثر تعاونه مع وكالات الاستخبارات البريطانية. نُقل الاثنان إلى المستشفى في حالةٍ حرجة، وكشفت تحقيقات لاحقة أنهما كانا قد سُمِّما باستخدام غاز أعصاب يُعرَف باسم نوفيتشوك. وعلى الفور اتجهت أصابع الاتهام إلى روسيا ودارت حولها الشكوك في كونها الجاني. وبما أنها إحدى الدول الشهيرة بتصنيع غاز الأعصاب هذا، اتضح أن الجاسوس المذكور وابنته كانا مستهدَفَين للاغتيال. ومن المثير للدهشة أن الاثنين نجوَا من موت محقق بعدما تلقَّيا علاجًا متخصصًا لمدة شهر. لم تقع جريمة قتل بالقرب من الكاتدرائية، لكن في مكان آخر لقيَت ضحيةٌ أخرى (ألا وهي دون ستورجس) مصرعها عرَضًا بالتسمم في وقتٍ لاحق إثر استنشاق هذا الغاز أيضًا.

تُنبئنا حادثة التسمم بالغاز التي وقعت في عام ٢٠١٨ بشيء مثير للاهتمام حول موضوع هذا الكتاب؛ ألا وهو الجيوسياسية. وقعت الحادثة على أرض مدينةٍ بريطانية. فلو وقع الاعتداء بمباركة الكرملين الروسي، لكان هذا انتهاكًا صريحًا للسيادة الإقليمية للمملكة المتحدة. وجاء ذلك في أعقاب عملية الاغتيال السافرة في عام ٢٠٠٦ بلندن لألكسندر ليتفينينكو، الجاسوس الروسي السابق المُجند لدى الاستخبارات السوفييتية وجهاز الأمن الفيدرالي لروسيا الاتحادية. تأثرت العلاقات البريطانية الروسية تأثرًا بالغًا في أعقاب ذلك، ولم تُسفر محاولة اغتيال سكريبال عن شيء سوى زيادة هذا التدهور في العلاقات بين البلدين. وبعيدًا عن سلوزبيري، تُعَد لندن موطنًا لمجتمع المهاجرين الروس الفاحشي الثراء ومَحافظ استثماراته المتعددة، والتي تَعتبر روسيا بعضها «أموالًا مسروقة». ثَمة جدل قائم بين روسيا والمملكة المتحدة حول ما يُعَد حقيقةً وما يُعَد افتراءً. وتبادلا الاتهامات فيما بينهما. فكلٌّ منهما تتهم الأخرى بالتدخل في شئونها الداخلية.

هذه بمثابة تذكِرة جلية لنا بأن حياة البشر، والأماكن، والأغراض مثل السموم والأموال، تُعَد جزءًا لا يتجزأ من الكيفية التي يمكن أن تعمل بها الجيوسياسية. ولعل القراء الأكبر سنًّا يتذكرون مقتل المنشق البلغاري جورجي ماركوف بالسُّم في لندن على يد وكالة الاستخبارات البلغارية في عام ١٩٧٨. قُتل ماركوف بسُمٍّ حُقن به من خلال مظلة أُعدت خصوصًا لهذا الغرض. جاء مقتل ماركوف في وسط مدينة لندن أثناء الحرب الباردة. وفيما يتصل بمحاولة اغتيال سكريبال بالسم أيضًا في عام ٢٠١٨ لا يزال الغموض يكتنف بعض المسائل الجغرافية، مثل: كيف نُقل السُّم إلى المدينة، ومن الذي أمَر به، وأين، وكيف دخل مُنفِّذو العملية إلى مسرح الجريمة وكيف خرجوا منه؟ أُجيب عن بعض تلك الأسئلة في الأسابيع والشهور التالية؛ إذ ثبت مسئولية اثنين من ضباط الاستخبارات العسكرية الروسية عن الحادثة.

إذن، دعونا نطرح السؤال الآتي: لماذا تظهر الجيوسياسية على الساحة في الوقت الراهن؟ نحن هنا نلفت الانتباه إلى عالم يبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه في تسعينيات القرن العشرين، حين توقَّع البعض نهاية الجيوسياسية التنافسية/القائمة على المواجهات. كنَّا قد وصلنا إلى نقطة جيدة غير مسبوقة على الإطلاق. وكان من شأن الانتشار العالمي للديمقراطية وانتصار رأسمالية السوق والعولمة الثقافية أن تجعل الأمر يبدو عتيقًا. كان من المقرر أن يخضع الاتحاد السوفييتي والصين، باعتبارهما آخر معاقل الشيوعية، لعملية تحول؛ ومن ثَم يكتسبان هويتهما الرأسمالية والديمقراطية. كنَّا بصدد مواجهة «نهاية التاريخ». هكذا قيل لنا: مرحبًا بكم في عالم جديد رائع من «الجيواقتصادية» وفرص خلق الثروة في ظل الرأسمالية العالمية الليبرالية الجديدة. لم يكن التحول كاملًا تمامًا كما كنَّا نأمل، حتى إن شهدت الصين ودول أخرى تحسينات ملموسة من ناحية توليد الثروات وتوزيعها. وفي حالة روسيا، أدت صدمة الليبرالية الجديدة إلى تغيير سريع بالإضافة إلى مكاسب هائلة في الثروات لصالح بعض رجالات الصناعة والمسئولين ذوي الصلة بأصحاب النفوذ. أما المواطنون العاديون فقد تفاوتت أحوالهم.

وفي وقت لاحق، هز الهجومُ على مركز التجارة العالمي في عام ٢٠٠١ (هجمات الحادي عشر من سبتمبر) والحرب على الإرهاب ثقةَ الغرب السائدة في «نهاية التاريخ» و«نهاية الجغرافيا». وتورطت الدول الغربية في حروبها الخاصة، وبرامج المراقبة الجماعية، وعمليات مكافحة الإرهاب. وزادت الأزمة الاقتصادية، بدايةً من عامَي ٢٠٠٧ / ٢٠٠٨ وما بعدهما، الشعورَ بالارتباك أكثر فأكثر. وفي عام ٢٠١٤، في مجلة «فورين أفيرز»، أعلن الكاتب الأمريكي والتر ميد لقرائه بأن «الجيوسياسية عادت من جديد». كانت كلٌّ من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية تتحدى النظام الدولي بقيادة الغرب. ولكن أظن أن ما جعل هذه «العودة» تبدو أكثر تأثيرًا هو شيء سبقَ أن حذَّر منه الرئيس جيمي كارتر في يوليو ١٩٧٩. تحدَّث كارتر عن فقدان الثقة في السمات المُسلَّم بها للدولة الديمقراطية الليبرالية. لم يكن الناخبون الأمريكيون راغبين في سماع رسالته، لكن بعد مرور عدة عقود بدا أنها تعبر عما جرى من فقدان للثقة بعد انتهاء الحرب الباردة. وصارت نبرة الجيوسياسية الغربية الآن أكثر تشاؤمًا على نحوٍ ملحوظ؛ فالحواجز والأسوار والجدران تنتشر في شتى أنحاء العالم (انظر شكل رقم ١-١).
fig1
شكل ١-١: الجدار العازل بالضفة الغربية.

ما الجيوسياسية؟

تنطوي الجيوسياسية (وأحيانًا يُطلق عليها الجيوبوليتيكا) على ثلاث سمات. أولًا: تهتم الجيوسياسية بمسائل متعلقة بفرض النفوذ والسلطة على حيز جغرافي وأرض إقليمية. ثانيًا: تستعين بأُطر جغرافية لفهم الشئون العالمية. وتشمل القوالب الجغرافية الشائعة مصطلحات مثل: «مجال النفوذ»، و«التكتلات»، و«الفناء الخلفي»، و«المنطقة المجاورة/الجوار»، و«الخارج القريب». ثالثًا: تتسم الجيوسياسية بأنها ذات وجهة مستقبلية. فهي تُقدم رؤًى متعمقة حول السلوك المحتمل للدول لأن مصالحها لا تشهد أي تغيير جوهري. تحتاج الدول إلى تأمين الموارد، وحماية أراضيها الإقليمية، بما في ذلك المناطق الحدودية، وإدارة شئون سكانها. ومن شأن الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأمريكي ترامب أن يجدا الجيوسياسية قضيةً مثيرة للاهتمام. ولكنهما ليسا الوحيدَين في هذا الصدد. فقد اجتذبت سمة الوضوح التي تتصف بها الجيوسياسية كلًّا من الشعبويين والأيديولوجيين والثوريين والمفكرين المناهضين للديمقراطية.

وهذه السمات الثلاث قابلة للنقاش والجدال. فربما يكون لدينا أفكار متضاربة حول ماهية المصالح الاستراتيجية للدول، وقد نختلف على الأطر الجغرافية، وقد نتجادل بشأن المستقبل الجيوسياسي، بل إننا نفعل ذلك بالفعل. وربما يتطلع من يجادلون بشأن المستقبل السياسي إلى الماضي ويتوقون إليه بشدة؛ متلهفين إلى أمجاد الماضي وانتصاراته.

سأعرض هنا مسارَين أساسيَّين لفهم مصطلح الجيوسياسية بغرض مساعدتنا في الاسترشاد عبر المتاهة الجيوسياسية.

أولًا: هناك الجيوسياسية الكلاسيكية. وتركز على العلاقات المتبادلة بين المصالح الإقليمية وسلطة الدولة والبيئات الجغرافية. ومن الشائع أن يرى الكُتاب ورجال الدولة الجغرافيا عنصرًا ثابتًا وحتميًّا، يُشكل بقوةٍ الخيارات السياسية للزعماء. وقد تحدَّث الرئيس الفرنسي، شارل ديجول، نفسه عن «القوة الحاكمة للجغرافيا».

المسار الثاني هو الجيوسياسية النقدية، التي تميل إلى التركيز أكثر على دور الخطاب والأيديولوجية. ومن ثَم، بدلًا من تصور الجغرافيا على أنها حتمية، يُنظر إلى الجغرافيا على أنها أكثر مرونة وعُرضة للتأويل والتفسير. فإذا كانت الجيوسياسية الكلاسيكية تركز على الأراضي الإقليمية والموارد والموقع، فالمناهج النقدية تركز على كيفية التفاعلات بين البشر والنواتج المادية ﻟ «الجيوسياسية».

أكدت الأعمال الأخيرة في المسلك النقدي على أكثر السمات حميمية للجيوسياسية، وأوضحت أن الجيوسياسية ليست حكرًا على الدول والحكومات. ونقطة الالتقاء بين المسارين النقدي والكلاسيكي هي أن كلًّا منهما يتفق على أن للجغرافيا دورًا مهمًّا؛ أما ما يختلفان عليه فهو مدى أهمية هذا الدور ومكانه وسبب أهميته.

إذا كانت الجيوسياسية تُقدم بالفعل طريقةً مغريةً لرؤية العالم، فهذا غالبًا لأنها تعتمد على التبسيط والترميز المادي. وتلعب الخرائط دورها في ذلك. وتلعب المفاهيم التأطيرية الرائجة، مثل «نظرية قلب العالم» و«المحور»، و«القوس الجيوسياسي»، و«المناطق الحدودية»، دورها أيضًا. وسرعان ما يُقال لنا إننا لسنا بحاجة إلا إلى عدد قليل من الخرائط أو الأطر المفاهيمية لفهم العالم من حولنا. ويُروَّج للجيوسياسية باعتبارها دليلًا موثوقًا به للمشهد العالمي، ومع ذلك تستعين بأوصاف واستعارات ونماذج جغرافية معبرة، كتلك المذكورة آنفًا، والكثير غيرها من المصطلحات المستخدمة على مدى عقود مثل «الستار الحديدي»، و«العالم الثالث»، و«الدولة المارقة» أو أيٍّ منها.

ويتسم كل مصطلح من هذه المصطلحات بكونه جغرافيًّا بطبيعته بمعنى أن الأماكن (وليس الحيز الجغرافي/المجال الجغرافي) محددة ومُصنفة على هذا النحو. ومن ثَم، يساعد ذلك في إنشاء نموذج بسيط للعالم، يمكن استخدامه لتقديم النصح والمشورة عند وضع السياسات الخارجية والأمنية، وللإسهام في المناقشات العامة حول المسائل الجيوسياسية. من المُتصوَّر أن الجغرافيا سلسلة من المواقع التي تتكشف فيها الأحداث البشرية ببساطة. ويصير هذا الأمر ملحوظًا أكثر في لحظات تكون فيها وتيرة التغيير سريعة ومكثفة. غير أن الجغرافيا ليست ثلاثية الأبعاد فحسب، بحيث تكون الأهمية للعمق والارتفاع بقدر ما تكون للسعة أيضًا، وإنما تشتمل أيضًا على العلاقات والنطاقات. فالمناطق الجغرافية لا توجد في عزلة تامة.

الجغرافيا: أكثر من مجرد «تخطيط للأرض»

ثَمة مصطلح آخر يصعب فهمه بعض الشيء، وهو «الجغرافيا». في الكتاب الأكثر مبيعًا «أسلحة وجراثيم وفولاذ» (١٩٩٧)، يذكر جاريد دايموند أن التفوق الاستعماري الأوروبي، بدايةً من القرن الخامس عشر فصاعدًا، كان قائمًا على الأسلحة ونقل الأمراض إلى مجتمعات محلية لم تكن تتمتع بأي شكل من أشكال المناعة، وإحلال السفن الحربية المدرعة والطائرات والسيارات والقطارات محل السفن الخشبية. كذلك ترسخت الهيمنة الاستعمارية من خلال التقدم المُحرز على صعيد طب المناطق الحارَّة، والبنية التحتية، والشبكات التجارية التي تتيح الاستعمار الطويل الأمد. ولاقى الكتاب استحسانًا كبيرًا إلا أنه أيضًا تعرَّض للنقد بسبب تعميماته الكاسحة ولتهميشه لدور الشعوب، التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار، في تشكيل تاريخها. ومع ذلك، كان للاستعمار الأوروبي تأثير حاسم في إحداث تغيير إيكولوجي واقتصادي-سياسي عالمي. ويعزو سايمون لويس ومارك ماسلين إلى هذا الاحتكاك الاستعماري المساعدة في الإيذان ﺑ «كوكب إنساني» مميز، وربما بدء حقبة الأنثروبوسين (أو حقبة التأثير البشري) في حد ذاتها؛ أي اللحظة التي بدأ فيها التأثير الجمعي للنشاط الإنساني في تغيير مناخ كوكب الأرض.

ما يؤكد عليه الجغرافيون هو العلاقة الديناميكية بين الإنسان والبيئة؛ بحيث لا يُختزَل دور الجغرافيا في الطقس والبيئة فحسْب (مثل الرياح الاستوائية والرياح التجارية) اللذين استغلهما الأوروبيون/الأمريكيون كجزء من مغامراتهم الاستعمارية. وكذلك لا يُعَد دور الجغرافيا أمرًا مُسلَّمًا به كأنه مشهد خلفية ثابت على مسرح الأنشطة البشرية. لقد ظل مناخ الأرض مستقرًّا للغاية خلال العشرة آلاف سنة الماضية، وإن لم يكن على وتيرةٍ واحدة. ومن ثَم، يتمثل جزء من التحدي الماثل أمامنا، عندما نفكر في الجانب الجغرافي من مصطلح الجيوسياسية، في التفكير في الطرق المتنوعة التي تتدخل بها الجغرافيا في شئون البشر، دون أن يُستنتَج ببساطة أن الأحداث لا بد أن تقع دومًا في مكان ما.

تعني كلمة جغرافيا بالإنجليزية geography، من منظور اشتقاقي، «تخطيط الأرض». وهو نشاط يُبرِز قدرة الكيانات الفاعلة والمنظمات على وصف الحيز الجغرافي، وشغله، وتنظيمه، وإنشاء أماكن تعج برؤًى ومشروعات معينة. كانت الجغرافيا ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من بناء الأمم وإنشاء الدول الإقليمية الحديثة. إلا أن المعالم الجغرافية للأرض، حتى في العصر الحديث، لم تكن على الإطلاق مستقرةً وثابتةً تمامًا. فقد شهدنا، على أي حال، «عصرًا جليديًّا صغيرًا» بين عامَي ١٥٠٠ و١٨٥٠.

الجغرافيا قادرة على التغير، وذلك مع التغيرات الطارئة على العلاقات بين الإنسان والبيئة. ويُعَد استثمار الصين في الجزر الصناعية ببحر الصين الجنوبي مثالًا جيدًا على كيف تُتخذ عمليات التجريف البحرية واستصلاح الأراضي من أجل تحقيق الهدف المُعلن المتمثل في الاحتلال وتوطيد الوجود الوطني دون وضع الآخرين في الاعتبار. فجغرافيا المنطقة يُعاد تصميمها من جديد. وتُصر الفلبين وماليزيا وبروناي وفيتنام على أن الصين تتصرف على نحوٍ غير قانوني وليس لها الحق في أن تفعل ما تفعله. كما أعربت دول أخرى مثل الولايات المتحدة عن مخاوفها بشأن حرية الملاحة في هذه المنطقة البحرية. ولكن النتيجة النهائية هي أن الصين تعيد تشكيل الجغرافيا الطبيعية والبشرية لبحر الصين الجنوبي.

وعندما نتحدث عن العناصر الجغرافية الديناميكية، وليس الثابتة، يمكننا أن نشير أيضًا في معرض حديثنا إلى تأثير التغير المناخي، الذي يتسم بأنه مستمر. فمع استمرار ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، ستتغير أيضًا المعالم الجغرافية المادية والبشرية على حدٍّ سواء؛ نظرًا لأن تغير مستوى سطح البحر يجعل بعض المناطق من العالم غير صالحة للسُّكنى، ويفرض ارتفاع أعداد السكان المزيد من المتطلبات على موارد الأرض. وسيتمثل أحد التحديات الأساسية التي تواجهها الجيوسياسية في كيفية فهم التغيرات الطارئة على الكوكب، والمطالبات باستغلال المناطق الحدودية الجديدة والناشئة في المحيطات والمناطق القطبية، بل حتى على المريخ والقمر. ومن المرجح أن تتعرض الموارد الغذائية والطاقة وغيرها من الموارد مثل المياه إلى ضغوط أكبر من أي وقت مضى. ستخضع قدرة الأرض على توفير مقوِّمات الحياة، ناهيك عن المزيد من التطورات المستقبلية على الصعيد الجيوسياسي، للمزيد من التدقيق. إذن، دعونا نرحب بالجيوسياسية الأنثروبوسينية (أي الجيوسياسية في حقبة التأثير البشري).

تتسم الجغرافيا أيضًا بكونها متشابكةً ومتدرجة، حيث ترتبط الجهات والأماكن والأشياء والعمليات فيما بينها عبر أبعاد محلية، ووطنية، وإقليمية، وعالمية. وتُشبِّه سوزان سميث ورايتشل باين هذا الترابط المحبوك بلولب مزدوج. وقد تكون الجغرافيا أشبه بشريط مطاطي. يمكن التأثير عليه ليتمدد وينكمش. فقد يتقارب الأشخاص والأشياء زمانيًّا ومكانيًّا بأشكال مختلفة من التقارب، وقد ينفصلون ويتباعدون أيضًا.

لقد استغل الجغرافيون، على مر السنين، التحولات التي طرأت على شبكات الاتصال والنقل لإثبات هذه النقطة الأساسية المتمثلة في أن ثَمة علاقات ديناميكية بين التدفقات والأماكن. تحدثت عالمة الجغرافيا دورين ماسي عن «هندسة القوة» لإيضاح أن الأماكن والأشخاص تُصنع ويُعاد صنعها بطرق متفاوتة ومتواصلة. وعند تطبيق ذلك على العولمة، زعمت ماسي أن الأماكن كانت تتداول التدفقات العالمية للأموال والأفراد والتكنولوجيا عبر مجموعة متنوعة من الشبكات والعلاقات الرقمية والمادية. لم تُلغَ الجغرافيا، وإنما تشكلت الأماكن من خلال العلاقات المكانية المتباعدة والمسارات المختلفة للأنشطة. وتستمر تقنيات الإنترنت في الربط بين المجالات الجغرافية والأماكن والشعوب المختلفة من خلال مجموعة من الأنشطة، بما في ذلك الحرب الإلكترونية ومجموعات العمل المدني والتجارة عبر الإنترنت.

والتغير الجيوسياسي والتكنولوجي ليس موضع ترحيب على الدوام. فقد يرغب المرء في التمسك بالأطر الجغرافية والتاريخية السابقة. وقد يلعب الروتين البيروقراطي دورًا في إعادة إنتاج الخرائط والرؤى الجيوسياسية. ففي كوريا الجنوبية، وعلى مدى السبعين سنةً الماضية، حافظت الحكومة على سلسلة من التعيينات للمسئولين الذين يشغلون منصب حكَّام خمس مقاطعات، بما في ذلك مقاطعة هامجيونج الشمالية. الغريب في أمر هذه التعيينات هو أن هذه المقاطعات في الواقع تقع في كوريا الشمالية، ولم يسبق لأيٍّ من الحكَّام أن زار تلك المناطق المعنية. ومع ذلك، فالحكَّام الخمسة كلهم جزء من لجنة المقاطعات الشمالية الخمسة. وبسبب رفضها لقبول شرعية حكومة كوريا الشمالية، فقد حافظت كوريا الجنوبية على هيكل بيروقراطي في حالة تغيير خط الهدنة الفاصل منذ عام ١٩٥٣ لصالح سول. ومن المثير للدهشة أن هناك مائة عمدة من عُمَد المدن وما يقرب من ألف موظف حكومي تابعين للجنة. وجميعهم يعملون في وظائف مدفوعة الأجر. وهذا يُكلِّف دافعي الضرائب في كوريا الجنوبية نحو ٥ ملايين جنيه إسترليني سنويًّا. وتؤدي اللجنة مهامَّ ثقافيةً وإحصائية؛ ولكن يُحظَر عليها الاتصال مباشرةً بحكومة كوريا الشمالية.

أخيرًا، تزخر الجغرافيا بعوامل بشرية وغير بشرية تلعب دورها في تشكيل التجارب الجيوسياسية. وتُعَد الموارد المتنقلة، مثل الأرصدة السمكية، تذكِرةً مفيدة للكيفية التي يُسبِّب بها مورد متنقل، لا يرتبط بأي حيز مكاني ثابت، مجموعةً من الضغوط على أولئك الساعين إلى إدارته. وفي حالة الشعوب الأصلية في القطب الشمالي، تُعَد قدرتهم على اصطياد الفقمات والدببة القطبية والحيتان وأيائل الرنة والحيتان وجمعها واستخدامها جزءًا لا يتجزأ من رفاهية المجتمع، وأي تدخُّل من قِبل الدول والشركات هو تدخُّل مُجحِف في حق المجتمع المحلي. ويُعَد الجليد البحري والتربة الصقيعية بنيةً تحتية حيوية. من الممكن أن تتدخل القرارات السياسية والاستراتيجية المجردة في حياة الأفراد اليومية بطرق غير متوقعة وشخصية للغاية عندما تتداخل مشروعات البنية التحتية للطاقة أو برامج الاستثمار العسكري مع حصاد محاصيل الكفاف التقليدية. وعندما تنخرط الدول والحكومات بالفعل في مشروعات عسكرية وأمنية، فإن أثرها يتباين ليس فقط عبر الحيز الجغرافي، بل أيضًا في طريقة تأثيرها على الأفراد. نحن لا نشعر ولا نعايش «الجيوسياسية» بطرق مشابهة؛ ومن هنا جاء مفهوم ماسي بشأن أشكال هندسة القوة الخاصة بالمكان.

وهناك أشكال لهندسة القوة خاصة بالجيوسياسية الأنثروبوسينية، تجعلها محسوسةً في الغلاف الجوي والغلاف الحيوي والغلاف الصخري للأرض والغلاف المائي. ومع استمرار ارتفاع درجة حرارة العالم وخضوعه لمزيد من التغيرات المناخية والبيئية، فمن المعقول أن نستنتج أنه سيكون هناك مزيد من الضغوط للعيش في بيئات يمكن أن تتحملها الحياة البشرية. ربما يصير الحفاظ على البرودة والجفاف حافزًا جيوسياسيًّا مهمًّا في المستقبل.

دعوة إلى جيوسياسية نقدية

هذا الكتاب هو مقدمة إلى الجيوسياسية تتبع صراحةً منهجًا نقديًّا في طابعه ونطاقه. وهو ليس متمسكًا بالحتمية الجغرافية (وأحيانًا يُطلق عليها الحتمية البيئية)؛ بمعنى أننا لسنا مسجونين داخل إطار الجغرافيا. يَعِد كتاب «سجناء الجغرافيا» من تأليف تيم مارشال بشرح «كل شيء» باستخدام عشر خرائط. وتجسد الجيوسياسية الكلاسيكية تلك الثقة في قدرتنا على تبسيط التاريخ العالمي والجغرافيا العالمية بواسطة مجموعة مختارة من الخرائط ثنائية الأبعاد.

إن التناول النقدي للجيوسياسية يعني أننا بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك. فمن المستبعد أن تكون الخرائط العشر كافيةً. فالخرائط ثنائية الأبعاد لا تحسن إدراك أننا نعيش في كوكب كروي يُحدِث فيه العمق والارتفاع والسعة فارقًا في الطريقة التي نعيش ونعمل بها نحن والآخرون. يوجد خطر يتمثل في أننا إذا تقيَّدنا بعشر خرائط فقط، فإننا نميل بذلك إلى منح امتياز للأغنياء والأقوياء وكبرى الأطراف الفاعلة في العالم.

لنأخذ مثالًا: ماذا لو تحدثنا عن «جيوسياسية السكان الأصليين» بدلًا من التركيز على جيوسياسية القوى العظمى. يشير مصطلح جيوسياسية السكان الأصليين إلى الأسلوب الذي تتبعه الجماعات الأصلية لتصور العالم الأوسع نطاقًا والتحرك والتفاعل معه. تعترف الأمم المتحدة بحقوق الشعوب الأصلية (مثلًا «إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية»)، وقد دخلت دول الاستعمار الاستيطاني مثل أستراليا وكندا في اتفاقيات خاصة بالمطالبة بالأراضي وتسويات سياسية مصمَّمة للاعتراف بالظلم الذي وقع في الماضي وحقوق الاستفادة بالموارد المستقبلية والاستقلالية الثقافية. ورغم أن الأمر ليس بهذه البساطة، فإن المجتمعات المحلية الأصلية في بعض الحالات تكون صاحبة الأرض الأساسية والمستفيدة من الموارد، التي تعمل على تطوير استراتيجياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، بما في ذلك التعاون مع المؤسسات الدولية.

فالأطراف الفاعلة للشعوب الأصلية ليست الأطراف الوحيدة الممثلة للجيوسياسية. فالجيوسياسية موجودة ضمن إطار سياقات الحياة اليومية. فنحن جميعًا منتجون ومستهلكون للجيوسياسية. فالجيوسياسية مندمجة بعمق في نسيج الحياة اليومية، وتؤثر بالتجارب الإنسانية الفردية والجماعية وتتأثر بها؛ أحيانًا يكون تأثيرها هائلًا، وفي أحيان أخرى يكون طفيفًا. إنها مجال تمنحنا فيه رموز مادية (مثل الأعلام الوطنية) وأطراف فاعلة وقوًى غير بشرية (على سبيل المثال، الطقس المتطرف مثل عاصفة «الوحش القادم من الشرق») دلائلَ على طريقة فهمنا لعالمنا الطبيعي والبشري. ففي بريطانيا، يأتي الطقس المتطرف من الشرق، ويأتي الطقس المعتدل من الغرب. ووفقًا لمعجمي، أُفضِّل الحديث عن التصورات، والمواقع، والحيز الجغرافي بدلًا من الحديث عن «الحقائق الجغرافية». وأود أن أدعو إلى نهج لا يركز على دول محددة إقليميًّا، أو قوًى كبرى، أو مؤثِّرين معينين مثل الرؤساء ورؤساء الوزراء.

إذا فعلنا ذلك، فإننا نخاطر بإغفال قدر كبير. نحن نُهمل دور عوامل مؤثرة بشرية مختلفة وعوامل مؤثرة غير بشرية تشمل الحيوانات، والنباتات، والطقس، والأنظمة البيئية. ومن المحتمل جدًّا أن نقلل من أهمية تنوع المواقع الجيوسياسية المتاح لنا التحقق منها، بما في ذلك المجتمعات المحلية والحياة اليومية. أخيرًا، نحن بحاجة للتأكد من أن الجيوسياسية النقدية، في ضوء ما سبق، لا تخدم فحسب مصالح الأقوياء أينما كانوا. نحن بحاجة إلى أكثر من مجرد عشر خرائط، بل نحن بحاجة إلى أنواع مختلفة من الخرائط.

الربط بين الجيوسياسية والثقافة الشعبية

الجيوسياسية متعددة الجوانب، ومتعددة النطاقات، ومتعددة الوسائط. وتتجلى الجيوسياسية في البرامج التلفزيونية الحوارية، والمقالات الافتتاحية في الصحف، والمناقشات التي تُجرى على وسائل التواصل الاجتماعي، والبرامج الإذاعية التي تتضمن مداخلات هاتفية. علاوةً على ذلك، فهي رائجة بمعنى أننا نصادفها ونعايشها في حياتنا اليومية. على سبيل المثال، لماذا أصبح المسلسل المأخوذ عن رواية أدب الديستوبيا «حكاية الجارية» من تأليف مارجريت أتوود رائجًا جدًّا بين جمهور الشاشة الصغيرة؟ قد نَخلُص إلى أن هناك مجموعةً من المصادر والأساليب التي تُحدِّثنا عن الجيوسياسية. وأنا أذكر هنا أتوود لأن المصادر الجيوسياسية المفضلة لديَّ هي الأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، والروايات.

وثَمة نوع آخر من الجيوسياسية الجماهيرية أو الشعبية ربما يكون متواريًا، ولا يكون محلًّا للتعليق عليه إلا عندما تلعب الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام دورها في إخضاعه لمزيد من الفحص العام. ففي حين أن فيلم «عدو الدولة» (إينمي أوف ذا ستيت) (١٩٩٨) تصوَّر هذا الأمر قبل سنوات مضت، كشف الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية، إدوارد سنودن، النقاب عن اكتشاف مهول، وهو أن بعض الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتجسس، بمساعدة مقدمي خدمات الإنترنت وشركات الاتصالات وبمشاركتهم، على مواطنيها وعلى أشخاص آخرين من مختلف أنحاء العالم. تصدَّر خبر مغادرة سنودن لهاواي، عبر هونج كونج، وأخيرًا وصوله إلى موسكو، عناوين الأخبار في عام ٢٠١٣، ولفت الانتباه إلى عالم تتشكل فيه الجيوسياسية والأمن من خلال التحليل السري لمصادر البيانات الضخمة. وبفضل الفضائح الصحفية، اكتشف المواطنون وجود شرائح عرض باوربوينت، وهو برنامج من إنتاج شركة مايكروسوفت، توضح حجم ومدى برنامج مراقبة يُدعى «بريزم» (PRISM). وبرنامج «بريزم» (الذي ابتُكر في عام ٢٠٠٧) هو عبارة عن برنامج ضخم للتنقيب في البيانات يتم تشغيله بواسطة وكالة الأمن القومي الأمريكية، ومقرها مجمع فورت ميد في ولاية ميريلاند الأمريكية. وادعى سنودن أن هذا النشاط كان أكثر انتشارًا مما قد يتصور الجمهور الأمريكي، وأن شركات الاتصالات كانت تتلقى أوامر بتسليم تفاصيل خاصة بمكالمات العملاء الهاتفية واتصالاتهم عبر الإنترنت وسجلات البحث الخاصة بهم على الترتيب.

في عام ٢٠١٦ عُرِض فيلم «سنودن» من إخراج أوليف ستون، وأثار الفيلم ردود فعل متباينة، إلا أنه بالفعل يتصدى لثالوث السلطة العسكرية والاستخبارات وأجهزة المراقبة، الذي تأسَّس أثناء الحرب الباردة، وتزايد نشاطه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وتشير تسريبات سنودن إلى أن الحدود التي تبدأ وتنتهي عندها تصنيفات مثل العامة والنخبة هي مسألة معقدة. وعندما خرجت قصة سنودن للعلن، أشار المحللون السياسيون إلى أفلام مثل «عدو الدولة» في محاولة منهم لأن يوضحوا للجمهور ما قد يكون على المحك فيما يتعلق بالمراقبة والتداخل بين قطاعات الجيش والصناعة والاتصالات. ومن ثَم، ساعدت أدوات الثقافة الشعبية في تشكيل فهم الجيوسياسية، وأدت التسريبات الخاصة ببرنامج «بريزم» إلى سلسلة من الحوادث الدبلوماسية، حيث أُجبر حلفاء الولايات المتحدة مثل أستراليا والبرازيل وإسرائيل والمملكة المتحدة على التصدي للاتهامات التي وُجِّهَت إليهم باعتبارهم متواطئين في التجسس على مواطنيهم باسم مكافحة الإرهاب (انظر مربع رقم ١).

مربع رقم ١: بطل أفلام حركة صيني: لينج فينج

في عام ٢٠١٧، عُرِض فيلم حركة صيني بعنوان «الذئب المحارب ٢» (وولف واريور ٢). كان الفيلم أحد أجزاء سلسلة أفلام «الذئب المحارب». يتتبع الفيلم، الذي يأخذ دور البطولة فيه النجم السينمائي والمخرج الصيني الشهير، وو جينج، مع طاقم من الممثلين الصينيين والأمريكيين، أمجاد جندي بالقوات الخاصة الصينية (لينج فينج) في عمليات يجريها حول العالم. سيرى المشاهدون الغربيون كثيرًا من صور التشابه مع الأفلام التي أنتجها نجوم أفلام الحركة في ثمانينيات القرن العشرين مثل أرنولد شوارزنيجر وسيلفستر ستالون. وتكمن أهمية هذا الفيلم في أمرين. الأول أنه كان ذا شعبية هائلة في الصين. إذ حطم الأرقام القياسية الصينية في شباك التذاكر، واحتل المركز السابع في قائمة الأفلام الأعلى إيرادات حول العالم في عام ٢٠١٧. الأمر الثاني أن الحبكة الدرامية تدور بالأساس حول القوة العسكرية الصينية؛ إذ يجوب الجنود الصينيون أفريقيا والعالم أجمع وهم يتعقبون تجار الأسلحة والقراصنة والمرتزقة ويقضون عليهم. ويُبرِز الفيلم بكل وضوحٍ الطائرات العمودية والسفن وترسانة الأسلحة الصينية المتقدمة. وبمؤثراته الخاصة وتصويره البارع لساحات المعارك، فإن الفيلم من كل الوجوه عبارة عن فيلم حركة وتشويق. وفي ملصق ترويجي للفيلم، يظهر لينج فينج مع شعار يقول: «الإبادة هي المصير المحتوم لكل من يسيء إلى الصين مهما بَعُد موقعه.»

النوع الثالث من الجيوسياسية الجماهيرية الرائجة ربما يكون شعبويًّا. ربما يكون رائجًا للبعض وغير رائج للبعض الآخر. فيُعَد شعار الرئيس ترامب، «لنجعل أمريكا عظيمةً مرةً أخرى»، مثالًا جيدًا على ذلك. فمن أجل أن تستعيد أمريكا عظمتها، يجب أن تؤمِّن حدودها، وتتصدى لموجات الهجرة، وتحمي الوظائف الأمريكية، وتضمن أن النظام الأمني-التجاري الدولي لا يمثل عبئًا تحمله الولايات المتحدة على كاهلها. من منظور كثير من مؤيدي ترامب، كانت رؤية «أمريكا آمنة» جذابة؛ ولم تُصنَّف ضمن زلات اللسان الرئاسية. ولم يكن ترامب وحده في هذا الصدد (انظر شكل رقم ١-٢). فقد حشدت أحزاب سياسية أخرى وحركات مثل حركة النجوم الخمس في إيطاليا والمؤيدين للبريكست في المملكة المتحدة الرؤى الجيوسياسية الشعبوية، وفعلوا ذلك بطريقةٍ متحمسة. تتمحور الجيوسياسية الشعبوية حول الكيفية التي تدير بها الدولة شئونها المالية ومسألة الهجرة على حساب «الشعب».
fig2
شكل ١-٢: الرئيس دونالد ترامب.

يُستخدم مصطلح «الجيوسياسية الجماهيرية» في هذ الكتاب للتعبير عن كيفية ارتباط التمثيلات والممارسات الجيوسياسية بالمؤسسات والهيئات الرسمية التي تشكل وجه السياسة العالمية؛ فبعضها ربما يكون رائجًا، والبعض الآخر ربما يكون شعبويًّا. بعبارة أخرى، يُعَد مثالًا على الجيوسياسية الشعبوية شعارات البريكست، مثل شعار «استعيدوا زمام الأمور»، التي رُوِّج لها أثناء الاستفتاء الشعبي بالمملكة المتحدة في عام ٢٠١٦ على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. فمن منظور دعاة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، سيُمكِّن هذا المملكةَ المتحدة من استعادة سيادتها وسيطرتها السيادية على حدودها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥