الفصل الثاني

هل الجيوسياسية سمٌّ فكري؟

في عام ١٩٥٤، انتقد الجغرافي الأمريكي ريتشارد هارتشورن الجيوسياسية معتبرًا إياها سمًّا فكريًّا. فخلال الحرب العالمية الثانية، كان قد عَمِل في مكتب الخدمات الاستراتيجية (سلف وكالة الاستخبارات المركزية)، وساعد في تزويد الجيش الأمريكي بالمعلومات الجغرافية. ووجد — مثل غيره من الباحثين الجغرافيين قبله مثل آيزايا بومان — أن الجيوسياسية عانت من احتيال فكري، وتشويه إمبريالي، وتشكيك أيديولوجي، ووُصمَت بشبهة الارتباط بالنازية (وغيرها من أشكال الفاشية المتنوعة بما في ذلك الفاشية الإيطالية واليابانية) وسياساتها المرتبطة بالإبادة الجماعية، والعنصرية، والتوسعية المكانية، وهيمنة المكان.

ونظرًا لهذه الاتهامات الصارخة، ربما ليس من المستغرب معرفة أن كثيرًا من الجغرافيين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، منها الاتحاد السوفييتي، كانوا غير راغبين في الولوج إلى هذا النطاق الفكري. وفي غضون خمسين عامًا من ظهورها على الساحة رسميًّا (ثَمة تاريخ يسبق مرحلة صياغة مصطلح «الجيوسياسية» يضم كتَّاب القرن التاسع عشر مثل فريدريش ليست)، ظلت الجيوسياسية مَدينةً في نظر عُصبة من الجغرافيين، بل الأهم في نظر كُتاب كانوا يساهمون في الدوريات الأمريكية المقروءة على نطاق واسع مثل مجلة «ريدرز دايجست»، ومجلة «لايف»، ومجلة «نيوزويك». لذلك، الادعاء بأن الجيوسياسية حظيت بتاريخ فكري حافل بالأحداث سيكون أشبه بتبسيطٍ مجحف في حقها.

كيف اجتذبت الجيوسياسية هذا الازدراء من البداية؟ في نوفمبر ١٩٣٩، نشرت مجلة «لايف» مقالًا عن الجغرافي الألماني كارل هاوسهوفر، ووصفته بأنه «المعلِّم الروحي الألماني للجيوسياسية». وزعم المقال أن الجيوسياسية، بوصفها ممارسةً علمية، لا تضفي على النازية طابع العقلانية الاستراتيجية فحسب؛ بل تضفي أيضًا على الاشتراكية القومية طابعًا شبه روحاني. وكان كلا الجانبين في غاية الأهمية في تشكيل مواقف الرأي العام والتوجهات الأكاديمية تجاه هذا الموضوع. فمن ناحية، أُدينت الجيوسياسية بوصفها نشاطًا احتياليًّا لا يستحق الاهتمام العلمي الجاد، ولكن من ناحية أخرى، وهبها النقاد صلاحيات استثنائية للتخطيط وتخيل الأراضي والموارد العالمية. من ثَم، لم يكن استخدام مصطلح «المعلِّم الروحي» بريئًا تمامًا؛ لأنه نقل إحساسًا بأن النازية تتمتع بروح خارقة للطبيعة وإدراك منذر بالشر بالغاية.

وبحلول خريف عام ١٩٤١، حذرت مجلة «ريدرز دايجست» القراء من أن ما لا يقل عن ألف عالم على الأقل كانوا مسلحين فكريًّا ومستعدين لدعم المخيلة الجيوسياسية لهتلر والأمة الألمانية. ووصف فريدريك سونديرن، في كتاباته للجمهور العريض لمجلة «ريدرز دايجست» ومجلة «كارنت هيستوري»، منظمةً غامضةً مقرُّها ميونيخ تُدعى «معهد الجيوسياسية»، كانت تهدف إلى تزويد خطط هتلر للسيطرة على العالم بالمعلومات المهمة. وأعرب الكاتب عن القلق حيال أن عددًا قليلًا جدًّا من الأمريكيين، بل من المواطنين الألمان، كان على علم بهؤلاء العباقرة الجيوسياسيين وأعمالهم السرية المتعلقة برسم الخرائط والإحصاء.

وصل القلق حيال هذا المعهد الغامض والقدرات الاستثنائية المنسوبة إلى الجيوسياسية الألمانية مبلغًا مهولًا، لدرجة أن الرئيس روزفلت أمر خبراء بإجراء سلسلة من الدراسات الأكاديمية على الموضوع. ومع أن أولئك الخبراء لم يكونوا مقتنعين بالزعم بوجود ألف عالم وفني في خدمة هتلر، اتفقوا على أن الجيوسياسية كانت تقدم الدعم الفكري للدولة الألمانية فيما يخص الغزو والطرد والإبادة الجماعية. وما جعل الاتهام بالتواطؤ دامغًا أكثر أن بعض الكتَّاب البارزين مثل هاوسهوفر كانوا على صلة وثيقة بالنظام النازي. لعب هذا التقاطع بين الوسط الأكاديمي والدوائر الحكومية دورًا بالغ الأهمية في إضافة مزيد من المصداقية إلى اتهام الجيوسياسية بكونها مفلسةً أيديولوجيًّا ومشكوكًا فيها أخلاقيًّا.

وبحلول الوقت الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، كانت الجيوسياسية مَدينةً على نطاق واسع بأنها في خدمة النازية، وبكل بساطة قرَّر جيلٌ كامل من علماء فترة ما بعد الحرب ومراجعهم عن الجغرافيا السياسية إغفال الجيوسياسية من نقاشاتهم. وعندما حاول أحد الجغرافيين المقيمين بأمريكا، وهو لاديس كريستوف (والد نيكولاس كريستوف كاتب العمود الشهير بصحيفة «ذا نيويورك تايمز»)، إحياء المصطلح من جديد في الولايات المتحدة في أوائل ستينيات القرن العشرين، انتقده زملاؤه بشدة، ولُعِن بسبب ذكره لمصطلح الجيوسياسية في مقالاته المطبوعة. هكذا، حملت الجيوسياسية — بوصفها مصطلحًا وعلامة مميزة خاصة بمجال فكري — على عاتقها أثقالًا من الماضي.

أصول «علم» الجيوسياسية

لكي نفهم القلق والغضب اللذين شعر بهما النقاد الأمريكيون في أثناء أربعينيات القرن العشرين وما بعدها، من الضروري أن ندرك إدراكًا كاملًا أصل مصطلح الجيوسياسية كمصطلح فكري. غالبًا ما استُخدم هذا المصطلح، الذي صاغه أستاذ العلوم السياسية السويدي رودولف شيلين في عام ١٨٩٩، للإشارة إلى منهج صارم أو أكثر واقعيةً للسياسات الدولية التي تركز بصفة خاصة على دور الأرض والموارد في تشكيل ظروف الدول. ويقدم «علم» الجيوسياسية هذا «قوانين» بشأن السياسات الدولية بناءً على «حقائق» الجغرافيا المادية العالمية (ونعني هنا توزيع القارات والمحيطات، وتقسيم الدول والإمبراطوريات إلى قوًى بحرية وبرية). وكردِّ فعل على ما اعتبره رودولف شيلين نهجًا مُفرِطًا في التركيز على القانون في النظر إلى الدول وصراعاتها فيما بينها، كان تقديم الجيوسياسية العلمية إلى العالمَين الأكاديمي والحكومي في تسعينيات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين سانحًا.

اجتذبت الجيوسياسية — باعتبارها مصطلحًا مكونًا من مقطعين؛ أحدهما متعلق بالجغرافيا، والآخر متعلق بالسياسة — الاهتمام لأنها ألمحت إلى الحداثة؛ بمعنى أن القصد منها كان التحقق من الأبعاد الجيوسياسية الخاصة بالدول، التي لا يلتفت إليها كثيرًا أحد، ووضعها في السياسة العالمية. وفيما بعدُ صار شيلين عضوًا في البرلمان السويدي ممثلًا عن حزب المحافظين، واشتهر بآرائه الحادة فيما يتعلق بالقومية السويدية ونظم السياسة الخارجية.

والادعاء بالحداثة هو أمر مضلل بعض الشيء، ولا يساعد إلا بصورة جزئية في تفسير لماذا أصبحت الجيوسياسية مصطلحًا جذابًا واهتمامًا فكريًّا حيويًّا في مختلف أنحاء دول أوروبا القارية. هل كانت الجيوسياسية إعادة صياغة أكاديمية في القرن العشرين لأشكال أكثر تقليديةً من فن الحكم وعمليات صنع القرار الاستراتيجي للدول، التي كانت تُجرى فيما مضى في وزارة الخارجية ووزارة الحرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وليس داخل قاعات المحاضرات بالحرم الجامعي؟ ولكن كان هناك سياقات فكرية أخرى نوقشت فيها أهمية الجغرافيا في تشكيل العلاقات السياسية الدولية. ويُعَد الكاتب الألماني، فريدريش ريش، مثالًا جيدًا على هذا. ففي كتابه بعنوان «النظام القومي للاقتصاد السياسي» (نُشر لأول مرة في عام ١٨٤١)، أسدى نصيحةً إلى رجال الدولة الألمان بخصوص أهمية العوامل الجغرافية (مثل إمكانية الوصول إلى بلد ما عبر الطرق البحرية أو البرية، وإمكانية التوسع الإقليمي، وثروة الموارد). لقد أوضحت كلٌّ من سارة أوهارا ومايك هيفرنان كيف أن العديد من الأفكار المرتبطة بالجيوسياسية الناشئة هذه كانت تنبئ بها وثائق حكومية وتكهنات صحفية. ومع أن الجيوسياسية نشأت ردًّا على مخاوف محددة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، ربما عكست عملًا من أعمال النمو الأكاديمي (في عصر التوسعات الجامعية الكبرى في بريطانيا ودول أوروبا القارية) لنشاط كان يُجرى فيما سبق خارج النطاق الأكاديمي.

أسهمت ثلاثة عوامل في ترسيخ الجيوسياسية كموضوع مستقل بذاته. أولًا: كانت نزعتا القومية الاقتصادية والحمائية التجارية تشهدان صعودًا تزامنًا مع المعاناة التي واجهتها دول أوروبية إمبريالية مثل بريطانيا وفرنسا من طبيعة الاقتصاد العالمي الآخذة في التغير وفي اكتساب طبيعة مترابطة. وخلق صعود الولايات المتحدة باعتبارها قوةً تجارية قلقًا متزايدًا فيما بين القوى الأوروبية. وثانيًا: مارست القوى الاستعمارية بحثًا حثيثًا عن أراضٍ جديدة في أفريقيا وأماكن أخرى في منتصف القرن التاسع عشر وحتى أواخر القرن نفسه. ومع تصاعد وتيرة الاستحواذ الاستعماري، نشأت مواجهات فيما بين القوى الأوروبية على ملكية تلك الأراضي المستعمرة وإمكانية الوصول إليها. وتورطت بريطانيا وفرنسا في مواجهات متوترة في شمال أفريقيا، وواصلت بريطانيا وروسيا عمليات الكر والفر في آسيا الوسطى تحت مسمى «اللعبة الكبرى». ووصف الكاتب الجيوسياسي البريطاني الشهير هالفورد ماكيندر الحقبة الجديدة بأنها الحقبة ما بعد الكولومبية؛ بمعنى أن حقبة الاستكشاف والاستعمار الأوروبي قد ولَّت وانتهت في أعقاب رسوِّ كولومبوس على أرض الأمريكتين في تسعينيات القرن الخامس عشر. وفي نهاية المطاف، انخرطت دول مثل بريطانيا وألمانيا في إعادة التسليح، وهو ما أثار المخاوف من احتمال اندلاع صراعات داخل أوروبا بدلًا من مجرد اندلاعها خارج حدودها في المستعمرات البعيدة الخاضعة للسيطرة الأوروبية (انظر مربع رقم ٢). وأخيرًا، أدى تزايد عدد الجامعات وتأسيس علم الجغرافيا كتخصص أكاديمي إلى خلق فرص جديدة للباحثين لتدريس هذا الموضوع والبحث فيه. ولعبت المكانة العلمية المزعومة للجيوسياسية دورًا مهمًّا في ترسيخ المطالبات بالمشروعية الفكرية والأهمية السياسية.

مربع رقم ٢: روايات الغزو والمخاوف الجيوسياسية

كانت روايات الغزو نوعًا أدبيًّا تاريخيًّا اكتسب شعبيةً كبيرة في الفترة ما بين سبعينيات القرن التاسع عشر وعام ١٩١٤. وكانت إحدى أشهر الروايات هي رواية جورج تشيسني بعنوان «معركة دوركينج»، وهي رواية لأحداث تخيلية عن تعرض إنجلترا للغزو على يد القوات المسلحة الألمانية. وتشمل الأمثلة الأخرى على هذا النوع الأدبي رواية «لغز الرمال» من تأليف إرسكين تشيلدرز، التي تحكي عن رجلين بريطانيين يقضيان عطلةً بحرية، ويقابلان بالصدفة أسطولًا سريًّا من بوارج الغزو الألمانية، فيتصديان بذلك لغزو ألماني مُزمِع. وبحلول عام ١٩١٤، كان قد نُشِر أكثر من ٤٠٠ رواية حول الغزوات الافتراضية من قوًى خارجية. ويُعزى قدر كبير من رواج تلك الروايات إلى روح العصر المعاصرة المرتبطة بالتناحرات الأنجلو-ألمانية، وسباق التسلح، والتنافس الاستعماري في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. ومن ثَم، تزايدت مخاوف العامة حيال «الأجانب» وشبكات التجسس الألمانية.

حققت روايات الغزو رواجًا في اليابان أيضًا؛ فقد ظهرت في وقت تواجَه فيه اليابانيون مع الروس في عام ١٩٠٤ من أجل السيطرة على شرق آسيا. وفي الولايات المتحدة، كتب إتش إيرفينج هانكوك عن غزو من القوات الألمانية واحتلال الساحل الشمالي الشرقي. وفي النهاية، تطرد القوات الأمريكية المعتدين.

أدى الدور الذي لعبته الولايات المتحدة فيما يتعلق بالنفوذ الاقتصادي والجيوسياسي إلى زيادة تعقيد هذه التحليلات الجيوسياسية المبكرة لأوروبا والبؤر الاستعمارية التابعة لها. وكما توقع مراقبون معاصرون مثل فريدريك جاكسون تيرنر، كانت الحدود الأمريكية في طور «الإغلاق» مع بلوغ التوسع القاري ذروته الطبيعية. ففي أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، وبعد شراء ألاسكا من روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر، ضمت الإمبراطورية الأمريكية أراضي كوبا والفلبين وبورتوريكو. وأسدى الأميرال توماس ماهان، في كتابه «تأثير القوة البحرية على التاريخ ١٦٦٠–١٧٨٣»، بعض النصائح المتزنة لإدارة الرئيس ثيودور روزفلت آنذاك. وبصفته رئيسًا سابقًا للكلية الحربية البحرية، كان الأميرال توماس ماهان يتبوأ مكانةً تتيح له المساهمة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي. وبالعودة إلى الوراء والنظر إلى المنافسة البحرية الأنجلو-فرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أوصى ماهان بأن اكتساب القوة البحرية هو أهم عامل في تحديد القوة الجيوسياسية للأمة. كانت القوة البحرية «في خدمة التوسع»، ويجب على الولايات المتحدة التوسعية أن تكون قادرةً ليس فقط على إبراز قوتها عبر المحيطَين الأطلنطي والهادي بمساحاتهما الشاسعة؛ ولكنه يجب أن تكون قادرةً أيضًا على ردع أو هزيمة أي منافسين أو كلا الأمرَين معًا. ووفقًا لماهان، كان التهديد الرئيسي يكمن في الإمبراطوريتَين الألمانية والروسية وطموحاتهما البحرية. تُرجم كتابه في وقت لاحق، وقُرئ بحماسة كبيرة في ألمانيا، ولعب دورًا في تشكيل الفكر الجيوسياسي الألماني في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، خاصةً فيما يتصل بتطوير نظرية المنطقة الشاملة.

اجتذبت كتابات شيلين الانتباه سريعًا من جانب الباحثين الألمان، الذين استكشفوا بالتفصيل العلاقة بين السياسة والجغرافيا على مستوى مجموعة متنوعة من النطاقات الجغرافية. ويُعزى جزء من هذه الحركة الفكرية إلى التقارب الجغرافي والتفاعل بين الباحثين الألمان والإسكندنافيين. كان الكتَّاب الألمان، على شاكلة شيلين، مهتمين بشدة بوضع تصور الدولة وفقًا لاحتياجاتها الإقليمية واحتياجاتها من الموارد. واسترشادًا بتنويعات النظرية الداروينية الاجتماعية، تم التشديد على كفاح الدول ومؤسسيها من البشر، وكذلك الحاجة إلى الاستحواذ على «أنسب» الدول والشعوب. ووفقًا لفريدريش راتسل، أستاذ الجغرافيا بجامعة ليبزيج الألمانية، ينبغي تصور الدولة على أنها كائن حي فائق، موجود في عالم يتسم بالصراعات وتُغلفه الشكوك. واعتقد راتسل، المتمرس في العلوم الطبيعية والمتبحر في الإرث الفكري الذي تركه تشارلز داروين وجان بابتيست لامارك، أن الدولة قوة جيوسياسية تمتد بجذورها في البيئة الطبيعية وتتشكل بواسطتها. ومن أجل تحقيق الازدهار، ناهيك عن البقاء على قيد الحياة، في ظل هذه الظروف الصعبة، كانت الدول بحاجة إلى الاستحواذ على الأراضي والموارد.

وفي كتابه بعنوان «البحر كمصدر لعظمة الشعب»، اعتبر راتسل كلًّا من البر والبحر وسيلتين تُتيحان فرصًا وسبلًا مادية للتوسع الإقليمي والدمج في نهاية المطاف. لن ترضى دولة قوية وناجحة أبدًا بالحدود الحالية وستسعى إلى التوسع إقليميًّا وتأمين «مجال حيوي». وستسعى الدول المنافسة أيضًا إلى ضم هذه المساحات؛ لذا، وفقًا لراتسل، فإن أي دولة تسعى للتوسع ستدخل في دورة لا تنتهي من النمو والاضمحلال. كان البحث عن مجال حيوي في الواقع قانونًا جيوسياسيًّا أساسيًّا وغير قابل للتغيير، أي إنه بالمعنى الحرفي حقيقةٌ ثابتة من حقائق الحياة على الأرض. وليس من المستغرب أن راتسل كان مدافعًا شغوفًا عن إمبراطورية ألمانية وقوات بحرية قوية قادرة على حماية مصالحها خارج البلاد.

ورأى كثير من الكتَّاب الآخرين أيضًا أن الموقع الجغرافي لألمانيا وتجربتها التاريخية في وسط أوروبا كانا نعمةً ونقمةً في آنٍ واحد؛ فقد كانت تتمتع بالقدرة على السيطرة على القارة الأوروبية، لكنها كانت أيضًا ضحيةً لخسارة الأراضي ولنوائب الدهر. فكما ذكر مايكل كورينمان في عام ١٩٩٠، كانت ألمانيا بمثابة «أرض الجغرافيين»، حيث ظهرت فيها أولى الكليات الجامعية المخصصة لتدريس الجغرافيا. وقُبيل الحرب العالمية الأولى، دعا الجغرافيون الألمان مثل نومان وبارتش إلى تكوين تحالف ألماني مع الإمبراطورية النمساوية-المجرية، وإلى وجود بحري قوي من أجل التوسع في أهدافها التجارية وبسط نفوذها على مزيد من الأراضي الإقليمية. ومع الهزيمة التي وقعت في عام ١٩١٨ جاء الإدراك الكاسح بأن تلك الطموحات كان من المستبعد تحقيقها في المستقبل القريب. وغرس مؤتمر السلام لعام ١٩١٩ والتسوية المالية والإقليمية المهلكة المتضمنة في معاهدة فرساي بذور شعور بالاستياء. عندما أُعيد إحياء أفكار راتسل فيما بين الحربين الأولى والثانية، شعر الجغرافيون في فرنسا، مثل بول فيدال دي لا بلاش، بقلقٍ حيال أن هذه الأفكار المتعلقة باعتبار الدولة كائنًا حيًّا خارقًا كان من الممكن أن تُستخدم لتبرير ظهور دولة ألمانية ناهضة من جديد، عازمة على الانتقام لتقسيم أراضيها الإقليمية السابقة وتقطيع أوصالها العرقية.

وفي أماكن أخرى من أوروبا، كان الجغرافيون والضباط العسكريون منشغلين بالأفكار الجيوسياسية ويربطونها بمناقشة أوسع نطاقًا حول الاستعمار والانبعاث الوطني والعمليات الاستعمارية. ففي البرتغال مثلًا، عجَّل بزوغ حكم سالازار في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين من الأحداث والنقاشات العامة فيما يتعلق بمهمة البرتغال بخصوص العالم الناطق بالبرتغالية الأوسع نطاقًا. وفي إيطاليا، ابتُكرَت دورية «جيوبوليتيكا» الجديدة من أجل تيسير عقد مزيد من النقاشات حول الطموحات الجيوسياسية الإيطالية في منطقتَي البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. وفي كلا البلدين، جرى تداول خرائط جديدة في الكتب الدراسية والجداريات العامة بهدف تلقين المواطنين الطموحات الجغرافية لهذين البلدين. وفي إسبانيا، ركَّز النقاش الجيوسياسي على الطموحات الاستعمارية الإسبانية في شمال أفريقيا؛ ومن ثَم كانت الحكومة حريصةً على استعراض القوة العسكرية. وعلى خلاف ألمانيا، كانت المشاركات الجيوسياسية الإيبيرية مهتمةً بشكل أساسي بالأقاليم الاستعمارية وليس بإعادة تشكيل خريطة دول أوروبا القارية.

وعندما ثبت أن المخاوف حيال النهضة العسكرية الألمانية لها ما يبررها، دعا الكاتب الجيوسياسي البريطاني ماكيندر إلى الدخول في تحالف المحيط الأوسط مع الولايات المتحدة من أجل مواجهة أي تحالف محتمل بين دولة ألمانيا الناهضة من جديد والاتحاد السوفييتي الجديد. ونظرًا لأن اقتراح هذا التحالف جاء في عام ١٩٢٤، غالبًا ما يُفهم على أنه أحد أقدم المقترحات لتحالف استراتيجي، والذي دشَّنَته لاحقًا منظمة حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو) في أبريل ١٩٤٩. وعلى الرغم من أن ألمانيا الغربية كانت حليفًا مهمًّا للولايات المتحدة وبريطانيا في الحرب الباردة في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، فإن الخطاب الجيوسياسي الألماني فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كان مستغرقًا في النمو الإقليمي واستعادة الأراضي الألمانية، وكذلك الهيمنة الثقافية.

الجيوسياسية والنازية

اجتذبت الجيوسياسية انتباه الأيديولوجيين والشعبويين وتواصل اجتذاب انتباههم، وسمحت وسائل الإعلام الجماهيرية بانتشار تبادل الرسائل في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. ويأتي أكثر عنصر إثارةً للجدل في تاريخ الجيوسياسية في القرن العشرين مصحوبًا بارتباطها المزعوم بالنازية وخطط هتلر للهيمنة على العالم. كانت فكرة اعتبار الدولة كائنًا حيًّا فائقًا — بالإضافة إلى استلزام وجود «مجال حيوي» — توفر خلفيةً خطيرة، حتى وإن غابت عنها الأصالة تمامًا، للنقاشات المتعلقة بالأفكار الجيوسياسية في الفترة الفاصلة بين الحربَين العالميتَين.

فمن ناحية، شجعت فكرة اعتبار الدولة كائنًا حيًّا وجهة نظر حيال العالم ركَّزت على كيفية الحفاظ على المصلحة الذاتية الوطنية في بيئة فائقة التنافس تضم دولًا جشعة أخرى. وبالنظر إلى المخاطر الجَلِيَّة، يصبح الحفاظ على الكائن الحي أمرًا بالغ الأهمية، ويتعين التعامل مع أي شيء أو أي شخص يهدد سلامة الدولة بقدر من الحزم. ولذلك، يجب، على الصعيد الداخلي، أن يتحلى أولئك الذين يتحكمون في مقادير الدولة باليقظة. وعلى الصعيد الخارجي، يُقال إن سلامة الدولة تعتمد على الاستحواذ الدءوب على الأراضي والموارد. وأكرر مرةً أخرى أن هذا النوع من التفكير يميل إلى تعزيز وجهة نظر حيال العالم تعتز حتمًا بقوة عسكرية مجهَّزة على نحو فائق، ومهيأة ومستعدة للتحرك عند ظهور الحاجة إلى ذلك (وهي فكرة جرى تبنيها بحماسة كبيرة في أجزاء أخرى من العالم، لا سيما من قِبل أنظمة الحكم العسكرية بأمريكا اللاتينية في الفترة التي أعقبت عام ١٩٤٥). كما أنه يعزز حالةً من الانفصال الأخلاقي؛ لأن هؤلاء الكتَّاب الجيوسياسيين يُعتبر أنهم ببساطة يقدمون تقارير عن حقائق جغرافية معينة بمَعزِل عن التدخل في الشئون الاجتماعية والسياسية.

لقد ادعى النقاد أن النازيين — مثل رودولف هيس، بل أدولف هتلر نفسه — تذرَّعوا بالرؤى ووجهات النظر الجيوسياسية من أجل تعزيز وإضافة طابع شرعي على المذهب التوسعي الذي اتبعته ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته على حساب الإبادة الجماعية للمجتمعات العرقية داخل ألمانيا (وأوضح مثال على ذلك الجالية اليهودية) وما يصفه المؤرخ الأمريكي تيموثي سنايدر ﺑ «أراضي الدم» في وسط وشرق أوروبا، لا سيما بولندا وأوكرانيا.

ولا يزال هذا الارتباط بين الجيوسياسية والنازية محل نزاع كبير، ويعتمد جزئيًّا على مبدأ التجريم بالتبعية. وفكرة الارتباط ذات أهمية لأنها تشير إلى صلة فكرية، غير أن الأهم أنها تشير إلى رابطة شخصية بين بعض الجغرافيين الألمان البارزين والزعماء النازيين رفيعي المستوى. استخدم هتلر ومساعدوه، مثل هيملر وهيس، الأطر الجيوسياسية لإضفاء طابع شرعي على العنصرية والاستحواذ الإقليمي ومعاداة السامية المرتبطة بالإبادة الجماعية، حيث تصوروا ألمانيا واقعةً تحت حصار قوًى معادية.

وفي صميم هذا الاتهام المتعلق بالصلات الفكرية والسياسية التي تربط بين الجيوسياسية والنازية تأتي كتابات للبروفيسور كارل هاوسهوفر وشبكات علاقاته الاجتماعية. وُلد هاوسهوفر في عام ١٨٦٩، والتحق بالجيش الألماني، وفي النهاية تقاعد منه في عام ١٩١٩ برتبة لواء. وخلال فترة خدمته العسكرية، أُرسلَ إلى اليابان لدراسة كل ما يتعلق بقواتها المسلحة. وأثناء فترة الانتداب (١٩٠٨–١٩١٠)، تعلم هاوسهوفر اللغة اليابانية، وتشكل لديه اهتمام كبير بالثقافة اليابانية. كانت تفاعلاته مع الضباط العسكريين والجغرافيين اليابانيين ذات أهمية بالغة في تسهيل ظهور المعاهد الجيوسياسية اليابانية مثل جمعية اليابان للجيوسياسية وكلية الجيوسياسية بجامعة كيوتو في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. كان وما زال ذا نفوذ فكري هائل في تطور الجيوسياسية ليس فقط في ألمانيا واليابان؛ بل أيضًا في أمريكا الجنوبية، حيث تُرجمت أعماله إلى الإسبانية والبرتغالية واستخدمتها على نطاق واسع القوات المسلحة لدول مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي.

وبعد تقاعده من الجيش، أصبح هاوسهوفر أستاذًا للجغرافيا بجامعة ميونيخ، وشرع في نشر الدورية الألمانية «زايتشريفت فور جيوبوليتيك» المعنية بالجيوسياسية في منتصف عشرينيات القرن العشرين. وكما هو الحال مع سلفه راتسل، اعتقد هاوسهوفر (الذي التقى براتسل في صباه) أن بقاء ألمانيا سيتوقف على تقدير واضح للحقائق الجغرافية الخاصة بالسياسة العالمية. وإذا كان مُقدرًا للدولة الازدهار، وليس مجرد البقاء على قيد الحياة، فإن الاستحواذ على «مجال حيوي»، لا سيما في الشرق، كان أمرًا ضروريًّا، وعلاوةً على ذلك يمكن تحقيقه بمساعدة حلفاء محتملين مثل إيطاليا واليابان. كما كان الوصول إلى مواءمة مع الاتحاد السوفييتي، على المدى القصير أو المتوسط، قرارًا حكيمًا؛ لأنه سيمكِّن كلا البلدين من توحيد مواقفهما تجاه اليابسة الأورو-آسيوية. وكان يعتقد أنه لكي تُحقق ألمانيا الازدهار، كان على قيادتها أن تفكر بعناية في خمسة عناصر أساسية تقع في صميم تهيئة الدولة لتكون قوةً عالمية: الموقع المادي، والموارد، والأراضي، والتخطيط الجغرافي، والسكان. لو أرادت ألمانيا أن تصبح دولةً «توسعية» بدلًا من أن تظل «منغلقة» على حدودها ومواردها، فلا بد أن تفهم الإمكانات التي يتيحها لها موقعها الإقليمي ومواردها، وأن تتصرف بناءً على ذلك.

كما روَّج هاوسهوفر لفكرة نظرية المنطقة الشاملة، التي افترضت أن ألمانيا ودولًا قوية أخرى مثل اليابان يجب أن تطوِّر مناطقها الاقتصادية والجغرافية الحصرية بمنأًى عن التداخل فيما بينها. ولكي تهيمن ألمانيا على جزء من اليابسة الأورو-آسيوية، كان التوافق مع الاتحاد السوفييتي أمرًا ضروريًّا، وكذلك كان يجب التعاون مع بريطانيا، التي عُرفت بسيطرتها على أفريقيا. كان التوجه الجغرافي الرئيسي لهاوسهوفر منصبًّا نحو الشرق، وكان مؤيدًا متحمسًا لخطط تطوير سكة حديد برلين-بغداد، التي من شأنها أن تمكن ألمانيا من إبراز نفوذها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ولو كان مخطط هذه السكك الحديدية قد نُفذ، لكان قد سهَّل الوصول إلى إمدادات النفط، ولأصبح برنامجًا سياسيًّا لعرقلة سبل التجارة من آسيا وإليها (كما كان يخشى البريطانيون). ومع أن مؤتمر السلام لعام ١٩١٩ قضى على طموحات ألمانيا الساعية لتنفيذ هذا المخطط، جذبت فكرة هاوسهوفر عن المنطقة الشاملة القوميين ورجال الصناعة المتطلعين إلى الشرق، والمهتمين باستغلال المواد الخام الموجودة في المستعمرات الألمانية خارج أوروبا.

وبينما كان يُنظر إلى أفكاره على أنها الركيزة الفكرية التي تأسس عليها مشروع هتلر للتوسع الإقليمي وأعمال الإبادة الجماعية، فإن الصداقة التي جمعت بين هاوسهوفر ورودولف هيس ومشاركته العالية المستوى في المفاوضات الألمانية-اليابانية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين كانتا تُعَدان جديرتين بالملاحظة. وقبل تعيينه سكرتيرًا خاصًّا لهتلر ثم نائبه في الحزب النازي، كان هيس طالبًا لدى هاوسهوفر في جامعة ميونيخ. ويستخدم هتلر، في كتابه بعنوان «كفاحي»، مصطلحات مثل «المجال الحيوي» ليفسر اعتقاده بأن ألمانيا كانت بحاجة إلى إلغاء معاهدة فرساي لعام ١٩١٩، والسعي وراء مصير جغرافي جديد يضم وسط أوروبا وشرقها.

ومع ذلك، هناك فارق جوهري بين الرجلين. فعلى عكس هاوسهوفر، الذي كان منشغلًا إلى حد كبير بالعلاقات المكانية والدولة ككائن حي، كان تركيز هتلر منصبًّا على نحو أكبر بكثير على دور الشعب (في حالته العرق الآري) في تحديد مسار التاريخ والجغرافيا. بعبارة أخرى، لم يجد هوس هتلر بالعرق الآري وكراهيته ليهود ألمانيا وأوروبا أي إلهام فكري من كتابات هاوسهوفر. وإذا كان الاثنان قد اتفقا على أي شيء، فإن الدولة الألمانية كانت كائنًا حيًّا فائقًا يحتاج إلى «مجال حيوي» ومخارج إقليمية مقرونة به. وعلى الرغم من صِلاته بمسئولين نازيين، تراجع تأثير هاوسهوفر في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات. ولم يؤمن — كما كان الحال مع العديد من النازيين — بأن عصابةً دولية من اليهود والشيوعيين كانت تخطط للاستيلاء على العالم، ولم يؤيد هوس هتلر بفكرة تأثير اليهود الألمان غير المبرر على رفاهية الدولة الألمانية نفسها. وأدى فشل غزو الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٤١ بهتلر وعصابته إلى التخلي عن فكرة الترحيل الجماعي لليهود الألمان والتحول بدلًا من ذلك إلى الإبادة الجماعية في بولندا المحتلة.

وبحلول عامَيْ ١٩٤١-١٩٤٢، كان المفكرون الألمان المهاجرون مثل هانس فايجرت، وأندرياس دوربالين، وأندرو جيورجي، وروبرت ستراوز-هوب قد غرسوا في المخيلة الأمريكية أن النظريات الجيوسياسية الألمانية كانت شريكًا على الصعيد العلمي في جرائم النازية. وكما اتُّهم هاوسهوفر بأنه الشرير العبقري الذي يقف وراء التهديد النازي، كانت مكانته ونفوذه في الواقع في تراجع. وعلاوةً على ذلك، كان يرى أن الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي في عام ١٩٤١ كان مُضلَّلًا من الناحية الاستراتيجية، وأن علاقته الوثيقة برودولف هيس أصبحت عبئًا عندما اكتُشف أن هيس كان قد سافر سرًّا إلى أسكتلندا في العام نفسه في محاولة منه للتوصل إلى اتفاقية سلام مع بريطانيا. وفي حين أن أصول مهمة هيس لا تزال غير واضحة، فإنها تمثل نقطة تحول في التأثير المزعوم للتفكير الجيوسياسي الألماني على هتلر ورفاقه.

وفي عام ١٩٤٦، انتحر هاوسهوفر بعد أن بلغه نبأ إعدام ابنه آلبرخت في أبريل ١٩٤٥ بسبب دوره في مؤامرة ٢٠ يوليو لاغتيال هتلر بتفجير مقره الرئيسي في عام ١٩٤٤. كان الكولونيل والقس اليسوعي الأمريكي، الأب إدموند والش، أحد الأشخاص الذين ناقشوا الأفكار الجيوسياسية مع هاوسهوفر. قرر والش، الذي كان مهتمًّا بالكتابات الجيوسياسية الألمانية والسوفييتية، أنه لا ينبغي توجيه اتهام إلى هاوسهوفر بارتكاب جرائم حرب، حتى وإن كان مقتنعًا، مثل كتَّاب المهجر الألمان المذكورين آنفًا، بأن هاوسهوفر كان «المستشار الخبير» لهتلر. وأخذًا بالاعتبار محاورات والش التفصيلية مع هاوسهوفر في عام ١٩٤٥، كان لحكمه الأكاديمي ثقلٌ كبيرٌ بعض الشيء؛ لكنه توقف عن إلقاء اللوم على مجمل أفكار هاوسهوفر وعلاقاته الشخصية وربطها بنظريات وسياسات هتلر العنصرية والتوسعية لضم مزيد من الأراضي.

فترة تراجع في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية

بعد أن لاقت الجيوسياسية ازدراءً من جانب مراقبين مرموقين مثل إدموند والش، الذي أصبح عميد كلية العلاقات الخارجية بجامعة جورج تاون، ليس من المستغرب أن تصل سمعة الجيوسياسية إلى الحضيض. استنكر جيلٌ جديد من الجغرافيين السياسيين الأمريكيين المصطلح، وركَّزوا بدلًا من ذلك على تطوير الجغرافيا السياسية، التي حرصوا على وصفها بأنها موضوعية من الناحية الفكرية وأقل حتميةً فيما يتعلق بتأثير العوامل البيئية على سلوك الدول. رفض المجتمع الأكاديمي والسياسي إعادة تأهيل الجيوسياسية أو قبولها باعتبارها مجال أكاديمي قياسي.

وفي مراجعته المهمة للجيوسياسية الأنجلوفونية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يؤكد ليسلي هيبل على أن مصطلح «الجيوسياسية» انسحب من دوائر الحياة السياسية والحياة العامة الأمريكية بين عامَي ١٩٤٥ و١٩٧٠. تجنَّب الأكاديميون عمدًا استخدام المصطلح، فيما عدا عددًا قليلًا جدًّا من الاستثناءات، مثل أستاذ علم الاجتماع بجامعة بريدجبورت، جوزيف روتشيك التشيكي الأصل، الذي نشر بغزارة في دوريات أكاديمية وشعبية حول موضوعات مثل جيوسياسية الولايات المتحدة أو الأنتاركتيكا. المدهش في جميع مقالات روتشيك التي تحتوي على عنوان «الجيوسياسية» أنه لا يُظهِر سوى قليل من الاهتمام باستكشاف الإطار المفاهيمي الذي يشغله الموضوع. من وجهة نظره، الجيوسياسية مصطلح مختصر ومفيد لتسليط الضوء على أهمية الأرض والموقع والموارد.

على الرغم من استخدام روتشيك المتحمس لمصطلح الجيوسياسية، فإن قلةً قليلة جدًّا من العلماء استخدموا هذا المصطلح. وقد شهدت الفترة التي أعقبت عام ١٩٤٥ الأهمية المتزايدة لمجال العلاقات الدولية والنظريات الواقعية، التي تناولت دور الدولة في النظام الدولي لفترة ما بعد الحرب والنظام الدولي القائم على القوانين. جاءت إحدى اللحظات المشهودة في رحلة ترسيخ هذا المجال في مايو ١٩٥٤، عندما عقدت مؤسسة روكفلر مؤتمرًا حول السياسة الدولية بهدف إعادة النظر في «تقييم الأطر النظرية الحالية في السياسة الدولية». ومع ذلك، لم يعنِ هذا أن الجغرافيين وعلماء الاجتماع تخلَّوا عن اهتمامهم بالسمات الجغرافية الخاصة بالخريطة السياسية العالمية. أدرك جغرافيون، مثل نيكولاس سبيكمان (١٨٩٣–١٩٤٣)، وفيما بعدُ سول كوهين (١٩٢٥–٢٠٢١)، أن بدء الحرب الباردة كان يعني أنه من المهم أكثر من أي وقت مضى فهمُ الطبيعة الإقليمية والأيديولوجية للصراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وفي كتابه الرائد الذي نُشِر لأول مرة في عام ١٩٦٣، بعنوان «الجغرافيا والسياسة في عالم منقسم»، واصل كوهين اهتمامه بفهم سبيكمان لعالم منقسم انقسامًا واضحًا.

إذا كان سبيكمان قد لفت الانتباه إلى ما أسماه «أراضي الأطراف» (التي تُعرف بأنها الأطراف البحرية لمساحات ذات أهمية جيواستراتيجية) في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وجنوب أوروبا وجنوب شرقها، فقد ركز عمل كوهين اللاحق على ما يُسمى «أحزمة التمزق» (المناطق المنقسمة داخليًّا التي تجتذب المنافسة بين القوى العظمى)، وحاول شرح الأماكن التي من المرجح أن تحتدم فيها صراعات بين القوى العظمى على الأراضي والموارد والقدرة على الوصول إلى هذه الأراضي والموارد أو السيطرة عليها. كان يُنظر إلى المناطق الجغرافية الأقرب إلى الاتحاد السوفييتي وفيما بعد الصين على أنها ساحات القتال الرئيسية للحرب الباردة. بدا أن الصراع والتوتر في برلين وجنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط وكوريا وفيتنام يضيفان مصداقيةً إلى تلك الرؤية الجغرافية، حتى وإن برهنت أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة في عام ١٩٦٢ على أن الولايات المتحدة كانت تتعامل بحساسية مفرطة مع ملف حوض البحر الكاريبي القريب جغرافيًّا.

ومن المفارقات أنه بينما كان مصطلح الجيوسياسية يفقد مصداقيته في الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وأجزاء أخرى من أوروبا، ظهرت حجة تقول إن استراتيجية الحرب الباردة الأمريكية كانت مستلهمةً ضمنيًّا من أفكار جيوسياسية. فقد حذرت وثيقة مجلس الأمن القومي رقم ٦٨، المقدمة إلى الرئيس ترومان في أبريل ١٩٥٠، من خطط الاتحاد السوفييتي للهيمنة على العالم والاستراتيجيات الجغرافية المحتملة لتحقيق هذا الهدف الأساسي. وعلى الرغم من تقليل هذه الوثيقة من شأن العالم الثالث وتنوعه الجغرافي، أُضيف إليها فيما بعدُ ملحقٌ يضم ما يُسمى بنظرية الدومينو التي حذرت من أن العالم الثالث كان معرضًا بشدة لنزعة توسعية من جانب الاتحاد السوفييتي. وفي غضون عقد من تأسيس حلف الناتو في عام ١٩٤٩، أبرمت الولايات المتحدة اتفاقات أمنية في أسترالاسيا (١٩٥١) وآسيا الوسطى (١٩٥٥)، ودخلت في ترتيبات أمنية ثنائية مع اليابان وكوريا الجنوبية.

كان الجغرافيون السياسيون الأمريكيون القلائل، مثل كوهين، الذين علقوا صراحةً على الحرب الباردة واستراتيجية الولايات المتحدة، متفقين على الأهداف العامة مثل سياسة احتواء الاتحاد السوفييتي، لكنهم كانوا حريصين بشدة على تسليط الضوء على التنوع الهائل في العالم الثالث. وفي خضم الحماسة لفهم الطموحات العالمية للاتحاد السوفييتي، حذَّر كوهين القراء الأمريكيين بأنه ينبغي عليهم ألا يستخفُّوا بالاختلافات الجغرافية والثقافية والسياسية العميقة بين الشرق الأوسط من جهة، وجنوب آسيا من جهة أخرى. ويُقال إن الاستراتيجيين الأمريكيين، على غرار جورج كينان الذي عمل في وزارة الخارجية خلال فترة رئاسة ترومان، كانوا غافلين عن هذه الاختلافات الإقليمية، وكان يُنظَر إلى وثيقة مجلس الأمن القومي رقم ٦٨ على أنها مبسطة من الناحية الجغرافية ومغالية في اهتمامها بتصوير الاتحاد السوفييتي على أنه تهديد توسعي لا هوادة فيه آتٍ من الشرق. لذلك، لم تكن العلاقة بين الجغرافيا والسياسة أحادية الجانب أو محددة مسبقًا، وفي عالم منقسم، أنت بحاجة، من وجهة نظر كوهين، إلى عدد كبير من المتخصصين في الدراسات الإقليمية.

انتعاش جيوسياسي في الولايات المتحدة

غالبًا ما يُنسب إلى وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الفضل في إحياء الاهتمام الأمريكي بالجيوسياسية، حتى وإن استخدم المصطلح بصفة غير رسمية أكثر مقارنةً بالمؤيدين له في مطلع القرن العشرين. لم يكن كيسنجر، باعتباره مهاجرًا ألمانيًّا ومفكرًا حللَت رسالة الدكتوراه الخاصة به التاريخ الجيوسياسي الأوروبي في القرن التاسع عشر، النمط المعتاد لوزراء الخارجية في الفترة التي أعقبت عام ١٩٤٥ (انظر شكل رقم ٢-١). فقد كان مفكرًا من العيار الثقيل في إدارة نيكسون ومراقبًا شديد الملاحظة للوضع الجيوسياسي المتغير للحرب الباردة. كان السياق في ذلك الوقت حاسمًا؛ إذ كانت الحرب الباردة تدخل مرحلةً جديدة من الانفراج النسبي، حتى وإن كان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والصين ما زالوا يتشككون في دوافع بعضهم بعضًا وطموحاتهم الجيوسياسية. كانت الولايات المتحدة غارقةً في صراع لا يحظى بشعبية على نحو متزايد في فيتنام، وكان استخدام كيسنجر لمصطلح الجيوسياسية في جزء منه محاولة للتعامل مع مشهد استراتيجي جديد. في الأساس، كما لاحظ ليسلي هيبل، استخدم كيسنجر المصطلح لتسليط الضوء على أهمية التوازن العالمي والمصالح الوطنية الدائمة في عالم اتسم بتوازن القوى. ومن منطلق حرصه على تعزيز علاقة جديدة مع الصين، زعم أن «الطموحات الجيوسياسية» لموسكو بحاجة إلى احتوائها وتحييدها بطريقة مثالية.
fig3
شكل ٢-١: هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق.

بينما كانت الولايات المتحدة تسعى إلى كبح جماح الاتحاد السوفييتي، كان كيسنجر يعتقد أن السياسة الخارجية الأمريكية القائمة آنذاك كانت مفرطةً في الحرص على تصعيد رد عسكري على هذه الإشكالية. وبدلًا من ذلك، ما كان مطلوبًا، في حقبة من التراجع العسكري الأمريكي النسبي، هو اتباع منهج مرن ومنفتح على الاحتمالات السياسية الجديدة مثل إنشاء علاقات منفعة متبادلة مع القوى العظمى الأخرى مثل الصين. وعلى الرغم من أن استخدام كيسنجر لمصطلح الجيوسياسية وُصِف بأنه غامض ومبهم، فإنه وفقًا لبعض الباحثين أعاد إحياء المصطلح داخل الثقافة السياسية الأمريكية، وأدى إلى تجديد الفكر الأكاديمي الرسمي حيال الاستراتيجية العالمية. ومن حيث الرواج، أُعيد إدخال مفهوم الجيوسياسية في المناقشات الدائرة حول سياسات الحرب الباردة إلى جانب مجموعة من الموضوعات الأخرى التي سعت إلى الربط بين القضايا العالمية والإقليمية. وعلى الرغم أن قلة من المؤلفين أبدوا إعجابًا مستفيضًا بالتاريخ الفكري المعقد للمصطلح، كان مفيدًا على ما يبدو تسليط الضوء على أهمية العوامل الجغرافية في تشكيل التطورات السياسية والعسكرية.

وقد تحمست شخصيات سياسية قيادية أخرى — مثل زبيجنيف بريجينسكي، مستشار الأمن القومي البولندي المولد للرئيس الأمريكي جيمي كارتر — للجيوسياسية، واستخدموا المصطلح للإشارة إلى اهتمامهم بحماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية في حقبة من التوتر العالمي المتصاعد، أما أولئك الذين أُطلقَ عليهم فيما بعدُ اسم المثقفين المحافظين الجدد، فاستشهدوا بالنزعة التوسعية السوفييتية التي لا هوادة فيها لدعم هذا الموقف الجيوسياسي. وكان القرار بتمويل ودعم المقاومة للاحتلال السوفييتي لأفغانستان من عام ١٩٧٩ فصاعدًا يسترشد باعتقاد جيوسياسي بأنه كان يتعين كبح جماح التوسع المتزايد حتى لو كان ذلك يعني اضطرار الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين مثل باكستان إلى دعم جماعات محاربين بالوكالة من أجل مقاومة القوات السوفييتية. كان الوضع الأمثل هو أن تصبح أفغانستان نسخة الاتحاد السوفييتي من «فيتنام». وكما لاحظ الكثيرون، كان لهذا القرار تداعيات مهمة من حيث إلهام إنشاء تنظيم القاعدة الإرهابي وإنتاج محاربين متمرسين في القتال مثل أسامة بن لادن في ثمانينيات القرن العشرين.

كانت إحدى أهم النتائج المترتبة على إحياء الجيوسياسية من جديدٍ تكوين «لجنة الخطر الداهم»، التي استخدمت الجيوسياسية وأنشطة أكاديمية أخرى مثل السوفييتولوجيا (وهو مصطلح يعني علم دراسة الحكومة والمجتمع السوفييتيين، ويُوصف في بعض الأحيان ﺑ «مراقبة الكرملين») للتأكيد على أنه كان يتعين على أمريكا أن تستعد للتخلي عن سياسات الانفراج وتوازن القوى لصالح نهج أكثر عدوانيةً يدرك أن الاتحاد السوفييتي كان عازمًا على توسيع هيمنته على الكتلة الأرضية اليورو-آسيوية بأكملها. وتبنت إدارة ريجان، التي كانت تشعر بخيبة أمل من سياسات كارتر الأكثر ميلًا إلى السلام، رؤيةً جيوسياسية أكثر صراحةً قائمة على احتواء الاتحاد السوفييتي وتفكيكه. ويُقال إن السياسة الخارجية الأمريكية سعت حثيثًا إلى احتواء أو تفكيك الجماعات والأنظمة التي كان الاتحاد السوفييتي يدعمها في أمريكا الوسطى وأفريقيا، ودعمت بقوة أكبرَ الأنظمة المناهضة للسوفييت في جميع أنحاء العالم الثالث. وإذا كان ذلك يعني، مثلًا، دعم نظام صدام حسين في العراق وعدد لا يُحصى من أنظمة الحكم العسكري في أمريكا اللاتينية، فليكن كذلك. وقد نُشرَت صواريخ نووية قصيرة إلى متوسطة المدى في بريطانيا وألمانيا الغربية كجزء من محاولة الناتو لإحباط أي محاولات لتوسيع نفوذ الاتحاد السوفييتي في غرب أوروبا ووسطها.

وبحلول منتصف ثمانينيات القرن العشرين، كانت المناقشات الجيوسياسية داخل الولايات المتحدة تتشكل في المقام الأول على يد مجموعة من الباحثين الذين تأثروا بشدة بالواقعية السياسية، وبرغبة في الحفاظ على النفوذ الأمريكي في خضم ما يُسمى بالحرب الباردة الثانية (١٩٧٩–١٩٨٥) بعد فشل سياسة الانفراج الدولي. أصبحت الجيوسياسية مرةً أخرى مصطلحًا مختصرًا للمنافسات بين القوى العظمى، ودلَّت على أهمية سعي الولايات المتحدة وراء مصالحها الوطنية في عالم فوضوي. كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد ريجان بالتأكيد أكثر عدوانيةً مما كانت عليه وقت رئاسة كارتر، وصار العديد من المفكرين وصنَّاع السياسات المرتبطين بهذه الإدارة فيما بعدُ أعضاءً في إدارتَي جورج بوش الأب وجورج دبليو بوش الابن. فقد تصافح دونالد رامسفيلد، على نحوٍ أساء إلى سمعته، مع صدام حسين في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لكنه لعب فيما بعدُ دورًا جوهريًّا، بصفته وزير الدفاع، في التخطيط لغزو العراق وتنفيذه في عام ٢٠٠٣، والإطاحة بصدام حسين وإعدامه لاحقًا في ديسمبر ٢٠٠٦.

نحو جيوسياسية نقدية

في الوقت نفسه تقريبًا الذي كان فيه بعض المفكرين السياسيين يعيدون النظر في مصطلح الجيوسياسية في سياق الحرب الباردة، كان كتَّاب آخرون يستكشفون مفهومًا مختلفًا إلى حد ما للجيوسياسية. لم يكن هذا النهج، الذي أُطلقَ عليه لاحقًا الجيوسياسية النقدية، واقعيًّا في توجهه ومظهره. ما برحت الواقعية — بوصفها منهجًا لدراسة العلاقات الدولية — أن كانت ذات أهمية كبيرة، خاصةً في الولايات المتحدة. فهي تفترض عادةً أن الدول تشغل عالمًا فوضويًّا بسبب عدم وجود حكومة عالمية قادرة على تقييد تصرفاتها. في أبسط أشكال الواقعية، من المفترض أن تكون المصلحة الذاتية واستعراض القوة نتيجةً لذلك بديهيَّين. وبالنسبة للعديد من الكتَّاب الجيوسياسيين، حتى لو لم يشيروا إلى بعض كبار دعاة الواقعية مثل إي إتش كار وكينيث والتز، فإنهم يعملون ضمنيًّا وفق نموذج مشابه من حيث المظهر لكثير من الواقعيين. وفي حالة جنرالات أمريكا اللاتينية المنشغلين بدولة الأمن القومي خاصتهم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تزامن المنظور الواقعي للعالم بشكل جيد مع خيال جيوسياسي تحيق به المخاطر والتهديدات من قوًى شيوعية داخل البلاد وخارجها.

من وجهة نظر نقاد هذا النوع من الجيوسياسية المستوحاة من الواقعية، تميل هذه النظرة المتحيزة للسياسة العالمية إلى المبالغة في التشديد على الصراع والمنافسة على حساب التعاون والانفراج الدولي. فقد أظهر النظام القائم على العلاقات ما بين الدول، ربما على نحو فاجأ بعض المراقبين، قدرةً على التعاون وتطوير المؤسسات المشتركة والقانون الدولي والهيئات الحكومية الدولية مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. علاوةً على ذلك، شكك جيل جديد من الكتَّاب، المتأثرين بتقاليد فلسفية مختلفة، في ادعاءات الكتَّاب المتأثرين بالواقعية أنهم بكل بساطة «يقولون الحقيقة كما هي». بعبارة أخرى، بعيدًا عن تقديم وجهة نظر محايدة خاصة بالسياسة العالمية، فإن الجيوسياسية المستوحاة من الواقعية تتشكل بعمق من خلال مخططات تمثيلية معينة، تعكس بدورها التقاليد والأعراف اللغوية والثقافية. وربما ليس من المستغرب أن الجيوسياسية المستوحاة من الواقعية قد لاقت احتفاءً شديدًا في الولايات المتحدة، حيث من الشائع أن يُقدِّم الكتَّاب مخططاتهم الكبرى للعالم كما لو كانوا مراقبين متجردين يخبرون جمهورهم بسلسلة من «الحقائق المُرَّة».

  • أولًا: علينا استكشاف كيف تُصنع الجيوسياسية وتُقدم إلى جماهير معينة. إذا أردنا فهم السياسة العالمية، فعلينا إذن أن نفهم أنها مُشبعة بمعانٍ اجتماعية وثقافية. فالنظام السياسي العالمي الحالي ليس طبيعيًّا ولا حتميًّا، والقصص التي نحكيها عن السياسات الدولية هي مجرد قصص فحسب. ومن البديهي أن بعض السرديات أهم من البعض الآخر، وبعض الأفراد — مثل رئيس الولايات المتحدة ورئيس روسيا — يقررون صراحةً وبحسم كيف يُرى العالَم وكيف يُفسر. ومن ثَم، هناك اهتمام عالمي كبير بخطاب حالة الاتحاد، تمامًا كما هي الحال بالنسبة لخطاب مماثل صادر عن دول قوية أخرى مثل الصين وروسيا وقياداتها السياسية. هل سنهتم كثيرًا بشيء مشابه صادر عن زعيم سياسي في غرب أفريقيا أو أمريكا الوسطى؟ وفي استطلاعات الرأي التي أُجريَت في أوروبا وأمريكا الشمالية، نجد أن المعرفة بالجزء الجنوبي من العالم والبلدان الشيوعية السابقة في أوروبا وآسيا غالبًا ما تكون ضئيلةً إلى حد بعيد.
  • ثانيًا: هناك استخفاف شديد بالجغرافيا أو مغالاة شديدة في تقديرها. فعلى سبيل المثال، تُشكِّل جبال الأنديز جزءًا لا يتجزأ من تحديد حجم تشيلي وشكلها. وما برحت الجبال والأنهار والغابات المطيرة أن كانت بمثابة حواجز طبيعية للمجتمعات المتجاورة كما في حالة الهند والصين. وتواصل الهند وباكستان المواجهات فيما بينهما في بيئة المرتفعات العالية لنهر سياشين الجليدي. إنها بيئة قاسية على البشر، وقد أودت الكوارث الطبيعية مثل الانهيارات الثلجية بحياة الكثيرين. ولا يستطيع البَلدان الاتفاق بشأن ملكية هذه البيئة الجليدية، ولا يزال الخلاف قائمًا بشأن حدودهما الدولية المشتركة (انظر شكل رقم ٢-٢).
    fig4
    شكل ٢-٢: تدريبات القوات الهندية في منطقة نهر سياشين الجليدي، وهي منطقة نزاع بين الهند وباكستان في جبال الهيمالايا.

    ونادرًا ما يكون تخطي العقبات الجغرافية مستعصيًا. فقد أُعيد تصوُّر المشهد الأمريكي بفعالية على أنه «حدود»؛ مما دعم التوسع الاستعماري والتنمية من قِبل المجتمعات المستوطِنة. لم تكن جبال روكي وصحارٍ مثل موهافي تُشكل حواجز، ناهيك عن كونها قيودًا. وقد ثبت أن شراء ألاسكا من روسيا في عام ١٨٦٧ ذو أهمية استثنائية على المدى الطويل، إلا أن الرأي السياسي المحلي تجاه الأمر كان منقسمًا آنذاك. أسفر الاستحواذ على مزيد من الأراضي والموارد (المحتملة) عن تكاليف إضافية بخصوص البنية التحتية والأمن والاستيطان. وبدأ التوسع عبر المحيط الهادئ في القرن التاسع عشر، واشتد عندما واجهت الولايات المتحدة الإمبراطورية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية. أعادت التوسعات الجيوسياسية والجيواقتصادية الأمريكية التي وقعت في فترة ما بعد الحرب تشكيل الجيوسياسية في شرق آسيا، ووفرت فرصًا جديدة للشركات الأمريكية لكي تبيع منتجاتها في مساحات حدودية جديدة.

  • ثالثًا: تتشابك الجيوسياسية مع أفكار وتجارب متعلقة بنوع الجنس والعِرق والميول الجنسية والطبقة الاجتماعية. فالجيوسياسية ذات طابع ملموس ومحسوس. وهي متعددة الجوانب. ويجب الاعتراف بأن التجارب اليومية للأفراد والاستراتيجيات التي يتعين عليهم اتباعها للتكيف مع العمليات والهياكل الجيوسياسية والجيواقتصادية تتنوع بشكل جوهري. تكتسب مفاهيم مثل الإقليم والحدود والنطاق الجغرافي معنًى مختلفًا عند النظر إلى حوادث الاغتصاب أثناء الحرب في جمهورية الكونغو الديمقراطية مقارنةً بهجرة الشباب من شمال أفريقيا إلى جنوب أوروبا. وإذا كانت الحدود السياسية العالمية أكثر تيسيرًا لمرور رأس المال مقارنةً بمرور الأفراد، فهي عمومًا أكثر تيسيرًا أيضًا لمرور الرجال مقارنةً بالنساء والأطفال. وكما لاحظت الباحثة النسوية سينثيا إنلو، يتعين ربط الجيوسياسية العالمية بالسمات الجغرافية اليومية للعلاقات بين الجنسين من أجل فهم أفضل للأثر المتفاوت للحدود الوطنية والأمن والنزاع والهجرة. وتُعَد الجيوسياسية النسوية مجالًا خصبًا للبحث الأكاديمي.
    ومن أجل فهمٍ أفضل لكيفية عمل الجيوسياسية، اقترح كُتاب الجيوسياسية النقدية تقسيمًا ثلاثيًّا؛ رسميًّا وعمليًّا وجماهيريًّا (انظر شكل رقم ٢-٣). يهتم الجانب الرسمي بالموضوع الذي يتناوله هذا الفصل. كيف يستحضر الأكاديميون والمحللون بوعي ذاتي تقليدًا فكريًّا مرتبطًا بالجيوسياسية؟ تشير الجيوسياسية العملية إلى القوالب الجغرافية الموجهة نحو السياسة التي يستخدمها القادة السياسيون مثل الرئيس ترامب لأنهم يمثلون السياسة العالمية. ويستخدم القادة السياسيون القوالب الجغرافية لتوجيه سياساتهم مع الجماهير، بما في ذلك الناخبون. كان أحد الأمثلة الشهيرة استخدام ترامب لعبارة «حثالة الدول» في يناير ٢٠١٨ للإشارة إلى المهاجرين غير الشرعيين القادمين من هايتي وغيرها من المناطق الفقيرة في العالم إلى الولايات المتحدة. ومع أن ترامب أنكر استخدام هذه العبارة، فإن عملية القولبة (أو التأطير) تكشف عن نوع من وجهة النظر عن العالم تشير إلى كيفية فهم الأشخاص والأماكن.
    fig5
    شكل ٢-٣: الجيوسياسية الرسمية والعملية والجماهيرية.
  • أخيرًا: تشمل الجيوسياسية الجماهيرية الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام وغيرها من أشكال الثقافة الشعبية، التي يستخدمها المواطنون لفهم الأحداث في منطقتهم المحلية وبلدهم وإقليمهم والعالم الأوسع نطاقًا. وجميع الأشكال الثلاثة مترابطة، حيث يتبادل الكتَّاب الأكاديميون والصحفيون بصفة دورية الأفكارَ والمحادثات معًا، ولكلتا الفئتين اتصالات منتظمة مع المسئولين الحكوميين والمنظمات الحكومية. كما أنهم منغمسون في وسائل الإعلام والثقافة الشعبية. يمكن للأطر الجيوسياسية مساعدة كلٍّ من الأفراد والجماعات على فهم العالم وإكسابه معنًى بالنسبة لأنفسهم وللجمهور الأوسع نطاقًا. عبارات مثل «محور الشر» و«استعيدوا زمام الأمور» تجذب الانتباه؛ وذلك تحديدًا لأنها مصممة لتبسيط السياسات العالمية وتحديد من هم الأصدقاء ومن هم الأعداء. وقد يستخدمها رؤساء الدول ورؤساء الحكومات في البداية (بطيش أحيانًا)، لكن هذه الأنواع من الأفكار التجريدية المكانية الكبرى تشجع وتعزز المناقشات بين الصحفيين والمثقفين وجمهور القراء والمستمعين (انظر شكل رقم ٢-٣).

لقد زعم جيرويد أوتواهيل، خبير الجغرافيا السياسية، بأن هذا المخطط الثلاثي يكمن داخل إطار الثقافات الجيوسياسية، التي تشكل تعاملات الدولة مع العالم. ومن الواضح أن الموقع الجغرافي لبريطانيا على أطراف القارة الأوروبية ما برح يمثل أهميةً في تشكيل التفسيرات الثقافية للموقع الجغرافي، على الرغم من أنه لا ينبغي النظر إليه باعتباره يحدد مسبقًا نتائج سياسية معينة مثل الالتزام بالاندماج مع أوروبا. كما أن للتجارب الحربية أيضًا أهميتها عندما اضطرت بريطانيا للدفاع عن أراضيها الوطنية في مواجهة القوات الألمانية، بما في ذلك الغارات الجوية والهجمات الصاروخية المرتبطة بالغارات النازية على بريطانيا. من الناحية الجيوسياسية الجماهيرية، لا يزال من اللافت للنظر مدى عمق تأثير إرث الحرب العالمية الثانية؛ إذ تواصل الكتب والأفلام والبرامج التلفزيونية والإذاعية والمعارض الفنية استكشاف ومراجعة جهود بريطانيا الحربية ودور قادة مثل ونستون تشرشل.

وما برح رؤساء الوزراء البريطانيون طوال أغلب الحقبة التي أعقبت عام ١٩٤٥ أن حرصوا على الحفاظ على علاقة خاصة مع الولايات المتحدة (بريطانيا الأمريكية)، على حساب تقليد جيوسياسي قائم على التعامل مع ما يمكن تسميته بريطانيا الأوروبية (انظر مربع رقم ٣).

مربع رقم ٣: بريطانيا العالمية والانسحاب من الاتحاد الأوروبي

في يونيو عام ٢٠١٦، صوَّتت بريطانيا عبر استفتاء شعبي على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (المعروف باسم اتفاقية البريكست). وبعد منافسة حامية الوطيس، صوَّت ٥٢٪ من الشعب لصالح الانسحاب في مقابل ٤٨٪ ممن صوَّتوا لصالح البقاء. وفي عام ٢٠١٧، اتُّخذ القرار بتفعيل المادة ٥٠ من معاهدة الاتحاد الأوروبي وبدء عملية الانسحاب. ولا يزال الرأي منقسمًا بشأن العواقب الطويلة الأمد لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فقد طرحت حكومة المحافظين بقيادة رئيسة الوزراء تيريزا ماي فكرة «بريطانيا العالمية» لتحل محل بريطانيا الأمريكية/بريطانيا الأوروبية. وقد استُخدم الكومنولث والدائرة الأنجلوفونية لإعادة تصور مملكة متحدة تعمل في نطاق جيوسياسي وتجاري جديد؛ مستفيدةً من مزايا اللغة الإنجليزية كلغة عالمية، ومدينة لندن، ونظام القانون العام، والقوة الثقافية. ولكن هل كان الآخرون يستثمرون في المملكة المتحدة لأنها كانت بمثابة بوابة إلى اقتصادات دول أوروبية أخرى؟

توجد تحديات. فبعد خمسة وأربعين عامًا من العضوية في المجموعة الاقتصادية الأوروبية/الاتحاد الأوروبي، أصبحت البنية الأساسية وأنماط التجارة في المملكة المتحدة متوافقةً بشدة مع جيرانها الأوروبيين؛ إذ تأتي ٢٥٪ من تدفقات التجارة في المملكة المتحدة عبر نفق المانش. كما أن جمهورية أيرلندا متحالفة بقوة مع شبكات التجارة في المملكة المتحدة. وتمتلك شركات أوروبية المنشآت الحيوية للمواني والمطارات البريطانية، وهي منخرطة في أسواق الطاقة والصحة في المملكة المتحدة. وسيتعين على بريطانيا العالمية إدارة سلاسل التوريد وأنماط الاستثمار الأوروبية في حين تتنافس خارج كتلة عضوية الاتحاد الأوروبي مع قوًى عالمية مثل الصين التي تنخرط في برامج طموحة تابعة لمبادرة «الحزام والطريق» (وتُعرَف أيضًا باسم «طريق الحرير الجديد») مُصمَّمة للترويج للصين العالمية. ونادرًا ما يذكر الرئيس الصيني شي جين بينج المملكة المتحدة والانسحاب من الاتحاد الأوروبي في خطاباته حول خطط الصين للتجارة والبنية الأساسية العالمية.

وعلى نحوٍ مماثل، إذا أردنا أن نفهم على نحو أفضل الثقافات الجيوسياسية الروسية، فسيتعين علينا، كما لاحظ الجغرافي مارك بازن، أن نتفهم كيف استحضر الزعماء السياسيون والصحفيون ثلاثة تقاليد جيوسياسية منفصلة. أولًا: فكرة أن روسيا جزء من أوروبا وأن البلاد بحاجة إلى تبني النماذج الغربية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وثانيًا: روسيا إقليم أورو-آسيوي مميز، له شكل الدولة والمجتمع الخاص به. وأخيرًا، روسيا، مثل بريطانيا، هي «الجسر»، الواصل في هذه الحالة بين أوروبا وآسيا. وفي أوقات معينة، قد يكون تقليدٌ جيوسياسي معين مهيمنًا على غيره. والرئيس فلاديمير بوتين ملتزم باستعادة روسيا كقوة عظمى، مع فرض السيطرة على «الخارج القريب»، وهو مصطلح يُستخدم في المعجم الجيوسياسي الروسي للإشارة إلى الأراضي الإقليمية المجاورة التي كانت ذات يوم جزءًا من نطاق الاهتمام في الحقبة السوفييتية.

وعلى مدار التاريخ الفكري للجيوسياسية، نجد أمثلةً لأفراد وجماعات ملتزمة بأشكال مختلفة من التحليل الثقافي والتاريخي، مثل تلك التي نجدها في الجيوسياسية النقدية في وقتنا الحاضر. ويستحق عمل إيف لاكوست وزملائه الباريسيين بعض الإشادة؛ لأن لاكوست كان من أوائل من رأوا حقًّا كيف أن الجيوسياسية كانت تمثل شكلًا من أشكال المعرفة السياسية والاستراتيجية. فقد ألَّف كتابًا في عام ١٩٧٦ بعنوان مثير، وهو «الجغرافيا، قبل كل شيء، معنيَّة بصناعة الحرب»، الذي جاء بعد اهتمام سابق بالطريقة التي استغل بها المخططون العسكريون الأمريكيون المعرفة الجغرافية بشمال فيتنام لاستهداف الأنهار والغابات من أجل إبادة البيئة الطبيعية (أي التدمير المتعمد للنظم البيئية المحلية من أجل إضعاف الخصوم) وإلحاق الضرر بالسكان المحليين. كما درس النظريات الجيوسياسية للرئيس التشيلي بينوشيه الذي كان أستاذًا سابقًا للجيوسياسية في الكلية الحربية التشيلية في ستينيات القرن العشرين. ولقد ألَّف بينوشيه كتابًا ضخمًا عن الجيوسياسية، دافع فيه عن وجهة النظر القائلة بأن الدولة كائن حي فائق، ويمكن القول بأنه وضع النظرية موضع التنفيذ عندما ساعد في الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي الاشتراكية في الحادي عشر من سبتمبر ١٩٧٣. وقد اعتُبر أن الدعم الأمريكي في هذا السياق كان حاسمًا.

زعم لاكوست أن الكتَّاب الجيوسياسيين بحاجة إلى أن يكونوا أكثر انتقادًا لأنفسهم، وأن يؤدوا دورهم في كشف كيف ارتبطت الجيوسياسية بأشكال التعبير عن النزعة العسكرية وسلطة الدولة. ولا تزال دوريته التي تحمل عنوان «هيرودوت» هي الدورية الجغرافية الأكثر تداولًا في العالم الناطق بالفرنسية، وتنشر تحليلات نقدية للأحداث المعاصرة مثل الحرب العالمية على الإرهاب. وعلى الرغم من أن لاكوست لاحظ ذات يوم أنه ليس من الفطنة الإشارة مباشرةً إلى الجيوسياسية، كان يؤمن بالجيوسياسية المدعومة بالتحليلات الإقليمية (أي الإعراب عن التقدير للاختلافات المحلية والإقليمية) وفهم الروابط بين المعرفة الجغرافية والممارسة السياسية.

وأي نوع من الجيوسياسية النقدية جدير بالاحترام سينتبه إلى حقيقةٍ مفادها أن هناك مجموعةً واسعة من الثقافات والتقاليد الجيوسياسية (انظر مربع رقم ٤). تُسلط المجالات الأكاديمية الجديدة، مثل الجيوسياسية التابعة، الضوء على مجال يجذب اهتمامًا مستمرًّا، ويأخذ على محمل الجد الخبرات والمعارف ووجهات النظر الجغرافية البديلة. وبذلك، فإن الأبحاث الجيوسياسية النقدية تتبنى مجموعةً أكثر تنوعًا من أساليب ومناهج البحث، بما في ذلك الإثنوجرافيا، والمقابلات، والانغماس في المجتمعات المحلية والأماكن التي قد تبدو بعيدةً كل البُعد عن مراكز القوة والهيمنة التقليدية.

مربع رقم ٤: الجيوسياسية الصينية والروسية

لأولئك المهتمين بالجيوسياسية الروسية، سيكون أحد أبرز الأمثلة هو ألكسندر دوجين وكتابه الصادر عام ١٩٩٧ بعنوان «أسس الجيوسياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا». وعندما نقرؤه مرةً أخرى بعد أكثر من عشرين عامًا، فلسوف يبدو أنه يردد صدى بعض مبادئ الممارسة الجيوسياسية الروسية المعاصرة، مع التركيز على مصالح الشعوب الناطقة بالروسية واستعادة مجال نفوذ الدولة. ويدعو الكتاب روسيا إلى ضم أوكرانيا ونشر الفوضى في الولايات المتحدة. ولقد وُصِف دوجين بأنه فيلسوف واستراتيجي مُعتمَد من الكرملين، على الرغم من تأرجح أسهم شعبيته بين صعود وهبوط.

قد تُوصَف الجيوسياسية الصينية، تحت قيادة الرئيس شي جين بينج، بأنها أكثر توسعية والتزامًا بتحدي هيمنة الغرب الأخلاقية. إن مبادرة «الحزام والطريق» تقوم على مشروعات البنية الأساسية الصينية التي تولد نتائج مربحة لجميع الأطراف المشاركة من دول ومناطق وشراكات جيوسياسية جديدة من مختلف أنحاء أوروبا وآسيا وأفريقيا. لقد تحدث الرئيس شي عن «تجديد الأمة الصينية»، والجمع بين الاستثمار في القدرات العسكرية والاستثمار المتعدد الجنسيات والتعاون القائم على «المساواة في السيادة». ومن المثير للدهشة أنه على الرغم من كل مخاوف الصين وصراعها مع الولايات المتحدة من أجل أن تصبح قوة عظمى، ترسل الطبقة المتوسطة الصينية أبناءها إلى الجامعات الأمريكية وغيرها من الجامعات الغربية، وتسافر إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، وتعمل بشكل وثيق مع الشركات الأمريكية والأوروبية. وقد درست ابنة الرئيس شي نفسه في جامعة هارفرد.

التقاليد المتعددة

لقد عاد الجزء الأخير من استعراضنا الموجز للجيوسياسية كمصطلح فكري، وتطرق إلى الولايات المتحدة والعالم الناطق بالإنجليزية. وكما أشرت من قبل، يلزم استكمال هذا الحديث بتحذير. قد توصف القصة المقدمة هنا بأنها قصة ظهور، وشهرة، وتدهور، وانبعاث. ومع ذلك، لو كان تركيز هذا الفصل منصبًّا على تجارب أمريكا الجنوبية، لسردنا قصةً مختلفة تمامًا. وأحد الأسباب هو أننا ما كنَّا سنشغل أنفسنا إلى هذا الحد بوصمة العار المزعومة الملتصقة بالنازية. ففي أماكن مثل الأكاديميات العسكرية في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وباراجواي، التي تمتعت بعلاقة وثيقة مع الجيشين الإيطالي والألماني، واصل الضباط التدريس والنشر في مجال الجيوسياسية طوال الفترة التي أعقبت عام ١٩٤٥. وتُرجمَت الكتابات الجيوسياسية الألمانية إلى الإسبانية والبرتغالية في وقت كان الجغرافيون الأمريكيون يحثون أقرانهم على تجنب استخدام المصطلح ودلالاته البغيضة. وفي قارة هيمنت عليها أنظمة الحكم العسكري طوال معظم فترة الحرب الباردة، ازدهرت الجيوسياسية دون اهتمام رسمي كبير بالدلالات النازية والسياسات المرتبطة بها المتمثلة في النزعة التوسعية والهيمنة على المكان.

لم يرحب الباحثون في الاتحاد السوفييتي، الذين كانوا لا يزالون يعتبرون الجيوسياسية موصومةً أيديولوجيًّا بالنازية، بهذه العودة للاهتمام بالجيوسياسية، وخاصةً في ثمانينيات القرن العشرين. وفي حين أن الاستخدام الرسمي للمصطلح في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أكثر بكثير، فإن ذكريات الحرب العالمية الثانية والخسائر السوفييتية الفادحة في الأرواح المرتبطة بها لعبت دورًا في تشكيل ردود الفعل الأكاديمية على هذا الاهتمام الجديد في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. وبعد خمسين عامًا، يبدو أن هذه الوصمة قد زالت، واستعان جيل جديد من المحللين الروس والأوزباكستانيين اليمينيين بالأساس بكتَّابٍ جيوسياسيين سابقين، مثل هالفورد ماكيندر تحديدًا، للتفكير مليًّا في المصائر الجيوسياسية لبلدانهم. ومن بين مجالات الاهتمام المتصاعد، الأهمية الاستراتيجية لآسيا الوسطى وظهور ما يُسمى ﺑ «اللعبة الكبرى» بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. تسعى الولايات المتحدة والصين إلى توسيع استثماراتهما العسكرية واستغلالهما للموارد في منطقة تتسم بأن مواردها من النفط والغاز الطبيعي في بحر قَزوِين غير مُستغلة إلى حد كبير، الأمر الذي يثير قلق روسيا.

والنقطة الأخيرة التي يجب التأكيد عليها، بصرف النظر عن التاريخ الفكري المتنوع للجيوسياسية، هي أنه لا ينبغي إساءة فهم القسم الأخير عن الجيوسياسية النقدية. فمجموعة صغيرة فقط من الباحثين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى يمكنهم أن يصفوا أنفسهم بأنهم باحثون متخصصون في الجيوسياسية النقدية. وفي معظم البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، لا يهتم معظم الأشخاص الذين يستخدمون مصطلح الجيوسياسية بفهم هذا التاريخ الفكري المُعقَّد. وعلاوةً على ذلك، فإنهم يستخدمون الجيوسياسية كمصطلح مختصر يهدف عادةً إلى إضفاء نوع من الاحترام (الذكوري) على عملهم والاستعداد للتأمل وإعداد تقارير عن الحقائق الجغرافية القاتمة للسياسات العالمية. وكثيرًا ما تزعم المنظمات والمجلات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها مثل «ستراتفور» و«بلومبرج» و«فوربس»، على نحو يذكرنا بالكتَّاب الجيوسياسيين السابقين، امتلاكها القدرة على رؤية العالم وتقديم تنبؤات واثقة ومختصرة حول تكوينه المستقبلي، وعادةً ما يكون ذلك لصالح بلد معين أو شركة/حامل أسهم شركة ما على النقيض من الآخرين. وتحفز وسائل التواصل الاجتماعي على إنتاج المزيد من مقاطع الفيديو القصيرة والبودكاست التي تعد بإيجاز مواقف جيوسياسية معقدة في ملخصات مدتها ثلاثين ثانية.

ويهدف كتَّاب الجيوسياسية النقدية إلى التدقيق في هذه الادعاءات، واقتراح طرق جغرافية أخرى لتمثيل العالم وفهمه إذا لزم الأمر. وقد يشمل هذا، على سبيل المثال، التركيز على الأمن البشري والطبيعة الجنسية للجيوسياسية العالمية، وهو ما يعني غالبًا أن النساء والأطفال أكثر عُرضةً للعنف الجيوسياسي وأوجه الإجحاف الجيواقتصادية. إن الطبيعة الجنسانية للسياسة العالمية وأوجه الإجحاف الجيواقتصادية في نظام التجارة العالمي تستحق المزيد من الإيضاح. وأخيرًا، يتعين على العلماء المتخصصين في الجيوسياسية النقدية التفكر بقدر أكبر بكثير في السرديات التاريخية البديلة للجيوسياسية، بما في ذلك دور المعارف ووجهات النظر للجماعات الأصلية والتابعة. فثَمة سرديات تاريخية وثقافات وتقاليد جيوسياسية متعددة.

ويزعم الجغرافيون السياسيون، مثل جو شارب وجيمس تاينر، أن السرديات التاريخية الفكرية الخاصة بالجيوسياسية تبالغ في التركيز على أوروبا والأمريكيتين على حساب الأجزاء الأخرى من العالم. ففي بحثها الذي أجرته عن شرق أفريقيا، تستكشف شارب كتابات الزعيم التنزاني السابق جوليوس نيريري واهتمامه الجيوسياسي الشامل بأفريقيا، الذي سعى إلى «سبيل وسط» بين الجيوسياسية الثنائية القطب للحرب الباردة. وعلاوة على ذلك، تزايد اعتبار هذه التدخلات ما بعد الاستعمارية تحديًا صريحًا للتنظير الجيوسياسي، الذي يعطي الأولوية لرؤى دول أوروبا وأمريكا الشمالية وتجاربها وثقافاتها وأنظمتها العالمية.

وفي جوهر الأمر، لا تعتمد الجيوسياسية التابعة على كشف الطبيعة المركزية الأوروبية للتنظير الجيوسياسي السائد فحسب، بل إنها تشارك أيضًا في إنتاج رؤيتها الخاصة عن السياسة العالمية، والاعتراف بالضعف المشترك، والمصالح الجماعية، والسرديات التاريخية والجغرافية السابقة للإجحاف. كلمة «تابعة» في هذا السياق لا تعني مطلقًا التهميش أو الضآلة، بل تعني موقفًا نقديًّا تجاه أولئك الذين يزعمون أنه ينبغي اعتبار تجاربهم وفهمهم عالميين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥