البنى الجيوسياسية
يُستخدم مصطلح «البنية الجيوسياسية» لوصف الطرق التي تستخدمها الدول والمنظمات غير الحكومية للوصول إلى التقاطعات بين الأراضي الإقليمية والتدفقات وإدارتها وتنظيمها؛ ومن ثَم إقامة حدود بين الداخل/الخارج، والمواطنين/الأجانب، والمحلي/الدولي. لذا، عندما نتحدث عن النظام الدولي، فإننا ندرك أن هناك سماتٍ جغرافيةً معقدة تدعم الدعاوى إلى الانفتاح الاقتصادي، والقانون الدولي، والتنمية المؤسسية، والتضامن الديمقراطي، والتعاون الأمني.
من الناحية التاريخية، كانت هناك سلسلة من هذه البنى الجيوسياسية التي أعادت تنظيم العلاقة بين المساحات والتدفقات؛ أحيانًا بالمعنى الحرفي للكلمة من خلال فرض السيطرة على المعابر النهرية والممرات الجبلية وأسوار المدن وأنواع أخرى من الحواجز الطبيعية والبشرية. ومع اقترابنا من الحقبة المعاصرة، يزداد استغلال الحدود والبنية التحتية الحدودية. على سبيل المثال، تستثمر الحكومات الحديثة بشدة في تنظيم حدودها؛ لأنها توفر نقطة الدخول/الخروج إلى إقليم وطني. وتصبح مثل هذه الضوابط الحدودية أيضًا عنصرًا مهمًّا في إظهار السيادة الفعلية.
ولكي نفهم هذه التحولات والآثار المترتبة عليها عند وضع النظريات الجيوسياسية، يتعين علينا أن نأخذ في الاعتبار موضوعين أساسيين؛ أولًا: مصطلح السيادة وكيف يؤثر على أنشطة الدولة الإقليمية/الحدودية، وثانيًا: البنية الجيوسياسية للقرنين العشرين والحادي والعشرين، التي تسلط الضوء على الكيفية التي تحاول بها الدول على وجه الخصوص السيطرة على المساحات التي يُنظَر إليها على أنها فوضوية وغير خاضعة للحكم وتنظيمها. ومع اشتداد عولمة الشئون البشرية وغير البشرية، زادت الدول على وجه الخصوص من استثمارها في تنظيم العلاقة بين التدفقات والأراضي الوطنية و/أو سعت لتعزيز أمن حدودها.
كان الافتراض الأساسي الذي استند إليه قدر كبير من المناقشات التي دارت، في الغرب على الأقل، في الفترة التالية على الحرب الباردة، هو أن هناك مصلحةً مشتركة في إدارة النظام العالمي. وسوف يحل محل الجيوسياسية للحرب الباردة عصرٌ جديد من الجيواقتصادية (وهو مصطلح يُستخدم للتأكيد على تداخل الاقتصاد الدولي والاستراتيجية والجيوسياسية). وفي هذا العالم الجديد، كانت السياسة التجارية، والاستثمار الأجنبي المباشر، وتجارة السلع الأساسية والعقوبات الأجنبية أكثر فائدةً من القوات العسكرية ووسائل الردع النووي.
ولكن النبرات السابقة المعبرة عن التفاؤل تغيرت. فقد أصبح من الشائع الآن أن نقرأ عن عودة الجيوسياسية الخالصة المُستلهمة من النزعات القومية والقوة العسكرية. ويزعم عالم السياسة الأمريكي جون أيكنبيري أن «الهيمنة الليبرالية» التي دامت قرنين من الزمن، التي صاغت فيها المصلحة الشخصية السياسية والاقتصادية سلسلةً من التوقعات ومعايير السلوك، تقترب من نهايتها. ففي حقبة بوتين وترامب والبريكست، لم يعد من الآمن أن نفترض أن الجهات السياسية الفاعلة ملتزمة بنظام دولي منفتح وقائم على القواعد. وبهذه القراءة المتشائمة للسياسة العالمية، عادت المؤامرات الجيوسياسية إلى المشهد؛ لأن الجهات الفاعلة السياسية أصبحت أقل التزامًا بالقواعد والقيم الليبرالية والدعم المؤسسي والتعاون. وحلت الجيوسياسية الشعبوية محل الجيواقتصادية.
يقدم هذا الفصل قراءةً أكثر عمقًا للنظام الدولي ما بعد الليبرالية؛ لأن البنية الجيوسياسية الأساسية التي تشمل الدول وغيرها من الهيئات غير الحكومية من الأفضل أن نفكر فيها على أنها ديناميكية ومتباينة إلى حد كبير. وفي الحقبة التي أعقبت الحرب الباردة، خضعت الطريقة التي ننظم بها عالمنا ونحدد بها أدوار المنظمات مثل الأمم المتحدة ومسئولياتها وسلوك الدول لتدقيق مكثف. أحد المخاطر التي يجب علينا مقاومتها هو التفكير في أن الدول غير الغربية، مثل الصين وروسيا، هي المسئولة عن أزمة العولمة والنظام الدولي الليبرالي. من وجهة نظر منتقدي السياسات الخارجية الأنجلو-أمريكية، كان الغزو المثير للجدل للعراق في عام ٢٠٠٣، وتغيير نظام الحكم في ليبيا في عام ٢٠١١ (مع الادعاء بأن العمل العسكري كان يهدف إلى حماية المدنيين)، والحرب على الإرهاب، مسئولين جزئيًّا عن هذا الاضمحلال لنظام قائم على القواعد. لقد أدى تزايد التفاوت داخل البلدان الأوروبية والولايات المتحدة إلى زيادة الضغوط على ما إذا كان «النظام» قادرًا على حماية مصالح «الشعب» وليس النخبة و/أو المهاجرين. وتُذكِّر ويندي براون قراءها بأن السيادة ربما تكون في طريقها إلى التضاؤل مع كفاح الحكومات في جميع أنحاء العالم للحصول على شرعية شعبية، والسعي إلى تحقيق «الأمن القومي».
ولكن هل تدل عودة مشروعات بناء الجدران العازلة والجدران الحدودية على ظهور نظام دولي ما بعد ليبرالي؟ إن إحدى أقوى الطرق التي تعبر بها الدول عن عزمها على السيطرة على الحركة والانتقال (أو على الأقل محاولة تنظيمهما) تكون من خلال بناء الجدران العازلة والحواجز الحدودية. قد يعوق الجدار حركة الناس والأشياء، ولكنه قد يساعد أيضًا في تنظيمها من أجل الإبطاء والمراقبة، وبالأساس السيطرة. ومع ذلك يمكن التحايل على الجدران والحواجز وهدمها وتجاهلها. كما يمكن للجدران أن تولد اقتصاد «السوق السوداء» الذي يشمل المهربين، والعصابات الإجرامية، وضباط الحدود الفاسدين، والمواطنين من مختلف أنحاء العالم الذين يحاولون المرور عبر هذه الحواجز. سيفشل كثيرون منهم، وسيتعرض بعضهم لإصابات خطيرة، ويلقى آخرون حتفهم بشكل مروع في تلك المناطق الحدودية وفيما حولها. وتشمل بعض أبرز الأمثلة على الجدران والحواجز الحدودية تلك الموجودة بين الولايات المتحدة والمكسيك والجدار العازل في الضفة الغربية، الذي أُعلنَ أنه غير قانوني، ويُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره محاولة من جانب حكومة إسرائيل لاستعمار المزيد من الأراضي و/أو جعل المجتمعات الفلسطينية أقل استدامة. تتناقض هذه الجدران والحواجز بوضوح وصراحة مع الروح الأساسية للنظام الدولي المنفتح والعولمة، وليس السُّتر الحديدية والحمائية والتكتلات الأمنية.
السيادة الوطنية والنظام الدولي
للأفكار والممارسات المرتبطة بالسيادة والحدود أهمية بالغة في تشكيل البنية الجيوسياسية السائدة القائمة على الدول والحدود والسيادة والأراضي الوطنية. وكما يلاحظ ستيفن كراسنر، فإن الحكومات الوطنية، رغم تأييدها لأهمية السيادة الإقليمية الحصرية، انتهكت على نحوٍ متكرر تلك الأفكار والمبادئ التي وردت في الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة. ناهيك عن عمليات الغزو البارزة للدول، فإن سلطات الدولة كثيرًا ما تتجسس وتستقصي وتُنفذ عمليات سرية تنتهك السيادة الإقليمية لدول أخرى. على سبيل المثال، تتمتع الولايات المتحدة بقدرة عالمية على التجسس والمراقبة بفضل وكالات متخصصة مثل وكالة الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية. ولكن هذا لا يجعلها فريدةً من نوعها. فقد اتهم آخرون دولًا أخرى، مثل الصين وروسيا وإيران وإسرائيل، بمجموعة من الأنشطة من بينها التجسس الصناعي وانتهاك الأراضي والمراقبة خارج حدود البلاد.
تسمح الحكومات طواعية بانتهاك سيادتها الوطنية من خلال تشجيع تدفقات معينة من الاستثمار والعمالة الماهرة والأفكار. وتذكرنا مصطلحات مثل «تجميع السيادة» بأن الدول والحكومات قد لا تعتبر أراضيها دائمًا ذات سيادة كاملة. ومع توسع الاتحاد الأوروبي، شجعت الحكومة البريطانية هجرة العمالة من دول مثل بولندا وسلوفاكيا، وفي الواقع ربما تكون قد استفزت عن غير قصد بعض المواطنين البريطانيين للتصويت ضد استمرار العضوية في الاتحاد الأوروبي في يونيو ٢٠١٦. يتمثل التوتر المتأصل في عالم يتألف من دول قومية ذات حدود وأقاليم وطنية مميزة، في كيفية إدارة مثل هذه الكيانات عندما يكون الناس والسلع والأفكار والتقنيات، وأشياء وأغراض أخرى مثل الأمراض، قادرةً على عبور هذه الحدود والخطوط المرتبطة بها على الخريطة.
وفي حالات أخرى، ربما تطالب الحكومات بالتدخل الإنساني و/أو العسكري عند مواجهة أدلة دامغة على انتهاك حقوق الإنسان والمعاناة. ففي تسعينيات القرن العشرين، كان هناك دعم لمبدأ «مسئولية الحماية» في أعقاب الأزمات الواقعة في يوغوسلافيا السابقة والصومال والعنف المتمثل في الإبادة الجماعية في رواندا. وبموجب هذه المبادرة، يمكن انتهاك السيادة إذا لم تتمكن الحكومات أو لم ترغب في حماية أرواح المدنيين. في بعض الأحيان، قد تعرب الحكومات عن غضبها إزاء انتهاكات السيادة وهي تشجع سرًّا هذا التصرف. قد تندرج الضربات الجوية الأمريكية بالطائرات المُسيرة في باكستان أثناء الحرب على الإرهاب ضمن هذه الفئة، ويجري التعبير عن «الغضب» كجزء مما قد نفكر فيه باعتباره تداول السيادة. ففي المقابل، زودت الولايات المتحدة الحكومات الباكستانية بالدعم الاستخباراتي والعسكري. وعند التفكير في السيادة، باعتبارها لبنةً أساسية للبنية الجيوسياسية، وهو تصوُّر يعتمد على قبول نسخة مثالية من السيادة لا تتطابق دائمًا مع ممارسات الواقع، من المفيد التمييز بين أربعة أنواع مختلفة للتفسير.
- أولًا: يشير المحللون في كثير من الأحيان إلى المظاهر القانونية الدولية للسيادة في شكل عضوية الأمم المتحدة، والقدرة على التفاوض والتصديق على المعاهدات إلى جانب العمل العام المرتبط بالدبلوماسية. وفي صميم هذه الأنشطة، توجد فكرة مفادها أن الدول تعترف بالدول الأخرى؛ ومن ثَم تقبل أن لديها القدرة المتأصلة على ممارسة علاقات «دولية». وحتى لو كانت الحكومات الأخرى تكره دولةً ما وقيادتها السياسية، فإن هذا الاعتراف الأساسي هو مسألة جوهرية. ففي الأسابيع والأشهر التي سبقت غزو العراق في عام ٢٠٠٣، تعيَّن على الولايات المتحدة وحلفائها التفاوض مع الممثلين الدبلوماسيين لصدام حسين داخل الأمم المتحدة والتعامل معهم. وفي حالات أخرى، قد لا تعترف بعض الدول بقدرة الدول الأخرى على ممارسة علاقات دولية تحديدًا؛ لأنها تُعتبر غير قادرة على إدارة أراضيها الوطنية، ناهيك عن التعامل مع العالم الأوسع نطاقًا. وقد استُخدمت مصطلحات مثل «الدول الفاشلة» و«أشباه الدول» للإشارة إلى أن بعض البلدان في مناطق مثل غرب أفريقيا ووسطها لا تستطيع أن تفرض السيطرة الحصرية على أراضيها أو تقوم بتأمين النظام الداخلي. بعبارة أخرى، كثيرًا ما تصور الحكومات الغربية دولًا مثل الصومال و/أو جمهورية الكونغو الديمقراطية على أنها دول ضعيفة، فضلًا عن كونها غير قادرة على تنظيم حركات تدفق المخدرات والأموال والأسلحة. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أن بعض أوائل الكتَّاب الجيوسياسيين مثل شيلين اعترضوا على هذا المفهوم القانوني المُغالي الخاص بالسيادة تحديدًا؛ لأنه أهمل حقيقةً مفادها أن المعالم الجغرافية للسياسة العالمية كانت تتسم بتنوع هائل. لذا، فإن مصطلحات مثل «الدولة الفاشلة» تعترف جزئيًّا بأن قدرات الدول تتفاوت حتى وإن كانت تتمتع باعتراف دولي مماثل لغيرها من الدول.
- ثانيًا: قد نعدُّ السيادة مشروطة بالاعتمادية المتبادلة. ففي عصر العولمة المستشرية، لم يعد مقبولًا افتراض أن الدول تتمتع بالسيطرة الحصرية على أراضيها وعلى التدفقات المصاحبة لها مع مستويات التنقل المرتبطة بها. فحتى أقوى الدول في العالم مثل الولايات المتحدة والصين اضطرت إلى الاعتراف، بطرقها المختلفة، بأن الاعتمادية المتبادلة قد غيَّرت من وجه السياسة وصنع السياسات، على الرغم من أنها لم تتسبب في تراجع سيادة الدولة بالكامل. ففي بعض مجالات الحياة الاجتماعية، كتلك التي يشملها الأمن القومي، حاولت الدول أن تتجاوب مع الاعتمادية المتبادلة من خلال تعزيز السيطرة الحكومية، إلى جانب، في حالة الدول الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، السيطرة الإقليمية من خلال مراقبة الهجرة والتحكم فيها، مع تقاسم أو حتى التنازل عن السيادة الرسمية في مجالات مثل حماية حقوق الإنسان والتعاون الاقتصادي. ويُشار إلى هذا أحيانًا باسم «السيادة المجمعة». وظل التطبيق انتقائيًّا ومشروطًا وغير كامل؛ لأن منطقة الحدود المفتوحة التي ابتكرتها اتفاقية شنجن لم تجتذب مطلقًا كل الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيث لم تشارك مطلقًا دول مثل المملكة المتحدة وأيرلندا، في حين أن الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل دولة الفاتيكان مشارِكة بحكم الأمر الواقع.
-
ثالثًا: إذا فحصنا السيادة من منظور محلي بحت،
فسندرك أن بعض الدول أكثر قدرة من غيرها
على ممارسة السيطرة على أراضيها
الوطنية. والواقع أن مقارنة الولايات
المتحدة بجمهورية الكونغو الديمقراطية
ستكون قاسية، حيث استُنزفَت الكونغو في
سلسلة من الصراعات منذ أواخر تسعينيات
القرن العشرين، مما أدى إلى مقتل
الملايين، والاغتصاب الجماعي للنساء
والفتيات، وتدمير القرى. ولا تمارس
الحكومة الوطنية التي مقرها كينشاسا
سيطرةً فعَّالة على أراضيها الشاسعة،
وشجَّع هذا بلدانًا أخرى على المساهمة في
زعزعة الأمن والاستقرار من خلال تمويل
الميليشيات المنافسة. فخلال الحرب
الباردة، كان البلد، الذي كان يُسمى
سابقًا زائير، محكومًا بنظام بلوتوقراطي
برئاسة موبوتو (١٩٦٥–١٩٩٧)، وكانت بلدان
أخرى مثل الولايات المتحدة تتسامح معه؛
لأنه كان يُعَد حليفًا أساسيًّا
مناهضًا للشيوعية في وسط أفريقيا. تمكن
موبوتو من الحفاظ على شكل من أشكال
السيادة المحلية على البلاد؛ لأنه استخدم
قواته المسلحة الممولة جيدًا (بدعم من
صادرات المعادن والنفط) لقمع أي شكل من
أشكال المقاومة والاضطرابات. وتغير هذا
بعد وفاته في عام ١٩٩٧ أثناء وجوده في
المنفى بالمغرب.
مع ذلك، فحتى الدول القوية مثل الولايات المتحدة التي تتمتع ببنًى أساسية مستقرة وهياكل إدارية راسخة تجاهد من أجل ممارسة السيطرة السيادية الكاملة. ومراقبة الهجرة واحدة من هذه المسائل، وخاصةً فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بين الولايات المتحدة والمكسيك، والتي لا تزال تُسبب مشكلات للسلطات الفيدرالية. فتجاهد الدوريات الحدودية الأمريكية بصفة يومية لتنظيم حركة الأشخاص عبر مناطق ريو جراندي والمناطق الصحراوية لجنوب غرب أمريكا، رغم الاستثمار الإضافي في الأفراد والمركبات ومعدات الاستشعار. ونظرًا لهذه الصعوبات، فقد كوَّن المواطنون الأمريكيون جماعات قَصاص غير نظامية مثل مشروع مينتمان لتفتيش أولئك الذين يعتزمون دخول الولايات المتحدة بصورة غير قانونية وملاحقتهم. ومع ذلك، لا تهتم هذه الجماعة بالهجرة فحسب، بل تعرب عن مخاوفها بشأن وضع أمريكا الناطقة باللغة الإنجليزية والتحدي المتزايد الذي تُشكله المجتمعات الناطقة بالإسبانية في الجنوب الغربي.
-
رابعًا: تعترف الأطراف الأخرى صراحةً بالسيادة
عندما تحترم مبدأ عدم التدخل. وفكرة أن
الدول ينبغي أن تكون قادرةً على تسيير
شئونها الخاصة دون تدخل من قوًى خارجية،
التي طوَّرها رجل القانون السويسري
إيمريش دي فاتيل، هي عنصر حيوي في
البنية السياسية الحالية. وفيما يخص
الدول التي انبثقت من ظلال الاستعمار
الأوروبي، كان هذا الأمر ذا أهمية خاصة
في تسهيل تشكيل حكومات ما بعد
الاستعمار. ومع ذلك، تكرر تدخل
الإدارتين الأمريكية والسوفييتية في
شئون البلدان الأخرى، وخاصةً تلك
الموجودة فيما يُسمى بالعالم الثالث،
سواء على شكل عمليات غزو عسكرية وحصار
اقتصادي واختراق ثقافي وتهميش سياسي
وفرض عقوبات أو كل مما سبق. على سبيل
المثال، غزت الولايات المتحدة جمهورية
الدومينيكان في عام ١٩٦٥، وزعزعت استقرار
تشيلي في عام ١٩٧٣ لأنها خشيت من ظهور
المزيد من الحكومات الاشتراكية في
الأمريكتين في أعقاب التعضيد الناجح
للثورة الكوبية عام ١٩٥٩ المرتبطة
بزعامة فيدل كاسترو. وأرسل السوفييت
دبابات إلى بودابست في عام ١٩٥٦، ثم إلى
براغ في عام ١٩٦٨ من أجل سحق الحكومة
الإصلاحية هناك. وكان الدافع الأساسي
للبنية الجيوسياسية لفترة الحرب الباردة
هو الاحتواء المكاني؛ ومن ثَم السعي إلى
تقييد حركة الناس والأفكار والأشياء،
ولا سيما إذا كانت نابعةً (كما في حالة
الولايات المتحدة) من الاتحاد السوفييتي
وحلفائه.
وفي مناحٍ أخرى من الحياة الدولية، تُشجع العديد من الدول بجدية على تعديل مبدأ عدم التدخل أو تخفيفه، كما يبدو من التطورات في مجال حماية حقوق الإنسان التي من شأنها أن تشهد على ذلك. فلم يستجب المجتمع الدولي — ممثلًا في الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة — بسرعة دائمًا للأدلة المبرهنة على حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ووقوع إبادة جماعية في أماكن مثل دارفور (السودان) وسوريا، على الرغم من الغضب من جانب جماعات الضغط، والمشاهير مثل جورج كلوني، ودول أخرى خارج المنطقة.
بعض الدول تكون أقدر على ممارسة ما قد تعده سيادة فعَّالة؛ بمعنى أنها تدعي القدرة على السيطرة على أراضيها الوطنية وإدارتها وتنظيم تدفقات الأموال والبشر والسلع والأفكار والتكنولوجيا أو أيٍّ مما سبق. وتمتلك دول أخرى قدرات أكبر خارج حدودها الإقليمية، مثل الولايات المتحدة والصين؛ ولذلك فهي قادرة على تسيير علاقات عالمية حقيقية. وبطبيعة الحال، أدرك بعض المفكرين الجيوسياسيين الأوائل هذه القدرة على التدخل والتعامل مع دول أخرى ومجتمعات أخرى ومناطق أخرى. وكما لاحظ هالفورد ماكيندر، فمن المرجح أن تتميز الحقبة ما بعد الكولومبية بعلاقات أكثر كثافةً مع إدراك الدول أن العالم كان آخذًا في التقلص بواسطة تقنيات جديدة من بينها وسائل النقل. وقد أصبح تقلص الوقت والمساحة أشد، وصار مصطلح العولمة يُستخدم على نطاق واسع لتلخيص تلك التحولات في التجربة الإنسانية بغضِّ النظر عن الحجج الدائرة حول حدتها الجغرافية وأهميتها.
البنية الجيوسياسية في عصر العولمة المستشرية
قبل أن نتأمل أنماطًا أكثر معاصَرةً، دعنا نطرح هذا السؤال: ما العولمة؟ يشير المصطلح إلى حركة الناس والأفكار والتكنولوجيا والسلع من مكان إلى آخر وما يترتب عليها من آثار على العلاقات الإنسانية. فمنذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أصبحت هذه التدفقات أكثر كثافةً على نحو تدريجي، وغالبًا ما كانت لها آثار شديدة على السكان الأصليين فيما وُصف لاحقًا بالعالم الأول والثاني والثالث. كان الهولنديون والبرتغاليون والإسبان والبريطانيون والفرنسيون في طليعة هذا المشروع العالمي، وكانت «المواجهة الاستعمارية» بمثابة البداية للتجارة العالمية في السلع والبشر بما في ذلك الاتجار في العبيد. وساعدت الكيانات العالمية، مثل شركة الهند الشرقية الهولندية، بتأييد من رعاتها الإمبراطوريين، في بناء وإدارة شبكات التجارة هذه.
بحلول القرن التاسع عشر، بدأت قوة قارية جديدة، ألا وهي الولايات المتحدة، في فرض حضورها فيما يتعلق بتدفقات البشر والسلع والأفكار، بالإضافة إلى الاستحواذ على أراضٍ في المحيط الهادئ ومنطقة البحر الكاريبي. ومع تزايد نمو الاقتصاد العالمي في الفترة نفسها، زادت الحاجة إلى التنسيق الدولي، وابتكر مؤتمر خط الطول الدولي لعام ١٨٨٤ خط جرينتش باعتباره خط الطول الرئيسي؛ ومن ثَم سهَّل رسم خريطة عالمية جديدة للمناطق الزمنية المتفق عليها. وبحلول أوائل القرن العشرين، زادت الاتصالات الاجتماعية والسياسية والثقافية بسبب الطيران والسيارات والتجارة الدولية. وفي نهاية القرن الماضي، ومع اتساع النظام الدولي وتعمقه، لم تعد الجغرافيا، من منظور المساحة المادية، تمثل عائقًا أمام التنقل البشري.

رغم أنه كثيرًا ما أُعلنَ عن «نهاية الجغرافيا»، مثلما أُعلنَ قبلئذٍ عن «نهاية التاريخ»، فإن النطاقات الجغرافية المتنوعة للعولمة قد سلطت الضوء على أهمية الحدود، والمسافة، والاتصال البيني، والمسئوليات. فمنذ القرن السابع عشر، سعت الدول الأوروبية، وفيما بعدُ دول أخرى مثل الولايات المتحدة، سعيًا حثيثًا إلى إدارة العلاقة بين الأقاليم الوطنية والتدفقات المصاحبة لها من البشر، والسلع، والأفكار، والأموال. وحسبما أشار جيريت جونج، فإن القرن التاسع عشر بشَّر بإرساء «معايير الحضارة» التي مكنت الدول الأوروبية من تحديد الشكل الحالي والمستقبلي للنظام الدولي والمعايير التي نالت بها الدول الجديدة الاعتراف القانوني من خلال شكل من أشكال «السيادة المكتسبة». وتشكل السيادة المكتسبة بأشكالها العديدة والمتنوعة عنصرًا أساسيًّا في العولمة؛ لأنها تساعد على توفير «القواعد» و«التوقعات» للنظام العالمي.
في الماضي القريب، كانت الولايات المتحدة، باعتبارها «قوة عظمى»، في طليعة الدول التي عملت على إرساء نظام ليبرالي دولي قائم على القواعد. وكان لها دور فعَّال في إنشاء مؤسسات ما بعد عام ١٩٤٥، مثل الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام ١٩٤٨. ففي ميثاق الأمم المتحدة، على سبيل المثال، تقبل الدول أن لمجلس الأمن الحق في تحديد ما يشكل تهديدات للسلم والأمن الدوليين، وأن الدول يجب أن تمتثل لقرارات معينة تتعلق بهذه التهديدات. وبصورة أعم، كانت هناك فجوة بين السيادة القانونية والسيادة الفعلية بمعنى أن «السيادة» قد أُسيءَ استخدامها وتقسيمها وتقاسمها. كذلك تحاول الدول حماية «سيادتها» والحفاظ عليها، سواء تضمن ذلك بناء الحواجز أو تقييد الحركة أو الانخراط في عدوان إقليمي على آخرين.

إذا أردنا أن نفهم على نحو أوفى كيف تغيرت الجيوسياسية العالمية، فإننا بحاجة إلى دراسة كيف تصدت الدول للعمليات المرتبطة بالعولمة، وقاومتها، ونظمتها، وهذا من ضمن أمور أخرى. ويتحدث جون أجنيو عن أنظمة الحكم السيادية، ويفرق بين أنواع مختلفة من الأنماط المكانية والعلاقات بين سيطرة الدولة وسلطتها التي تتشابك مع الحدود الوطنية والإقليمية. ولذا، بدلًا من اعتبار سيادة الدولة وأشكال العولمة في حالة تنافس فيما بينهما، يحدد أجنيو أشكالًا مختلفة من «دول مؤيدة للعولمة». وإذا كان الفكر الجيوسياسي التقليدي منشغلًا في الماضي بالدول والثروات المتغيرة للإمبراطوريات الأوروبية، فقد استكشفت أحدث الكتابات دور الجهات الفاعلة غير الحكومية والشبكات والمنظمات الإقليمية والشركات العابرة للحدود الوطنية والمنظمات الحكومية الدولية. وفي حين تظل الدول ومفاهيم مثل السيادة ذات أهمية كبيرة، تُغيِّر شبكة من الاعتمادية المتبادلة والتعايش المشترك من طبيعة العلاقات الدولية والنطاقات الجغرافية العالمية المصاحبة لها. من الشائع الآن أن نقرأ أن الدول تمتلك حدودًا متعددة، وأنه يُعبَّر عن الحوكمة بأسلوب أكثر عالميةً وتعددية في الأقطاب؛ إذ تلعب مؤسسات مثل البنك الدولي، والأمم المتحدة، وشركات الإعلام العالمية، ومنظمة التجارة العالمية أدوارها في تشكيل السلوك العالمي.
إن مفهوم القوة مهم هنا بسبب الأدلة المتزايدة التي تؤكد أن الدول اضطرت إلى التكيف مع مزيد من المسائل والتدفقات التي لها القدرة على تجاوز الحدود الدولية والسيادة الحصرية. تشمل القائمة بلا شكٍّ تغير المناخ العالمي، وحقوق الإنسان، والاتجار بالمخدرات، وشبح الإبادة بالأسلحة النووية. وعلى مدار الستين سنةً الماضية، قيل إن شكلًا معينًا من أشكال النظام العالمي قد ساد بعد هزيمة اليابان وألمانيا في عام ١٩٤٥. وقد اتسم هذا النظام، برعاية الولايات المتحدة المنتصرة وحلفائها ومن بينها بريطانيا، بثلاث سمات رئيسية هي إقامة اقتصاد رأسمالي عالمي، وتكوين الأمم المتحدة، وتعزيز الديمقراطية الليبرالية. ولعبت الولايات المتحدة دورًا جوهريًّا في خلق نظام اقتصادي جديد قائم على تكوين مؤسستين: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكانت هاتان الجهتان، اللتان تم التفكير في إنشائهما لأول مرة في بريتون وودز، بنيو هامبشاير، في عام ١٩٤٤، تهدفان إلى إرساء دعائم الاستقرار الاقتصادي الدولي وتوفير الأموال لإعادة الإعمار بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
ونشأ عن ذلك ما يُسمى بنظام بريتون وودز. وكان الغرض منه تأسيس الهيئات المؤسسية ووضع القواعد الحاكمة للعلاقات التجارية والمالية فيما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من المقرر في خِضم هذه العملية إبعاد شبح الأشكال العدوانية من القومية الاقتصادية. وفي قلب هذا النظام، كانت هناك أربع وأربعون دولة حضرت مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي في يوليو ١٩٤٤. وما إن جرى التصديق عليه في عام ١٩٤٦، حتى كان لزامًا على كل دولة أن تقبل بأن سعر صرف عملتها سوف يظل ضمن نطاق قيمة ثابتة حتى يتسنى لصندوق النقد الدولي المساعدة في تعزيز وإدارة الاستقرار المالي العالمي. وفي عام ١٩٧١، انهار نظام العملات الثابتة، وأوقفت الولايات المتحدة التحويل من الدولار إلى الذهب.
وبعد عام ١٩٧١، لم تعد العملات الدولية مرتبطةً بأسعار صرف معينة، وزادت التدفقات المالية الدولية. وبرز عدد من مدن العالم، مثل نيويورك وباريس ولندن، كمراكز رئيسية في حقبة ما بعد بريتون وودز. ومع ازدياد اندماج المراكز المالية العالمية وترابطها في شبكات فيما بينها، أعرب البعض عن قلقه من أن هذه «المدن العالمية» بينها قواسم مشتركة أكثر من قواسمها المشتركة مع أراضيها الداخلية المحلية. ففي لندن، أدى تدويل سوق الأوراق المالية في ثمانينيات القرن العشرين إلى تدفق الثروة وزيادة المضاربات؛ مما أدى إلى فرض ضغوط تضخمية على أسواق العقارات.
لم يكن نظام بريتون وودز سوى عنصر واحد في هذا الاستثمار من أجل إعادة البناء. وكان تكوين الأمم المتحدة في عام ١٩٤٥ جزءًا لا يتجزأ من إدارة سلوك الدول وتنظيمه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولعب ميثاق الأمم المتحدة دورًا رئيسيًّا في إرساء السيادة وغيرها من المعايير مثل عدم التدخل في شئون الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة. ولعبت الاتفاقيات القانونية الدولية، بما في ذلك الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة، دورها في دعم «لائحة القواعد» العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، كان تشجيع الولايات المتحدة للديمقراطية الليبرالية باعتبارها النظام المفضل للتعبير السياسي أمرًا بالغ الأهمية في إضفاء الشرعية على الدور الذي تلعبه في صراع الحرب الباردة اللاحق، الذي شمل الاتحاد السوفييتي والصين اللتين ساندتا علنًا الثورات الاشتراكية. ونتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٩١ وانحدار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وأماكن أخرى من العالم، عملت المؤسسات المرتبطة بالطابع الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة على التنبؤ والدعوة إلى إعطاء الأولوية للتنمية الرأسمالية العالمية القائمة على التجارة الحرة والأسواق المفتوحة والاستثمار الأجنبي المباشر. وقد سهلت الشركات العابرة للحدود الوطنية ترسيخ ذلك المشهد الاقتصادي العالمي من خلال أنشطتها الاستثمارية والإنتاجية، بدعم من الدول والحكومات في أنحاء العالم.
كان هذا كله يحدث في عالم ما زال يعاني من آثار الحرب العالمية الثانية. ففي فبراير عام ١٩٤٥، شارك الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا في ملتقًى في منتجع يالطا بشبه جزيرة القرم. وقد حدَّد هذا المؤتمر، الذي ضم ستالين وروزفلت وتشرشل، مصير أوروبا فيما بعد عام ١٩٤٥. وكانت النتائج الرئيسية: انضمام الاتحاد السوفييتي إلى الأمم المتحدة في مقابل إنشاء منطقة عازلة في شرق أوروبا ووسطها؛ وإعلان السوفييت الحرب على اليابان؛ واحتلال ألمانيا والنمسا وتقسيمهما إلى أربعة قطاعات، وإدارتهما بواسطة المشاركين الثلاثة في المؤتمر بالإضافة إلى فرنسا؛ وإلزام ألمانيا بدفع تعويضات؛ وسُمح لدولٍ مثل إستونيا ولاتفيا بالبقاء تحت الاحتلال السوفييتي. لذا، يتعين علينا أن نتذكر كل هذا عندما نتحدث عن القواعد والمبادئ التي يستند إليها ميثاق الأمم المتحدة.
استغرق الأمر أربعًا وأربعين عامًا أخرى قبل أن تتغير الجيوسياسية الأوروبية بشكل جذري بسبب انهيار النظام الحاكم في ألمانيا الشرقية والحكومات الشيوعية الأخرى في شرق أوروبا ووسطها. وكان سقوط جدار برلين (الذي بُني عام ١٩٦١) من أكثر اللحظات التي لا تُنسى في ذلك التحول. وبحلول أوائل الألفية الثالثة، كان الاتحاد السوفييتي قد تفكك، وانضمت الحكومات الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي، وشكلت روسيا شراكات جديدة مع كلٍّ من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي. وفي السنوات العشر الماضية، أصبح التعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا أكثر توترًا؛ نظرًا لأن قضايا مثل تسعير الغاز، والتدخل في الانتخابات، و«الأخبار المزيفة»، وضم شبه جزيرة القرم، وعدم استقرار شرق أوكرانيا، والسيطرة على الهجرة، وأمن الحدود، والتدريبات العسكرية، أصبحت مواطن توتر.
ما برح الارتباط بين المنافسة الجيوسياسية والعولمة الاقتصادية أن كان محل جدال كبيرًا. ويرى البعض أن الدولة قد تراجعت أمام هذه المطالب المكثفة بفرض النظام الاقتصادي والسياسي العالمي. لقد أصبحت المؤسسات الاقتصادية — مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وخاصةً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وآسيا — قادرةً على ممارسة قدر كبير من السيطرة على الإنفاق الحكومي والسياسة الاقتصادية الكلية، وأينما طلبت الدول مساعدات مالية وكلما فعلت ذلك. لقد فرضت ما تُسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي شروطًا مصاحبة، قد تشمل مطالبة الحكومات بخفض الإنفاق العام أو تخفيف القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي. وخلال الحرب الباردة، كان لمثل هذه الترتيبات الاقتصادية الدولية آثار جيوسياسية، حيث عملت المنظمات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة مثل صندوق النقد الدولي على فرض قدر أكبر من السيطرة والنفوذ على مناطق مثل غرب أفريقيا، التي تُعَد ذات أهمية استراتيجية بسبب مواردها من النفط والغاز الطبيعي. وقد أشار الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي إلى «التراكم بالتجريد من الملكية» لتسليط الضوء على الطريقة التي سهلت بها المؤسسات الدولية الوصول إلى أسواق العالم الثالث وموارده. وفي مناطق أخرى من العالم مثل جنوب شرق آسيا، كانت القروض الدولية موجهةً نحو الدول التي اعتُبرَت حليفة في النضال في مواجهة الطموحات الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفييتي والصين أو أيٍّ منهما. وكانت دول مثل كوريا الجنوبية وماليزيا هي المستفيدة في هذا الصدد، وخاصةً أثناء حرب فيتنام. وخشي المسئولون الأمريكيون على وجه الخصوص من أنه إذا سقطت فيتنام في أيدي القوات الشيوعية، فحينئذٍ ستكون الدول المجاورة عُرضةً أيضًا للتدخل الاشتراكي.
ويزعم محللون آخرون أن المنظمات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو الشركات العابرة للحدود الوطنية تعتمد على علاقتها بالدول، وإن كانت هذه العلاقة قد تغيرت جذريًّا بفعل التدفقات والشبكات العالمية. وفي نهاية المطاف، كوَّنت الدول النظام الاقتصادي والسياسي لما بعد الحرب، وكانت الولايات المتحدة هي أهم الدولة في هذا الصدد. وعلاوةً على ذلك، تعمل قوانين الملكية والضرائب والاستثمار على تنظيم أنشطة الشركات العابرة للحدود الوطنية وحمايتها. ولمفهوم «الدولة المتحولة» فائدة أكبر من ناحية أنه يمكن استخدامه لتسليط الضوء على الطرق التي غيرت بها العولمة «الوضع القائم»، بما في ذلك النظام السياسي العالمي. وكما أشار الجغرافي الاقتصادي بيتر ديكين، فإن الدول تواصل تشكيل أنشطة تجارية واقتصادية محددة وتنظمها داخل ولاياتها القضائية الوطنية وعبرها. ومن المفارقات أن عدد الدول أصبح الآن أكبر من أي وقت مضى، في وقت تنبأ فيه بعض المراقبين بزوال الدولة كنتيجة مباشرة للعولمة المستشرية.
إن الآثار المترتبة على الجيوسياسية عميقة. فمن ناحية، شهدت نهاية الحرب الباردة ظهور دول ومنظمات إقليمية جديدة مثل سلوفينيا ورابطة الدول المستقلة على الترتيب. كما سلَّط انهيار الاتحاد السوفييتي والاندماج التدريجي لروسيا والصين في الهيئات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية الضوءَ على كيفية اندماج الدول الشيوعية/الاشتراكية السابقة، بعضها أكثر من غيرها، داخل الشبكات والهياكل المرتبطة بالتطور الرأسمالي العالمي. وقد استُخدم مصطلح «إجماع واشنطن» لوصف كيف بدا أن بقية العالم يتبع القواعد والمعايير والقيم المرتبطة بالنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وبدت الأفكار والسياسات المرتبطة بالليبرالية الجديدة، مثل الأسواق المفتوحة والاستثمار الأجنبي المباشر، مهيمنةً. وسادت رؤية غير منظمة لجغرافيا العالم؛ أي العالم كمنطقة خالية من الحدود ذات تدفقات غير مقيدة من الاستثمارات والسلع. كان المستهدف أن تكون الدولة وسيطًا للأعمال التجارية، وكانت بعض الشركات الكبرى التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، مثل إنرون، في مرحلة ما، قادرةً على الاستفادة الكاملة من الافتقار النسبي إلى الهياكل القضائية والمالية. وخلال تسعينيات القرن العشرين، أشاد محللون مثل فرانسيس فوكوياما بانتصار هذه الأفكار والممارسات المرتبطة بالليبرالية الجديدة والديمقراطية اللتين ترعاهما الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، بدا الأمر كأن «الغرب» كان قد فاز في معركة الأفكار والممارسات.
من ناحيةٍ أخرى، لم تكن قصة الانتصار والاندماج واضحةً تمامًا. فالتحول الديمقراطي ليس هو القاعدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الصين وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأجزاء من العالم الإسلامي. وحتى عندما ظهرت الديمقراطية في أماكن مثل مصر والجزائر، على سبيل المثال، لم تتقبلها الحكومات الاستبدادية والجيوش في تلك البلدان. وكما يلاحظ المُنظر السياسي ديفيد رانسيمان، فإن الاندماج بين الليبرالية والديمقراطية ليس بديهيًّا، كما أن الفكر والممارسة الديمقراطيين غير الليبراليين ذوا منشأ أوروبي أيضًا. وقد استجلب تبني الليبرالية الاقتصادية الجديدة قدرًا كبيرًا من المعارضة في العديد من البلدان في نصف الكرة الجنوبي، وكذلك في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. يتحدث آخرون حاليًّا عن فترة ما بعد إجماع واشنطن أو حتى إجماع واشنطن جديد، حيث تحاول الليبرالية الجديدة إنعاش نفسها وتشجيع حدوث تغييرات على المستوى الجزئي في مجالات مثل الصحة وبناء المجتمع، مع تجنب الأسئلة حول الأسباب التي قد تؤدي إلى فشل الحكومات والأسواق والشركات في التعامل مع تلك المجتمعات في المقام الأول.
إن ظهور الحركات المناهضة للعولمة ثم الحركات المناهضة للتقشف هي أوضح مظاهر تلك المقاومة للتواجد المستمر لليبرالية الجديدة الاقتصادية والسياسية. ففي العديد من البلدان، يوجد شعور ملموس بالغضب من النخب التي فشلت في توقع الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ وإدارتها. وصعود الشعبوية يُعَد تذكيرًا بأن التقشف (وهو مصدر قلق لليسار السياسي) والهجرة (وهو مصدر قلق لليمين السياسي) قد ساهما في التعبير عن الغضب بشأن كيفية إدارة حركة الناس ورأس المال. وفي حين أن البعض أراد السفر بحثًا عن حياة أفضل، خشي آخرون من أن تتعرض وظائفهم ورفاهيتهم للخطر بسبب الوافدين الجدد. يصبح التحكم في الحدود بديهيًّا للأشكال الشعبوية من الجيوسياسية. وتفرض الحروب الأهلية والصراعات الدولية ضغوطًا إضافية على الدول والمجتمعات لاستيعاب اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين.
ظهرت أولى علامات المقاومة والاستياء من «النخب» في مدن مثل كولونيا، وجنوة، ولندن، وسياتل في تسعينيات القرن العشرين. وفي كثير من الأحيان، يتزامن ذلك مع اجتماعات منظمة التجارة العالمية أو مجموعة الثماني (وهي مجموعة تضم أكبر ثماني اقتصادات في العالم)، حيث ينتقد المنتقدون المناهضون للعولمة الطريقة التي تآكلت بها الحدود الوطنية بسبب الليبرالية الجديدة؛ ومن ثَم عرضت المجتمعات لتدخل غير مرغوب فيه من قِبل الشركات العالمية والمؤسسات الدولية والقوى المهيمنة أو أيٍّ منها. وفي صميم هذه المخاوف يأتي الخوف من أن بعض أنواع التدفقات تطغى على الأماكن والمجتمعات المحلية، وأن الحكومات الوطنية غير قادرة أو غير راغبة في التخفيف من حدة هذه التدفقات عندما تتداخل مع الأراضي.
وتظل الحركة المناهضة للعولمة متنوعةً، وتجتذب الأحزاب والمنظمات السياسية عبر الحدود الدولية. وقد تعززت مثل هذه المبادرات بشكل أكبر من خلال مبادرة «حركة احتلوا»، التي انطلقت في أكتوبر ٢٠١١ بصفتها حركة احتجاج دولية على انعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية (انظر مربع رقم ٥). وبإلهام من حركة «الربيع العربي» وحركة «الغضب» في إسبانيا والبرتغال، كان هناك اهتمام متزايد بتسجيل احتجاج واسع النطاق على تركيز الثروة العالمية وخصخصة الجيوسياسية العالمية. وكانت كلمة «احتلوا» مهمة لأنها تمثل حركةً احتجاجية جغرافية للغاية. ومع أن هدفها كان الدعوة إلى إعادة تقنين العولمة الليبرالية الجديدة وتفاعل النظام المالي الدولي، كانت تمثل أيضًا تحديًا مكانيًّا. ففي الشهر نفسه، أقام المتظاهرون معسكرًا احتجاجيًّا خارج كاتدرائية القديس بولس في مدينة لندن. وكان الاختيار متعمدًا. كان القرب من المركز المالي في لندن يهدف إلى تسليط الضوء على العلاقة الوثيقة بين حكومة المملكة المتحدة والقطاع المصرفي الدولي، إلا أنه كان يهدف أيضًا إلى طرح أسئلة حول الدور الذي ينبغي للمجتمع المدني والقطاع الثالث (بما في ذلك المنظمات الدينية) أن يلعبه في خضم الأزمة المالية المستمرة والتقشف.
مربع رقم ٥: اختيار موقع الاحتجاج: متنزه زوكوتي، مدينة نيويورك
كان متنزه زوكوتي، أو متنزه ليبرتي بلازا، غير معروف بالنسبة إلى معظم المواطنين باستثناء سكان نيويورك وزوارها الدائمين. يقع المتنزه في مانهاتن السفلى، وقد تضرر في خضم هجوم الحادي عشر من سبتمبر على بُرجَي مركز التجارة العالمي. وأعيد تسميته بعد أن اشترته إحدى الشركات في عام ٢٠٠٦، وكان قد استضاف سلسلةً من المناسبات التأبينية في الأشهر والسنوات التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وبعد ذلك بعقد من الزمن، كان متنزه زوكوتي مسرحًا لعرض جيوسياسي من نوع مختلف تمامًا، حيث لم تُخلد ذكرى مدينة نيويورك (والولايات المتحدة عمومًا) في الأذهان كضحية للعنف، بل كمُصدِّرة للظلم وعدم المساواة إلى جميع أنحاء العالم. ففي ١٧ سبتمبر ٢٠١١، تجمع المتظاهرون في متنزه زوكوتي لإطلاق حركة «احتلوا وول ستريت». لم يكن اختيار الموقع لقربه من المركز المالي لنيويورك فحسب، بل كان أيضًا متنزهًا يملكه القطاع الخاص، ولا يمكن لسلطات المدينة إغلاقه. وبعد ذلك، وجد مالكو المتنزه، شركة بروكفيلد العقارية، وحكومة مدينة نيويورك، وشرطة نيويورك أنفسهم متورطين في سلسلة من المعارك القانونية والمادية لتقييد الدخول إلى المتنزه ومنع نصب الخيام وإقامة المنشآت فيه. ولا تزال تلك القيود قائمةً حتى يومنا هذا، لكن الاحتجاجات أثارت جدلًا وطنيًّا ودوليًّا، وقُبض على أشخاص بارزين مثل ناعومي وولف أثناء التعبير عن دعمهم للمحتجين.
وضع قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو ٢٠١٦ المناقشات حول الهجرة والحدود المفتوحة والسيطرة على الحكم في بؤرة الاهتمام. وعبر مختلف الأطياف السياسية، بدا المواطنون البريطانيون والأحزاب السياسية منقسمين بشدة حول مدى تكيف بريطانيا أو عدم تكيفها مع هياكل الحوكمة الإقليمية والعالمية. ولكن بدلًا من أن يكون صراعًا مع العولمة، فمن الأفضل التفكير فيه باعتباره تعبيرًا عن القومية الاقتصادية ومناهضة الهجرة. من منظور الحكومة البريطانية، كان شعار بريطانيا العالمية شعارًا جرى تبنيه على نطاق واسع، ولا يشير إلى رفض العولمة، بل إلى تصميم على أن بريطانيا هي التي من شأنها أن تشكل هذه العلاقة، وليس الاتحاد الأوروبي.
العولمة الليبرالية الجديدة ومستقبل النظام الدولي الليبرالي
كيف يمكن ربط العولمة الليبرالية الجديدة بمستقبل النظام الدولي الليبرالي؟ في حين تشتد حدة العولمة الليبرالية الجديدة، مع تأكيدات متزايدة من جانب حكومات مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على تسهيل الوصول إلى الأسواق والسياسات الضريبية الداعمة للأعمال التجارية إلى جانب الحد من تدخل الدولة في القطاع العام، أدت الحرب على الإرهاب (التي بدأت منذ عام ٢٠٠١ فصاعدًا) أيضًا إلى زيادة الإنفاق في القطاعات العسكرية/الأمنية. ونتيجةً لذلك، تم التعبير عن القلق من أن التفرقة بين المحلي والدولي أصبحت ضبابيةً بشكل متزايد بسبب ممارسات الأمن العابرة للحدود الوطنية، التي تهدف إلى تأمين المساحات الاقتصادية والسياسية في المدن الأوروبية وأمريكا الشمالية مع احتواء أعمال العنف والفوضى في أماكن أخرى من العالم مثل سوريا والعراق وأفغانستان. بعبارة أخرى، هناك اهتمام متزايد بطريقة مراقبة الأشخاص وتأمينهم، بغضِّ النظر عن الموقع في حد ذاته. وبالطبع، لا تزال الأماكن مهمةً من ناحية أن طبيعة ومدى حفظ النظام والأمن يختلفان حقًّا، وستكون بعض الكيانات أخطر من غيرها، ولكن عمومًا هل أصبحت العولمة أشبه بمشروع أمني عالمي (انظر مربع رقم ٦)؟
مربع رقم ٦: الغضب الحضري
في كتاب بعنوان «الغضب الحضري»، يقدم مصطفى ديكيتش — عالم الجغرافيا الحضرية — حجةً مقنعة للتفكير في الكيفية التي اجتاحت بها الاحتجاجات والاضطرابات مدنًا في أوروبا وأمريكا الشمالية. بداية من مدينة فيرجسون في ولاية ميسوري، ووصولًا إلى لندن وباريس وستوكهولم وإسطنبول في أوروبا، يحدد ديكيتش الإقصاء والظلم باعتبارهما محورين أساسيين. وتُعَد تكلفة السكن الباهظة، والممارسات الشُّرطية العنصرية، والحرمان الاجتماعي، والاضطراب الاقتصادي، والقوميات العدوانية، والسياسات المعادية للمهاجرين، أمورًا ذات تأثير سام. والأسوأ من ذلك، أن يُزعَم أن الأنظمة الديمقراطية المحلية والوطنية بطيئة في الاستجابة لهذه الإقصاءات وأوجه الظلم وعدم المساواة، وفي بعض الأحيان غير مبالية بها. وفي بعض الحالات، كما هو الحال مع مدينة فيرجسون، يمكن لقوات الشرطة المحلية أن تبدو، وهي بالفعل تبدو، للسكان الأمريكيين من أصول أفريقية، وكأنها قوة شبه عسكرية محتلة، ويبدو أن السلطات القانونية عازمة على معاقبة السكان على مخالفات مثل التسكع في الشوارع والعبور العشوائي للمشاة. وتغذي مثل هذه التصورات نزعة «الغضب الحضري» بين الفقراء والمستضعفين، وتحفز ظهور حركات اجتماعية مثل حركة «حياة السود مهمة».
وما يزيد الأمور تعقيدًا أن المدن في أمريكا الشمالية وأوروبا من تورونتو إلى برشلونة أيضًا مستضيفة عن غير قصد لأنشطة إرهابية. ففي أغسطس ٢٠١٧، قُتل أربعة عشر شخصًا عندما دهست شاحنة صغيرة المشاة في وسط برشلونة، وفي أبريل ٢٠١٨، توفي عشرة أشخاص عندما دهست شاحنة صغيرة حشدًا من الناس الذين كانوا ينتظرون على محطة للحافلات. وكانت طبيعة الجناة مختلفة تمامًا في الحادثتين؛ كان الجناة في الحادث الأول جهاديين، وفي الحادث الثاني شخصًا انطوائيًّا عنيفًا كارهًا للنساء. ولكن النتيجة النهائية كانت أن مراكز مدن استضافت أشكالًا أخرى من التعبير عن الغضب والعنف.
يزعم علماء الاجتماع، من منظور الجغرافيا السياسية والمجالات المرتبطة بها مثل العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، أن البنية الجيوسياسية الحالية تقوم على الإدارة المكانية بدلًا من الاحتواء. وهكذا، فإن تأمين العولمة الليبرالية الجديدة أصبح بذلك معتمدًا على أشكال مكثفة أكثر من التدخل في حياة المواطنين في مختلف أنحاء العالم. ومن بين المقترحات المطروحة أن مبادرات الحد من الجريمة مثل «النوافذ المحطمة»، التي استُخدمَت في الأصل لإضفاء الشرعية على إصلاح الحياة الحضرية في مدينة نيويورك في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، تُستخدم حاليًّا بصورة أعم للمطالبة بمزيد من الحوكمة والمراقبة والعمل الشُّرطي. وفي السياق الأصلي لمدينة نيويورك، كانت الفكرة أن أي شكل من أشكال السلوك الإجرامي يحتاج إلى معالجته والتعامل معه بأسرع وقت، مثل ظاهرة الكتابات الجدارية التحريضية. فإذا فشلت سلطات المدينة في معالجة «الصغائر»، فسيظن المجرمون أن «الكبائر» مثل السرقات والاعتداءات العنيفة لن يُلاحَق مرتكبوها. لذا، كان لا بد من أخذ مبادرة «النافذة المحطمة» على محمل الجد.
وينطبق هذا التشبيه على الحيز المكاني إلى حد بعيد. فقد كانت هناك مناطق من المدينة بحاجة إلى قدر أكبر من الحوكمة وإحكام السيطرة، بما فيها مترو الأنفاق، وهذا في سياق مدينة نيويورك. ولكن التشبيه كان قويًّا أيضًا لأنه ركز على التدفقات والتحركات أيضًا. إذ تحمل الأفراد المسئولية عن تلك «النوافذ المحطمة»؛ وكان لزامًا تعقبهم ومحاكمتهم. والأسوأ من ذلك أن الفشل في احتواء منطقة واحدة من المدينة قد يشجع مناطق أخرى على خوض تجربة «النوافذ المحطمة» الخاصة بهم. لذا فإن «الدول الضعيفة» والمناطق «ضعيفة الحوكمة» حتى في أماكن مثل نيويورك تشكل مصدر قلق تحديدًا لأنها قد تعمل على زعزعة الاستقرار وإثارة القلاقل في مناطق أخرى. فمن شوارع نيو أورلينز، في أعقاب إعصار كاترينا في عام ٢٠٠٥، إلى أزقة بغداد، يُقال إن مقاربة النوافذ المحطمة/عدم التسامح مطلقًا قد مكنت من ظهور أنواع جديدة من الممارسات الأمنية والتجارية، التي تزعَّم ناعومي كلاين أنها تمكِّن الشركات والدول من الاستثمار والتدخل والتنظيم من خلال حفظ النظام وفرض الضرائب وإحكام المراقبة. فقد تحول العراق بسرعة بعد الغزو إلى فرصة تجارية آمنة لعدد لا يحصى من الشركات والمؤسسات بما في ذلك هاليبرتون وبكتل وبلاك ووتر. وأصبحت مدن مثل نيويورك ولندن أكثر أمنًا وملاءمة للمشروعات التجارية، ولا سيما للسياح والزوار أيضًا.
وعلى مدًى أبعد، يبدو أننا نشهد خليطًا من نوعين من البنى الجيوسياسية؛ من ناحية، تقوم على الاحتواء المكاني، ومن ناحية أخرى، تدعمها الإدارة المكانية. وتشجع العولمة الليبرالية الجديدة كلا النوعين، مع التركيز الواجب على إمكانية الوصول إلى السوق والخصخصة. ومع ذلك، ينتقد الرئيس ترامب «الحدود المفتوحة» والتجارة العالمية. وتتسم رؤيته بالحمائية الشديدة والقلق من «الثمن» الذي تدفعه الولايات المتحدة لدعم وتعزيز استدامة النظام الاقتصادي والجيوسياسي الدولي الذي أرست دعائمه في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.
والشيء الذي من المرجح أن يظهر في المستقبل هو إيلاء التركيز على الإدارة المكانية بما في ذلك خفض النفقات الحكومية والسيطرة على الحدود. وعلى الصعيد المحلي، مع تزايد تراجع الدولة عن توفير خدمات القطاع العام، فمن المرجح أن تتوسع في مجالات مثل حفظ الأمن والمراقبة. وسوف تتحمل المجتمعات الحضرية الفقيرة وطأة هذا التدخل؛ لأنها الأكثر عرضةً للحكم عليها بأنها تضر بشئون الدولة. وقد تتبع ذلك، بل تحدث بالفعل، مظاهر التعبير عن «الغضب الحضري» عندما تشعر المجتمعات المحلية بالعقاب والتهميش. وستسهل التقنيات والبيانات الجديدة (على سبيل المثال «البيانات الضخمة»، والأتمتة، وتقنيات التعلم الآلي) إجراء مزيد من التدخل غالبًا تحت مسمى حوكمة أكثر كفاءة. ويصبح السكان أكثر عرضةً للاستقصاء والاستهداف اعتمادًا على الاتجاهات الديموجرافية والاجتماعية والاقتصادية. وخارجيًّا، من المرجح أن تكون الحكومات أكثر ميلًا إلى القوميات الحمائية والحدود المغلقة، الأمر الذي لن يلائم عالمًا يبدو في حالة حركة أو عُرضة لتغيير شديد. قد تتعرض بعض الدول الأصغر حجمًا ذات الأراضي المنخفضة لخطر ارتفاع مستوى سطح البحر، في حين تسعى دول أخرى إلى استغلال الطلب المتزايد على الموارد بما في ذلك الغذاء والأراضي والطاقة.
هل هناك بنًى شعبوية؟
مع اشتداد الليبرالية الجديدة، على الرغم من الاحتجاجات التي أعقبت الأزمة المالية العالمية وتأثيرها على المواطنين في جميع أنحاء العالم، لا تزال ممارسة الضغوط مستمرة على الحكومات والدول لخفض إنفاقها العام، وجعلِ نفسها أكثر جذبًا وانفتاحًا من ذي قبل على الاستثمارات والمشروعات التجارية العالمية. ففي المملكة المتحدة والولايات المتحدة، على سبيل المثال، أدى هذا إلى الضغط على الحكومات لخفض النفقات وتشجيع المواطنين على تطوير استراتيجيات أكثر مرونة، مع وضع العبء على عاتقهم للاستعداد بشكل أفضل لمزيد من الأزمات والاضطرابات. وفي دول أوروبا القارية، كان هناك رد فعل غاضب من المجتمع المدني بشأن هذا التقشف من جانب القطاع العام والدعوات المنادية بصمود المواطنين. لقد شهدت بلدان مثل اليونان، التي وقعت في شراك قيود مالية معقدة متعلقة بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، احتجاجات واسعة النطاق وفقرًا مدقعًا، لدرجة أن القطاع الخيري اضطُر إلى التدخل لسد الفجوات التي خلفها تراجع الدولة عن التزاماتها السابقة. وإلى جانب هذا التراجع عن الالتزامات والتقشف، أدى التحول الجيوسياسي الإقليمي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى تجدد المخاوف بشأن التدفقات غير المراقبة للمهاجرين التي تسببت في أزمات في السنوات الأخيرة.
وما يجعل كل هذا أكثر إثارةً لقلق الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا وأمريكا الشمالية هو التراجع الواضح في الالتزام بالنظام الدولي الليبرالي. فمن دونالد ترامب في الولايات المتحدة إلى فيكتور أوربان في المجر، يستغل الزعماء السياسيون الغضب والاستياء والخوف بشأن قدرة الحكومات على الحفاظ على أمن مواطنيها وتوفير فرص عمل مستقرة. إن الجيوسياسية المحلية والدولية متداخلتان، وقد رأينا كثيرًا من الأمثلة لمواطنين يؤيدون ويقاومون الشعبوية وحتى النزعة القومية. ربما يكون النظام الدولي الليبرالي تحت وطأة ضغوط ولكن هناك أيضًا استعدادًا للقتال من أجل الدفاع عن قيَمه وممارساته الأساسية، حتى لو ظلت مسألة ما إذا كان مجهزًا للتعامل مع عالم تتزايد سخونته ويبلغ عدد سكانه عشرة مليارات نسمة نقطةً خلافية. إننا بحاجة إلى أن نكون واضحين بشأن أمر واحد؛ ألا وهو أن النظام الليبرالي الذي يقلق البعض بشأن سلامته المستقبلية هو ذاته النظام نفسه الذي يشعر كثيرون بأنه كان أفضل في حماية مصالح ورغبات أكثر القطاعات ثراءً وامتيازًا من البشرية، غالبًا على حساب الشعوب والأنواع والبيئات الأخرى.