الجيوسياسية الجماهيرية
على مدى قسم كبير من العقد الماضي أو نحو ذلك، كان هناك اهتمام كبير بالأبعاد الجماهيرية والبصرية الخاصة بالجيوسياسية والسياسات الدولية. مع أن العلاقة بين الحكومات وصناعة الترفيه راسخة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، أيضًا قد يكون التداخل بينهما غريبًا. فالرقابة والقمع غالبًا ما يكونان متلازمَين مع الترويج والدعم. ولكن سواء كنا نركز على الكتب المصورة الساخرة أو البرامج التلفزيونية الشعبية، فقد لفت الباحثون الانتباه إلى كيفية تمثيل الجيوسياسية عبر الثقافات الشعبية والبصرية. غالبًا ما يكون التمييز بين الجيوسياسية الرسمية والعملية والشعبية مبهمًا. فعندما يلجأ رئيس الولايات المتحدة، على سبيل المثال، إلى موقع «تويتر» للإعلان عن مبادرات السياسة الخارجية، من الصعب تحديد أين يبدأ الخط الفاصل بين الطبيعة العملية والجماهيرية وأين ينتهي، وكيف يتأثر المواطنون تأثرًا مباشرًا بالتغريدات الرئاسية.
لقد سمحت وسائل الإعلام الرقمية لجهات فاعلة أخرى، من بينها المنظمات غير الحكومية والشركات والجماعات الإرهابية والجمعيات الخيرية والحركات الشعبية والمواطنون، بشغل الطيف الجيوسياسي وإنتاج مقاطع الفيديو والقصص الإخبارية الخاصة بها وتوزيعها. يمكن سرد المواقف الجيوسياسية المعقدة باستخدام ١٤٠ / ٢٨٠ حرفًا ومقاطع فيديو قصيرة ورسومات جذابة مصممة بحيث يمكن الوصول إليها عبر الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية. أصبحت الجيوسياسية الجماهيرية أيسر في الوصول إليها ومشاركتها لأي شخص لديه إمكانية الاتصال بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي حدود المعقول، يستطيع أي أحد بلا استثناءٍ المساهمة بالجيوسياسية الجماهيرية الخاصة به ونشرها. وهناك كثير من الفرص للجهات الفاعلة العديمة الضمير لتوليد حسابات وهمية وأخبار مزيفة. إنه مستنقع معقد.
تتجلى الجيوسياسية في مجال الثقافة الشعبية. وبدلًا من أن تكون مجرد تمثيل للأعمال «الحقيقية» للجيوسياسية، فمن الأفضل أن نفكر في هذه العلاقة باعتبارها علاقة مشتركة. لذا، بدلًا من مشاهدة فيلم، مثلًا، عن القوات الأمريكية العاملة في العراق (على سبيل المثال، فيلم «خزانة الألم» (ذا هيرت لوكر)، من إخراج كاثرين بيجلو، ٢٠٠٩) والتساؤل عما إذا كان يقدم صورةً واقعية عن الصراع، فإننا نطرح أنواعًا مختلفة من الأسئلة. كيف يعزز فيلم الإثارة والحركة أطرًا معينةً للغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة على العراق أو يفندها؟ هل تساعد هذه التدخلات الفنية في تشكيل فهم عام للأطراف الفاعلة والأماكن الرئيسية، وهل تكتسب أهميةً أكثر عندما يشاهدها ويتفاعل معها جمهور لا يُرجح أن يكون لديه أي خبرة بالأماكن المذكورة؟ أخيرًا، هل تُذكِّرنا أشكال الثقافة الشعبية مثل الأفلام والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو والكتب وما إلى ذلك بأن الجيوسياسية تعتمد بشكل أساسي على الأداء؟ ومثل الفئات العامة التي نربطها بالأفلام والتلفزيون، هل هناك أنواع مختلفة من الجيوسياسية القائمة على أفلام الإثارة والحركة، والدراما، والرعب، والكوارث، والرومانسية، والخيال؟ في مايو ٢٠٠٣، قرر الرئيس بوش أن يعيد للأذهان فيلم «توب جَن» — فيلم الإثارة العسكري الذي عُرِض في عهد الرئيس ريجان — عندما سافر على متن طائرة نفاثة تابعة للقوات البحرية الأمريكية، وهبط بها على حاملة طائرات، وأعلن من موقعه هذا أن مهمة تحرير العراق قد أُنجزَت.
في هذا الفصل، نؤكد على وجود رابط بين الثقافة الشعبية والجيوسياسية. وهما تُعَدان متلازمتَين لا يمكن الفصل بينهما؛ فالثقافة الشعبية ببساطة ليست مجرد نافذة تُطل على العالم الحقيقي للجيوسياسية. ونتيجةً لذلك، فإن اهتمامي لا ينصبُّ على ما إذا كان شيء ما واقعيًّا أو خياليًّا، أو كلاهما معًا. بل يركز على الطبيعة الحسية للجيوسياسية الجماهيرية؛ أي القوة السياسية للصوت والصورة. تُذكِّرنا وسائل التواصل الاجتماعي تحديدًا بأن الصور والقصص الإخبارية يمكن أن تضخم وتبالغ في السمات المثيرة للجدل والمُحركة للمشاعر للجيوسياسية.

ما يهمنا هنا هو أن نفهم أيضًا أن أولئك الذين يتعاطون مع الجيوسياسية الجماهيرية هذه هم عناصر فاعلة قادرة على جلب مجموعة من الممارسات والمعارف القائمة على التناص (أي تنطوي على الإشارة إلى نص بواسطة نص آخر) إلى المواد الإعلامية التي يتفاعلون معها. على سبيل المثال، ربما ينتاب النرويجيين الذين يشاهدون مسلسل «المحتل» شعور مختلف تمامًا بشأن الاحتلال التخيلي على يد القوات الروسية مقارنةً بالمشاهدين البريطانيين للمسلسل نفسه، الذين ربما ينصب تركيزهم بدورهم على أكذوبة الاتحاد الأوروبي. ويستخدم علماء الإعلام مصطلحات مثل التناص لتسليط الضوء على الطريقة التي يستقي بها الجمهور المعنى، ويستخدم مفاهيم ذات «منطق سليم» للجيوسياسية والأمن. وثَمة قضية مقلقة للغاية، ألا وهي إلى أي مدًى يكون من المنطقي تطبيق أي تمييز بين «الواقع» و«الخيال»، مع الوضع في الاعتبار التفاعل والتداخل الكبيرَين بين ما يسميه جيمس دير ديريان إشكالية الترفيه والإعلام والصناعة والعسكرية. ولقد أدى كل هذا — حسبما يقترح جيمس دير ديريان — إلى زيادة عدم القدرة على التفرقة بين المدني والعسكري، وبين الواقع والمحاكاة، وبين المنتجين والمستهلكين.
الجيوسياسية الجماهيرية والثقافات الإعلامية
تناول تركيز هالفورد ماكيندر على الجيوسياسية الجماهيرية، البنية التعليمية وبنية المواطنة الأكثر رسميةً الخاصة بالدول والإمبراطوريات. من وجهة نظر ماكيندر، كانت الأشياء المادية مثل خرائط الأطلس ومجسمات الكرة الأرضية تستحق تدقيقًا أكبر في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. بالطبع كانت وسائل الإعلام الجماهيرية في مهدها نسبيًّا في عصر ماكيندر مقارنةً بما وصلت إليه اليوم، حيث أصبحت وسائل الإعلام أكثر انتشارًا وتشاركية ورقمية، وليس تماثلية. لقد تحولت ثقافات التواصل والإعلام الجماهيري تحولًا جذريًّا في الفترة الفاصلة بين حيازة التلفزيون الجماهيري فيما بعد عام ١٩٤٥ وحقبة معاصرة تتميز بوسائط إعلامية متعددة وتقنيات ذكية وقدرة أكبر للمواطنين على تكييف تفاعلاتهم مع وسائل الإعلام مثل التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي والفيديو. فلكل واحد منَّا «توقيعه الإعلامي» الخاص، الذي يتشكل من خلال إمكانية الوصول والملكية والإنتاج والتفاعل مع مختلف وسائل الإعلام والمنظمات الإعلامية بما في ذلك الصحف والإذاعة والتلفزيون والهواتف الذكية وألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي.
تتسم الثقافة الشعبية بأنها ذات طبيعة متفاوتة من الناحية الإبداعية، ومنتشرة من الناحية الجغرافية، ومتنوعة من الناحية التجارية، ومتعددة الأوجه من الناحية السياسية. وتشمل الثقافة الشعبية مناقشة إنتاج ومحتوى واستهلاك موسيقى البوب الكورية، وأفلام هوليوود، والرسوم المتحركة اليابانية، والصحف البريطانية، ومجلات الموضة الأسترالية، والإعلانات في جنوب أفريقيا، وألعاب الفيديو الإيرانية. ومع ذلك، يُعَد الاستخدام العالمي لوسائل الإعلام الاجتماعية مثالًا معبرًا آخر. يستخدم قرابة المليارَي شخص موقع «فيسبوك» بانتظام، إلا أن الأغلبية الساحقة منهم موجودة في أوروبا والأمريكيتين وأجزاء من أفريقيا وأوقيانوسيا. ونظرًا لأن موقعَي «فيسبوك» و«تويتر» محظوران في الصين، يعتمد مستخدمو الإنترنت هناك على شبكات اجتماعية شهيرة أخرى مثل «كيو زون» «كيو كيو» «وي شات»، في حين يستخدم الموجودون في روسيا منصتَي «فيكونتاكتا» و«أدناكلاسنيكي». تفرض الرقابة والسيطرة الحكوميتان على المؤسسات الإعلامية في الصين وروسيا، وكذلك إيران وكوريا الشمالية، قيودًا على المواطنين لمنعهم من الوصول إلى وسائل الإعلام والمنصات الرقمية الغربية، وبذلك تحدُّ من تدفق المعلومات والثقافة. وتروج روسيا وإيران لشركتَي الإنتاج التلفزيوني الحكومي التابعتَين لهما، وهما شركة آر تي وشركة بريس تي في على الترتيب.
إن إنتاج وتوزيع واستهلاك الأخبار والمواد الترفيهية غير متكافئ بطبيعته، حيث إن بعض العناصر الفاعلة والمجتمعات أكثر قدرةً على الإنتاج والتوزيع والوصول إلى مصادر مختلفة. عند الحديث عن إنتاج الأخبار الرسمية، غالبًا ما تلوح في الأفق شركات كبرى مثل سي إن إن إنترناشيونال، وتايم-وارنر، وفوكس، وبي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية). وهي شركات مهمة للغاية من حيث تحديد محتوى البث وجدولة مواعيده، بغضِّ النظر عن أنظمة الحكم الوطنية والدولية، التي يمكنها أن تمارس، وتمارس بالفعل، قدرًا من السيطرة على بيئات الجمهور. تساعد التقارير الصحفية، والبث التلفزيوني، والبودكاست على الإنترنت، في تحديد الأشخاص والأماكن والأحداث التي تُعَد جديرةً بالتغطية الإخبارية. ومن ثَم تؤثر تلك الخيارات على ردود أفعال المشاهدين، تجاه القصص الإخبارية عن الضحايا والجناة، والمستغِلين والمستغَلين، وأفراد وجماعات بعينها، ومجهولين. وعلى الرغم من التوسع الهائل فيما يُسمى بصحافة المواطن وتقنيات الهواتف الذكية (بما في ذلك وسائل تسجيل الفيديو المتصلة بالبريد الإلكتروني وإمكانية التشغيل المعتمدة على موقع «تويتر»)، فإن منتجي الوسائط الإعلامية مثل بي بي سي لا يزالون يتمتعون بأهمية كبيرة من حيث كيفية تقييم موادهم الإذاعية والحكم عليها. وتختلف ثقافات وسائل الإعلام بشكل كبير من مكان إلى آخر.
ولكن الأطراف الفاعلة الأحدث عهدًا، مثل «جوجل» و«فيسبوك» و«أمازون» و«نتفليكس»، تغير وجه وسائل الإعلام التقليدية، وتتحدى مقدميها بالإضافة إلى مقدمي الأخبار الرقمية مثل «فوكس» و«صالون» و«تويتر». ويستطيع العديد من المواطنين من مختلف أنحاء العالم الوصول إلى الأخبار من خلال موجز الأخبار الذي توفره منصات إعلامية مثل «فيسبوك»، الذي يضم مليارَي مستخدم. وإذا كانت الخوارزميات تشكل موجزات الأخبار هذه، فقد يكون منطقيًّا أن نتساءل كيف يؤثر ذلك على نوع الوصول إلى الأخبار ونمطه. وفي دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث عام ٢٠١٧، أفاد ما يقرب من ٧٠٪ من الأمريكيين أنهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة الأخبار. وأشارت الدراسة إلى أن الأمريكيين الأكبر سنًّا والأقل تعليمًا وغير البِيض كانوا من الأرجح أن يستخدموا وسائل التواصل الاجتماعي على نحو حصري لمطالعة الأخبار. إذا أصبحت الجيوسياسية الجماهيرية أكثر «تخصيصًا» وأقل مشاركة، فهل يعني ذلك أن البُعد الجماهيري للجيوسياسية قد يكون أكثر انقسامًا؟ لا شك في أن العديد من القراء الأكبر سنًّا سيتذكرون أنه في بلدان كثيرة كان الأطفال والبالغون قادرين على الوصول إلى عدد محدود من الصحف والقنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية. كما كانت هناك فرصة محدودة للدعاية والترويج لردود أفعالك وتقييمك لبرامج تلفزيونية ومقالات صحفية معينة.

من منظور الكثيرين في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، فإن أحداثًا مثل الحرب الأهلية في سوريا، وثورات الربيع العربي، والتوتر الإسرائيلي-الإيراني، قد أُثيرت وتعاظم تأثيرها من خلال وسائل الإعلام الرسمية، وعلى نحو متزايدٍ وسائل التواصل الاجتماعي (انظر مربع رقم ٧). ومن الصعب الآن أن نتخيل غياب صحافة المواطن عن المشهد لنقل الأحداث الكبرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ أحداث مثل الإطاحة بالحكومات، وفضح الأعمال الوحشية كالمذابح وهجمات الأسلحة الكيميائية، والصراعات الأهلية. وقد تحدت بطرق عديدة هذه النوعية من الصور والأصوات أفكار وطرق فهم السكان المدنيين، الذين أصبحوا بشكل متزايد على استعداد للتعبير عن متطلباتهم وقادرين على ذلك. ويُعرِّف الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير ما يسميه الأنظمة التجميلية على أنها أنظمة تحدد أنواع الصور التي يمكن إنتاجها وتداولها. ففي إيران، تسببت مقاطع فيديو لفتيات يرقصن في الشارع (بعضهن بشعر مكشوف) في إثارة غضب سياسي بين جماعات المحافظين في البلاد. وجاءت التحذيرات بأن إبداء هذه السلوكيات غير المحتشمة يعمل على تقويض سلطة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهكذا فإن ما قد يعتبره الغرب عاديًّا اعتبرته إيران فعلًا تخريبيًّا.
مربع رقم ٧: حملة «نحن نحبكم»: إسرائيل وإيران وموقع «يوتيوب»
في مارس ٢٠١٢، نشر نشطاء سلام إسرائيليون مقطع فيديو قصيرًا على موقع «يوتيوب» يظهر فيه عدد من الرجال والنساء والأطفال الإسرائيليين يُطمئنون الإيرانيين الذين يشاهدون المقطع المُصور بأنهم لا «يكرهون» إيران. وعلاوةً على ذلك، فقد ظهر عديدون منهم وهم يؤكدون أنهم يعترضون بفعَّالية على مزاعم الحكومة الإسرائيلية بأن إيران تمثل تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل. ومع تشغيل أغنية «تخيل» (إيمجين) لجون لينون في الخلفية، كان الهدف من اللقطات التي تُظهِر مواطنين إسرائيليين عاديين وهم يعلنون «حبهم» لإيران، حتى لو لم يسبق لهم زيارة إيران أو مقابلة إيرانيين، تفنيد الإطار الجيوسياسي السائد عن هذه الدولة المجاورة بأنها تمثل تهديدًا. ورغم أنه لا يُعرف تحديدًا عدد المشاهدين في إيران، فإن الفيديو نفسه كان جزءًا من حركة مناهِضة للحرب في إسرائيل أوسع نطاقًا تعارض فرضية توجيه ضربات عسكرية للبنية التحتية النووية والعسكرية داخل إيران. كما أُطلقَت في الوقت نفسه حملة على «فيسبوك» بعنوان «إسرائيل تحب إيران».
حركة «إسرائيل تحب إيران» هي حركة داعية للسلام بقدر ما هي مبادرة على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكنها أيضًا مثال للدبلوماسية الشعبية التي لا ترتبط بالحكومتين الإسرائيلية أو الإيرانية. وقد أسَّس هذه الحركةَ مصممُ جرافيك إسرائيلي، يُدعى روني إدري، شجَّع أول منشور له على موقع «فيسبوك» يعلن فيه «أيها الإيرانيون، نحن نحبكم، ولن نقصف بلدكم أبدًا»، على مزيد من الحملات، وألهم تأسيس حركة «إيران تحب إسرائيل» (التي أسَّسها الممثل الإيراني مجيد نوروزي). كما شجعت مثل هذه المبادرات على عقد اجتماعات مع أطراف أخرى وتبادل مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية، التي تصور في كثير من الأحيان السياقات اليومية بما في ذلك الحياة الأسرية. وفي وقت لاحق، التقى إدري ونوروزي شخصيًّا في الولايات المتحدة، وكانت هناك بعض الحملات المنادية لترشيح الثنائي لجائزة نوبل للسلام.
هوليوود و«سينما الأمن القومي» أثناء الحرب الباردة
يستكشف الباحثون في التاريخ الثقافي والعلاقات الدولية والجغرافيا السياسية كيف يختار قطاع إنتاج الأفلام وتوزيعها الأفكار والخطابات المرتبطة بالأمن القومي والجيوسياسية ويتفاعل معها. وتلفت التحليلات المؤسسية الانتباه إلى كيفية تعاون صناعة السينما والترفيه مع الإدارات الحكومية مثل وزارة الدفاع والقوات المسلحة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، لماذا دعمت البحرية الأمريكية إنتاج فيلم «توب جَن» الذي حقق نجاحًا كبيرًا في عام ١٩٨٦ ما لم تظن أنه كان يسلط ضوءًا إيجابيًّا على أنشطتها؟ يميل الأشخاص الأكثر اهتمامًا بتمثيلات الأمن القومي إلى التركيز على المنحنيات السردية ووصف الشخصيات والمكان والحوار. يرى الباحثون العاملون في مجال دراسة النجوم السينمائية أن إحدى الطرق البحثية المثمرة الأخرى هي التفكير في كيفية اختيار ممثلين معينين، مثل جون واين وروك هدسون وبعد ذلك كلينت إيستوود في كثير من الأحيان كأبطال رجال أقوياء مكلفين بحماية الأمن القومي الأمريكي (على سبيل المثال روك هدسون في فيلم «محطة الجليد زيبرا» («آيس ستيشن زيبرا»)، (١٩٦٨) وكلينت إيستوود في فيلم «فايرفوكس» (١٩٨٢)) أو إعادة خلق فكرة العنف والتجارب العنيفة على الحدود الأمريكية (على سبيل المثال جون واين في فيلم «الباحثون» (ذا سيرشرز) (١٩٥٦)). وبمجرد أن نفعل ذلك، ربما يكون منطقيًّا عندئذٍ أن نتساءل ما الأدوار التي لعبتها النساء والأشخاص الملونون والأطفال وغيرهم في مثل هذه الأفلام؟ هل جسد ممثلون/شخصيات معينون بفعَّالية الخيال الجيوسياسي السائد للولايات المتحدة من خلال إظهار المرونة والقيادة والقوة؟
وبما أن التجربة المباشرة لأمريكا في الحرب أكثر محدودية، فقد أنتجت هوليوود سلسلةً كاملة من الأفلام، التي توصف بأنها «سينما الأمن القومي»، التي حددت بطريقة تخيلية للغاية التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة في حين وجهت أيضًا المشاهدين إلى القيم والممارسات التي تجسدها البلاد. والقائمة طويلة وتشمل القوات السوفييتية وغيرها من القوات الشيوعية، والنازيين، والإرهابيين، والكائنات الفضائية، والنيازك، والقوى الطبيعية التي لا يمكن السيطرة عليها، والآلات. وبالنظر إلى الشعبية الواسعة لإنتاجات هوليوود داخل الولايات المتحدة وخارجها، ندرك أن الأفلام كانت، وما زالت، تُعَد عنصرًا مساهمًا مهمًّا في رؤية أمريكا لمكانتها وأهميتها على مستوى العالم. ساعدت هزيمة الأعداء في تعزيز الخطابات والممارسات البطولية والتفوق العسكري والقيادة والولاء للجمهورية.
وفي أثناء الحرب الباردة، لم يلتقِ أغلب الأمريكيين بمواطنين سوفييت، ولم يسافروا إلى الاتحاد السوفييتي. ويمكن أن يُقال الشيء نفسه عن الصين الشيوعية وعدد آخر من الأنظمة التي لن ترضى عنها الولايات المتحدة. وعلى الأرجح كان القليلون الذين سافروا إلى هناك هم أفراد من القوات المسلحة، ومن قطاع الأعمال التجارية، وفنانون، ورياضيون، وجواسيس بالطبع. ومن منظور معظم الأمريكيين، بدا وصف تشرشل ﻟ «الستار الحديدي» عبر أوروبا في عام ١٩٤٦ منطقيًّا تمامًا، كما بدا للعديد من الأوروبيين على جانبَي الفجوة الأوروبية الوسطى والشرقية. لعبت الأفلام والمواد الإذاعية، ولاحقًا المواد المتلفزة، دورًا حاسمًا في تشكيل انطباعات الأمريكيين عن الاتحاد السوفييتي والتهديد الذي تُشكله الشيوعية داخل بلدهم وخارجه. كما ساعدت في ترسيخ الإحساس بالهوية الذاتية الأمريكية متمثلة في أوصاف مثل: أرض الأحرار، ومنارة الديمقراطية، و«أسلوب الحياة» الليبرالي الذي كان الرئيس ترومان قد وصفه في عام ١٩٤٧.
لقد زعم مؤرخو الأفلام أن السينما الأمريكية في فترة الحرب الباردة وصلت إلى أوج أهميتها في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. ففي عصر ما قبل انتشار التلفزيون بين جموع الشعب، لم يتوافد الناس على دور السينما لمشاهدة الأفلام فقط؛ بل أيضًا للاطلاع على نشرات الأخبار والأفلام الوثائقية التي تُعرض إلى جانب الفيلم الرئيسي. وما يُكسِب هذه الأفلام أهميةً أكثر أن شركات الإنتاج في هوليوود كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأجهزة مختلفة تابعة للإدارات الحكومية مثل وزارتَي الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية. وفي عام ١٩٤٨، أنشأ البنتاجون مكتب اتصال خاصًّا تابعًا لمكتب مساعد وزير الدفاع للشئون العامة، وكان سالف الذكر ذا أهمية بالغة في صياغة الوقائع وتحديد ما إذا كان التعاون سيمتدُّ ليشمل أي شركة إنتاج ترغب في استخدام المعدات أو الأفراد العسكريين الأمريكيين. حازت أفلام مثل «أطول يوم» (ذا لونجست داي) (١٩٦١) على دعم البنتاجون حتى لو تعين استدعاء بعض أفراد الجيش الأمريكي من موقع التصوير بسبب الأزمة المتفاقمة في برلين، التي بلغت ذروتها مع قيام الألمان الشرقيين ببناء الجدار العازل الذي قسم المدينة حتى نوفمبر ١٩٨٩.
عملت وزارة الدفاع الأمريكية في تعاون وثيق مع منتجين على غرار فرانك كابرا، وقدمت المشورة والمعدات والأفراد لسلسلة أفلام «لماذا نقاتل» (واي وي فايت). وكان لازمًا على جميع من يؤدون الخدمة العسكرية الأمريكية رجالًا ونساءً أن يشاهدوا هذه السلسلة. وقد سلطت هذه السلسلة بوجه خاص الضوء على الأهمية التي تُوليها السلطات الأمريكية للوسائط المرئية في تشكيل الرأي العسكري والعام. ونظرًا لحجم التهديد الذي شكله على ما يبدو الاتحاد السوفييتي، لم يكن من المستغرب أن تنظر وكالات أخرى مثل وكالة الإعلام الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية إلى الأفلام على أنها عنصر حيوي في الحملة الوطنية لتثقيف المواطنين الأمريكيين بشأن المخاطر التي يشكلها السوفييت وتوعية الآخرين من خارج الأمة أيضًا. قدمت وكالة الاستخبارات المركزية تمويلًا سريًّا لفيلم الرسوم المتحركة، «مزرعة الحيوان» (أنيمَل فارم)، الذي عُرِض عام ١٩٥٤، تحديدًا لأن بصمة جورج أورويل كانت تُعَد في محلها تمامًا في هذا الصدد نظرًا لتلميحاته إلى الوعود الفاشلة للثورة الروسية عام ١٩١٧.
خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، لم تكن شركات الإنتاج في هوليوود بحاجة إلى التمويل أو التدخل الحكوميين لإقناعها بأن الاتحاد السوفييتي والشيوعية عمومًا كانا يُشكِّلان خطرًا على نمط الحياة الأمريكية. ففي هذه الحقبة، تصادمت أمريكا والاتحاد السوفييتي بشأن مستقبل برلين وشبه الجزيرة الكورية. وفي عام ١٩٤٩، تأكد أن السوفييت قوة نووية بمساعدة الجاسوس كلاوس فوكس. وقد ربطت أفلام مثل «ابني جون» (ماي صن جون) (١٩٥٢)، و«المريخ الكوكب الأحمر» (ريد بلانت مارس) (١٩٥٢)، و«الشيء» (ذا ثينج) (١٩٥١) بين التهديدات والمخاطر التي تواجه المجتمع الأمريكي في هذه الفترة التي كان يكتنفها الغموض. وفي حين سلط الفيلم الأول الضوء على قوة الشيوعية في التأثير على البوصلة الأخلاقية للشباب وتقويضها، ركز الفيلمان الثاني والثالث على المخاطر التي شكَّلها الأجانب على الأمن القومي للبلاد. وهذه الأفلام مجتمعة، تشير فيما يبدو إلى أن اليقظة الدائمة كانت أمرًا ضروريًّا، وأن المثالية الخطيرة فيما يتعلق بالشيوعية كان لا بد من احتوائها.
كما ساهمت شخصيات سياسية ودينية أمريكية مثل ويليام باكلي وبيلي جراهام وجون فوستر دالاس في هذا النقاش المحتدم والتحليل الخاص بالاتحاد السوفييتي والتهديد الأحمر. فأكد جراهام على وجه الخصوص على الاختلافات العميقة بين الاتحاد السوفييتي الملحد وأمريكا المسيحية. كما عزَّز الهجوم السياسي الذي شنَّته لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا التابعة لمجلس النواب في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين من الأهمية الشعبية للأفلام المحافظة للغاية مثل المذكورة آنفًا. وافتتحت اللجنة جلساتها في عام ١٩٤٧، واستمعت إلى ملاحظات «شهود أصدقاء»: بما في ذلك منتجون وكتَّاب سيناريو وممثلون مرتبطون بصناعة الأفلام السينمائية. وأُجريت مقابلات شخصية مع واحد وأربعين شخصًا إجماليًّا، واتُّهم عدد من الأشخاص الآخرين المرتبطين بالصناعة بتبني آراء يسارية.
وبعد ذلك، ركزت اللجنة جهودها على ما سُمي «نجوم هوليوود العشرة»، وهم مجموعة من الأفراد الذين رفضوا الإجابة عن أي استجوابات، وزعموا أن التحقيق ينتهك الحماية الدستورية المتعلقة بحرية التعبير والحديث. اختلفت اللجنة مع موقفهم وسُجنوا جميعًا بسبب معارضتهم. وبمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي والرابطة الكاثوليكية للأخلاق الحميدة والفيلق الأمريكي، وُضعت قائمة تُسمى «القنوات الحمراء»، وتضمنت معلومات عن أي شخص يعمل في هوليوود يُرتأى أن له ماضيًا تخريبيًّا. وعلى عكس أولئك الذين مثَّلوا أمام اللجنة وأقنعوا أعضاءها ببراءتهم، أُدرجَ هؤلاء الأفراد في القائمة السوداء، وحُرِموا فعليًّا من العمل ككتَّاب أو ممثلين أو منتجين. وأُدرجَ أكثر من ٣٠٠ شخص من بينهم تشارلي شابلن وأورسون ويلز على أن لديهم ماضيًا مريبًا. كان التأثير على هوليوود كبيرًا، ومن غير المستغرب أنه لم يشجع ثقافة الاختلاف عن النظرة المحافظة السائدة للحرب الباردة باعتبارها مواجهةً سياسية دينية بين الولايات المتحدة وأعدائها.
وبالطبع، هذا لا يعني أن جميع المنتجين ونقاد الأفلام ومشاهديها قد قبلوا دون تفكيرٍ التمثيلات الجيوسياسية للتهديد الأحمر. فقد استعان بعض المنتجين بالخيال العلمي وشبح الكائنات الفضائية لاستكشاف تفسيرات مختلفة جذريًّا للاتجاهات الفكرية السائدة أثناء الحرب الباردة. فقد ظهر في فيلم «أتى من الفضاء الخارجي» (إت كيم فروم أوتر سبيس) (١٩٥٣) للنجم جاك أرنولد مجموعة من الكائنات الفضائية التي تزور الأرض وتستنكر خوف أمريكا من الغرباء والمجهول. ويصور الفيلم بلدةً صغيرة، كنايةً عن أمريكا، تبدو متعصبة وكارهة للأجانب في مواجهتها للغرباء. كما صوَّر فيلم «على الشاطئ» (أون ذا بيتش) (١٩٥٩) من إخراج ستانلي كرامر أهوال الإبادة النووية، وشكك في المنطق الاستراتيجي للمواجهة النووية. وعلى الرغم من إدانة الحكومة، كان الفيلم واحدًا من الأفلام التي حققت أعلى إيرادات في عام عرضه. ويروي فيلم آخر من إخراج ستانلي كرامر، «ظهيرة مشتعلة» (هاي نون) (١٩٥٢)، قصة مدير شرطة (يُدعى ويل كين، لعب دوره النجم جاري كوبر) يرفض السكان المحليون مساعدته رغم أن حياته مهدَّدة من عصابة عازمة على الانتقام بعد اعتقالهم في وقت سابق. من منظور بعض العاملين في هوليوود، اعتُبر الفيلم على الفور سخرية من أنشطة لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا التابعة لمجلس النواب وأعضاء صناعة الأفلام السينمائية الذين تواطئوا مع أنشطة القائمة السوداء.
وفيما بين أواخر أربعينيات القرن العشرين وستينياته، أنتجت صناعة الأفلام السينمائية ما يزيد على أربعة آلاف فيلم، ولم ينتقد سوى عدد قليل منها انتقادًا حقيقيًّا المفاهيم الأمريكية المحافظة للحرب الباردة والتمثيلات الجيوسياسية للاتحاد السوفييتي والتهديد الشيوعي. وقد وجدت هوليوود، بتشجيع من جلسات الاستماع التي عقدتها لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا، والتحقيقات التي أجراها السيناتور جوزيف مكارثي في وقت لاحق، أنه من الأسهل إنتاج أفلام تعيد تقديم المفاهيم الضمنية للولايات المتحدة، بدلًا من تقويضها، باعتبارها دولةً تتألف من نفوس تقية محبة للحرية عازمة على مقاومة إغواء السوفييت الملحدين وشركائهم من الكائنات الفضائية.
المسلسلات التلفزيونية والحرب على المخدرات والإرهاب
يمكن القول بأن التلفزيون أهم وسيلة من الوسائل الرائجة لنقل المعلومات بخصوص الحرب على الإرهاب والمشاركة فيها. وفي حين ظهرت مجموعة كبيرة من الأفلام التي تناولت الحرب على الإرهاب، والتي خرجت بالأساس من هوليوود وغيرها من الثقافات السينمائية، فقد نالت المسلسلات التلفزيونية التي تُبث في الولايات المتحدة — مثل «٢٤»، و«سلك التنصت» و«أرض الوطن» و«باتل ستار جالاكتيكا» — استحسانًا شعبيًّا وإشادة من النقاد لمشاركتها في التوعية بالإرهاب والحرب والأمن الداخلي والتعذيب. وقد استُخدمَت سرديات متسلسلة ذات حبكة درامية محكمة في استكشاف وتطوير خطوط سردية وقصصية معقدة في كثير من الأحيان، ومواقع متعددة، وميلودراما جيوسياسية، ووصف لأماكن (انظر مربع رقم ٨).
مربع رقم ٨: رفع لواء الحرب على الإرهاب في هوليوود بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر
في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أفادت وسائل الإعلام الأمريكية عن عقد اجتماع بين ممثلين عن إدارة جورج دبليو بوش وصناعة السينما والترفيه. كان الهدف من الاجتماع الذي عُقِد في نوفمبر ٢٠٠١، والذي ترأسه المستشار الرئاسي كارل روف وجاك فالنتي، رئيس جمعية السينما الأمريكية، استكشاف السبل التي قد تلعب بها الثقافة الشعبية دورًا في تعزيز الأمن الداخلي وتفسير إعلان الحرب على الإرهاب. ورغم أن المسئولين نفوا أن تكون الإدارة قد طلبت من صناعة الترفيه إنتاج أفلام وبرامج تلفزيونية «تمجد» الرئيس، فقد أبدوا اهتمامًا باستكشاف الكيفية التي قد تُستخدم بها وسائل الإعلام الجماهيرية لكي تكون «تثقيفية» و«داعمة».
ونتيجةً لذلك، كان هناك اهتمام كبير بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠٠٩ (أي خلال فترة ولاية الرئيس بوش) باستكشاف الكيفية التي ساهمت بها الثقافة الشعبية في تشكيل سرديات عن الحرب على الإرهاب ونشرها. وجرى فحص رسوم كاريكاتورية وبرامج تلفزيونية وأفلام وروايات وموسيقى وغيرها من المخرجات، بما في ذلك أشياء مثل لوحات أرقام المركبات والهدايا التذكارية. اكتشف النقاد ميلًا داخل وسائل الإعلام وجهات الإنتاج الترفيهي الرائجة لإعادة إنتاج إطار يدعم القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق من خلال الصور والأشياء، ويضمن عدم إلقاء اللوم على الحكومة الفيدرالية بأي شكل من الأشكال على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ويؤيد الرأي القائل بأن الولايات المتحدة منخرطة في معركة عالمية مع الإرهابيين والإرهاب. باختصار، يُقال إن مثل هذه المخرجات ساهمت في دعم شكل عدواني من أشكال القومية والجيوسياسية الأمريكية، وتمجد دور الولايات المتحدة وقواتها المقاتلة على وجه الخصوص.
أحد أقوى التأثيرات للمسلسلات التلفزيونية هو استكشاف كيف يندمج العنصران المحلي والأجنبي لإنتاج أشكال مميزة من الجيوسياسية الجماهيرية واليومية. وأحد أبرز الأمثلة على ذلك عدد من المسلسلات التلفزيونية التي تناولت ما يُسمى بالحرب على المخدرات. لقد أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون لأول مرة الحرب على المخدرات في أوائل سبعينيات القرن العشرين، التي أُنفقت خلالها مليارات الدولارات، وراح ضحيتها الكثيرون في شمال المناطق الحدودية وجنوبها بين الولايات المتحدة والمكسيك. على سبيل المثال، يتناول المسلسل التلفزيوني «إل تشابو»، إنتاج عام ٢٠١٧ كيف تنطوي تجارة المخدرات على سلسلة من المفاوضات والتنازلات داخل الدولة المكسيكية وخارجها وعصابات المخدرات والطريقة التي أدارت بها الوكالات الأمريكية تجارة المخدرات عبر الحدود وتحكمت فيها واستفادت منها. وفي عالم المسلسل التخيلي/الفصائلي، يظهر الأشخاص العاديون محاصرين في شبكة معقدة من العلاقات تضم مزارعين فقراء وعمَّال نقل ومهاجرين غير شرعيين وأشخاصًا ضعفاء أُجبروا على أن يكونوا تجار مخدرات.
أثار أيضًا العديد من هذه المسلسلات ذات المواسم المتعددة جدلًا كبيرًا. ويُعد المسلسل الحائز على الجوائز «٢٤» مثالًا ممتازًا على ذلك. فعلى مدار ثمانية مواسم (امتدت بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠١٠)، يرصد المسلسل بطولات ضابط مكافحة الإرهاب جاك باور وجهوده لضمان أمن شخصيات بارزة وأفراد أسر ومدن بأكملها داخل الولايات المتحدة. عُرِض المسلسل لأول مرة في نوفمبر ٢٠٠١، ووصل عدد مشاهديه إلى الملايين. واستغرقت كل حلقة ساعةً واحدة فقط، وكان المقصود من ساعة العرض المميزة تذكير الجمهور بالضغوط التي يواجهها آنيًّا ضباط مكافحة الإرهاب.
كان استخدام باور لأساليب غير عادية، مثل التعذيب وأشكال الاستجواب المتطرفة، أحد الجوانب المثيرة للجدل طوال أحداث المسلسل. وقد أثار أسلوب عمل باور قدرًا كبيرًا من النقاش العام في ذلك الوقت، وأسفر عن مخاوف من أن يكون هذا تأييدًا لاستخدام القوة الاستثنائية (وبالطبع الخارجة عن نطاق القضاء) في مواجهة المخاوف بشأن الإرهاب والمخاوف من تكرار هجمات محتملة بمستوى هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحجمها. ومن وجهة نظر النقاد، كان منتجو مسلسل «٢٤» متواطئين مع خطابات الحكومة الأمريكية وممارساتها، ويدعون إلى اتخاذ تدابير استثنائية لضمان عدم تعرض الولايات المتحدة ﻟ «هجمات الحادي عشر من سبتمبر ثانيةً». وما أصبح واضحًا بعد هذه الهجمات هو أن المسئولين العسكريين والاستخباراتيين كانوا ضالعين في أساليب مماثلة لتلك التي استخدمها جاك باور. وما جعل المسلسل أكثر إثارة للجدل هو الأدلة المتزايدة على أن مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية كانا متورطين بالفعل في تقديم المشورة والمساعدة لصناعة الترفيه في تصويرها للحرب على الإرهاب. ويُقال إن تشيس براندون، ممثل وكالة الاستخبارات المركزية في هوليوود، كان مستشارًا فنيًّا للسيناريو والحوار الخاصين بمسلسل «٢٤».
إلا أن ثَمة عنصرًا آخر في مسلسل «٢٤» له صلة بالجيوسياسية الجماهيرية؛ وهو التركيز على نوعية الأشخاص والأماكن التي تُصوَّر على أنها تُشكل تهديدًا أو خطورة، وبالتبعية أولئك الذين يعتبرون جديرين بالحماية والإنقاذ. يُعَد مسلسل «٢٤»، بسماته الفنية التي تنطوي على الإثارة والحركة، وسيلةً مثالية لعرض السرديات الدرامية التي تتضمن إرهابيين أتراكًا وآخرين من بينهم لبنانيون وروس وصربيون، وبعض ممن يبدو أنهم عازمون على إطلاق العنان للعنف الإرهابي على مفاعلات نووية ومراكز تسوق وأماكن عمل وطرق سريعة ومطارات وأحياء في ضواحي مدينة لوس أنجلوس. وما قد يستخلصه المرء من إنجازات باور المتعددة هو أن مواقع الإرهاب موجودة في كل مكان حرفيًّا، وهناك عدد قليل من مجالات الحياة العامة التي قد لا تكون عُرضة لهجوم إرهابي: وهي النقطة التي أشار إليها كبار أعضاء إدارة بوش الذين حذروا المواطنين الأمريكيين — إثر تقديم نظام الإنذار بتهديد الأمن الداخلي — من أنهم بحاجة إلى التحلي باليقظة في كل مكان. وكما حذر الرئيس بوش الشعب الأمريكي في يناير ٢٠٠٢، فإن «العالم السري للإرهابيين — بما في ذلك جماعات مثل حماس، وحزب الله، والجهاد الإسلامي، وجيش محمد — يعمل وسط غابات وصحارى نائية، ويختبئ في مراكز المدن الكبرى … ولكن بعض الحكومات ستخشى مواجهة الإرهاب. ولا شك في أن أمريكا ستأخذ خطوة المواجهة إذا لم تتحرك هذه الحكومات.»
لقد اعتُبر مسلسل «٢٤» بمثابة تأييد من جانب فريق المحافظين الجدد للحاجة إلى مكافحة الإرهاب على نطاق واسع وبلا هوادة، إلا أنه وجه أيضًا نقدًا عامًّا للحرب على الإرهاب. ويُنسب إلى مسلسلات تلفزيونية أخرى مثل مسلسل «سلك التنصت» (٢٠٠٢–٢٠٠٨) — المستند على خبرات ضباط شرطة ومجرمين ومسئولي المدينة وغيرهم في مدينة بالتيمور المُعدمة وغير الآمنة ماليًّا — تقديم وجهة نظر مختلفة حول كيف تزود الحرب على المخدرات والحرب على الإرهاب والشرطة بعضها بعضًا بالمعلومات. يشير عنوان «سلك التنصت» إلى فكرة محورية للمسلسل، الذي كان ينصب تركيزه على أجهزة ضرورية لأعمال المراقبة الإلكترونية. فبعدما أصاب الإحباط شرطة بالتيمور لعجزها عن مقاضاة عائلة من كبار تجار المخدرات، لجأت إلى المراقبة والتدابير الاستثنائية، بما في ذلك العنف، لتعطيل الاقتصاد القائم على المخدرات في المدينة. وفي حين أن المخدرات تظل هي المصدر الرئيسي للقلق، وليس الإرهاب، فإن المسلسل يأخذ بعين الاعتبار كيف وقعت المدن الأمريكية في فخ مصفوفة أوسع نطاقًا من المسائل الجيوسياسية بما في ذلك إعادة الهيكلة الليبرالية الجديدة والسياسات الأمنية.
ومع أن أحداث المسلسل تدور في مدينة بالتيمور، فإن التحديات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تواجهها هذه المدينة المتعددة الأعراق لا تقتصر على شمال شرق أمريكا، بل ترتبط أيضًا بمصير أي مكان آخر في العالم. فقد تركت تدفقات تهريب المخدرات العالمية (وفقًا لأحداث المسلسل، المجرم الدولي الذي كان يمد آل باركسديل بالمخدرات يُعرف باسم «اليوناني») والاستثمارات المالية/المؤسسية بصماتها على البنية التحتية المادية للمدينة وسكانها في عدة مناحٍ من بينها التعليم الحكومي، ووسائل الإعلام، والحكومة المحلية. ويشير مسلسل «سلك التنصت» إلى أن الحرب على المخدرات، مثل الحرب على الإرهاب، ليست مجرد شعار نظري، بل أيضًا مؤشر على مجموعة من العلاقات التي تربط الناس والأماكن معًا. ويسلط المسلسل، خصوصًا في موسمه الخامس، الضوء على الكيفية التي تشن بها الشرطة وجهات إنفاذ القانون الحرب على المخدرات، في ظل مقاومة السكان المحليين وتأطير التغطية الإعلامية. ويقدم بشكل خاص نظرةً ثاقبة بشأن تأثير بعض الاستراتيجيات التي تقودها الشرطة فيما يخص تجارة المخدرات، مشددًا على أن المداهمات وأنظمة المراقبة تولد في النهاية شعورًا بالعزلة لدى المجتمعات المحلية وتقلل احتمالات دعم السكان لمحاولات تقنين تجارة المخدرات أو حتى القضاء عليها. يتأثر بعض السكان بهذه الاستراتيجيات المناهضة للمخدرات أكثر من غيرهم، وتحديدًا تُصوَّر الجاليات الفقيرة والأمريكية من أصول أفريقية على أنها تُقاسي ويلات الحرب على المخدرات. وفيما يتعلق بأولئك المُكلفين بشنِّ حملات مناهضة للمخدرات، يُظهِر المسلسل أن الآثار تؤدي إلى نتائج عكسية ومفسدة ومدمرة ومخيبة للآمال. وعلى النقيض من مسلسل «٢٤»، يمكن القول إن مسلسل «سلك التنصت» عبارة عن نقد لاذع لحالة الطوارئ (انظر مربع رقم ٩). إنه قصة تحذيرية عما يمكن أن يحدث عندما تعلن الدولة الحرب على شيء أو نشاط ما. فهو لا يوجه النظرة الجيوسياسية صوب الآخرين بالخارج، بل صوب العواقب المحلية والتداعيات اليومية والبسيطة؛ إلا أنها عواقب وتداعيات مؤثرة خاصة بالمراقبة والمداهمة والعنف. والمواقع الأساسية التي تبرز فيها الجيوسياسية هي الشوارع والمدارس والأرصفة ومراكز الشرطة؛ حيث يسعى تجار المخدرات والمحققون إلى تجنب أن يواجه بعضهم بعضًا.
مربع رقم ٩: حالات الطوارئ والدول العاملة بقانون الطوارئ
لقد اجتذبت حالة الطوارئ قدرًا كبيرًا من الاهتمام، واستكشف كتَّاب مثل كارل شميت في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته العلاقة بين القانون والسياسة والسيادة وحالات الطوارئ. وكان اهتمام شميت بالطوارئ قائمًا على اعتقادٍ مفاده أن ما يجعل الحاكم قويًّا ليس تنظيم «الوضع الطبيعي»، بل تفعيل «حالة الطوارئ». فمن خلال إعلان حالة الطوارئ أو فرض الأحكام العرفية، مثلًا، يكشف الحاكم أو الحكومة السيادية عن أوراقها من حيث تحديد ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به. وقد قدمت أفلام مثل «الحصار» (ذا سيدج) (١٩٩٨) و«عدو الدولة» (إينمي أوف ذات ستيت) (١٩٨٨) لمحة، في أجواء ما قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، عن كيفية استغلال «حالات الطوارئ» للمطالبة بضرورة الحصول على صلاحيات استثنائية بدون القيود العادية التي يفرضها القانون والإجراءات الشرطية.
لقد تساءل مؤلفون أحدث عهدًا، مثل الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين، عما إذا كانت «حالة الطوارئ» بالفعل حالة طارئة واستثنائية. بعبارة أخرى، هل هناك أدلة تشير إلى أن الدول غالبًا ما تكون في حالة استثنائية بطبيعتها، كما تدعي الحكومات الحديثة، ومن ثَم تدمج السلطات لتجاوز سيادة القانون من أجل التعامل مع التحديات، ولا سيما تلك التي توصف بأنها تحديات أمنية؟ ونتيجة لذلك، يصبح الحد الفاصل بين القانون والاستثناء غير واضح أكثر فأكثر نظرًا لأن الدولة تعتبر حالة الطوارئ نفسها هي الوضع الطبيعي. ويزعم منتقدو الحرب على الإرهاب أن ممارسات مثل التسليم الاستثنائي، والهجمات بالطائرات المسيرة، والاغتيالات المستهدفة، والمراقبة الجماعية، وما شابه ذلك، تكشف عن هذه الحالة الاستثنائية الشديدة ذاتها والاستخدام المتزايد للقوانين الجديدة و/أو العمل السري للتحايل على هذه الممارسات الاستثنائية وتسويغها. وعلاوة على ذلك، يُطلب أيضًا من المواطنين أنفسهم المساعدة في إدامة هذه المناشدات لفرض حالة الطوارئ من خلال أن يتجسس بعضهم على بعض والإبلاغ أينما أمكن عن «سلوك مشبوه». يتناول فيلم أحدث وهو «الدائرة»، (ذا سيركيل) (٢٠١٧)، فكرة إلى أي مدًى تصير المراقبة سلوكًا طبيعيًّا داخل شركة موقع تواصل اجتماعي وموظفيها.

الإنترنت والجيوسياسية الجماهيرية الحديثة
منذ ثمانينيات القرن العشرين، كان نمو الإنترنت وتطوره موضع تأييد واسع النطاق باعتباره وسيلة تشجع المزيد من التفاعل الاجتماعي وتقلص المسافة الجغرافية. ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد كبير أكبر مجتمع لمستخدمي الإنترنت وأهم مُنتِج للمعلومات. إن الفجوة الرقمية بين أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا من ناحية، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط من ناحية أخرى، تضيق بسرعة. وفي غضون عقدين، تطوَّر شكل من أشكال التواصل الاجتماعي قائم على المزيد من المشاركة، مما يسمح للمواطنين والشركات والدول وأصحاب المصلحة الآخرين بإنتاج مواد جيوسياسية خاصة بهم واستهلاكها.
وتسمح محركات البحث القوية مثل «جوجل» للمستخدمين بالوصول إلى الصور والقصص الإخبارية وتنزيلها في ثوانٍ معدودة، ولهذا تداعيات إيجابية وسلبية، تتراوح ما بين الخوف من نشر المواد التحريضية والمسيئة على الإنترنت وصولًا إلى قدرة الناس على الوصول إلى مجتمعات وشبكات اجتماعية جديدة بطريقة افتراضية. ومن الواضح أن هذا أتاح الازدهار لأنواع الأنشطة كافة، بما في ذلك الشبكات الإرهابية العالمية وجماعات النازية الجديدة. وقد استخدم تنظيم «القاعدة» الإنترنت لإيجاد تمويل، وإرسال رسائل مشفرة إلى الأعضاء، ونشر مقاطع فيديو لخطب قادتها، والترويج لأنشطتها في جميع أنحاء العالم. ومما أثار إحباطًا شديدًا للحكومات الوطنية أنه من الصعب للغاية إخضاع الإنترنت للمراقبة والتفتيش، حيث يمكن إغلاق مواقع الويب ثم تعاود الظهور بعد فترة وجيزة بعنوان نطاق مختلف.
لقد وفرت شبكة الإنترنت وسيلة مهمة للحركة المناهضة للعولمة، ومكنتها من تحدي كلٍّ من السلطة المادية للدول والشركات والمؤسسات المرتبطة بالنظام السياسي الاقتصادي المهيمن، ومواجهة تمثيلات بصرية ونصية معينة خاصة بتلك البنية المهيمنة. وفي حالة البُعد الأول، روجت الحركة المناهضة للعولمة ونظمت أيام عمل عالمية، وعادةً ما تكون في المدن التي تستضيف اجتماعات منظمة التجارة العالمية، أو صندوق النقد الدولي، أو مجموعة الثماني. وعلى نطاق أوسع، سهلت شبكة الإنترنت نمو الشبكات الاجتماعية وتطورها مثل اتحاد «العمل العالمي الشعبي» و«المنتدى الاجتماعي العالمي»، اللذين مكنا النشطاء من مختلف أنحاء العالم من التجمع معًا للنظر في بدائل لليبرالية الجديدة وحلول للقضايا المحلية مثل خصخصة المياه في جنوب أفريقيا، وملكية الأراضي في المكسيك، وتأثير سداد الديون الأجنبية في أمريكا اللاتينية.
لهذه الأسباب، أتاحت شبكة الإنترنت للأفراد والجماعات المنوطة بالاحتجاج على الليبرالية الجديدة تبادل الخبرات وخطط العمل، وتبادل جداول العمل، وتسليط الضوء على الأحداث المستقبلية على نحو أسرع بكثير مما كان في الماضي. ولقد تزامنت المظاهرات التي نُظمت خلال اجتماع منظمة التجارة العالمية في مدينة سياتل خلال شهرَي نوفمبر وديسمبر عام ١٩٩٩ مع ما أُطلقَ عليه التعبئة الإلكترونية والاحتجاج الإلكتروني. كما كانت القدرة على تداول الصور إلى جانب التعليقات أمرًا مهمًّا في السماح لهذه الجماعات بالترويج لوجهات نظرها وتشكيل أجندات الأخبار، على الرغم من أن العديد من النشطاء يشتكون من أن وسائل الإعلام السائدة تميل إلى تهميش احتجاجاتهم ومطالباتهم بإجراء إصلاحات جذرية للاقتصاد العالمي الليبرالي الجديد ومؤسساته الخدمية مثل منظمة التجارة العالمية أو المجموعات ذات النفوذ مثل مجموعة الثماني (انظر مربع رقم ١٠).
مربع رقم ١٠: تسريبات مالية عالمية
كشفت «وثائق الجنة»، التي سُرِّبت في عام ٢٠١٧، عن مجموعة واسعة من الاستثمارات الخارجية لعشرات الآلاف من الأفراد والشركات من ذوي الدخل المرتفع من مختلف أنحاء العالم. وفي إطار الحرص على التهرب من دفع الضرائب الشخصية وضرائب الشركات، تعترف الوثائق بالدور الحيوي الذي تلعبه المراكز المالية بالخارج في إخفاء الأموال عن الحكومات الوطنية. وتُحفظ الاحتياطيات النقدية للشركات الكبرى بالخارج، وتبين أن التنظيم المالي العالمي جزئي وغير منتظم، مما يقلل من القاعدة الضريبية لجميع البلدان. وجاء هذا التسريب للبيانات في أعقاب الكشف عن «وثائق بنما» في عام ٢٠١٥، والتي أكدت على أهمية الخدمات المالية والقانونية في تقديم المشورة المتخصصة بشأن التهرب الضريبي والتحايل على العقوبات الدولية. وما قد نتعلمه من هذه الاكتشافات هو مدى أهمية الصحافة الاستقصائية في قراءة ملايين الوثائق وتحليلها، وإلى أي مدًى لا يمكن تلخيص الجغرافيات المعقدة للنظام المالي الدولي بكل سهولة في «تقرير تستغرق قراءته خمس دقائق».
تُعَد معارضة أشكال التمثيل المهيمنة للنظام السياسي الاقتصادي العالمي السائد مجالًا آخر من مجالات الأنشطة التي تتيحها شبكة الإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام. ومن وجهة نظر الحركات المناهضة للعولمة، يدعم البث التلفزيوني المؤسسي لقمة مجموعة الثماني ومنظمة التجارة العالمية جيوسياسية الليبرالية الجديدة بدلًا من التصدي لها. وعادةً ما ينصب الاهتمام على رؤساء الدول ووفودهم بدلًا من الاهتمام بالمحتجين، الذين يُنظَر إليهم عادةً باعتبارهم مصدر إلهاء أو تحديًا أمنيًّا يلزم احتواؤه، وقد تزايد هذا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومع تزايد تركز ملكية وسائل الإعلام في أيدي شركات أكبر مثل نيوز إنترناشيونال، فمن المرجح أن يزداد هذا الاتجاه بدلًا من أن يتضاءل. وكما هي الحال مع الاقتصادات القوية مثل الولايات المتحدة واليابان، هناك ميل لدعم الوضع السياسي الاقتصادي الراهن، وهذا يشمل البنية السياسية اللازمة له، التي تساعد في تنظيم التفاعل بين الأراضي وتدفقات الناس والاستثمارات والتجارة.
ولكن، كما اكتشفت حكومات أخرى، قد يكون التحكم في المعلومات المنشورة عبر الإنترنت أمرًا مثيرًا للجدل وصعبًا، نظرًا لجهود القراصنة لتقويض جدران الحماية التي أنشأتها الحكومات؛ فقد استهدفت بعض منظمات القرصنة صراحةً وكالات حكومية وحسابات عبر شبكة الإنترنت من أجل الكشف عن عيوب أمن المعلومات أو تسجيل مثل هذه الأفعال باعتبارها شكلًا من أشكال المعارضة. وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أقرَّ الكونجرس الأمريكي «قانون باترويت» وغيره من التشريعات مثل «قانون حماية أمريكا» لعام ٢٠٠٧، الذي يمكِّن السلطة التنفيذية والوكالات الرئيسية مثل وكالة الأمن القومي الأمريكية من التحري في المراسلات عبر شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني لأولئك المشتبه في تورطهم في أنشطة من المرجح أن تُلحق ضررًا بالولايات المتحدة. كما قد سعت دول أخرى، مثل بريطانيا، إلى فرض قدر أكبر من المراقبة والسيطرة على المعلومات التي تعتبرها مشبوهة. وكان رصد الأفراد والجماعات، تحت مسمى مكافحة الإرهاب، بالغ الأهمية للحكومات التي تحاول استعادة البنية الجيوسياسية السائدة للدول ذات السيادة والحدود والمراقبة والأراضي القومية.
ومنذ المعلومات التي كشفها إدوارد سنودن، أحد موظفي وكالة الأمن القومي الأمريكية، في مايو ٢٠١٣، أدى إطلاع الجمهور على عمليات المراقبة الجماعية (التي غالبًا ما تكون تجسسًا بلا إذن قضائي)، وبرامج التنقيب في البيانات على وجه التحديد، مثل برنامج «بريزم»، إلى تفاقم الجدل حول الطريقة التي يُراقَب بها الدخول على الإنترنت واستخدامه روتينيًّا من قِبَل وكالات الاستخبارات، بما في ذلك وكالة الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية. ولم يكتفِ سنودن بتسريب عشرات الوثائق، بل كشف أيضًا عن أن المراقبة الجماعية شملت تعاونًا دوليًّا مع وكالات استخبارات أخرى من مختلف أنحاء العالم، وشركات اتصالات، ومقدمين لخدمات الإنترنت مثل «جوجل». وعندما دعا ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي السابق، إلى «الإحاطة الكاملة بالمعلومات»، ربما لم يكن واضحًا في ذلك الوقت كيف يمكن أن يؤدي هذا المسعى إلى ما وصفه البعض بثالوث المراقبة والإنترنت والصناعة. وعندما كان السيناتور أوباما لا يزال مرشحًا للرئاسة، كان ينتقد دولة الأمن القومي والمراقبة الجماعية، ولكن خفتت حدة موقفه الانتقادي عند توليه منصب الرئاسة.
تُذكرنا أحدث التسريبات بخصوص شركات وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات الشخصية بأن الدول المنشغلة بالأمن القومي ليست وحدها التي تجمع المعلومات عن مواطنيها. فماذا يعني كل هذا بالنسبة للجيوسياسية الجماهيرية؟ أولًا: ربما نتأمل في مسألة أن سلوكنا على وسائل التواصل الاجتماعي ليس فقط مصدر قلق أمني للدول، بل يُعَد أيضًا فرصة تجارية/استراتيجية للشركات والدول الأخرى. وقد أثارت الاتهامات بالتدخل الروسي في الحملة الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٦ قضايا مثيرة للاهتمام حول من الذي يمارس تأثيرًا غير مشروع، وما طبيعة ذلك التأثير، وكيف، وأين يُمارَس. ويفرض ترويج «الأخبار المزيفة» مزيدًا من المطالب بخصوص كيفية مشاركة المجتمعات المحلية، والمجتمعات الأوسع نطاقًا، للتفاعلات. ثانيًا: يمكن استخدام تحليلات البيانات لتشكيل الرأي العام بطرق استهدافية وشخصية أكثر مما قد توحي به الأجيال السابقة من الدعاية. ثالثًا: وسائل التواصل الاجتماعي شديدة التمييز بين نوعَي الجنس والعِرق، حيث تتعرض النساء وذوو البشرة الملونة في كثير من الأحيان لأسوأ الانتهاكات. وأخيرًا: أصبحت دول، مثل إستونيا، من الرواد الرقميين على صعيد الأمن السيبراني، والتدرب على الإلمام بالتعامل مع وسائل الإعلام، وتكنولوجيا قواعد البيانات المتسلسلة المُصممة لتوقع الهجمات الرقمية وهجمات حجب الخدمات الرقمية ومقاومتها.
الجيوسياسية الجماهيرية وغير الجماهيرية
لقد أوضح هذا الفصل كيف يمكن دراسة الجيوسياسية الجماهيرية فيما يتعلق بوسائل الإعلام، ومن الواضح أنه يمكن توسيع نطاق الدراسة بمزيد من التفصيل لتمتد إلى كل ما هو عام من فن ورقص وإذاعة ورسوم متحركة وموسيقى أو أي مما سبق. وفي حين تظل أشكال الإعلام التقليدية المُعترف بها، مثل الصحافة والإذاعة والتلفزيون، تمثل أهمية كبيرة في إنتاج الأخبار حول العالم وتداولها، فإن أشكال الإعلام الجديدة، مثل الإنترنت، وأنشطة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، مثل التدوين والبث الصوتي، هي التي ستحظى باهتمام متزايد من جانب المهتمين بالجيوسياسية الجماهيرية. ومع زيادة وتيرة التواصل البيني عبر شبكة الإنترنت، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، لا يوفر الإنترنت فرصة للمشاهدين للوصول إلى مصادر إخبارية مختلفة فحسب، بل يوفر أيضًا وسيلة للتعبير عن آرائهم عن طريق الإنترنت. ففي البلدان والمناطق التي يخضع فيها الرأي العام لسيطرة صارمة من جانب الحكومات الوطنية، يشكل المدونون حضورًا متزايد الأهمية حتى ولو كانت أنشطتهم تُخضعهم للمضايقات وتُعرضهم للسجن وتضعهم تحت المراقبة المستمرة. يقدم المدونون الإيرانيون رؤًى رائعة حول إيران المعاصرة، ويعبرون عن آراء معارضة بشأن خيارات السياسة الخارجية الإيرانية، وتساعد القراء المهتمين، مثلًا، على تفسير سبب شعور العديد من المنتقدين عبر شبكة الإنترنت بالتهديد من قِبل القوى العسكرية للولايات المتحدة، وإسرائيل، وباكستان، والهند، والصين. ومن المفيد أيضًا أن نرى أن تقنيات المراقبة الشخصية ومراقبة البيانات التي تم تطويرها في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية قد بِيعَت وصُدِّرت إلى أجزاء أخرى من العالم. لذا، فإن الجيوسياسية الجماهيرية في الحقبة المعاصرة هي مسألة تنطوي على كثير من المتناقضات. إذ يستطيع الأفراد الآن بأعداد غير مسبوقة الدخول على المنصات الرقمية وتوليد الوسائط الخاصة بهم والوصول إلى معلومات متخصصة بشأن العالم.
ولكن هذا العالم الرقمي عُرضة أيضًا لأشكال التدخل والتشويه، وهو عالم ينتهي المطاف فيه بشعور المواطنين والمجتمعات المحلية بمزيد من الاستقطاب والعزلة. ويمكن أن تتحول الجيوسياسية الجماهيرية بسرعة إلى جيوسياسية غير جماهيرية أو جيوسياسية شعبوية.