الفصل الخامس

الهويات

يتناول هذا الفصل سياسات الهوية؛ وذلك نظرًا لأن الجيوسياسية تدور في جوهرها حول تصور الاختلافات بين الذات والآخرين والتعبير عن تلك الاختلافات. يمكن أن تتخذ طريقة التعبير عن هذا الاختلاف أشكالًا متعددة، تتنوع ما بين كونها ذات طابع هزلي (فالنرويجيون يُلقون نكاتًا عن الدنماركيين والسويديين) وكونها ذات طابع أكثر شرًّا، مثل تأجيج التوترات الطائفية أو تأجيج رهاب المثلية الجنسية في أماكن مثل إندونيسيا. في سريلانكا، مثلًا، انتشرت قصص عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحذر من أن المجتمعات المحلية ذات الأقلية المسلمة تتآمر على الأغلبية السنهالية. وما يربط الأمثلة الثلاثة معًا هو العاطفة وما يسميه علماء الجيوسياسية «التأثير الانفعالي». ويُقصَد بذلك القوى الفعَّالة للشعور التي تشكل شعورنا تجاه الآخرين، والتي قد يتشكل بعضها من جرَّاء أحداث صادمة مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر و/أو النزاعات الطويلة الأمد وأشكال التعبير عن العداء. ويمكن أيضًا التلاعب بالعاطفة والتأثير الانفعالي؛ فالتقارير الإعلامية يمكنها أن تؤجج المشاعر، ويمكن للقادة السياسيين أن يشوهوا الحقائق ويبالغوا فيها، وقد يكون الجمهور حريصًا على التفاعل مع العواطف، بدايةً من الخوف والرعب إلى الأمل والسلام.

لا بد أن تتشكل استحقاقات الهوية الوطنية، وكان المؤرخون وكذلك الفنانون والكتَّاب في طليعة من لاحظوا كيف تُخترَع التقاليد والسمات الوطنية وتُتداوَل عبر الثقافات العامة. وتحدَّث المؤرخان إريك هوبزباوم وتيرينس رانجر ذات مرة عن «اختراع التقاليد»، وأكدا أن الأمم بارعة في اختراع الطقوس والممارسات ثم ادعاء أنها تمتلك أصلًا عريقًا.

تهتم الجيوسياسية النقدية بالهويات القومية لأن تلك «الاختراعات للتقاليد» تترسخ وترتكز أيضًا على العلاقات القائمة بين البشر والأماكن. إن تشكيل الهويات الوطنية وإعادة تشكيلها عملية إبداعية ومتكررة. فالروايات والنُّصب التذكارية والمواد التعليمية ذات طبيعة جغرافية متأصلة؛ لأنها تتعامل مع تلك التقاليد الخاصة بالهوية لربط الأماكن والأقاليم بالثقافات والشعوب. ولا تقتصر سرديات الهوية بالطبع على مستوى الدولة القومية فحسب، بل يمكنها أن تمتد، وبالفعل تمتد، إلى مجموعة متنوعة من النطاقات الجغرافية، من المستوى الفردي ودون الوطني إلى الإقليمي الشامل، وأخيرًا إلى المستوى العالمي. ويمكن للأفراد والرموز المادية (انظر الفصل السادس) تصدُّر إنتاج وتداول سياسات الهوية والعلاقات بين الذات والآخر. يقدم علماء الجيوسياسية النسوية والمثلية وعلماء العرق النقديون رؤًى مؤثرة حول كيفية تشكيل ذاتية الجيوسياسية وإعادة تشكيلها، وخاصة من خلال أولئك الذين يُعتقد أنهم «ينتمون» إلى أماكن وأقاليم معينة.

تفرض جماعات ثقافية وسياسية أخرى، مثل الجماعات دون الوطنية والحركات الاجتماعية وجماعات الشتات، تحدياتٍ على استحقاقات فئات معينة لهوية وطنية خاصة. ونظرًا لأن قدرات الدول على السيطرة على حيزها الاقتصادي والثقافي والسياسي تواجه تحديات تفرضها أطراف فاعلة غير حكومية وتدفقات للمهاجرين وطالبي اللجوء واللاجئين، تبدو تلك الاستحقاقات للهويات الوطنية الخاصة غالبًا أكثر إلحاحًا. ونجد أحد الأمثلة على ذلك في أوروبا عبر أشكال القومية الاستبدادية، التي تستمد قوتها من المخاوف من تغير الثقافات والهويات الوطنية. كتب مايكل بيلينج ذات مرة عن أشكال القومية الانفعالية والمبتذلة، وأوضح أن الهويات الوطنية والقوميات لديها هذه القدرة الغريبة على أن تبدو مُلحةً وعاجلةً في أوقات معينة، ومُسلَّمًا بها في أوقات أخرى. وتختلف حدة القيود المفروضة على كيفية تدريس التاريخ والجغرافيا القوميين، ومتى وأين يمكن التعليق على شخصيات عامة، ومن الذي ينتمي إلى مجتمع ما أو بلد ما (انظر مربع رقم ١١).

مربع رقم ١١: الهُوية والجيوسياسية: سفينة جلالة الملك إمباير ويندرَش وقانون الهجرة لعام ٢٠١٤ (المملكة المتحدة)

في عام ١٩٤٨، رست سفينة جلالة الملك إمباير ويندرَش في ميناء لندن، وعلى متنها مجموعة من المهاجرين الجامايكيين. أدى وصولهم إلى ظهور ما يُسمى بجيل ويندرَش: الرعايا الكاريبيون البريطانيون الذين دُعوا إلى المملكة المتحدة لتولي وظائف في المناطق التي تعاني من نقص العمالة. وفي عام ٢٠١٨، بعد نحو سبعين عامًا من وصول سفينة ويندرَش لأول مرة، هزَّت فضيحة تتعلق بمعاملة المواطنين الكاريبيين البريطانيين المسنين، الذين كان يجري ترحيل بعضهم، أو وصفهم بالعمالة غير المنتظمة، أو حرمانهم من الحصول على الرعاية الصحية أو كل مما سبق. وبعد موجة من الاحتجاجات العلنية، اضطرت حكومة حزب المحافظين إلى وقف أي ترحيلات أخرى لأولئك المتهمين بالافتقار إلى وثائق وافية. وقد كشفت الفضيحة السياسية عن تأثير التشريعات الجديدة المُصممة لخلق «بيئة معادية» للمهاجرين، وكيف يمكن للرؤى الجيوسياسية البريطانية، التي غالبًا ما تؤكد على أهمية الكومنولث، أن تتصادم مع رغبة الحكومات في تقييد حركة انتقال المهاجرين من أفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي. من منظور منتقدي الحكومة، حُكِم على قانونَي الهجرة لعامَي ٢٠١٤ و٢٠١٦ بأنهما ينطويان على عنصرية من الناحية المؤسسية والقانونية في المقصد والمحصلة. وثَمة رابط وثيق بين الحدود وعملية تعيين الحدود وبين بعض الناس أكثر من غيرهم، وهو ما يُسفر عن قلق وخوف لدى المتضررين.

الجيوسياسية والهوية الوطنية

إن خلق النظام السياسي الدولي الحديث القائم على الدول القومية ذات الاختصاصات الإقليمية الخالصة يرجع عمومًا إلى أوروبا في القرن السابع عشر. وعلى مدى القرون التالية، نشأت حكومات قومية وأُسست عن طريق الدبلوماسية والقانون الدولي؛ دول متفرقة تطوق الآن سطح الكرة الأرضية، باستثناء القارة القطبية الجنوبية وأجزاء من المحيطات. ومع بدء أجهزة الدولة في الإحاطة بالشئون اليومية للمواطنين، بدأت الحكومات القومية — من خلال سيطرتها و/أو مراقبتها لوسائل الإعلام الوطنية و/أو التعليم المدرسي — في حشد قدر أكبر من الطاقة لابتكار الهوية الوطنية المستقلة والحفاظ عليها. وكما أشار ميشيل فوكو، كجزء من اهتمامه بالحوكمة البيوسياسية، تضع الدولة القومية الخرائط وتُجري الدراسات الاستقصائية والتعدادات السكانية والتقييمات للسكان والأقاليم الوطنية بكثافة أكبر. ففي العديد من البلدان، على سبيل المثال، يكون هذا الأمر متكررًا؛ يُطلب منا استكمال نماذج التعداد الوطني للسكان، والتسجيل من أجل التصويت، وتقديم معلوماتنا التفصيلية من أجل الحصول على جواز سفر، أو الحصول على رقم الضمان الاجتماعي، وهلُمَّ جرًّا.

في حالة الأرجنتين، مثلًا، التي أعلنت استقلالها عن الإمبراطورية الإسبانية في عام ١٨١٠، كان وضع الخرائط والمساحة عنصرًا أساسيًّا في تشكيل الهوية الوطنية. وقد اتخذت عملية إنشاء ما أسماه بنديكت أندرسون «المجتمع المُتخيَّل» عدة أشكال، كان أحدها إدخال ما يُسمى «التربية الوطنية» في أواخر القرن التاسع عشر لزيادة الوعي الوطني لدى المواطنين. ولم يكن توقيت هذه الإصلاحات التعليمية من قبيل الصدفة؛ فلم تعمل حكومة بوينس آيرس على توسيع نطاق سلطتها السيادية على منطقة جغرافية ممتدة لنطاق أوسع فحسب، بما في ذلك المنطقة الواقعة أقصى جنوب باتاجونيا، بل كان عليها أيضًا التعامل مع موجات جديدة من المهاجرين القادمين بالأساس من إيطاليا وإسبانيا، والذين تعيَّن دمجُهم، وغُرس في نفوسهم شعور بما يعنيه أن تكون مواطنًا أرجنتينيًّا.

كان أحد أهم عناصر التربية الوطنية هو درس الجغرافيا الذي مفاده أن الأرجنتين دولة غير مكتملة. بل يمكننا تصنيفه بأنه درس ميلودراما جيوسياسية؛ أي قصة إطارية لجأت إليها النخب السياسية عند سعيها إلى فهم سياسات واستراتيجيات معينة. ولا يزال ضم بريطانيا لجزر فوكلاند في عام ١٨٣٣، التي وُصفت ﺑ «الأخوات الصغيرات المفقودات»، يشكل عنصرًا لا يتجزأ من التعبير عن الهوية الوطنية الأرجنتينية. ويواصل التعليم المدرسي تعزيز هذه الرؤية، ويضمن أن يتمكن كل طفل من أطفال المدارس من رسم مخطط للجزيرتين الرئيسيتين (فوكلاند الشرقية والغربية وفقًا للمتحدثين باللغة الإنجليزية) في مستوى المرحلة الابتدائية. وكما توحي الصفة المُشار إليها ﺑ «الأخوات الصغيرات المفقودات»، غالبًا ما يُوصَف الإقليم بمصطلحات شديدة التمييز بين الجنسين: لاحقة شقيقة للكيان السياسي، وهو الأرجنتين القارية (الوطن). ولذلك ليس من المستغرب أن يُبرهَن على صحة هذا العمل باعتباره عملًا من أعمال الخلاص الجغرافي بعد عملية «الاغتصاب» التي تعرضت لها جزر فوكلاند من قِبَل بريطانيا الاستعمارية في وقت سابق عندما «غزتها» الأرجنتين في عام ١٩٨٢. ومن اللافت لنظر الجمهور غير الأرجنتيني أن الحشود التي تجمعت في الساحة الرئيسية القريبة مما يُسمى بالبيت الوردي (المقر الرسمي لرئيس الأرجنتين) في بوينس آيرس هتفت للنظام العسكري. وفي الوقت نفسه، كان نظام الحكم والحكومات العسكرية الأخرى في الماضي القريب تعذب مواطنيها وتعدمهم. وبدت التوعية الجغرافية مكتملةً للغاية إلى الحد الذي جعل الكثيرين في الجمهورية على استعداد، في تلك اللحظة، للاحتفال بهذا الإجراء لضم الأراضي.

ولم يحل الانتصار البريطاني في يونيو عام ١٩٨٢ هذه الأزمة الإقليمية. وعلى الرغم من مزاعم حكومة مارجريت ثاتشر بعكس ذلك، تستمر إحاطة المواطنين الأرجنتينيين عِلمًا بأن هذه المَظلَمة الإقليمية ما زالت قائمة. وشجعت المؤسسات الإعلامية والحكومات الأرجنتينية المواطنين والزائرين على تخيل هذا النزاع الإقليمي قائمًا بالفعل. فإذا فتحت مجلةً وتأملت تقارير الطقس للجمهورية الأرجنتينية، فستجد أن جزر فوكلاند تحمل اسم جزر مالفيناس. ومنذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، أصبح من المخالف قانونيًّا في الأرجنتين إنتاج أي خريطة للجمهورية لا تحمل اسم جزر فوكلاند بوصفها أرجنتينية، هذا فضلًا عن جزء من القارة القطبية الجنوبية الأقرب إلى البر الرئيسي لأمريكا الجنوبية. وتُذكِّر الخرائط العامة والجداريات المواطنين والزائرين باستمرار بأن الجزر قريبة جغرافيًّا من باتاجونيا. ويجري باستمرار إدانةُ السيادة البريطانية ليس فقط لأنها تُذكرنا بحوادث استعمارية سابقة، بل أيضًا باعتبارها مؤشرًا على شكل بغيض جدًّا من التوسع الجغرافي المفرط. ومنذ عام ١٩٨٢، توفر النصب التذكارية الحربية في الأماكن العامة ببوينس آيرس وغيرها من الأماكن فرصة أخرى للتأمل الجغرافي والثقافي فيما يعتبرون أنه ينبغي أن يندرج ضمن الأراضي الوطنية الأرجنتينية.

ولهذا الهوس الواضح باستعادة جزر فوكلاند آثارٌ أوسع نطاقًا على الهوية الوطنية الأرجنتينية. فمن ناحية، ساهم في تشكيل رؤية للجمهورية باعتبارها دولة منتهكة جغرافيًّا، الأمر الذي لا يزال يشكل أمرًا شديد الحساسية للمسائل الإقليمية، كما تشهد بذلك بلدان متاخمة مثل تشيلي. فقد دخلت الدولتان في جدال بشأن حدودهما الإقليمية في جبال الأنديز طوال جزء كبير من تاريخهما. وقد أدى هذا في بعض الأحيان إلى مواقف مشحونة يتجادل فيها الجانبان حول أجزاء إقليمية نائية غير مأهولة بالسكان في مناطق تؤثر فيها حركة الجليد والصخور على التدابير التقليدية المستخدمة لتعيين إحداثيات الحدود مثل مستجمعات المياه والنتوءات الجبلية. ومن ناحية أخرى، سمح ضم المملكة المتحدة لجزر فوكلاند في القرن التاسع عشر لقادة الحكومات اللاحقين مثل الرئيس بيرون في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين بتكوين رؤية وطنية للأرجنتين كدولة حريصة على التخلص من النفوذ البريطاني وغيره من أشكال النفوذ الاستعماري. ويستمر هذا الوضع حتى يومنا هذا، حيث هاجم رؤساء أحدث عهدًا استمرار السيطرة البريطانية على الجزر، ويتطلعون إلى تنمية قطاع إنتاج النفط والغاز في المستقبل بقلق شديد. إن تدفقات الإيرادات الجديدة، بالإضافة إلى حكومة جزر فوكلاند التي تحدوها ثقة متزايدة (التي نظمت استفتاءً شعبيًّا شهيرًا حول مستقبلها في مارس ٢٠١٣)، تجعل احتمال تفاوض المملكة المتحدة مع الأرجنتين حول السيادة على الجزر يتضاءل يومًا بعد يوم.

لا تُعَد الهواجس الإقليمية التي تنتاب الأرجنتين فريدة من نوعها، بل إن قصصًا مماثلة قد ترويها بلدان أخرى مثل بوليفيا والهند وباكستان، نتيجة لخسارة الأراضي أو التقسيم الرسمي. وفي كل هذه البلدان، تتسم الخرائط بحساسية بالغة تجاه ما تصفه بخصوص الحدود الوطنية و/أو الحيازة الإقليمية. كما تساعد المخاوف الإقليمية في تشكيل المناهج الدراسية والفهم الذاتي الأوسع نطاقًا. ومن الممكن أن تكون وسائل الإعلام الوطنية في ذلك الصدد بالغة الأهمية، ليس فقط في توليد شعور ﺑ «المجتمع المتخيل»، بل أيضًا في المساعدة في ترسيخ فهم ذاتي معين. ففي بوليفيا، من الشائع أن نقرأ ونشاهد ونستمع إلى قصص عن الحرمان من الوصول إلى المحيط الهادئ في القرن التاسع عشر. ويُذكِّر الرؤساء البوليفيون المتعاقبون المواطنين بهذا الظلم التاريخي وأهمية ما يُسمى ﺑ «يوم البحر» الذي يُحتفل به في شهر مارس من كل عام. وتتجلى الجيوسياسية الخاصة بالهوية الوطنية بوضوح في بلدان مثل الأرجنتين وبوليفيا؛ لأن المظالم الإقليمية وأوجه عدم اليقين بشأن الحدود الدولية من شأنهما أن يعرضا استحقاقات الهوية الوطنية وأوجه التعبير عن الفخر للخطر.

وفي الولايات المتحدة، التي وسعت حدودها الداخلية غربًا، اتخذت عملية تشكيل الهوية الوطنية شكلًا مختلفًا من أشكال التعبير. فإذا كان الأرجنتينيون قلقين بشأن ملفهم الإقليمي، فإن الأمريكيين كانوا، ولا يزالون، منشغلين إلى حد كبير بالطابع الاجتماعي والعرقي لمجتمعهم الوطني وتأمين حدودهم الجنوبية مع المكسيك. وتتناقض التجارب الخاصة بالمجتمعات المحلية مثل الأمريكيين الأصليين والأمريكيين من أصل ياباني والأمريكيين من أصل أفريقي تناقضًا حادًّا مع تجارب الأمريكيين المسيحيين ذوي البشرة البيضاء، الذين ما زالوا يشكلون الثقافة السياسية السائدة في البلاد. وقد تشكلت الجغرافيا السياسية للولايات المتحدة بشكل كبير من خلال النضال للاعتراف بالأقليات الأخرى من قِبَل النظام السياسي الوطني. فقد ظهرت حركات الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين والحركات المناضلة من أجل تأمين الحريات المدنية للمجتمعات الأمريكية من أصل أفريقي في ظل الخلفية الجيوسياسية للحرب الباردة. وهكذا، بينما كانت الولايات المتحدة تؤيد وجود نظام ليبرالي دولي، كان «الحلم الأمريكي» تجربة متنوعة للعديد من مواطنيها حسب العرق والطبقة ونوع الجنس والموقع.

وفي أسوأ أحوالها، كانت الجاليات داخل الولايات المتحدة محرومة من حقوقها، وتعاني الإقصاء بسبب التحيز في تقسيم المناطق الانتخابية (أي التلاعب المتعمد بالدوائر الانتخابية من أجل تفضيل بعض الناخبين على غيرهم) والتمييز في السكن والوظائف. ويمكن تفسير الرموز الوطنية مثل تمثال الحرية بطرق مختلفة اعتمادًا مثلًا على التجارب الفردية والمجتمعية. وقد كونت المجتمعات المحلية للأمريكيين من أصول أفريقية، الموجودة في مدن مثل نيو أورلينز، في أعقاب إعصار كاترينا في عام ٢٠٠٥، صلات سياسية-جغرافية مماثلة، حيث أصبح من الواضح أن الحكومة الفيدرالية كانت بطيئة في ردة فعلها تجاه خسائر الأرواح والممتلكات بين فئة الفقراء وذوي الإعاقة. وكانت الأسر الأمريكية الأفريقية ممثَّلة بأعداد كبيرة بدرجة مفرطة في كلتا الفئتين. وفي الآونة الأخيرة، أثارت أشكال التعبير عن الفوضى الحضرية أسئلة انتقادية بخصوص العدالة والمساواة، بقيادة حركات اجتماعية مثل حركة «حياة السود مهمة» والاحتجاجات على التلاعب بنتائج الانتخابات.

وثَمة مثال معاصر آخر، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، يتمثل في الدور البادي التناقض الذي تلعبه الجاليات العربية الأمريكية والآسيوية الأمريكية. اشتكى كثير من الأمريكيين من أصول عربية وأشخاص من أصول جنوب آسيوية من تعرضهم للمضايقات والترهيب والطرد المتكرر من الرحلات الجوية المقررة، بسبب مظهرهم ولون بشرتهم؛ لأن الركاب الآخرين اشتكوا من تصرفاتهم واختيارهم للغة؛ مثلًا، اللغة العربية أو اللغة الأردية بدلًا من الإنجليزية. ونتيجةً لهذا، اشتكى المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية العربية من أن الجالية العربية تشعر بالاضطهاد وبوصمها بالعار بسبب تصرفات خمسة عشر سعوديًّا وأربعة آخرين من مختطفي الطائرات الناطقين بالعربية في هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وبعيدًا عن عدم منطقية هذا، فقد أدى إلى إيحاء بأن الأشكال الجديدة من سياسات الهوية تعطي الأولوية لبعض أشكال التعبير عن نوع الجنس والعِرق والهوية الجنسية إلى حد كبير على حساب الأقليات العرقية، التي يُنظر إليها الآن بمشاعر يشوبها الخوف والاشمئزاز، وخاصة إذا شغلت أماكن عامة ومغلقة مثل الطائرات والسفن والقطارات. كما أنها تُنتج، في تناقض صارخ، ردود فعل عنيفةً من جانب بعض الأمريكيين ذوي البشرة البيضاء الذين يستاءون من الهجوم على «امتياز ذوي البشرة البيضاء» والمطالبات بهيمنة ذوي البشرة البيضاء.

إن الهوية والأرض عاملان يؤثر كلٌّ منهما عن الآخر في سياق الدول القومية. فقد أدت الأراضي الوطنية دور منصات سياسية مستقرة فيما يبدو لتصنيع الهويات الوطنية وإعادة إنتاجها. وقد وفرت مؤسسات مثل وسائل الإعلام الوطنية ونظام التعليم الحكومي، وما زالت توفر، القدرة على توليد تمثيلات معينة للمجتمعات الوطنية باعتبارها مجتمعات غير مكتملة إقليميًّا (الأرجنتين)، ومنتهكة إقليميًّا (فلسطين)، وساعية إلى السيادة الإقليمية (فلسطين وكوسوفو وكردستان)، ومتطلعة إلى التوسعات الإقليمية (الصين)، وكمثال للعالم الأوسع نطاقًا (الولايات المتحدة) (انظر مربع رقم ١٢).

مربع رقم ١٢: موقع «فيسبوك» وكوسوفو

في نوفمبر ٢٠١٣، قررت شركة خدمات وسائل التواصل الاجتماعي «فيسبوك» إدراج كوسوفو في خياراتها كما لو كانت دولة مستقلة (وفقًا لإعلان الاستقلال لعام ٢٠٠٨ الذي لم تعترف به صربيا). وقبل ذلك التاريخ، كان الكوسوفيون مضطرين إلى اختيار «صربيا» إذا رغبوا في إنشاء حساب على موقع «فيسبوك». وتشير التقديرات إلى أن نحو ٢٠٠ ألف مستخدم لموقع «فيسبوك» انتقلوا من اختيار «صربيا» أو ربما «ألبانيا» إلى اختيار «كوسوفو». ويبدو أن الشركة أبلغت رئيس وزراء كوسوفو مسبقًا بقرارها بالاعتراف ﺑ «كوسوفو» موقعًا معتمدًا. ومن المثير للاهتمام أن أعضاء حكومة كوسوفو سارعوا إلى رؤية هذا القرار باعتباره مساهمة إيجابية في العلاقات العامة لكوسوفو والتزامها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع أن موقع «فيسبوك» لم يزعم قط أنه يتمتع بسلطة «الاعتراف» بالدول مثلما تفعل الدول ذات السيادة والأمم المتحدة (وقد اعترفت نحو مائة دولة بالفعل بكوسوفو دولةً مستقلة)، فإنه يسلط الضوء حقًّا على كيفية تشكيل الدبلوماسية الرقمية للدول، من بينها كوسوفو، جزئيًّا من خلال الاهتمام بسلوك شركات خدمات وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الجدير بالذكر أن عدد مستخدمي موقع «فيسبوك» النشطين يُقدَّر بأكثر من مليار شخص؛ ولذلك فهذا النوع من الاعتراف الرقمي بكوسوفو سيكون موضع ترحيب من قِبل قطاعات كوسوفو الرئيسية مثل الحكومة والأعمال والسياحة، على الرغم من أنه من المستبعد أن يكون موضع ترحيب من قِبل الحكومة الصربية وأولئك المعارضين داخل كوسوفو للاستقلال.

الجيوسياسية والهوية الإقليمية الشاملة

يُقال إن الأشكال الوطنية للتعبير عن الهوية ما زالت هي الأهم؛ نظرًا للنظام السياسي الدولي السائد القائم على الدول القومية والحدود الإقليمية. ومع ذلك، فالهويات ليست دائمًا مقيدة بالحدود الإقليمية. ففي بعض الأحيان، قد تتسرب الهويات ببساطة إلى ما هو أبعد من الحدود الإقليمية أو تُنتج عمدًا بحيث تتجاوز رقعة الدول القائمة بالفعل وحدودها الوطنية. وتقدم أوروبا أحد الأمثلة على ذلك، وتُعَد معاهدة روما لعام ١٩٥٧ وما سبقها من معاهدات ذات أهمية في هذا الصدد. فقد لعبت شخصيات سياسية أوروبية (خاصةً في فرنسا وألمانيا)، مثل جان مونيه وكونراد أديناور، دورًا فعالًا في بدء العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المصممة لتعزيز التعاون الأوروبي والاندماج المحتمل، بعد أن شوَّهتها تجربة خوض حربَين عالميتين مدمرتين. ففي حالة ألمانيا الغربية، التي كانت تتعافى من الخسائر التي تكبَّدتها بسبب صراعَين عالميين وما أسفر عنهما من تقسيم للأراضي، لم تكن معاهدة روما تهدف إلى تعزيز الاندماج الأوروبي فحسب، بل كانت أيضًا برهانًا إضافيًّا على أن البلاد سعت إلى إعادة تصور نفسها جزءًا لا يتجزأ من أوروبا الديمقراطية وحليفًا جيواستراتيجيًّا للولايات المتحدة كما كشفت الأحداث فيما بعد.

ومع أن تجارب الحرب العالمية الثانية وفرت الأساس المنطقي لهذا المشروع الخاص بالاندماج الأوروبي، فإن التعريف الجغرافي للعضوية في هذا الكيان كان مثيرًا لمزيد من القلق. من الذي يمكنه الانضمام إلى هذا النادي الاقتصادي الجديد؟ أين تبدأ وتنتهي حدود أوروبا؟ هل كان لزامًا على الدول الأعضاء أن تكون ذات غالبية مسيحية من حيث الروح والنظرة القوميتان؟ وفي عام ١٩٦٣، تقدمت تركيا — التي كثيرًا ما تُوصف بأنها جسر جغرافي بين أوروبا وآسيا — بطلب للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ومنذ ذلك الحين ظلت علاقتها بالدول الأعضاء الحالية تمثل إشكالية.

وبعد مرور خمسين عامًا، لا تزال مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي محل جدل، حيث أعربت بعض الدول الأعضاء اللاحقة، مثل النمسا، عن مخاوفها من أن هذا البلد المكتظ بالسكان سوف يفرض ضغوطًا اقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة على العضوية الراهنة، ولفتت دول أخرى الانتباه إلى حقيقةٍ مفادها أن تركيا ليست ملتزمة بالشكل الكامل بحقوق الإنسان وحماية الأقليات العرقية والثقافية. وفي ظل المناقشات الدائرة حول حركة العمالة، والفرص الاقتصادية، وحقوق الإنسان، والتكامل السياسي، يعتقد المنتقدون في تركيا وخارجها أن ثَمة قلقًا ثقافيًّا أساسيًّا بشأن دمج أعداد إضافية من المسلمين في أوروبا التي يوجد بها بالفعل جاليات مسلمة كبيرة لا سيما في فرنسا وألمانيا. كما أدت الأزمة الإنسانية التي تؤثر على الأوضاع في سوريا في السنوات الأخيرة إلى مزيد من الاستقطاب في وجهات النظر حول كيفية استيعاب المجتمعات الأوروبية للمهاجرين من الشرق الأوسط ودمجهم بداخلها. واللافت للنظر أن الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، لم يعرب عن أي اهتمام بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مفضلًا الترويج لتركيا كقوة عظمى إقليمية مستقلة.

لقد تغيرت التمثيلات الجغرافية لأوروبا على مر التاريخ، وسيكون مضللًا إلى حد بعيد أن نزعم وجود تفاهمات مستقرة بشأن هذه المساحة القارية. وكثيرًا ما كانت المناقشات الأخيرة حول مستقبل الاتحاد الأوروبي مليئة بالمخاوف المتعلقة بالأرض، والهوية، والرخاء، والسيادة. وفي خضم الحروب البوسنية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، تعرضت دول الاتحاد الأوروبي لانتقادات لاذعة بسبب ضعفها وفشلها في التدخل في شأنٍ يمسُّ العضوية. وسخر مفكرون بوسنيون وآخرون أوروبيون من عجز أقرانهم الأوروبيين عن مساعدة دولة متعددة الثقافات والأعراق تقع على بُعد ساعتين فقط بالطائرة من لندن، وعلى بُعد أقل من ساعتين من باريس وبون وروما. وفسَّر مراقبون كثيرون تدمير مدن مثل موستار وسراييفو في عام ١٩٩٢، ووقوع مذبحة أودت بحياة سبعة آلاف رجل وصبي في مدينة سربرنيتسا البوسنية في عام ١٩٩٥، على أنهما دليل إدانة دامغ على فشل هذا المشروع الأوروبي في تعزيز قيم مثل الاندماج والتسامح والسلام والديمقراطية. وبعد مرور ربع قرن، يواجه أعضاء الاتحاد الأوروبي وضعًا تُتهم فيه دول أعضاء أحدث، مثل المجر وبولندا، بتحجيم القيم الأساسية مثل سيادة القانون واستقلال القضاء.

إن هذه فترات حافلة بالتحديات. فالاتحاد الأوروبي يقدم نفسه باعتباره مؤيدًا للقيم والممارسات الديمقراطية الليبرالية مثل سيادة القانون والحكم الديمقراطي والشفافية والمساءلة واستقلال القضاء. وفي السنوات الأخيرة، زادت التحديات الكامنة وراء ذلك. وتضرب بولندا مثالًا من أبرز الأمثلة على ذلك. فبين عامَي ٢٠١٧-٢٠١٨، وجدت الحكومة البولندية نفسها في صراع مع المفوضية الأوروبية بشأن قوانين مثيرة للجدل؛ مما أثار إجراءات تأديبية بموجب المادة ٧ إزاء المقترحات البولندية للإصلاح القضائي. حدد حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا معالم علاقة يغلب عليها الطابع التنفيذي مع القضاء بسبب عدم كفاءة القضاء وعدم خضوعه للمساءلة. وادعى مسئولو المفوضية الأوروبية أن الإصلاحات المقترحة تتعارض مع التزام الاتحاد الأوروبي بمبدأ القضاء المستقل. ومن الممكن فرض عقوبات على الدول إذا وجدت دول أعضاء أخرى أن واحدة من الدول الأعضاء تهدد سلامة الاتحاد الأوروبي وممارساته وقيمه.

إلا أن توقيت «الأزمة» كان حرجًا. فهو يثير تساؤلات حول الجيوسياسية التقدمية التي كان يتوجب أن يؤيدها الاتحاد الأوروبي؛ وما تشتمل عليه من حرية تنقل الشعوب، والحدود المفتوحة، وتعزيز التجارة، والتعاون الدولي، وحماية حقوق الإنسان. ولا يزال مزيج من الأزمات المالية وأزمات المهاجرين يفرض ضغوطًا كبيرة على الاتحاد الأوروبي باعتباره مشروعًا إقليميًّا مفتوحًا وليبراليًّا وديمقراطيًّا. وفي خضم المفاوضات المتعلقة بالدستور الأوروبي، ناقشت الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام بأسلوب تشوبه الحماسة طبيعةَ الاتحاد الأوروبي وهدفه، الذي يضم الآن سبعًا وعشرين دولة من الدول الأعضاء (إذا ما استثنينا المملكة المتحدة، التي من المقرر — في وقت تأليف هذا الكتاب — أن تنسحب من الاتحاد بحلول نهاية أكتوبر ٢٠١٩). وأرادت بعض الشخصيات السياسية اليمينية أن يجسد الدستور روح «أوروبا المسيحية»، وأن يركز على هويتها الجغرافية كحضارة متميزة. ولكن الناخبين الفرنسيين والهولنديين رفضوا فيما بعدُ الدستور المقترح؛ ومن ثَم عرقلوا طرحه فعليًّا. ويرى المراقبون غير المسيحيين أن إمكانية تعريف أوروبا على أنها منبر للمسيحية ستكون مثيرة للقلق، نظرًا للوجود الطويل الأمد للجاليات اليهودية والإسلامية في جميع أنحاء القارة.

من أكبر التحديات الكبرى التي تواجهها حكومات أوروبية كثيرة، من بينها بريطانيا وفرنسا وهولندا، حالة الاغتراب التي تعيشها الجاليات المسلمة. فعلى سبيل المثال، شعر محمد عطا، أحد منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بخيبة أمل عميقة إزاء المجتمع الألماني أثناء دراسته في هامبورج. وفي فرنسا، أُلقيَ اللوم في أعمال الشغب — التي اندلعت في ضواحي باريس في صيف عام ٢٠٠٥ — على التمييز والعنصرية اللتين يواجههما الشباب المسلمون. ولقد ساهمت تجارب الاغتراب المحلية، مقترنةً بالأزمات المستمرة في أفغانستان وفلسطين والعراق والشيشان، في خلق شعور عالمي بالظلم. وقد استُشهد بهذا المزيج من العوامل الدينية والجيوسياسية المحلية والإقليمية والعالمية باعتباره الدافع الرئيسي وراء سلسلة تفجيرات شبكة النقل العام التي نفذها أربعة رجال في لندن في السابع من يوليو ٢٠٠٥.

تتكرر هذه المناقشات الثقافية بشأن المدى الجغرافي لأوروبا في كثير من سرديات الهوية الوطنية وأشكال التعبير عنها على المستوى الإقليمي الشامل. ولا يمثل ارتباط تركيا الطويل الأمد مع الاتحاد الأوروبي سوى جانب واحد من هذا الموقف الحرج، كما مثلت الحروب التي اجتاحت يوغوسلافيا السابقة في أوائل التسعينيات جانبًا آخر. وكثيرًا ما أثارت جوانب أخرى من الحياة السياسية والثقافية في عموم أوروبا، مثل تدفق المهاجرين إلى داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه، مخاوف بشأن من يُصنَّف أوروبيًّا ومن لا يُصنَّف كذلك. وقد دفع دخول بولندا وسلوفاكيا إلى الاتحاد الأوروبي بعض الصحف البريطانية إلى التحذير من أن بريطانيا سوف «تغمرها» موجات هجرة الأوروبيين الشرقيين بحثًا عن فرص عمل. وكما حدث مع موجة الهجرة من جانب ما يُسمى بالكومنولث الجديد في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، زعم بعض النقاد أن البلاد كانت على وشك أن يغمرها موجات هجرة لأشخاص ليسوا «مثلنا». وكما هي الحال مع المناقشات المعاصرة حول الهجرة، فإن الإشارة إلى عملية «الإغراق» تعمل كنوع من الاصطلاح الثقافي الجغرافي لإثارة المخاوف بشأن الهويات الوطنية وحتى الهوية الإقليمية الشاملة. ويرى أولئك الذين يتمتعون بحس أعمق نحو التاريخ والجغرافيا أن دولًا مثل بريطانيا كانت تتشكل دومًا بفعل موجات المهاجرين. والآن، أصبحت الجالية البولندية في المملكة المتحدة واحدةً من أكبر الجاليات، ويبلغ عدد أفرادها نحو مليون نسمة.

وتواصل عضوية الاتحاد الأوروبي توسعها، حيث انضمت بلغاريا ورومانيا في يناير ٢٠٠٧، ثم كرواتيا في عام ٢٠١٣. وفي حين انتقد كثيرون مؤسسات الاتحاد الأوروبي وعجزها عن توليد شعور فعَّال بالهدف والهوية الإقليمية لجموع الدول الأوروبية، فمن الضروري أن نفكر في الكيفية التي شجع بها الاتحاد الأوروبي أشكالًا جديدة للتعبير عن الهوية الوطنية. ففي مايو ٢٠٠٦، أجرت جمهورية الجبل الأسود (مونتينيجرو) استفتاءً على الاستقلال، وصوَّت ٥٥٪ لصالح الاستقلال على حساب استمرار الشراكة مع صربيا. والواقع أن دور الاتحاد الأوروبي مثير للاهتمام بصفة خاصة لأنه وضع المعايير التي ينبغي لجمهورية الجبل الأسود أن تلبيها من أجل الاعتراف بمطالباتها بالاستقلال. وحقيقة الأمر أن الحجة الرئيسية لاستقلال الجبل الأسود تشكلت من الرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس الاستقلال الوطني في حد ذاته. وكان العديد من سكان الجبل الأسود محبطين بسبب تعليق رغبتهم في أن يكونوا جزءًا من الاتحاد الأوروبي نتيجة لعدم رغبة صربيا في تسليم مجرمي الحرب المشتبه بهم وتورطها السابق في صراعات عنيفة شملت كوسوفو وأجزاءً أخرى من يوغوسلافيا السابقة. وكانت مشاركة الاتحاد الأوروبي غير مسبوقة، وتُظهِر بوضوح كيف يمكن لمنظمة تشمل جموع الدول الأوروبية أن تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل المطالبات الثقافية بهوية أوروبية.

وعلى غرار ما حدث مع دول البلطيق، مثل إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، أصبح يُنظر إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بوصفها جزءًا مهمًّا من عملية التحول التي من شأنها أن تسمح لهذه الدول بإعادة تصور نفسها باعتبارها دولًا «أوروبية»، مع الحد في الوقت نفسه من ارتباطها بشئون الاتحاد السوفييتي السابق ومصالحه. وبذلك، يصبح الاتحاد الأوروبي غير مقتصر جغرافيًّا على دول أوروبا الغربية؛ ومن ثَم صار أكثر تنوعًا على الصعيد الداخلي. ولكن كل هذا تحقَّق في ظل ضغوط أكبر في السنوات الأخيرة مع هيمنة قضيتين، هما التقشف الاقتصادي والسيطرة على موجات الهجرة، على العلاقات الدولية ليس فقط داخل الاتحاد الأوروبي؛ ولكن أيضًا مع مناطق مجاورة مثل شمال أفريقيا. ففي يناير ٢٠١٤، سُمِح للمهاجرين الرومانيين والبلغاريين بدخول أسواق العمل في الاتحاد الأوروبي مثل المملكة المتحدة، وقد أثار هذا قدرًا كبيرًا من الانتقادات (مرةً أخرى) حول ما إذا كانت المملكة المتحدة سوف تغمرها موجة أخرى من مهاجري أوروبا الشرقية. وفي الوقت نفسه، تجاهد البلدان الطموحة مثل أوكرانيا للتخفيف من حدة الانقسام الداخلي بشأن التوجه الأكبر للدولة تجاه الاتحاد الأوروبي من ناحية، وتجاه روسيا من ناحية أخرى.

تُعَد السرديات الخاصة بالهوية والممارسات السياسية المرتبطة بالاتحاد الأوروبي في آن واحد مكملةً وتحديًا لتلك السرديات المرتبطة بالدول القومية. فمن منظور البعض، ينبغي اعتبار الاتحاد الأوروبي كيانًا يُوصف بكونه «أوروبا الأُمَمية»، في حين يسعى آخرون إلى تشجيع وصفه ﺑ «الولايات المتحدة الأوروبية». وتتلخص إحدى الطرق للتعامل مع هاتين الرؤيتين الجيوسياسيتين المتباينتين في الفصل بينهما بكل بساطة من الناحية الجغرافية؛ إذ توفر منطقة اليورو و«اتفاقية شنجن» مثالين يكون فيهما بعض الدول أعضاءً، وبعضها الآخر ليس كذلك.

تُعَد المناقشات المصاحبة حول التوسع الجغرافي لأوروبا مناقشات مهمة، حيث أظهر الاتحاد الأوروبي استعداده لتوسيع أنشطته إلى ما هو أبعد من حدود العضوية الحالية. وفي مجالات مثل الهجرة ومكافحة الإرهاب ومكافحة الجهاديين، عزز الاتحاد الأوروبي وجودًا خارج الحدود الإقليمية في دول أفريقية مثل النيجر. كانت دول الاتحاد الأوروبي — مثل فرنسا والمملكة المتحدة هذا بالتعاون مع نظرائها الأمريكيين — تقود المحاولات الرامية لإغلاق الحدود مع ليبيا من أجل عرقلة سبل تهريب الأسلحة والهجرة غير الشرعية. وقد تعرَّضت الاستثمارات والمشاركة من جانب أطراف أوروبية وأمريكية لانتقادات من المنظمات غير الحكومية والمنظمات المحلية بسبب عدم اهتمامها باحتياجات التنمية المحلية للمجتمعات الحدودية (انظر شكل رقم ٥-١). وفي ديسمبر ٢٠١٦، وقَّع الاتحاد الأوروبي اتفاقية مع النيجر لضخِّ استثمارات من أجل بناء الدولة والبنية التحتية بقيمة ٤٧٠ مليون يورو تقريبًا (أي نحو ٥٥٠ مليون دولار أمريكي).
fig11
شكل ٥-١: لقاء يجمع بين ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والنيجر (ديميتريس أفراموبولوس ومحمد بازوم على الترتيب) لمناقشة قضايا الهجرة والمساعدات التنموية، في يوليو ٢٠١٧.

الجيوسياسية والهوية دون الوطنية

إذا كانت أشكال التعبير الإقليمية عن الهوية والغرض منها تتسبب في تعقيد العلاقة بين الكيانات السياسية والتعبير عن الهوية الوطنية، فإن الفئات دون الوطنية — التي تسعى إلى الاستقلال أو قدر أكبر من الحكم الذاتي بعيدًا عن السلطة المركزية — تُشكك أيضًا في أي افتراضات بسيطة مفادها أن الهويات مقيدة بالحدود الإقليمية. والواقع أن بلدانًا مثل اليابان وأيسلندا، التي تكاد تتسم بالتجانس العرقي التام، كانت أقل خبرة في التعامل مع تحدي الفئات دون الوطنية للشرعية الإقليمية والمطالبات المرتبطة بالهوية الوطنية. وداخل أوروبا، تواصل جاليات، مثل الجالية الكتالونية في إسبانيا والوالونيين في بلجيكا، تقديم رسائل تذكيرية مفادها أن التعبير عن الوحدة الوطنية والغرض الوطني خاضع لقيود ومحل نزاع عنيف أحيانًا من قِبَل فئات أخرى تستاء من المطالبات بالهوية الوطنية أو الرؤية الوطنية.

القومية عملية ديناميكية/متكررة، ولقد تفاوتت استجابة دول مثل إسبانيا بين محاولة قمع واستيعاب المطالب المتضاربة بوحدات إقليمية معينة وأشكال تمثيل الهوية فيها. وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، منحت الحكومات الإسبانية التي مقرها في مدريد مزيدًا من الحكم الذاتي للجاليات الكتالونية والباسكية، في الوقت نفسه الذي نُقل فيه عن المسئولين العسكريين قولهم إن البلاد لن تسمح أبدًا لتلك المناطق بالانفصال عن إسبانيا (انظر مربع رقم ١٣). لعبت الخرائط الوطنية، التي أصدرها المعهد الجغرافي الوطني في إسبانيا (الذي تأسس في عام ١٨٧٠)، دورًا مهمًّا في تعزيز رؤًى خاصة بإسبانيا الموحدة.

مربع رقم ١٣: كتالونيا والاستفتاء الشعبي على الاستقلال عام ٢٠١٧

كانت إحدى اللحظات المثيرة للجدال الشديد في العلاقات الكتالونية مع مدريد في أكتوبر من عام ٢٠١٧. فعلى الرغم من إعلان مدريد عدم شرعية الاستفتاء الشعبي، مضت عملية الاستفتاء قُدمًا، وأسفرت عن تصويت أغلبية ساحقة من المشاركين لصالح الاستقلال. وبلغت نسبة المشاركة ٤٣٪؛ لذا ينبغي التعامل مع طبيعة النتيجة بحذر لسببين؛ أولًا: اختار بعض السكان عدم التصويت لأن المحكمة العليا الإسبانية أعلنت عدم شرعية الاستفتاء الشعبي؛ وثانيًا: لم يتمكن بعض الناخبين من تسجيل أصواتهم لأن الشرطة الإقليمية والوطنية عمدت إلى إعاقة الوصول إلى مراكز الاقتراع. كما أعلن ملك إسبانيا فيليبي السادس أن الاستفتاء غير شرعي؛ مما جعل الموقف مثيرًا للجدل أكثر من ذي قبل. ورفض الاتحاد الأوروبي التدخل لدعم زعماء كتالونيا، بحجة أن الأمر كان شأنًا داخليًّا لإسبانيا. وبعد هذا التاريخ، ظلت الأحزاب المؤيدة للاستقلال مهيمنةً على البرلمان الإقليمي الكتالوني بعد أن لجأت الحكومة الإسبانية إلى المادة ١٥٥ من الدستور الإسباني لحل البرلمان في كتالونيا والإصرار على إجراء انتخابات جديدة في ديسمبر ٢٠١٧. ولا يزال الموقف متأزمًا مع أغنى منطقة في إسبانيا.

وقد أدى هذا التصميم الجلي على التمسك بتلك الأراضي الإقليمية في الماضي بشكل أو بآخر إلى استفزاز جماعات مثل منظمة «وطن الباسك والحرية»، المعروفة اختصارًا باسم «إيتا»، لمواصلة حملات إرهابية شملت فيما مضى تفجيرات وهجمات على الأشخاص والممتلكات في إقليم الباسك والمدن الكبرى مثل مدريد. سعت هذه المنظمة، التي تأسست في يوليو ١٩٥٩، إلى تعزيز القومية الباسكية علاوةً على رسالة مناهضة للاستعمار دعت إلى التخلص من الاحتلال الإسباني. كان الزعيم الإسباني الجنرال فرانكو خصمًا شرسًا، واستعان بجماعات شبه عسكرية لمحاولة سحق منظمة إيتا. وثبت فشل هذا الإجراء، واستمرت منظمة إيتا في العمل بعد وفاته في عام ١٩٧٥، على الرغم من المحاولات المختلفة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في تسعينيات القرن الماضي. والأهم من ذلك كله، أنه أُلقيَ باللوم في البداية على المنظمة وحُمِّلت مسئولية تفجيرات مدريد في ١١ مارس ٢٠٠٤، التي أودت بحياة ما يقرب من ٢٠٠ شخص (التي يُطلق عليها تفجيرات ١١ مارس). كانت جماعات إسلامية مسلحة، وليس منظمة إيتا، هي المنفذة لتفجيرات مدريد. وبعد ثلاثة أيام من ذلك، تعرضت حكومة حزب الشعب آنذاك، بقيادة رئيس الوزراء خوسيه أثنار — الذي وافق على نشر قوات إسبانية في العراق — لهزيمة ساحقة في الانتخابات الوطنية. ومن المثير للاهتمام أن الحكومة الوطنية التي عانت من تراجع شعبيتها حاولت إلقاء اللوم على منظمة عاملة داخل إسبانيا وتحميلها مسئولية التفجيرات التي اعتقد كثيرون أنها كانت نتيجة مباشرة لاستعداد إسبانيا لدعم الحرب ضد الإرهاب.

ومع أن التحدي الذي تفرضه القوميات الدون إقليمية على الدولة الإسبانية لا يزال قائمًا، ربما تراجعت احتمالية القيام بعمليات إرهابية نتيجة لتفجيرات مدريد. يواصل الانفصاليون الكتالونيون الترويج لممارسات وأشكال التباين والاختلاف مثل اللغات والأعلام الإقليمية والخرائط، وفي حالة منظمة إيتا مساحة جغرافية ترسم الحدود وتدافع عن وطن الباسك أو بلاد البشكنش. لم تدعم جميع الفصائل الانفصالية الباسكية أنشطة إيتا في الماضي، لكن في الوقت الحاضر يستمر الصراع من خلال الجدل الدائر حول السلطات الدستورية والتسويات المالية ونطاق البرلمان الكتالوني وقيادته للتغلب على القيود التي تفرضها الحكومة المركزية الإسبانية في مدريد. حُلَّت منظمة إيتا رسميًّا في مايو ٢٠١٨.

من منظور كلٍّ من الدول القومية والفصائل الانفصالية الإقليمية، تُعَد الصراعات من أجل ترسيم ملكية الأراضي عنصرًا أساسيًّا في تمكين سرديات معينة خاصة بالهوية من الاستمرار. ومن ناحية، لا تساعد هذه الصراعات القائمة في أماكن متنوعة مثل إسبانيا، أو الصين، أو سريلانكا، أو إندونيسيا الحكومات الوطنية على إضفاء الشرعية على العمليات العسكرية والأمنية فقط، بل في كثير من الأحيان تثير أيضًا مستويات أعلى من الدعم المادي والعاطفي في سرديات الهوية الوطنية كما يتضح من خلال وسائل تعبير ثقافية جماهيرية مثل التلفزيون والمناهج المدرسية والصحف. وكما لاحظ علماء الجيوسياسية والعلاقات الدولية، فإن وصف شيء ما بأنه تهديد أمني غالبًا ما يكون لحظة مفصلية في تبرير استخدام الوسائل القسرية نظرًا لاعتبار الدولة تقع تحت تهديد خطر شديد. ومن ناحية أخرى، تُذكرنا صراعات الفصائل الانفصالية بأن مثل هذه المطالبات بالهويات الوطنية لا ينبغي أبدًا أن تُعَد من المسلمات. إن الوضع الراهن في أماكن مثل العراق ولبنان وسوريا يُذكرنا على نحو مخيف بمدى صعوبة التأقلم بين الحدود الاستعمارية والهويات المتعددة، وأن فرض البنية التحتية والرموز الوطنية مثل الأعلام والعملات الوطنية لا يفي بالغرض عند غياب الشرعية المحلية والاعتراف بالدول.

الجيوسياسية والحضارات

في عام ١٩٩٣، أثار الباحث الأمريكي صمويل هنتنجتون ضجةً عندما نشر مقالًا بعنوان «صدام الحضارات» في دورية «فورين آفيرز». وكما حدث مع عمل فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، فقد ضمن العنوان اللافت للنظر والتوقيت المناسب للنشر أن يحظى المقال بقدر كبير من الدعاية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وقد حظي المقال بشهرة في وقت مبكر. فقد قيل للقراء إن العالم دخل مرحلة جديدة سيسود فيها «صدام بين الحضارات» في تشكيل الجيوسياسية العالمية. ولكن الصدام الحضاري لا يتماشى مع القراءات الأكثر تفاؤلًا للجيوسياسية في الفترة التالية على الحرب الباردة.

يرسم هنتنجتون، من منظور نقدي، خريطة عالمية جديدة تشغلها سبع حضارات أو ربما ثمانٍ، بدلًا من خريطة تهيمن عليها منطقة جغرافية مركزية. وفي عالم هنتنجتون الجيوسياسي، يُعَد الإسلام والوجود الإقليمي المرتبط به في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى وآسيا التهديدَ الرئيسي الذي تواجهه الحضارة الغربية. ورغم أن فهمه للحضارة يكتنفه الغموض، فإن تصويره للحضارات الإسلامية باعتبارها تهديدًا مستند إلى الكتابات المنشورة لبرنارد لويس، الباحث في شئون الشرق الأوسط والإسلام. وكان لبرنارد لويس دور فعَّال ساهم في تشكيل آراء المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وربما ساعد أكثر من أي باحث آخر في تشكيل الإطار الفكري لإدارة جورج دبليو بوش فيما يتصل بقرارات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط. وليس من المستغرب أن يوجه باحثون آخرون مشهورون، مثل الأكاديمي الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد، انتقادات لاذعة لأعمال هنتنجتون ولويس.

إن تعريف الحضارات الإسلامية باعتبارها تُشكل تهديدًا جوهريًّا للولايات المتحدة والغرب عمومًا يعني استمرار سياسات الهوية التي تُذكرنا بالحرب الباردة، وإن كان ذلك تحت ستار ثقافي وجغرافي مختلف. فإذا كانت الشيوعية والاتحاد السوفييتي قد اعتُبرا تهديدين عالميين على مدار ستين عامًا، فإن سعيد وآخرين يزعمون أن الدور قد حان الآن على الإسلام ومناطق مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتصويرها على أنها مناطق خطيرة وتشكل تهديدًا. وحتى لو بدا هذا السرد الرئيسي الواضح تبسيطيًّا، فإن الخريطة الذهنية التي رسمها هنتنجتون للعالم تنطوي على بعض الحالات الاستثنائية للصمت أو الإغفال. فمن ناحية، يبدو أن فكرة تعريف الغرب باعتباره مسيحيًّا تتجاهل الوجود الطويل الأمد للجاليات الدينية الأخرى في أوروبا وأمريكا الشمالية. فضلًا عن ذلك، من الصعب أن نتخيل أي حضارة لم تتأثر بطائفة كاملة من التدفقات تشمل الناس ومعتقداتهم وممارسات اجتماعية وثقافية أخرى، من بينها اللغة والطعام والعِمارة. من الصعب على أي زائر لإسبانيا والبرتغال ألا يلاحظ التأثير المستمر للعمارة الإسلامية ودور اللغة العربية في تحديد أسماء الأماكن، على سبيل المثال.

ما أثار قلقَ إدوارد سعيد أكثر في مقاله المنشور في أكتوبر ٢٠٠١ بعنوان «صراع الجهل»، فكرةُ أن «صراع الحضارات» تشكل وجهة نظر أمريكية للعالم، وهو ما قد يفسر هجمات الحادي عشر من سبتمبر بمصطلحات ثقافية واضحة. ومع أن بعض المسلحين الإسلاميين ربما يستشهدون بهذه المصطلحات الثقافية، فإن الخطر الكامن في مثل هذه التصنيفات التبسيطية للأماكن هو التضحية بالاعتماد المتبادل والتعقيد لصالح تبسيطات أحادية الرؤية. ونكرر مرة أخرى أنه في أمريكا في عهد الرئيس جورج بوش لم يكن هناك نقص في المنتقدين اليمينيين، مثل آن كولتر، الذين كانوا حريصين بشدة على ربط التفوق المسيحي/الغربي بشكل من أشكال السياسة الخارجية الأمريكية التي تدعو إلى الدفاع غير المشروط عن إسرائيل وتدمير العالم الإسلامي. ومن منظور العناصر الأكثر تطرفًا في المجتمع الإنجيلي المسيحي، فإن المجيء الثاني للمسيح لن يتحقق إلا عندما يخوض العالم معركة هرمجدون عن طريق الصدام مع المسلحين الإسلاميين، أو لنَقُلها بأسلوب يغلب عليه طابع الموضوعية، عن طريق تغير المناخ العالمي.

وبغضِّ النظر عن مصدر الدمار العالمي، فقد سلطت مناقشة «صراع الحضارات» الضوء أيضًا على كيفية صياغة سرديات الهوية على المستوى العالمي. ومع ذلك، غالبًا ما تتجاهل مثل هذه المناقشات عناصر رئيسية مثل المعالم الجغرافية التاريخية للاستعمار. وإذا أراد المرء أن يفهم الطرق التي تفاعلت بها الأماكن والأديان المختلفة فيما بينها، فيجب تقدير إرث الهيمنة والمقاومة الثقافية، والسياسية، والاقتصادية. يتمثل الخطر الكامن في أطروحة هنتنجتون في تصوير الأماكن والجاليات الدينية الأخرى على أنها ببساطة تشكل تهديدًا. وحتى لو كانت كذلك، فمن المدهش أن المنتقدين مثل هنتنجتون ولويس غير راغبين في النظر بمزيد من التفصيل إلى الطريقة التي شكلت بها تجارب الهيمنة الاستعمارية البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط وما زالت تشكل العلاقات الجيوسياسية المعاصرة. وكثيرًا ما فُضحَت ادعاءات التفوق الأخلاقي البريطاني أو الفرنسي عندما قصفت هاتان الدولتان فيما بعدُ السكان الذين سعتا إلى التحكم فيهم والسيطرة عليهم بالقنابل وقتلتهم بالغاز وأسالت دماءهم بالمذابح.

كانت مصر في أوائل عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته تعج بالجنود الأجانب، وكانت الشرائح الاجتماعية منقسمةً لصالح الأوروبيين على نحو تكرَّر لاحقًا في جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري. ولاحقًا لعب الشعور المتزايد بالذل والهوان والظلم في مصر دورًا رئيسيًّا في تشكيل جماعة الإخوان المسلمين؛ مما أدى إلى تأسيسها في النهاية وتدشين الحملة المناهضة للاستعمار المعادية للبريطانيين فيما بعد. زارت عناصر متطرفة، مثل سيد قطب، الولايات المتحدة في وقت لاحق في عام ١٩٤٨، وعبَّروا عن كراهيتهم لثقافتها المادية والتمييز العنصري، لا سيما تجاه الجالية الأمريكية ذات الأصول الأفريقية. ومع أنه كانت هناك مجموعة متنوعة من المصادر والسياقات التي ألهمت الميليشيات الإسلامية المعاصرة، فإن الذكريات الحية للاحتلال الاستعماري، بالإضافة إلى كراهية الطبيعة العنصرية للدول الديمقراطية الليبرالية الغربية، تشكلان جزءًا من هذه المعادلة المعقدة. وقد واصلت القوى الغربية، بمساعدة أنظمة الحكم التابعة لها، كالتي في مصر والمملكة العربية السعودية والأردن، التدخل في شئون هذه الدول حتى بعد حصولها على الاستقلال الرسمي. ولا يزال الإيرانيون حتى يومنا هذا يسلطون الضوء على الدور الذي لعبته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في رعاية الانقلاب على حكومة مصدق الإصلاحية بإيران في عام ١٩٥٣.

يَعِد «صراع الحضارات» بتبسيط مسائل ثقافية وجغرافية، بما لا يتوافق صراحةً مع تعقيدات عالم مليء بالمجتمعات المتشابكة وشبكات الشتات، بمن فيها من مسيحيين ودروز والعديد من الجاليات المسلمة الناطقة بالعربية. قد تكون مثل هذه التبسيطات مريحة للقراءة/الاستماع في بعض الأماكن حول العالم، ولكنها لا تنتبه بالدرجة الكافية إلى تعقيدات انتقال العنصر البشري والمتطلبات المصاحبة التي قد تفرضها الجاليات على مجموعة من الحكومات والمنظمات. وبالنظر إلى المخاوف الأخيرة بشأن الوضع في سوريا، في خضم صراع واسع النطاق، فمن الواقعية أن نفكر في أن هناك نحو ثمانية عشر مليون شخص من أصل سوري يعيشون خارج سوريا، بما في ذلك شخصيات أمريكية شهيرة مثل الممثلة تيري هاتشر والرئيس الراحل لشركة أبل ستيف جوبز. كان رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو أحد أبرز الزعماء السياسيين الذين صرحوا بترحيبهم باللاجئين السوريين القادمين إلى كندا (انظر شكل رقم ٥-٢).
fig12
شكل ٥-٢: رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو يرحب باللاجئين السوريين في مطار تورونتو بيرسون الدولي في ديسمبر ٢٠١٥.

وبناءً على هذه الخلفية الجيوسياسية، قدَّم الراحل أسامة بن لادن ورفاقه نضالهم باعتباره نضالًا موجهًا إلى «اليهود والصليبيين»، العاملين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. وفي خطبه التي نشرها، استغل بن لادن «صراع الحضارات» لتفسير وإضفاء الشرعية على الحملة على الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك أنظمة الحكم المارقة في مصر والأردن والمملكة العربية السعودية. وتمثلت رغبته في إنشاء «أمة» إسلامية جديدة قائمة على التطهير الثقافي والديني للشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ويُعَد طرد الإسرائيليين والمرتدين والقوات الأمريكية من المنطقة أمرًا حاسمًا في سبيل تحقيق هذا الهدف. وقد تجلى هذا الهدف بوضوح في «إعلان الجهاد ضد احتلال أمريكا لأرض الحرمين الشريفين»، والذي كرَّره مرة أخرى في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد تشكلت آراء بن لادن الفكرية عن العالم من اتصاله بالداعية الفلسطيني والعضو المؤسس في تنظيم القاعدة عبد الله عزام. أقنع عبد الله عزام بن لادن بالسفر إلى أفغانستان، وكان عزام من أنصار ما أطلق عليه «الجهاد والبندقية».

لقد تُصورت أيضًا الصراعات الحضارية داخل أوروبا وخارجها بشكل أعم. فتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي يعمل في سوريا والعراق، يحشد الخطابات الحضارية، ولا سيما تلك المتعلقة بخلافة إسلامية إقليمية شاملة. يمكن لسياسات الهوية أن تتوسع في النطاق والموقع إلى حد كبير، من الحياة اليومية إلى الحضارة. وفي إطار هذا التحول في الأحداث، يتخيل الروائي المثير للجدل ميشيل ويلبيك في روايته «استسلام» (٢٠١٥) تحوُّل فرنسا إلى خلافة، ويستغل بفعاليةٍ مخاوفَ بعض المواطنين الفرنسيين من أن تفقد فرنسا طابعها المسيحي المتعارف عليه. ويُرجع السبب في هذا التحول إلى الحدود المفتوحة والتسامح الديمقراطي الليبرالي. وفي كتابه الصادر عام ٢٠١٨ بعنوان «بيت الإسلام»، يحذر المؤلف إد حسين من أن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين تظل محفوفة بالمخاطر؛ نظرًا لتدفق المهاجرين من الشرق الأوسط وجنوب آسيا إلى أوروبا، لدرجة أن أوروبا تفقد حاليًّا طابعها اليهودي-المسيحي. وقد استُغلَّت موضوعات خلافية مثل معاملة النساء، ومراعاة ممارسة الشعائر الدينية، ومعدلات الخصوبة المختلفة، والمواقف تجاه إسرائيل، لتسليط الضوء على الخلاف.

حذَّر الرئيس ترامب الزعماء الأوروبيين من أنه إذا لم يكن لهم رد فعل على تدفقات المهاجرين من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، فإن أوروبا ستتغير إلى الأسوأ. وتحذر الأحزاب اليمينية في مختلف أنحاء أوروبا من «أسلمة أوروبا». ومع ذلك، تذكرنا مبيعات الأسلحة الأوروبية لأنظمة الحكم القمعية مثل المملكة العربية السعودية بأن الأشكال الحضارية للجيوسياسية تكشف عن أوجه كثيرة للتناقض والتواطؤ. في الوقت نفسه، طرح المثقفون والقادة السياسيون الصينيون أيضًا خطابات حضارية، زاعمين أن القيم والممارسات الصينية متفوقة ثقافيًّا على النماذج الجيوسياسية «الغربية»؛ لأنها تركز على النتائج المربحة لجميع الأطراف، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للآخرين، والاحترام المتبادل. وكان هذا عنصرًا حاسمًا في التأطير الجيوسياسي لمبادرة «الحزام والطريق» باعتبارها مبادرة تحترم هويات الآخرين ومصالحهم.

هويات متعددة، جغرافيات متعددة

اهتم هذا الفصل بالدور الذي تلعبه سياسات الهوية في تشكيل العلاقات والأقاليم الجيوسياسية. وميَّز الكتَّاب الجيوسياسيون الكلاسيكيون مثل رودولف شيلين بين إقليم الدولة وسياسات المجتمع الوطني، إلى جانب سمات أخرى مثل السكان. إلا أن شيلين وآخرين مثل ماكيندر لم يكن لديهم وقت للتعقيدات الاجتماعية والثقافية. إن سياسات المجتمع أكثر تعقيدًا بطبيعتها؛ إذ سهلت الهجرة والحرب والتغيير الطارئ على وسائل الاتصالات، وفرضت تغييرًا ديموجرافيًّا وثقافيًّا. إن القصص الوطنية، والخرائط الإقليمية، والعناصر المكونة للمشاعر، والاستمالة العاطفية تلعب دورها في تشكيل الجيوسياسية القائمة على الهوية، إلا أنها قد تشمل البعض على حساب البعض الآخر. فالسمات الديناميكية للجيوسياسية الخاصة بالهوية تذكرنا بأن العلاقات الجغرافية التي تربط الأفراد والمجتمعات متداخلة ومعقدة. وكما يُذكرنا مايكل بيلينج، فإن القوميات والهويات الوطنية قد تبدو عادية عند التعامل معها ببساطة على أنها أمر مُسلَّم به ودون التشكيك فيها. إن الجيوسياسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمواطنة والانتماء، وتُشكِّل الطريقة التي تَفهَم بها الدولة/المنطقة/الحضارة نفسها سياسات الدمج والإقصاء وممارساتهما.

إن الطريقة التي يُتعامل بها مع العلاقة بين الولايات المتحدة والصين معقدة ومتعددة الأوجه، تتنوع بين مشاركة الطلاب الأمريكيين في قاعة المحاضرات نفسها مع ابنة الرئيس الصيني في جامعة هارفارد، وبين الأجهزة الإلكترونية والتكنولوجية والشراكات التي تشمل شركات أمريكية وصينية. كم عدد المنتجات الأمريكية التي يمكنك التفكير فيها والتي صُنعت بالفعل في الصين؟ وكما كان الحال مع الأشياء والمنتجات والعلاقات بين الولايات المتحدة واليابان في تسعينيات القرن الماضي، يمكن لسياسات الهوية أن تتخذ أشكال تعبير ومقاييس جغرافية مختلفة؛ من تدفق مشاعر الخوف والرعب إلى الاعتراف بالمصالح والاستثمارات المشتركة. تُشارك كلٌّ من الولايات المتحدة والصين في الخطابات والفعاليات الحضارية، حيث تستخدمان نفوذهما الثقافي والاقتصادي والسياسي في العالم لتأمين مكانة متميزة وهيبة. إن طريقة فهم هذه الاستثمارات والعلاقات ذاتية وسياقية إلى حد كبير. تُصور الروائية الأمريكية من أصل صيني، سيليست إنج، بعضًا من هذه التعقيدات في روايتها المنشورة عام ٢٠١٤ بعنوان «كل ما لم أخبرك به مطلقًا». ففي عالمها الخيالي، الذي يدور حول أمريكا خلال الحرب الباردة في السبعينيات، تُضطر عائلة أمريكية صينية إلى التعامل مع الثكل والعنصرية والشكوك الدائمة تجاه المهاجرين الغرباء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥