الفصل السادس

الرموز المادية

الجيوسياسية أكثر من مجرد مصطلحات وصور. يستكشف الفصل الأخير من هذا الكتاب دور الرموز المادية في الجيوسياسية، وما يطلق عليه عالِم الأنثروبولوجيا دانيال ميلر «الأغراض». وكثيرًا ما نتخيل الجيوسياسية من خلال أشياء مادية، إلا أنها تُمارَس أيضًا من خلال هذه الأشياء. فإذا بحثت على موقع «جوجل» عن صورة ﻟ «الجيوسياسية»، فإن الصور تعرض لك خرائط ومجسمات كرة أرضية ومباني شهيرة ومعدات عسكرية وبنية تحتية وطنية وما شابه ذلك. ولا تعمل الخرائط كأداة لرؤية العالم فحسب، بل تُعَد أيضًا رموزًا مادية موجودة في كتب الأطلس، وكذلك التطبيقات التي يمكن تنزيلها على الهواتف الذكية. ولقد تضمنت بعض اللحظات الأكثر درامية في الجيوسياسية نظر الزعماء السياسيين إلى الخرائط والإشارة إليها.

إن الدور الذي تلعبه الرموز المادية في الجيوسياسية ليس دورًا دراميًّا دائمًا. ففي بعض الأحيان يمكن أن تكون الرموز مبتذلة و«مثيرة» (انظر شكل رقم ٦-١). وفي بعض الأحيان قد تكون عسكرية، وفي أحيان أخرى قد تكون عادية (أو مدنية). وقد سلط مصطلح «القومية المبتذلة» البليغ، الذي ابتكره مايكل بيلينج، الضوء على نحو جيد على الكيفية التي يمكن بها لأشياء مثل الأعلام أن تكون جزءًا من ذخيرة أوسع من أشكال التعبير الوطني المُسلَّم بها. ولكن فجأة، عندما تُمزَّق وتُحرَق بأيدي حشود غاضبة احتجاجًا على سلوك السياسة الخارجية لدولة معينة، فقد تأخذ مكانة مختلفة جدًّا. فقد أزالت اليونان وتركيا، الخصمان اللدودان، أعلامهما المتنافسة على جزيرة متنازع عليها في أرخبيل فورنوي، وهي منطقة حساسة استراتيجيًّا في بحر إيجة حيث تقع الجزر اليونانية الشرقية بالقرب من الساحل التركي. وتتبادل اليونان وتركيا مرارًا وتكرارًا الاتهامات بشأن انتهاك مجالهما الجوي وبحرهما الإقليمي. والتنافس على رفع الأعلام مسألة مهمة؛ لأن تركيا تزعم أن الجزيرة تقع على ما يُسمى ﺑ «المناطق الرمادية» ذات السيادة غير المؤكدة، الأمر الذي أثار استياء اليونان. ولقد سارع كلا الجانبين إلى اتهام الآخر بالرغبة في استعادة الأراضي التي خسرها في أوقات سابقة. وتُشكل الرموز المادية المتعلقة بالحيازة الإقليمية مثل الخرائط والأعلام عنصرًا أساسيًّا في هذا النزاع.
fig13
شكل ٦-١: محتج كردي يحاول إنزال عَلَم تركيا داخل قاعدة للقوات الجوية في يونيو ٢٠١٤.

يمكن للرموز المادية أن تشكل العلاقات الجيوسياسية وتوضح سلطة الدولة. لذا، يكون العَلَم تعبيرًا قويًّا وواضحًا للغاية عن أمن الدولة، وهو في أوقات أخرى لا يكاد يلاحظه أحد في الحياة اليومية. تلعب الرموز المادية دورًا رئيسيًّا في تأمين حياتنا وتنظيمها وفرض النظام عليها. عندما تظهر الأعلام في غير محلها — فنحن نميل إلى ملاحظة وجودها عند تدميرها وإنزالها وحرقها وتمزيقها — قد تتغير الحالة المزاجية بسرعة. ومع أننا قد نختار تجاهل مثل هذه الرموز المادية، فإن لها طريقة للتسلل إلى داخل نطاق انتباهنا وخارجه. وسواء اخترنا إهمالها والتلاعب بها وقبولها وتدميرها أو أيًّا من ذلك، فإنها تساعد في ربط العناصر البشرية وغير البشرية للجيوسياسية معًا دون افتراض أن الرموز المادية لا تتمتع بقدرتها الخاصة على تمكين الممارسات البشرية وتعطيلها وتحويلها. على سبيل المثال، يمكن للرياح العاتية والظروف المناخية القاسية أن تحول الأعلام إلى أسمال مهلهلة دون الحاجة إلى أي تدخل بشري.

يهدف التركيز على الرموز المادية إلى توسيع مناقشتنا للجيوسياسية من أقدم الملاحظات التي قدمها علماء مثل هالفورد ماكيندر، الذي تحدَّث عن أهمية أشياء مثل السكك الحديدية والسفن والتلغراف والفراء والأخشاب والفحم وغيرها من الأشياء التي تُعَد ضرورية للدولة والسلطة الاستعمارية. ومن وجهة نظر ماكيندر، كانت هذه الأشياء إما موارد وإما بنية تحتية خاضعة إلى حد كبير لسيطرة العوامل البشرية. ويمكن لعوامل بيئية أن تعرقل استخدامها، مثل السفن التي تحاول عبور بحر متجمد، غير أنه كان هناك اهتمام أقل بدور الرموز المادية في إثراء المخيلة والممارسات الجيوسياسية. إذن، كيف تساهم رموز مادية مثل القنبلة الذرية في التعبير عن القوة الجيوسياسية الأمريكية والسوفييتية (انظر مربع رقم ١٤)؟ كان التركيز الخاص بأشكال الجيوسياسية النقدية الأكثر حداثة منصبًّا على النظر في الكيفية التي تساعد بها هذه الرموز في تشكيل الجيوسياسية بطرق قد تتجاوز قدرة البشر على التحكم فيها أيضًا. وهل هناك رموز مادية ربما لم تكن المناهج الجيوسياسية الأولى تضعها في الاعتبار بما أنها بلا شك جزءٌ لا يتجزأ من الموضوع؟ لهذا، يأخذ هذا الفصل بعين الاعتبار عن قصدٍ أمثلةً غير بديهية مثل الألعاب والقمامة.

مربع رقم ١٤: القنبلة الذرية والحرب الباردة

هل هناك أي شيء أكثر رمزية من القنبلة الذرية وصور سحابة فطر عيش الغراب؟ بعد أن أُلقيَت القنبلة الذرية لأول مرة على اليابان في أغسطس ١٩٤٥، كان ظهور الاتحاد السوفييتي كدولة نووية تغييرًا استراتيجيًّا في قواعد اللعبة في عام ١٩٥٠. أصبحت القنبلة — كما أُطلقَ عليها غالبًا — أمرًا طبيعيًّا في ثقافات الحرب الباردة؛ شيئًا يمكن تصويره وإعداد أفلام والكتابة والتحدث عنه. وفي مناطق أخرى من العالم، مثل جزر مارشال، كان للقنبلة حضور مادي طاغٍ. فبعد الحرب العالمية الثانية، وقع الاختيار بعناية على جزيرة بيكيني المرجانية لتكون موقعًا للتجارب النووية. وبين عامَي ١٩٤٦ و١٩٥٨، أسقطت القوات الجوية الأمريكية سبعًا وستين قنبلة؛ مما أدى إلى نزوح السكان وتسبَّب في تسمُّم طويل الأمد. كانت الصور من بعض تجارب جزيرة بيكيني هي التي طبعت في أذهاننا تلك الصور الدائمة لسحابة الفطر بعد التفجير. ومن الناحية المادية، كانت القنابل الذرية، التي لا تُفجَّر، تُحفظ وتُخزن وتُعرض في مجموعة متنوعة من الأماكن بدايةً من العروض العسكرية وصولًا إلى المتاحف والمعارض العامة المفتوحة للجمهور. فعلى سبيل المثال، يمكن لزوار ولاية أريزونا زيارة متحف تيتان للصواريخ الذي يعدهم ﺑ «الكشف عن أسرار أكبر سلاح نووي في أمريكا». وبين عامَي ١٩٦٣ و١٩٨٧، كُلِّف صاروخ تيتان ٢ بحماية أراضي الوطن الأمريكي من أي هجوم سوفييتي محتمل. ويمكن للزوار الانغماس في تجربة محاكاة داخل مركز التحكم والقيادة وإعادة إنشاء تسلسل الإطلاق، وهي تجربة مرحة وافتراضية. ولحسن الحظ أن هذه الصواريخ لم تنطلق قط.

خطوط الأنابيب

دعونا نبدأ برمز مادي أو سلسلة من الرموز التي كثيرًا ما يُنظَر إليها باعتبارها رمزًا لأمن الطاقة وجيوسياسية الموارد؛ ألا وهي خطوط الأنابيب. وباعتباره رمزًا شديد التعقيد، يشتمل على محطات ضخ وأنابيب تغذية ومحطات طرفية، فقد كان رمزًا محفِّزًا للغاية للتفاعلات الجيوسياسية. ومدعومًا بالمعرفة المتخصصة والأدوات وتدفقات البيانات والنمذجة والمراقبة والإصلاح والصيانة، يشكل خط الأنابيب جزءًا من شبكة أوسع من البنية التحتية.

خط أنابيب ترانس ألاسكا، الذي بُني في منتصف سبعينيات القرن العشرين، هو أحد أطول أنظمة خطوط الأنابيب في العالم، ويمتد من خليج برودو في شمال ولاية ألاسكا إلى ميناء فالديز في الجنوب. وقد بُني في أعقاب أزمة النفط في عام ١٩٧٣، وكان المقصود منه أن يكون استجابة دراماتيكية للمخاوف المتمثلة في أن أمن الطاقة بأمريكا أصبح يعتمد بشكل متزايد على مجموعة صغيرة من الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وأماكن أخرى، مثل نيجيريا وفنزويلا. أدى الارتفاع الحاد في أسعار النفط إلى إعادة تحديد إمكانات الاحتياطيات المكتشفة وغير المكتشفة لحقل نفط خليج برودو، الذي كان قد عُثِر فيه على موارد بترولية في أواخر ستينيات القرن الماضي.

كان بناء خط الأنابيب تحديًا هائلًا، حيث كان يلزم أن يكون الهيكل المعدني الهائل قادرًا على تحمل أحوال الطقس القاسي ومئات الأميال من التضاريس الطبيعية الوعرة والمتغيرة في القطب الشمالي. بدأ تدفق النفط في عام ١٩٧٧، ومنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، سهَّل خط أنابيب ترانس ألاسكا شحن أكثر من خمسة عشر مليار برميل من النفط. أدى إنتاج النفط وتداوله إلى تحول في اقتصاد ألاسكا ومعايير مناقشات أمن الطاقة في الولايات المتحدة. إلا أنه كان أيضًا مثيرًا للجدل والانقسام بشدة. ولذا، في حين كان مشروع خط أنابيب ترانس ألاسكا استجابة لتحولات الطاقة العالمية، فإن خط الأنابيب نفسه كان مصدرًا للخلاف. فمن منظور المدافعين عن البيئة، كان هذا الخط يرمز إلى «الاندفاع نحو الحصول على النفط» بغضِّ النظر عن التأثير التراكمي لمشروع تشييدي ضخم، كان يعمل في بيئة معرَّضة لتقلبات مناخية شديدة.

من وجهة نظر السكان الأصليين، بدا أن مشروع خط الأنابيب لا يضع في الاعتبار العواقب المترتبة على وضع جسم كبير فوق مساحات شاسعة من التضاريس الطبيعية في ألاسكا، كما أنه لا يراعي مسألة تقسيم العائدات. من الذي سيستفيد من تدفق النفط من شمال ألاسكا إلى جنوبها، وهل سيكون المستفيد الوحيد الولايات الأمريكية «الثماني والأربعين المتجاورة» فقط؟ في أكتوبر ١٩٧١، وافق الرئيس نيكسون على قانون تسوية مطالبات سكان ألاسكا الأصليين، الذي نص على أنه إذا كف السكان الأصليون في ألاسكا عن مطالباتهم بالأراضي في المناطق المتضررة من مشروع خط الأنابيب، فإن حكومة الولايات المتحدة ستعوضهم ﺑ ٩٠٠ مليون دولار و١٤٨ مليون فدان من الأراضي الفيدرالية. ووُزِّعت تعويضات قانون التسوية بين الجاليات المعنية، ونتيجة لذلك، استُكمل مشروع خط الأنابيب ترانس ألاسكا.

ولم يكن خط أنابيب ترانس ألاسكا مثمرًا لجيوسياسية الطاقة العالمية فحسب، بل كان أيضًا مثمرًا لجيوسياسية الشعوب الأصلية؛ الأمر الذي أبرز كيفية معاملة المجتمعات الأصلية من قِبَل الحكومات الفيدرالية والحكومات على مستوى الدول. فمنذ دخول ولاية ألاسكا إلى الاتحاد في عام ١٩٥٩، وُصفَت بأنها منطقة حدودية للموارد وأيضًا منطقة ذات طابع عسكري شديد، على خط المواجهة بالمصطلحات العدائية الخاصة بالحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، لم يكن هناك اهتمام يُذكر بالمجتمعات المحلية الأصلية والشمالية، التي كان من المرجح أن تُعتبر «عقبات» أمام الأمن والتنمية. غيَّر خط الأنابيب، بمظاهره المختلفة، وجه جيوسياسية ألاسكا، وغيَّر طريقة تصور هذه المنطقة وبنيتها التحتية وإدارتهما.

ولكن نظام خطوط الأنابيب، باعتباره رمزًا ماديًّا معقدًا، يمكن أن يُنتِج أيضًا أنواعًا مختلفة من العلاقات الجيوسياسية والميلودراميات الجيوسياسية. ففي شتاء عامَي ٢٠٠٦ و٢٠٠٧، كانت وسائل الإعلام الأوروبية تنشر قصصًا متعددة عن إمدادات الغاز الروسية ودور أوكرانيا كدولة محورية واقعة بين روسيا باعتبارها المُورِّد، وأوروبا الغربية باعتبارها السوق. وقد أدى انقطاع الإمدادات، بسبب الخلاف بين أوكرانيا وروسيا بشأن أسعار الغاز وعدم سداد أوكرانيا للمستحقات، إلى تكهنات بأن إمدادات الغاز سوف تنقطع، وأن منازل أوروبا الغربية ستُحرم من التدفئة. واتهمت روسيا أوكرانيا ﺑ «سرقة» صادرات غاز بقيمة ٢٥ مليون دولار أمريكي كانت متوجهة إلى عملاء أوروبيين، كما اشتكت دول أخرى مثل مولدوفا من «قطع الإمدادات» لأنها فشلت في دفع السعر الذي فرضه المُورِّد الروسي، شركة جازبروم. كما عززت خرائط خطوط أنابيب الغاز الأوروبية القوة الجيوسياسية لخط الأنابيب نفسه وقدرة مُنتجي الغاز الروس على تغيير مسار تدفق الغاز أو حتى إيقافه. وبدا أن حركة الغاز، التي يتيحها خط الأنابيب، معرَّضة للخطر. وقد أعيد تصور دول المرور العابر، مثل أوكرانيا وبيلاروسيا، باعتبارها دولًا ذات أهمية استراتيجية كبيرة؛ وذلك لسبب محدد يتمثل في أن إمدادات الغاز كان يتعين أن تمرَّ عبر البنية التحتية لخطوط الأنابيب الواقعة داخل أراضيها الوطنية.

من منظور بعض المعلقين، كانت «حرب الغاز» مؤشرًا على استعادة روسيا لعافيتها، وحرصها على تذكير العالم بأنها «قوة عظمى في مجال الطاقة»، مع تقديم خط الأنابيب «دليلًا» على هذا الافتراض. وبدون الغاز، نُكِث الوعد بتوريد منتظم للأسواق الأوروبية عبر خط الأنابيب. وتُشكل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية مثالًا جيدًا على الكيفية التي تستطيع بها خطوط الأنابيب تسهيل عمليات التبادل الدبلوماسية، وترتبط بحزم استثمارية أخرى متعلقة بالبنية التحتية وغيرها من الحزم الاستثمارية المالية، التي قد يُموِّل بعضَها البنكُ الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومقره بكين.

قد تكون الرموز المادية، مثل خطوط الأنابيب، عبارة عن ترسانة من الرموز الجيوسياسية القائمة على الهوية. وفي حالة أوروبا وروسيا، تمدُّ روسيا جيرانها في أوروبا الغربية بنحو ٢٥٪ من احتياجاتهم من الغاز الطبيعي، وتزداد هيمنة الغاز الروسي على مزيج مصادر الطاقة الوطنية كلما اقتربنا من موسكو. وأكثر الدول اعتمادًا هي دول البلطيق ودول حلف وارسو السابق مثل بلغاريا ورومانيا. وبالاتجاه نحو الغرب أكثر، نجد إمدادات الغاز النرويجية تخدم دولًا مثل المملكة المتحدة. وهناك عدد من شبكات خطوط الأنابيب مثل نورد ستريم، ويامال، وبلو ستريم. وهناك أيضًا خطوط أنابيب قيد التطوير مثل ساوث ستريم، الذي من شأنه أن يتيح طريقًا رابعًا لنقل الغاز الروسي إلى عملاء الاتحاد الأوروبي وغيرهم مثل بيلاروسيا وأوكرانيا. والشبكات المنافسة، مثل خط أنابيب ترانس أدرياتيك، أصغر حجمًا، وتسمح لمُورد غاز آخر، أي أذربيجان، بالوصول إلى أسواق جنوب أوروبا.

قد تتأثر هيمنة روسيا على خطوط الأنابيب على المدى الأبعد بسبب الاستثمار في محطات الغاز الطبيعي المسال في مختلف أنحاء أوروبا، وتصميم الاتحاد الأوروبي على وضع حد للاعتماد المفرط على الطاقة الروسية من خلال اتخاذ تدابير مناهضة للمنافسة. وقد تبنَّت دول من أوروبا الشرقية مثل بولندا مشروعًا لاستخراج الغاز الصخري كجزء من تصميمها على الحد من الاعتماد على إمدادات الغاز الطبيعي الروسي.

الخرائط

في أوقات الحرب والخلافات الدولية، ربما ليس من المستغرب أن يزداد إلى أقصى حد الاهتمامُ العام بالخرائط والأماكن التي تمثلها. لا تكمن قوة الخريطة في قدرتها على تمثيل الأماكن والشعوب بطرق متعددة فحسب، بل أيضًا في فهمها بطرق متنوعة. وكما لاحظ بينديكت أندرسون، كان للخرائط (وأشكال لها مثل الخريطة الاستعمارية البريطانية، التي صورت المستعمرات والأقاليم باللون الأحمر أو الوردي) دور فعَّال في تشكيل أجيال من المواطنين، وفي كيفية تقسيمها للعالم إلى أماكن ومناطق مميزة. في فترة الحرب الباردة، قدم تطوير الإسقاطات السمتية (أي المسقط المستوي في الخرائط) الخاصة بالقطب الشمالي إلى المواطنين الأمريكيين نظرةً جديدة للعالم، نظرة أوضحت القرب الجغرافي النسبي للاتحاد السوفييتي، عبر القطب الشمالي. وبوجه أعم، يُنسب إلى إسقاطات هذه الخرائط الفضل في تشكيل «عصر جوي» جديد، حيث أعاد مسار رحلات الطيران تشكيل الشعور بالمسافة والعلاقة الجغرافية مع البلدان والقارات الأخرى.

وباعتبارها رمزًا ماديًّا، يمكن الإشارة إلى الخريطة وتمزيقها وتغييرها وإخفاؤها واستخدامها عمومًا في ترسيخ سلطة الدولة والطعن فيها. وتلعب الخرائط، التي تتخذ صيغًا متعددة، رقمية وغير رقمية، دورًا مهمًّا في صنع الجيوسياسية، وهو ما يتجاوز قيمتها العملية من حيث تحديد الأماكن ومساعدة المستعينين بها على التنقل عمومًا. وعلى الصعيد المحلي، استخدمت الدول تقنيات رسم الخرائط الحديثة (كجزء من الحوكمة البيوسياسية المذكورة في الفصل الخامس) لجمع البيانات عن المواطنين وتحركاتهم عبر وسائل النقل الخاصة والعامة، ووضع خرائط للمخاطر الحضرية، والتخطيط للتنمية المستقبلية للمدن والبنية التحتية. وتجمع الشركات بيانات المبيعات، وتجمع شركات وسائل التواصل الاجتماعي البيانات الشخصية من أجل فهم أفضل لتفضيلات المستهلكين وعاداتهم. وتُعَد الخرائط الرقمية عنصرًا أساسيًّا في الطريقة التي تمارس بها الدولة والشركات سلطة وضع الخرائط.

وعلى أطراف الأراضي الوطنية، تُعَد الخريطة أداة محورية في الوساطة بين الدول والنظام الدولي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بترسيم الحدود. وكانت رموز مادية أخرى مثل الأحجار والأشجار وعلامات الطرق والأسلاك الشائكة تُعَد عناصر أساسية في تعيين الحدود، فضلًا عن معالم طبيعية مثل الأنهار وسلاسل الجبال. ومع تطور رسم الخرائط العلمية منذ القرن السادس عشر فصاعدًا، أصبح إنتاج الخرائط ذا أهمية متزايدة في تعيين حدود الدول، وساعد وجودها في تسهيل المساعي اللاحقة لوضع علامات على الحدود وتأمينها. وتستمر هذه العملية بوتيرة سريعة في المجال البحري مع استثمار الدول الساحلية لمبالغ كبيرة من المال لرسم خرائط ومخططات الجروف القارية الخارجية لها على أمل أن تتسع السلطة السيادية لتشمل قيعان البحار والمحيطات (مع الوعد بمزيد من الاستفادة من الموارد الموجودة فوق تلك القيعان أو تحتها).

وقد تكون الخرائط ذات فائدة هائلة أيضًا في مجال الجيوسياسية المعاصرة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك خريطة وطنية جديدة ذات بعد رأسي واضح. ففي سبتمبر ٢٠١٣، أصدرت دار نشر سينو مابس بريس — وهي هيئة معنية برسم الخرائط تخضع لسيطرة هيئة المساحة ورسم الخرائط بالصين — هذه الخريطة. وكان من اللافت للنظر في هذه الخريطة قدرتها على إثارة القلق بين دول جنوب شرق آسيا المجاورة من ناحية، ودول القطب الشمالي من ناحية أخرى.

وما أثار القلق في جنوب شرق آسيا هو إدخال ما يُسمى بخط القطاعات التسعة على الخريطة نفسها؛ مما يعني ضمنيًّا أن الصين أبدت اهتمامًا استراتيجيًّا عبر بحر الصين الجنوبي. وتغطي القطاعات التسعة الأولى بحر الصين الجنوبي في حين يغطي القطاع العاشر تايوان. وتحتوي أحدث جوازات السفر الصينية على هذه الخريطة، وبطبيعة الحال في كل مرة يسافر فيها مواطنون صينيون إلى خارج البلاد تسافر هذه الخريطة معهم (انظر شكل رقم ٦-٢). والهدف من هذه الخريطة هو هدف تقريري؛ أي تعلن فيها الصين عن مصالح وحقوق إقليمية وموارد أساسية، ولن تتنازل عنها.
fig14
شكل ٦-٢: خريطة الصين، وتشمل «خط القطاعات التسعة» المثير للجدل.

بحر الصين الجنوبي هي منطقة بحرية متنازع عليها بشدة. فهناك عدد من الجزر المتنازع عليها، ونتيجة لذلك هناك أيضًا مطالبات بفرض السلطة البحرية على هيئة ضم بحار إقليمية، ومناطق اقتصادية خالصة، وحتى حقوق سيادية على الجرف القاري الممتد. وتخوض الصين صراعًا يشمل الفلبين وفيتنام وبروناي وإندونيسيا وماليزيا، فضلًا عن نزاع طويل الأمد مع اليابان بشأن جزر سينكاكو/دياويو الواقعة شمالًا. ويبدو أن ظهور خط القطاعات يشير إلى أن الصين تعتبر سلطتها السيادية تمتد إلى كل أنحاء بحر الصين الجنوبي تقريبًا. وفي حين تعترف الخريطة بأن «الحدود غير محددة»، فقد أصبحت هذه الخريطة، بالمعنى الحرفي للكلمة، رمزًا ماديًّا للخلاف.

ويزعم البعض أن الغموض الذي يكتنف «خط القطاعات» على الخريطة يساهم في إثارة القلق الإقليمي بشأن النيات الحالية والمستقبلية للصين وخططها للسيادة البحرية. وعلى نحو مماثل، يؤكد الإسقاط الرأسي لخريطة عام ٢٠١٣ على القرب الجغرافي النسبي للصين من منطقة القطب الشمالي. ففي مايو ٢٠١٣، قُبلت الصين باعتبارها مراقبًا على المنتدى الحكومي الدولي، المسمى الدائرة القطبية، وتصف نفسها رسميًّا بأنها «دولة قريبة من القطب الشمالي». وتشعر دول القطب الشمالي مثل كندا وروسيا بالقلق إزاء النيات البعيدة المدى للصين في القطب الشمالي.

وأخيرًا، يمكن أن تصبح الخريطة بوصفها رمزًا ماديًّا موضوعًا للجيوسياسية المضادة ورسم الخرائط المضادة. حتى الآن تحدَّثنا عن الخرائط ووضعِ الخرائط التقليديَّين نسبيًّا، باعتبارهما مرتبطين بالدولة وتصورها الجغرافي. يُعَد تريفور باجلن، عالِم الجغرافيا التجريبية، مثالًا بارزًا في استخدام التقنيات والتطبيقات الجديدة لرسم الخرائط (على سبيل المثال تطبيق «جوجل إيرث») والمنهجيات البصرية لتوليد أنواع مختلفة من الخرائط. ومنذ بداية الحرب على الإرهاب في عام ٢٠٠١، كشف باجلن عن أشياء غير مرئية أخرى أيضًا، مثل الرحلات الجوية للتسليم الاستثنائي الخاصة بوكالة الاستخبارات المركزية وما يرافقها من شبكة وجهات ونقاط توقف تشمل الأردن وأيرلندا وقطر وليبيا وأفغانستان وخليج جوانتانامو (كوبا). ومن خلال تعاونه مع الفنانين وأمناء المكتبات، تتناول كتبه، بما في ذلك كتاب «أطلس رسم الخرائط الراديكالية»، عددًا من الخرائط، بما في ذلك صور لاستهلاك النفط في الولايات المتحدة، وأنماط الاحتجاز في الاتحاد الأوروبي فيما يخص المهاجرين غير الشرعيين.

إن مصطلح رسم الخرائط الراديكالية، أو في الواقع رسم الخرائط المضادة، يهدف بالتبعية إلى تحقيق أمرين؛ أولًا: تسليط الضوء على ما تغفل عنه الخرائط التقليدية (التي غالبًا ما تنشغل بأراضي الدولة والحدود/الولايات القضائية الدولية/المحلية) أو تقلل من أهميته؛ وثانيًا: التصدي للظواهر والعلاقات التي قد لا تُعَد جديرة برسمها على الخرائط من الناحية السياسية والجغرافية. ولذا، بينما يمكننا أن نتخيل السبب الذي جعل سلطات الحكومة الأمريكية تتردد في إنتاج خرائط رسمية تظهر مسارات الرحلات الجوية المرتبطة بالتسليم الاستثنائي، قد نتساءل أيضًا لماذا لم تُرسم خرائط أخرى في المقام الأول. عندما تعرب الحكومات في أمريكا الشمالية وأوروبا عن قلقها إزاء الهجرة غير الشرعية، قد نقارن بين الأعداد الفعلية لأولئك المهاجرين ونوعيات الأرقام التي يتعين على دول أخرى مثل باكستان والأردن التعامل معها في أعقاب حرب أهلية، وكارثة، وما شابه ذلك. وقد تستفيد مثل هذه الخرائط من مصادر البيانات التي تُتجاهَل أو تُهمَّش في النقاشات الجيوسياسية التقليدية.

وبما أن الخرائط يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها نتاج لنظم المعلومات الجغرافية، لا نتاج رسم بأيدي زمرة من الفنانين/الفنيين المهرة، فإن الخريطة كأداة رقمية أصبحت متاحة على نطاق أوسع من أي وقت مضى. فالفنانون، فضلًا عن المواطنين عمومًا، يطورون خرائطهم الخاصة، وتتفاعل هذه الرموز الافتراضية مع العالم المادي. ومع ذلك، تظل الخرائط فعَّالة ومؤثرة لسبب محدد يتمثل في أنها يمكنها تسليط الضوء على بعض الأشياء على حساب أشياء أخرى، ويتلخص عمل باجلن وآخرين في التصدي لفكرة أن الخريطة رمز مادي أو مظهر من مظاهر قوة الدولة. وتُثبت الخرائط التي يرسمها المواطنون أن لها أثرًا كبيرًا في تحدي الخرائط وتحليل البيانات المعتمدَين من الدولة. لذا، فإن ما يهم ليس فقط السمات التمثيلية للخريطة الرقمية (بعبارة أخرى، المحتوى الفعلي)، بل أيضًا أنها تحاكي السمات المادية للخرائط الرسمية بما فيها من مفاتيح خرائط ومقاييس رسم وما إلى ذلك. لقد أدى انتشار برامج رسم الخرائط والبيانات مفتوحة المصدر على نطاق واسع إلى تغيير جذري في قدرة المواطنين والأطراف الفاعلة غير الحكومية على إنتاج خرائطهم الخاصة وتحدي هيمنة الدولة على رسم الخرائط. ففي عام ٢٠١٣، على سبيل المثال، أُنشئَ موقع «درونستجرام» (dronestagr.am)، يسمح للمستخدمين بمشاركة صور مُلتقَطة بطائرات مُسيَّرة، بما في ذلك المواد ذات المرجعية الجغرافية. وتوفر مثل هذه المواقع المتخصصة في مشاركة الصور الفوتوغرافية والفيديوهات والرسومات مزيدًا من الفرص لرسم خرائط الأراضي الوطنية والدولية والتصدي لاحتكار رسم الخرائط التقليدية الذي تمارسه الدول.

القمامة

ما الذي قد تخبرنا به القمامة عن الجيوسياسية؟ من منظور أولئك الذين يعملون على المناطق الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك، تساعد الأشياء المادية مثل زجاجات المياه والأحذية والأدوية ووثائق الهوية في تشكيل منظور أوَّلي لليأس الذي يشعر به أولئك الذين يسعون إلى عبور البيئات شبه القاحلة في محاولة مستميتة لدخول الولايات المتحدة. لعدد من الكتَّاب، ومن ضمن ذلك الجغرافيون وعلماء السياسة، تصبح القمامة نفسها طريقة للتفكير في أن الظروف البيئية المحيطة بالمناطق الحدودية جزء لا يتجزأ من فهم طريقة حماية الحدود وتنظيمها. ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك استراتيجية متعمدة من جانب حكومة الولايات المتحدة لتحويل حركة عبور الحدود بصورة غير شرعية إلى مناطق حدودية أكثر صعوبة وعدائية، ولا سيما حيث تسود الجبال والصحارى.

ونتيجةً لهذه «الحواجز الطبيعية»، فإن مسارات المهاجرين غير الشرعيين من المرجح أن تنطوي على عبور محميات الحياة البرية والمتنزهات الوطنية، وهو ما كان له تداعيات ليس فقط على قدرة المهاجرين على البقاء على قيد الحياة، ولكن أيضًا على تأثير الهجرة على النظم البيئية. بالنسبة إلى أولئك الذين يعملون على المناطق الحدودية ويدرسونها، هناك مجموعة أكبر من الأشياء والمواد التي يمكن العثور عليها إما ملقاةً وإما ببساطة مفقودةً من أولئك الساعين إلى عبور الحدود. ومن ناحية، شجَّع وجود القمامة مجموعات المواطنين على تنسيق عمليات التنظيف؛ ومن ناحية أخرى، أشار نشطاء معنيون بحقوق الإنسان إلى وجود زجاجات المياه الملقاة لإثبات أن أعدادًا متزايدة من المهاجرين يموتون بسبب الجفاف في هذه البيئات القاسية، مشيرين إلى ما يزعمون أنه نتيجة لاستراتيجيات أمن الحدود ذاتها، والتي صُممت للردع (أو ما هو أسوأ من ذلك، وهو تعزيز ارتفاع الخسائر البشرية من خلال تقوية البنية التحتية للحدود بالقرب من نقاط عبور الحدود المعروفة). لذا، أصبحت هذه الأشياء وسيلة لتوثيق وتسجيل المنتجات الثانوية للهجرة غير الشرعية وممارسات أمن الحدود. وقد أضافت المذكرات الأخيرة التي أعدها موظفو دوريات الحدود، مثل فرانسيسكو كانتو، مزيدًا من المرارة إلى العثور على القمامة إلى جانب رفات متحلل لأولئك الذين حاولوا عبور الحدود. وفي كتابه بعنوان «الخط يصبح نهرًا» (٢٠١٨)، لا يدخر كانتو جهدًا في مواجهة القارئ بالعواقب المأساوية والتعقيدات المترتبة على جيوسياسية الحدود وضوابط الهجرة المرتبطة بها.

ولكن النفايات قد تلعب بطرق أخرى دورًا في الجيوسياسية. فما الذي يمكن أن يخبرنا به إلقاء النفايات بخصوص كيفية إدخال الأماكن والمجتمعات المحلية في ديناميات السلطة؟ ومن الأمثلة السيئة السمعة على ذلك شركة ترافيجورا الهولندية، التي اتُّهمت بإلقاء بعض النفايات الشديدة السمية في دولة ساحل العاج الأفريقية في عام ٢٠٠٦. ثم اتُّهمت شركة محلية لجمع النفايات بالتخلص من النفايات بطريقة غير قانونية بدلًا من معالجتها بأمان. واشتد الجدل مع ظهور تقارير عن وقوع وفيات وإصابة بأمراض يمكن عزوها إلى التخلص غير القانوني من النفايات. واضطرت شركة ترافيجورا إلى دفع تعويضات لحكومة ساحل العاج. وما زاد من شهرة هذه القضية كان صراعًا قضائيًّا طويل الأمد تضمن محاولات لفرض أمر قضائي يمنع مؤسسات الإعلام الإخبارية من إعداد تقارير بشأن التخلص من النفايات السامة، والطعن في الادعاءات بأن الحادث كشف عن مخالفات الشركة وانتهاكات حقوق الإنسان. وما قدم عنصرًا آخر من الجدل هو جغرافيا التخلص من النفايات. وقد أثار الاختيار الانتهازي لدولة واقعة غرب أفريقيا احتمال أن تكون هذه محاولة متعمدة لضمان عدم تأثر السكان الأوروبيين مباشرة، واستراتيجية خبيثة لتجنب ارتفاع تكاليف معالجة النفايات في بلد مثل هولندا. ونُقلَت الخطورة الصحية التي يفرضها هذا الشكل من النفايات إلى مكان آخر. وفي نوفمبر ٢٠١٢، وافقت الشركة على التوصل إلى تسوية مع السلطات الهولندية تتضمن دفع غرامة وتقديم حزمة تعويضات.

غالبًا ما تدل جيوسياسية النفايات على نشاط عابر للحدود الوطنية ومتعدد الأبعاد وغير متكافئ يشمل الإنتاج والنقل والتخلص من النفايات وإعادة التدوير. وكما أظهرت فضيحة شركة ترافيجورا، تورطت أطراف فاعلة متعددة تشمل شركات ومجتمعات محلية وحكومات ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية. ولكن في بعض الأحيان يمكن أيضًا أن توفر «النفايات» و«القمامة» فرصًا. فما علينا إلا أن نفكر في أمثلة حميدة عندما تسقط البضائع، غالبًا على هيئة حاويات، (عَرَضًا أو عمدًا) من السفن والطائرات والشاحنات، وتنتهي في مناطق يمكن الوصول إليها مثل الشواطئ؛ مما يشجع المجتمعات المحلية على اغتنام الفرص ﻟ «استرداد» أشياء من تلك الحاويات. وفي حالة وقوع حادث شحن، تصبح النفايات العرَضيَّة فرصة لآخرين للاستفادة من هذا الحطام وهذه المخلفات العائمة.

ولعل المثال الأكثر شرًّا هو التسربات والنفايات النووية المرتبطة بكارثة تشيرنوبل في أبريل ١٩٨٦، عندما انفجر مفاعل نووي في محطة للطاقة في أوكرانيا. وفي أعقاب الكارثة، حشد القوميون الأوكرانيون مشاعر الاستياء والغضب ضد النخب الروسية/السوفييتية في موسكو بسبب سوء الإدارة والصيانة من جانبهم. واجتذبت الكارثة الانتباه إلى أشكال التعبير عن القومية البيئية الأوكرانية وعجز الحقبة السوفييتية.

إن جيوسياسية النفايات ليست مجرد مسألة متعلقة بالأرض فحسب. ففي حين توجد نفايات جوية، مثل الملوثات المتسببة في ترقق طبقة الأوزون، هناك أيضًا مخلفات فضائية. وفي منتصف تسعينيات القرن العشرين، أُنشئَت لجنة تنسيق بين الأجهزة الحكومية الدولية المعنية بالمخلفات الفضائية تضم الدول الفاعلة الرئيسية (مثل أوروبا والولايات المتحدة والصين والهند واليابان وروسيا)، إلا أن الالتزام بتوصيات اللجنة اختياري. وقد أثارت النفايات الفضائية احتمال حدوث تصادم في الفضاء، وثَمة استثمار متزايد في برامج رصد الفضاء من أجل تعزيز القدرات الوطنية على رصد حركة نقل النفايات وتتبعها في الفضاء. ومع ذلك، تقع بالفعل اصطدامات، وفي فبراير ٢٠٠٩ تصادم قمران صناعيان روسي وأمريكي. ونظرًا للحساسية الشديدة للعمليات الخاصة بتشغيل الأقمار الصناعية، لا تتقاسم الدولتان البيانات أو تنسقانها. ولا تزال محاولات الاتحاد الأوروبي للترويج لمدونة قواعد السلوك لأنشطة الفضاء الخارجي (التي يُروَّج لها منذ عام ٢٠١٠) عالقةً في مرحلة خلافية. ومع أن أغلب الأطراف تتفق على أن النفايات الفضائية تمثل مشكلة، هناك مخاوف من أن الصين وروسيا والولايات المتحدة تبدو عاجزة عن التوصل إلى اتفاق بشأن كيفية معالجة مشكلة النفايات الفضائية وما إذا كانت أي تدابير مصممة للتخفيف من آثارها ملزِمة. وبالطبع، قد يتغير هذا إذا ثبت أن النفايات أكثر تدميرًا لعمليات تشغيل الأقمار الصناعية القائمة بالفعل. وقد تؤدي المزيد من الاصطدامات إلى تسريع الاهتمام بتنفيذ اتفاق أكثر إلزامًا بشأن النفايات الفضائية.

ألعاب الحركة

لقد تناولت الأعمال الحديثة في الجيوسياسية النقدية مجالًا يُسمى «الجيوسياسية الترفيهية»، مع التركيز على الألعاب وكل ما له صلة بأنشطة التسلية والترفيه. كانت للألعاب علاقة طويلة الأمد بالنزعة العسكرية والحرب. فقد جرى استخدامها، ولا تزال تُستخدم، في حملات التجنيد وتصميم المعدات واختبارها، وكأشياء مصممة لشرعنة السلوك العسكري وتبريره. وفي حقبة الحرب الباردة، صُمِّمَت ألعاب صواريخ ودبابات من صنع شركات مُصنِّعة لألعاب الأطفال مثل دينكي لغرس نسخة مصغرة من أنظمة الأسلحة التي كانت موجودة في مواقع مختلفة حول العالم في أذهان المواطنين اليافعين. وكما أظهر الباحثون في مجال ألعاب الأطفال، ساعدت الألعاب ذات الطابع العسكري في جعل أسلحة الدمار الشامل مفهومة لجيل من الصغار الذين نشئوا في ذروة الحرب الباردة، بما في ذلك فترة «سباق الفضاء».

بالنسبة لجيلي، الذي وُلِد في الفترة من منتصف ستينيات القرن الماضي إلى أواخرها، يبدو أن لطرح دمى الحركة تأثيرًا مهمًّا، ولا سيما للأطفال الذكور (ولكن ليس حصريًّا عليهم). ففي الولايات المتحدة، أطلقت شركة هاسبرو لعبة «جي آي جو» في عام ١٩٦٤، وفي غضون عامين، قدمت شركة تصنيع ألعاب الأطفال البريطانية باليتوي لعبة «أكشن مان». في كلتا الحالتين، كان هذا الجندي اللعبة مختلفًا اختلافًا جذريًّا عن الإصدارات السابقة من اللعبة المعدنية. صُمِّم الجندي اللعبة كدمية مانيكان، إلا أنه، كما تشير أبحاث تارا وودير، كان مشروعًا تجاريًّا محفوفًا بالمخاطر. في السابق، كانت مثل هذه الدمى مرتبطة بالفتيات وسلوكهن المعتمد على اللعب، وخاصةً دمية «باربي» الشهيرة للغاية التي تنتجها شركة ماتيل. سُوِّقَت مجموعة «جي آي جو» على أنها دمى «حركة» من أجل تمييزها عن دمى باربي الأكثر «خمولًا». كان تصميم دمية «أكشن مان» متعمدًا من ناحية أن تكون مرنةً للغاية وقادرةً على تغيير الملابس وعلى التسلح في إصدارات متعددة منها. ولصبيٍّ نشأ في بريطانيا في سبعينيات القرن العشرين، كانت دمية «أكشن مان» الخاصة بي ذات شعر أشعث ووجه مليء بالندوب ومزودة بيدين قادرتين على الإمساك بترسانة متنامية من الأسلحة والمعدات المتنوعة. ومع إمكانية الاختيار بين الملابس والسيارات، تمكنت أنا وأخي من ابتكار سيناريوهات حروب ومغامرات أكثر تعقيدًا في غرفتنا (شتاءً) وفي الحديقة (صيفًا). لا تزال دمى «أكشن مان» الخاصة بنا باقية حتى يومنا هذا، وإن كانت مُخزنة في علية منزلي. والأمر المذهل، عند النظر إلى تلك الفترة، هو كيف تصور الصانعون قوات العدو على أنها تشبه القوات الألمانية في أربعينيات القرن العشرين؛ أكثر من الخصوم السوفييت/حلف وارسو المسلحين بأسلحتهم المميزة من طراز المدفع الرشاش إيه كيه-٤٧ والشهيرة ببندقية كلاشِنكوف الروسية (انظر مربع رقم ١٥).

مربع رقم ١٥: بندقية كلاشِنكوف الآلية الروسية

إذا كان هناك بندقية واحدة تُجسد أهمية السلاح كرمز مادي في الجيوسياسية، فإن بندقية كلاشِنكوف الهجومية ستكون من أبرز المنافسين على الفوز بهذا اللقب. طُوِّر هذا السلاح في عامَي ١٩٤٥ و١٩٤٦ على يد المصمم ميخائيل كلاشِنكوف، ولم تصبح هذه البندقية السلاح الرسمي للقوات السوفييتية وقوات حلف وارسو فحسب، بل جرى تداولها وتوزيعها على نطاق واسع في أماكن أخرى من شتى بقاع العالم. ونظرًا لرخص تكلفة تصنيعها وخفة وزنها (ومن ثَم فهي سلاح يمكن أن يستخدمه الأطفال) وسهولة صيانتها، كانت السلاح المفضل لعدد لا يُحصى من القوات المسلحة والعصابات الإجرامية والحركات الثورية. كانت البندقية تُهرَّب على نطاق صناعي عبر الحدود، وجرت محاكاة التصميم على نطاق واسع من قبل الشركات المُصنعة الأخرى بما في ذلك الصين وإسرائيل. وُضعَت بندقية كلاشِنكوف، بصورة رمزية، على علَم أطراف فاعلة غير حكومية مثل حزب الله وعلى شعارات النبالة لدول مثل بوركينا فاسو (١٩٨٤–١٩٩٧).

ما يثير الاهتمامَ حول تطوير دمى «أكشن مان» هو أن تصميمها وشعبيتها لدى المستهلكين يتمتعان بتاريخ متغير. لم يكن هناك دمية «أكشن وامان» للفتيات، وكانت المعدات والزي الرسمي مستوحيين من القوات المسلحة البريطانية. كانت جميع دمى «أكشن مان» الخاصة بي ذات بشرة بيضاء، ولكن كان من الممكن شراء دمية «أكشن مان» ذات بشرة سمراء تُسمى «كوماندو توم ستون» في سبعينيات القرن الماضي. وقد وجَّه مصنعو الألعاب الدعوة إلى أفراد من الجيش البريطاني لتقديم المشورة بشأن تصميم الدمى. وكانت هناك تنويعات داخل أوروبا الغربية. كانت الدمية الألمانية المكافئة، خلال سنوات الحرب الباردة، ذات طابع عسكري أقل بشكل واضح، وكانت الدُّمى المكافئة ترتدي زي قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وفي الولايات المتحدة، أصبحت مجموعة «جي آي جو» أقل شعبيةً أثناء حرب فيتنام، ولم يُعَد إطلاق الدمية بعلامتها التجارية المميزة باعتبارها «بطلًا أمريكيًّا حقيقيًّا» إلا بعد تولي رونالد ريجان منصب الرئاسة في ثمانينيات القرن العشرين.

لعبت تقلبات التوتر الجيوسياسي أثناء الحرب الباردة دورًا في ظهور هذه الألعاب وتداولها. وأُعيد إطلاق العلامة التجارية «أكشن مان»، وأُعيدت تسميتها في عامَي ١٩٩٣ و١٩٩٤، ولكن كشخصية مغامرة أكثر من كونها دمية عسكرية. عادت دمية «أكشن مان» إلى جذورها العسكرية في خضم احتفالات يوم النصر في أوروبا في عام ٢٠٠٩. تنطوي فئة الألعاب المستوحاة من القوات المسلحة البريطانية، والمرخصة من وزارة الدفاع في المملكة المتحدة، على تعاون نشط وتفاعل من أفراد الجيش في تصميم وترويج الألعاب الحربية. وتؤكد حملات تسويق هذه الألعاب على أنها على درجة عالية من الواقعية من حيث تصميم الملابس والمعدات. ورُوِّج لها بنشاط في مجلات الأطفال ومن خلال الإعلانات التلفزيونية أثناء التغطية الواسعة النطاق للعمليات العسكرية البريطانية في أفغانستان والعراق بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠١٥.

إن الشعبية التجارية لفئة الألعاب المستوحاة من القوات المسلحة البريطانية ترجع جزئيًّا إلى جودة تصميم الدمى (كما لاحظ العديد من النقاد على منتديات الإنترنت)، ولكنها تشير أيضًا إلى ما يمكن اعتباره شكلًا من أشكال الإعجاب من جديد بالقوات العسكرية البريطانية. ورغم عدم مشاركة جميع مواطني المملكة المتحدة، فقد كان هناك زيادة في مبادرات «دعم القوات»، بما في ذلك مسيرات العودة إلى الوطن، ومبادرة الأعمال الخيرية «ساعدوا الأبطال»، والاحتفالات التذكارية، وغيرها من الأنشطة بما في ذلك فعاليات الموسيقى الشعبية المصممة لتسليط الضوء على المساهمة التي قدمها أفراد الجيش البريطاني في أفغانستان على وجه الخصوص. هكذا، يصبح اللعب بالألعاب مثل دُمى الحركة المستوحاة من القوات المسلحة البريطانية مثيرًا للاهتمام أكثر لمساهمته في تقريب الأنشطة العسكرية والنزعة العسكرية وتطبيعهما على نحوٍ أعم في أذهان العامة، هذا من بين العديد من الرموز المادية الأخرى مثل شارات الأذرع. ولكن قد تصبح هذه الألعاب أيضًا موضوعات للاحتجاج والمعارضة؛ لذا من المهم أن نلاحظ أن العلاقة بين الألعاب والنزعة العسكرية والثقافات الجيوسياسية ليست علاقةً مباشرة مطلقًا.

إضفاء الصبغة المادية على الجيوسياسية

هذا الفصل الذي تناول الرموز المادية والثقافة المادية بصفة عامة يشير إلى أن الجيوسياسية تتعلق في الأساس بالأشياء وما نفعله بها. ورغم أننا قد نفكر في البنية الأكثر رسميةً للدولة، مثل الخرائط والأنصاب التذكارية والتذكارات، فإننا لا نفتقر إلى الأمثلة التي تساعدنا على التفكير في الرموز المادية (انظر شكل رقم ٦-٣). فالرموز تُستخدم بطرق متنوعة. يمكن أن تكون ذات طابع تمردي؛ ومن ثَم تكون قادرة على تشجيع التدخلات البشرية وإحباطها بل مقاومتها. فالعلَم يتمزق، والبندقية تتعطل، وجهاز الترخيص يتوقف عن التسجيل، ودمية «أكشن مان» تتفكك إلى قطع بسبب إساءة استخدام الصغار، والحاوية تُستخدم لنقل السجناء في أفغانستان بدلًا من التجارة في السلع حول العالم. وجزء من التحدي الذي تفرضه الرموز المادية على الجيوسياسية هو أن هناك كثيرًا من الأشياء التي قد يفكر فيها المرء، وهناك أمثلة يمكن أن تصبح فجأةً «جيوسياسية» في حين كانت تُعَد في السابق هامشية، أو غير مهمة، أو عادية، أو جميع ما سبق. إن العثور على جزيئات بلاستيكية دقيقة في المحيط المتجمد الشمالي المركزي يمكن أن يصبح بمثابة «دعوة إلى المواجهة» عند الكثيرين، وقد يؤدي إلى إعادة تصور الأماكن النائية على أنها مناطق تثير قلقًا ملحًّا.
fig15
شكل ٦-٣: النصب التذكاري للجنود الذين لقوا حتفهم في جزر مالفيناس/فوكلاند، مدينة أوسوايا، الأرجنتين.

تستحق الرموز المادية وما يقابلها من ثقافات مادية خاصة بالجيوسياسية اهتمامًا أكبر. ومن شأن التحليل الأعمق أن يأخذ في الاعتبار شكل الرموز المادية وتركيبها وبنيتها وكيف تمثِّل هذه الصفات المادية أهميةً محورية للجيوسياسية والعلاقات الجيوسياسية. وكثيرًا ما يحرص الزعماء الشعبويون على أن يشتري مواطنوهم منتجات محلية ويتجاهلوا السلع المستوردة. وقد يصبح شراء المنتجات البريطانية أو الأمريكية أو الفرنسية مثل السيارات والطعام أمرًا بالغ الأهمية في لحظات التوتر الجيوسياسي والجيواقتصادي. وتصبح عملية الشراء تعبيرًا عن الوطنية. وتستند القوميات الاقتصادية إلى فهمٍ جغرافي معين للعالم؛ فالوظائف المحلية تحتاج إلى حمايتها من العمالة الأجنبية والاستثمار الدولي، ويحتاج المواطنون إلى تفضيل المنتجات المصنعة محليًّا من أجل دعم «الشعب». ونتيجة لهذا فإن «الأشياء الأجنبية» قد تجتذب أشكال تعبير عن الغضب؛ بل ربما غضبًا مدمرًا.

بعبارة أخرى، لا يمكنك مطلقًا أن تعرف متى تتسلل الجيوسياسية إلى حياتنا.

الخاتمة

من المرجح أن تتشكل الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين من خلال سلسلة من الضغوط التي تؤثر على جميع الدول والمجتمعات المحلية، ومن ضمن ذلك: النمو السكاني (حيث سيصل تعدد سكان العالم إلى عشرة مليارات نسمة على الأقل بحلول عام ٢١٠٠)، واستهلاك الموارد، وتغير المناخ، وعدم المساواة. وبعيدًا عن هذه الاتجاهات الكبرى السائدة، فإن بعض المبادئ الأساسية للنظام الدولي تتعرض ﻟ «تفريغ من المضمون». تجاهد الدول القومية لممارسة السيادة على أراضيها الوطنية، حيث يصعب الحفاظ على التمييز بين الداخل والخارج ناهيك عن تحديده. إن الأنماط العالمية للسياسة والعمل والثقافة والاقتصاد والمعلومات تجعل من الصعب للغاية حماية الثقافات الوطنية والحدود الإقليمية الواضحة والحفاظ عليها. لا شك أن الأشكال الشعبوية للجيوسياسية تمثل استجابةً لهذه التحديات الجغرافية، ولكن هناك استجابات أخرى مثل مقاومة المطالبات بمزيد من العمل الجماعي في مواجهة تغير المناخ.

كان قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس لعام ٢٠١٥ مبنيًّا على افتراضٍ مفاده أن هذا الاتفاق قد يكون غير مُواتٍ اقتصاديًّا للولايات المتحدة. ومع ذلك، يرى المنتقدون أن أي التزام بجيوسياسية بيئية أكثر تقدميةً يعني الاعتراف بأن البشر تعاملوا لفترة طويلة جدًّا مع الطبيعة باعتبارها سلسلةً من الموارد الرخيصة؛ مما مكَّن من حدوث تغيير اجتماعي واقتصادي هائل بطريقة غير مستدامة ومدمرة إلى حد كبير. لقد مكنت الخدمات البيئية للأرض من التعبير المتعدد عن القوة الجيوسياسية؛ بدءًا من استخراج الطاقة إلى إنتاج الغذاء والتصنيع.

لذا، فإن إدراك هذا المفهوم المتغير بالجيوسياسية سيتطلب استيعابًا للكيفية التي تعمل بها التعبيرات الرسمية والعملية والشعبية عن الجيوسياسية على مستويات متعددة، وتتناول مجموعةً ضخمة من القضايا، وتجد تعبيرًا لها في مجموعة متنوعة من المواقع، وتتغير بمرور الوقت، وتظهر في الحياة اليومية وكذلك في الدهاليز الرسمية للسلطة. إن الطريقة التي نحلل بها الجيوسياسية ونفهمها تكشف الكثير عن الطريقة التي نشعر بها بالعالم من حولنا ونختبره بها ونستمع إليه.

سواء أحببنا ذلك أم لا، فإننا جميعًا منتجون للجيوسياسية ومتعاملون فيها ومتلقُّون لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥