نسمات الأصيل
ألقت الشمسُ بسكونٍ أشعتها الذهبية في أصيل يوم يونيو سنة ١٩٠٦ على «قُفَّةِ» دقيق كانت فوق رأس فتاة تناهز العشرين من عمرها، طويلة القامة، ممتلئة الجسم، مفتولة الساعدين، مقرونة الحاجبين، يميل لون بشرتها إلى الصفرة أكثر منها إلى السمرة، وكان في أسفل شفتها السفلى شجرةٌ صغيرةٌ مرسومة بالوشم الأخضر مما زادها جمالًا! ولقد راعت الشمسُ عواطفَ القرويين، وهي أمهم التي يقدرون مقامها، ويكادون يعبدونها؛ لأنها سر حياتهم، وسببٌ من أكبر أسباب معاشهم، فأبت أم الكون أن تفارق سماء «دنشواي» بدون أن تودع وتُحَيِّي أرقَّ وأطهرَ فتاةٍ تحتها، فعمدت إلى أشعتها فألقتها على وجه العذراء في سيرها كما يُلقي المحب يده على وجنة محبوبته في مداعبتها!
وبعد غروب الشمس تمامًا ظهرت سماء الغرب بلون العاشق المفارق، فجلست الفتاة بردائها الأسود القذر وبقلبها الأبيض النقي على أكمة من التراب، بعد أن وضعت قفتها بجانبها، وصارت تلعب بيديها في قليل من الحصى وبعض «كوالح الذرة» … وكان منظر جلوسها وهيئتها وسكونها يدل على أنها في انتظار إنسان، وبعد لحظة رأت عن بُعد شبحًا يقوم يقعد، فلما تأملتْه جيدًا أفتر ثغرها عن لؤلؤٍ منظومٍ تمنت ابنة الذوات أن تكون هي المتحلية به، ثم قالت: آه … هو هو محمد العبد بيصلي المغرب.
ولم يخِب ظنها، فإن الشبح تقدم بعد هُنَيْهَةٍ منها حتى ظهر لها تمامًا أنه محمد العبد بعينه. وكان شابًّا طويل القامة، قوي البنية، نحيف الجسم، أسمر اللون، يناهز السابعة عشرة من عمره، خفيف الروح رغمًا عن جحاظة عينيه!
ولما صار منها مثل قيد الرمح، خفق فؤادها بشدة وأسلبت جفونها حياءً، أما الشاب فقال لها: ازيك يا ست الدار؟
– الله يسلمك يا محمد.
– فين مدللة؟
– رجعت قبلي من البابور.
– كنت ناوي آجي البابور بعد صلاة المغرب.
– يا سلام يا محمد! يخلصك قعادي بعد المغرب في البابور؟
– ليه؟
– إنت موش عارف إيه اللي بيحصل هناك من الحاجات المسخرة بين النسوان والطحان؟ وزيادة على كده جه أحمد زايد وقعد يناكف فينا طول النهار.
– أحمد زايد كلمك؟
– لأ، ولكن كان بيحدف عليَّ الكلام، وقال لست أبوها إنه رايح يتجوزني غصب عن أبُويِه وعنك!
– إزاي رايح يتجوزك وأنا مكتوب كتابي عليكِ!
– شوف بقه!
– طيب وانتِ ماقلتيش حاجه؟
– لأ.
– قومي بقى يا اختي رَوَّحي أحسن يتمسى عليكِ الوقت.
– حاضر.
ثم قامت وأخذت القفة بين يديها فساعدها خطيبها على وضعها فوق رأسها، ثم قالت له: اتمسه بالخير يا محمد.
– يسعد مساكِ يا ست الدار.
وبعد هذه المحادثة سارت الفتاة إلى بيتها فرأت محمدًا عبد النبي وزوجته يضعان النورج فوق الجرن، فسلمت عليهما فَرَدَّا عليها السلام، وقال لها محمد عبد النبي أن أباها حسن علي محفوظ ذهب إلى بابور الطحين للبحث عنها، فتركتهما ودخلت بيتها تمني النفس بقرب اجتماع شملها بخطيبها وحبيبها.