التنفيذ
الرحمة فوق العدل.
أيتها السماء … أوحي إلى الشمس أن تقف في موقفها فلا تتحرك، وإلى البحار أن تسكن، وإلى النسيم فلا يهب، وإلى الطيور فلا تغرد، ويأيتها الكواكب انظري، وأنت أيتها الأرضين اشهدي كيف يكون تفنن الإنسان في إزهاق روح أخيه الإنسان!
كأن الشمس قد ألقت على بلدة دنشواي التعيسة في يوم ٢٨ يونيو أشعةً من نار وجحيم فوق مستطيل كبير محاط بجنود المحتلين شاهرة السلاح، وعلم الموت الأحمر مرفرفٌ عليه.
هناك في هذا المستطيل المحددة أركانه بالباس الشديد الماحق، وذلك المكان المشئوم الذي حصلت فيه المعركة الأولى، رفعت آلة الموت الجهنمية (المشنقة) بمنظرها البشع، وبتركيبها المرعب، ناطقة بحروف حمراء موضوعها «القتل أنفى للقتل» والدم يُغسل الدم، وليس فيه للرحمة مجال.
هناك في هذا المستطيل المغطاة أرضه بالقسوة، والمحددة أركانه بالشدة والصرامة، أقيمت آلة الصلب والتعذيب.
هناك في هذا المستطيل المخيف، وضعت ثلاث خيام جعلوا إحداها لتغسيل وتكفين المشنوقين، والثانية بمثابة سجن مؤقت للمعدمين، والثالثة للمحكوم عليهم بالجلد.
ففي الساعة الأولى بعد ظهر ذلك اليوم المشئوم جاء المتهمون يرسفون في السلاسل والأغلال، ومن حولهم جنود «الدراجون» يخفرونهم، كانوا يحملون البنادق خلف ظهورهم، والسيوف مسلولة في أيديهم. فكان منظر الموكب يدل على الرغبة في التمثيل بأولئك المساكين.
وفي الساعة الواحدة والنصف تمامًا، وقفت عربة على باب المستطيل، فنفخ «البروجي» في بوقه، فأدت الجند التحية للقادمين.
وهنالك في تلك الساعة في وسط المتسع بين آلة الموت وآلة التعذيب، وقف أولو الأمر بغير اكتراث يضحكون ويتسامرون، كأنهم في حفلة «سينما توجراف» والذي سيشاهدونه خيال في خيال!
هنالك على بُعد خمسين مترًا من المشنقة، وقفت النساء والرجال، والعذارى والأولاد فوق بيوتهم، فجذبت تلك الآلة الجهنمية إليها أنظارهم وحواسهم، فجمدت أبصارهم وتشنجت أعصابهم، فلم يكونوا أن يحولوا نظرهم عنها.
هنالك في تلك اللحظة تجلت الطبيعة بأبهة الجلال على بلدة دنشواي لتنظر إلى عمل الإنسان!
رب ما أحوج الإنسان إلى رحمة الإنسان!
ثم نودي على أول مشنوق وهو حسن علي محفوظ، فغصت الأفواه بريقها، واضطربت النفوس في جوانبها خوفًا وفزعًا من رؤية التمثيل الشنيع، وأديرت الأنظار هربًا من مشاهدة ذلك العذاب الأليم.
فسار الرجل بقدمين ثابتتين، وهو تارةً ينظر إلى المشنقة، وأخرى إلى آلة التعذيب بذهولٍ كبير، فضحك أكبر الحاضرين مقامًا وقتئذٍ من ذهول الرجل الذي هو على حافة القبر، وشر البلية ما يضحك!
ولما مثَل بين أيديهم قرأ مدير المنوفية عليه حكم الإعدام، فتقدم إلى أولي الأمر شابٌّ، خافض الرأس، معفر الوجه بالتراب، مقرح العينين، وطلب منهم بتذلل أن يسمحوا له بمقابلة أبيه المعدَم؛ ليسمع وصيته الأخيرة، وينال رضاه وبركته، فانتهروه وطردوه، وأبوا عليه هذه الأمنية المقدسة، فرجع الولد مكسور القلب باكيًّا لاطمًا وجهه بيديه، وفي أثناء ذلك سمعت ولولة وبكاء وصياح فتطلع الرجل فرأى، ويا هول ما رأى! رأى امرأته واقفة فوق بيته تحدق فيه النظر بعينين ملؤهما الدمع المحبوس، ثم صرخت — عندما نظر إليها — صرخةً اتصلت بعنان السماء وقالت: ارحمونا يا ناس يرحمكم الله!
ثم رأى بجانبها ست الدار حاثية التراب على رأسها مسوِّدة به وجنتيها، وكانت عيناها الجميلتان مقروحتين، وقد جذبتهما تلك الآلة الجهنمية بمغناطيس الحب الأبوي، ثم رأى بين زوجته وابنته ثلاثة أطفال لا يزيد عمر أكبرهم عن الأربع سنوات يبكون ويصيحون بدون أن يعرفوا سبب هذا الحزن، وبجانبهم ولدٌ صغيرٌ يبلغ الثامنة من عمره يبكي بكاءً مرًّا.
ولما نظر حسن محفوظ إلى عائلته — وهم في تلك الحالة التعيسة — أحنى رأسًا لم تحنِه الأيام، ودمعت عيناه ولم تكن تدمعهما الرزايا، ثم حوَّل وجهه نحو باقي المساكن فشاهد الحال واحدة والمصاب عامًّا، فكاد يُجن من اليأس.
وفي تلك اللحظة سمع عواءً شديدًا، فلفت وجهه وقد حن قلبه إلى هذا العواء، فرأى كلبه «سبع الليل» يجري ويخبط رأسه في قوائم ذلك المستطيل المنكود، ولقد دمعت عين الحيوان ولم تأخذ الرحمة قلب الإنسان!
ولما انتهى المدير من قراءة الحكم استلم المشنوق جنديان، وكان لون وجههما أصفر كلون الموتى، والتأثير بادٍ على محياهما وهما يبكيان، فسلماه إلى عشماوي، فأوثق يديه وصعد به إلى المشنقة.
وهنالك في تلك اللحظة تعالت الأصوات بالعويل والبكاء حتى ضجت ملائكة السماء، وصرخت الأرض بما فيها من حيوان ونبات وجماد: إلهنا إلهنا! ارحم المظلوم وأشفق على أولاده، فالرحمة فوق العدل!
ولما استوى المظلوم فوق المشنقة ورأته زوجته عيانًا، صرخت صرخةً دوت في ذلك السكون الرهيب وقالت: آه يا زوجي، آه يا جملي، آه يا خراب بيتك يا محفوظ، رايح فين وسايب أولادك وأولاد ولادك لمين؟
فاقشعر بدن الرجل من هذا الصوت الحنون المؤثر.
ثم سمع ابنته ست الدار تصرخ بصوتٍ يفتت الكبد ويدمي القلب وتقول: آه يا بويه، يا خراب بيتك يا بويه، يا مظلوم يا بويه، آه يا معدوم! يا جملنا رايح فين وسايبنا لمين؟!
فغشيت الرجلَ غمامةٌ من اليأس، وصعد الدم إلى وجهه، وأظلمت الدنيا أمام عينه.
ثم سمع ولده الصغير وهو يقول: ما لك يا امه بتعيطي على بويه وهو واقف أهو قدامنا على الخشبة دي، أنا باحسبه إنه سافر، شوفي شوفي أهو قدامنا، ورايح يجي لنا دي الوقت.
ثم صرخ يخاطب أباه قائلًا: تعالَ يا بويه تعالَ سكِّت أمي أحسن بتعيط عليك، تعالَ يا بويه تعال احنا عاوزينك رايح فين؟ وليه واقف كده؟
فاندك قلب الرجل لهذا الصوت العذب المؤثر، وضج الحاضرون بالعويل والبكاء، حتى إن عشماوي مسح عينه بكمه.
ولما سمعت امرأته صوت ابنها اليتيم وقعت أمام أعين زوجها مغشيًّا عليها كأن رؤية عميد بيتها وزوجها المحبوب على المشنقة لم تؤثر فيها تأثير تلك الكلمات!
فلطمت ست الدار وجهها الذي كان مسودًّا بالنيلة والتراب، وأكبت على أمها تقول: آه يا امه إوعي تموتي! وبعدين تسيبونا لمين؟
وكان بجانبها خطيبها محمد العبد، فضمها إلى صدره والدموع الغزيرة تنهمل من عينيه، وأخذ يعزيها على هذه المصيبة.
فوقف شَعر حسن محفوظ من هول هاتيك المناظر، ثم التفت إلى بيته العزيز، وعائلته التعيسة، وكلبه الأمين، وقال مشيرًا إليهم بيدٍ مرتعشةٍ ولسانٍ قويٍّ: الوداع، الوداع يا أولادي الوداع، الوداع يا بيتي ويا بلدتي، الوداع يا ست الدار، الوداع يا كلبي الأمين، ولكم رب اسمه الكريم، ولكن أحلف لكم وأنا على المشنقة أني مظلوم الله، يخرب بيتك يا أحمد يا زايد الله يخرب بيتك. ثم خنقته العبرات عندما رأى ست الدار وقعت مغشيًّا عليها بين ساعدي خطيبها، ففتح فاه ليشجعها، ولكن في هذه اللحظة هبط عزرائيل بجيوشه فاستقبله عشماوي، وكانت يده أسرع من لسان حسن محفوظ، فحرك اللولب … فهوى الرجل ميتًا وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله.
وعند ما هوى، صرخ ابنه صرخةً قويةً: أبويه وقع! أبويه وقع!
ففتحت امرأة المشنوق عينيها، فرأت زوجها مدلى بين الأرض والسماء، ووجهه جهتها، ولسانه تدلى فوق لحيته البيضاء، ومنظره رهيب مخيف، فأغمضت المرأة ثانية عينيها، وراحت في إغماءٍ شديدٍ.
وعند ذلك ارتفعت الأصوات بالبكاء، وتأثر كل من كان حاضرًا بهذا المنظر المؤلم.
وبعد دقيقة جيء بإسماعيل السيسي، فقرأ عليه المدير حكم الجَلد بخمسين جلدة وهو لاهٍ عن سماع العقاب بالنظر إلى جثة المشنوق، وكانت فرائصه مرتعدة تأثرًا من فظاعة هذا العمل، ثم تناوله الجنود وجردوه من ملابسه، ثم صلبوه على آلة التعذيب، وجعلوا ظهره وجهة المساكن لتتمكن الأهالي من رؤية الضرب كما تمكنوا من رؤية الشنق، وبعد ذلك أخذ الضارب يلهبه بسوطٍ ذي خمس شعبٍ مجدولةٍ، وفي نهاية كل شعبة عقدةٌ من نار، فكانت كل ضربة تجمع الدم في موضعها متجمدًا مكمدًا، وكان يبدأ بالضرب مما يلي؛ قفاه وهو نازل على العمود الفقري، ثم فصاعدًا إلى مبدأ الضرب، وبعد عشرين جَلدة جهنمية أخذ جسم المعذب يرتعش بشدة ارتعاشًا هائلًا ثم خمدت أنفاسه، وأغمي عليه إغماء الموت. وبعد الخمسين جلدة أنزلوه من فوق الآلة، وأخذه الجند إلى رفقائه في الخيمة ليروه فيتضاعف بذلك العذاب.
وبعد لحظة جيء بإبراهيم حسنين السيسي، وأول ما وقع نظره على شيء رأى المشنوق «عم حسن محفوظ» مكمد الوجه ومعلقًا في حبال المشنقة، فطأطأ رأسه أمام القوة القادرة وقال في نفسه: والله مظلوم يا عم محفوظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبينما كان سارحًا في بيداء الأفكار إذ سمع صوت المدير يتلو عليه صورة الحكم بالجلد، فامتثل المسكين صاغرًا، وكما مثَّلوا بالأول مثلوا بالثاني حرفًا بحرفٍ وضربةً بضربةٍ.
وبمثل هذه الشدة وفظاعة التمثيل نُفذت الأحكام على المتهمين أمام نظر أهاليهم بحال فظيعة سوَّدت تاريخ القرن العشرين. وفي الساعة الثانية والنصف من ظُهر ذلك اليوم المنحوس أسدلت الستارة الأخيرة على هذه الرواية المدهشة بعد أن تركت في كل بيت من بيوت بلدة دنشواي مأتمًا يندبون فيه ميتًا أو سجينًا أو مجلودًا.
دنشواي! دنشواي! لقد صار اسمك مخيفًا، وذكرك مرعبًا، فسامحيني إذا ودعتك الوداع الأخير.
دنشواي … دنشواي … لا تظني أيتها البلدة التعيسة أن المصري ينسى نكبتك وما تحملته من ضروب الشقاء، ولكن ماذا يعمل هذا المسكين؟
دنشواي، دنشواي، ليكن اسمك مخلدًا، ولكن أي تخليد؟ ولا تنسِي أن تَقُصِّي على أبنائك في الأجيال الآتية ما حلَّ بك، ليعرفوا مبلغ تمدن القرن العشرين تحت سيطرة الإنجليز.
دنشواي، دنشواي، لا قدرة لي على عزائك، ولا شيء عندي أهديه إليك تذكارًا مؤلمًا لهذه الكارثة غير مداد قلم كاتب سطَّر حوادثك في قالب قصة جعلها هدية إلى «عشماوي» جلاد مصر الذي قبض أربعًا من أرواح أبنائك ببساطة وسهولة.
دنشواي، دنشواي، إني أتجاسر فأقف تحت سمائك، وأركع بين أجرانك يرفرف عليَّ حمامك الذي سبب إلى الأبد أحزانك، وأطلب من الله لك العزاء، ولأهلك الرحمة والرضوان.