الحديث ذو شجون
من عادة القرويين أن يقضوا شطرًا من ساعات لياليهم في المسامرة مع بعضهم، وفي تلك البرهة يتباحثون في المسائل الزراعية، ويتناقشون في الموضوعات التي تعنيهم، وفي بعض الأحيان يتسلون بقصص عنترة وأبي زيد الهلالي، ويتفكهون بنكات (عم) أبي نواس و(الحاج) جحا، وإن كان لِأَحدهم ظلامة أو شكاية رفعها إلى هذا المجلس فيصلحون ما بينهم، وإذا تعذر عليهم الحل رفعوها إلى العمدة، إلى غير ذلك مما يسمح لنا القارئ بأن نسمي مجلسهم «بالنادي» بكل معانيه، إذ أعضاؤه من طبقةٍ واحدة، ومن فكرٍ واحد، وفي بلدة واحدة، ويشتغلون بمهنة واحدة. وللقرويين حريةٌ في الفكر والمناقشة، فللابن أن يحاج أباه، وللأخ أن يناقش أخاه، وليس بعيبٍ إذا جادل الولد الشيخ، وللمرأة حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء كما يتمنى سعادة صاحب «تحرير المرأة» ويود!
فعلى هذه العادة المحمودة اجتمع أهالي دنشواي في ليلة ٧ يونيو تحت أشعة القمر الفضية بجانب جرن هناك لمحمد زهران، وأخذوا يتحدثون في أمور شتى، وكان بين المجتمعين حسن علي محفوظ وابنته — موضوع روايتنا — ست الدار، وخطيبها محمد العبد، وأخته مدللة، ومحمد زهران صاحب الجرن، وامرأته مباركة بنت حسن، ومحمد أحمد السيسي، وسليمان الفرماوي، والسيد العوفي، ومحمد علي سمك، وأحمد زايد، وغيرهم، وبعد حديث طويل، قال محمد أحمد السيسي: إنت يا حسن يا محفوظ حوش الحمام بتاعك من أجران الناس.
– ليه يا ابني؟
– أحسن بينزل يلقط الحب.
– يعني ما فيش حمام في البلد غير حمامي بينزل على جرنك؟
– موش شغلي.
– طيب واشمعنى بتقول لي وما بتقولش لمحمد زهران اللي حمامه جنب جرنك؟
– أنا بقول لك وباسمَّع غيرك.
فشد محمد زهران من لفافة تبغه نَفَسًا ثم رماها بقوة، وقال، بعد أن تنهد: هو محمد زهران بقى عنده حمام من السنة اللي فاتت؟ مَصْطَادوه الإنجليز كله!
فقالت مدللة: مِن حق يا عم زهران؛ عملت إيه مع العمدة محمد الشادلي على شان الحمام؟
– ولا حاجة يا بنتي، أنا لما رحت عند محمد الشادلي، وقلت له إني رايح أروح مصر، واشتكي عند باشة الإنجليز عمل الخواجات في الحمام وتخريب الأبراج، قال لي إنه رايح هو يشتكي للمديرية … وحلف لي بمقام السيد البدوي إنه يجيب لي منهم تعويض.
– وبعدين؟
– وبعدين راحت نومة.
فقال محمد علي سمك: أهو طبع الشادلي كده ما يسألش في أهل بلده.
فقالت مباركة: يا ترى رايحين ييجو السنادي؟
فسكت الجميع لهذه الجملة؛ لأنها نزلت عليهم نزول الصاعقة، وبعد سكوت طويل قال زهران: اللي عنده حمام يخاف عليه!
فقال محمد العبد: وإن جم رايحين نعمل لهم ايه؟
فقال حسن محفوظ: نعمل إيه يا محمد؟! نفوض أمرنا لله.
– ليه ما نحوشوهمش؟
– وِحَدْ يقدر يحوشهم وهم لهم البر والساحل؟
– خليهم يموِّتوا حتى فينا، فالأمر لله.
– يعني ما نقدرش نقدم بلاغ من دلوقتي؟
– نقدم لمين؟ ومين يقدر يقول لهم تلت التلاتة كام؟
فقال أحمد زايد: أهو نسيبوهم زي كل سنة يعرفم شغلهم. فانتبه حسن محفوظ لصوت المتكلم وقال: يعني يا أحمد يا زايد كنت في وابور الطحين بتعمل إيه النهاردة؟
– وانت شغلك إيه يا عم محفوظ، إنت مالكش كلام عندي.
– شغلي إيه ازاي؟ بلاش مسخرة، وأوعى تاني مرة تخطي البابور أحسن أكسر رجلك.
– الله يسامحك يا عم محفوظ.
فقال زهران: إيه اللي حصل يا عم محفوظ؟
– حصل إيه؟ فيه كام واد هنا مالهمش شغلة غير البابور، يروحم يهارشو البنات ويعملو مسخرة.
فقال زايد: مين قال لك كده يا عم محفوظ؟ موش بنتك ست الدار؟
– أيوه هي اللي قالت لي.
– بنتك تَهْمَاني بالزور.
– طيب ومتختشيش تقول إنك رايح تتجوزها غصب عني وعنها؟
– وحياة ربنا والسيد البدوي إنه كدب.
فقالت ست الدار: يا باي! يا باي!
ثم التفتت إلى مدللة وقالت: وحياة أخوكي وشبابك وإلا تفقدي عينيكي، هو موش قال كده؟
– فقالت مدللة: إيوه يا عم محفوظ، إيوه يا عم محفوظ، بالحق قال كده قدام كل اللي كانوا هناك.
فقال محفوظ: بقا إيه.
ثم التفت وقال لزايد: إذا كانت البنت مكتوب كتابها على محمد العبد، إزاي رايح تتجوزها؟
– طيب ومحمد العبد أحسن مني في إيه حتى تجوزها له؟
– أهو اللي كان كان، ودِي قِسمة.
فعض أحمد زايد بأسنانه على شفتيه الغليظتين، ونظر إلى العبد نظرة وعيد وتهديد.
وبعد هذه المناقشة قام كلٌّ إلى بيته.