شهيد سرسنا
ثم صرخ الكبتن بوستك بأعلى صوته: الهرب، الهرب، يا بول! أين الأومباشي؟ أين عبد العال؟
– لا أدري أين هذا العسكري الجبان! اذهب يا بوستك جهة الشمال إلى أقرب نقطة وأخبر الخفر بهذه الواقعة.
فدار بوستك حول نفسه دورتين وقال: إلى أين أذهب؟
– إلى الشمال! إلى الشمال!
– وأنت؟
– إلى اليمين!
فجرى الكبتن بوستك جهة الشمال بهيئة مضحكة؛ لأن ملابسه كانت كلها ممزقة، وعلاوةً على ذلك فإن حمالة البنطالون كانت قطعت فنزل (البنطالون) إلى ركبتيه — مما أعاقه عن العدو قليلًا — فوقف وشده إلى بطنه والتفت فلم يرَ الكبتن بول، فقوى نشاطه وجرى مسرعًا، ولكن نزول بنطالونه ثانيةً إلى ركبتيه أعاقه؛ فخلع البنطالون بسرعة ووقف حائرًا لا يدري أين يذهب، ولكن خطر في فكره الذهاب إلى المعسكر، فرجع ثانيةً يعدو جهة اليمين بهيئة مضحكة، فإنه كان مرتديًّا ملابسه العسكرية الجميلة، ونياشينه اللامعة، ولكن بدون بنطالون! وكان جسمه ظاهرًا؛ لأن من عادة الإنجليز عدم لبس السروال! وفي منتصف الطريق رأى الكبتن بول مطروحًا على الأرض فجس نبضه، ثم وضع يده على قلبه فرآه في حالة خطرة، فنسي الرجل خطورة موقفه، فركع على ركبتيه، وضم يديه على صدره، وصلى صلاة صغيرة، وطلب من السماء أن تنجي صديقه من الموت، ففتح بول عينيه، فقال بوستك: تجلد يا صديقي!
فتمتم بول: إلى أين ذاهب؟
– إلى الأمام، إلى المعسكر.
ثم تركه وجرى حتى وقف على شاطئ الباجورية وتأمل في النهر قليلًا، ولكنه تشجع وقذف بنفسه في الماء، وسبح حتى وصل الشاطئ الثاني، وتابع العَدْوَ وهو بهيئته المضحكة، وفوق ذلك كان الماء يقطر من الجاكتة!
أما الكبتن بول فنظر جهة اليمين والشمال بصعوبة زائدة وهو مطروحٌ على الأرض، ولما لم يرَ إنسانًا قال: آه … أين أنا؟ إني ظمآنٌ أريد قليلًا من الماء، أريد قليلًا من الوسكي! لا أريد أن أموت ظمآنًا! أنا إنجليزي لا أموت ظمآنًا.
ثم أبصر عن بُعدٍ فلاحًا يقصده فخفق فؤاده، وضم يديه على صدره يصلي على نفسه صلاة الموت!
أما هذا الفلاح التعيس — وكان اسمه سيد أحمد سعيد — فاقترب من الكبتن، ولما رأى حالته المحزنة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله!
ففتح الكبتن عينيه لأنه كان أغمضهما لئلا يرى بهما عصاةَ الفلاحين تأخذ بقية حياته، ولما شعر بتأثر الفلاح قال له: أيها الإنسان، إني أناشدك بالشفقة أن ترحمني وتسقيني قليلًا من الماء، فلم يفهم الفلاح قوله بل ظل يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ففطن بول إلى جهل الفلاح بلغته، فأشار له بأنه يريد أن يشرب، فأسرع الفلاح إلى قناة وأخذ في راحتيه قليلًا من الماء ثم وضعه في فمه، فقال الكبتن في نفسه: يا ربي، إن الماء قذر ويديه قذرتان فكيف أشرب؟ ألا يوجد عندهم (فلتر) مرشح؟
ولكنه أحس بانتعاشٍ فأشار بأن يعطيه أيضًا قليلًا من الماء، فهرول الفلاح يلبي الطلب.
ولكن كان الكبتن وصل إلى نقطة الموت، فأخرج من جيبه صليبًا صغيرًا وضمه إلى صدره ثم قال: آه يا أمي العزيزة، إلى اللقاء في السماء! إلى اللقاء هناك.
ثم اغرورقت عيناه بالدمع وقال: يا إلهي كيف أموت هذه الميتة الشنيعة؟ وفاضت روحه وهو قابضٌ على الصليب وشفتاه تتحركان باسم أمه العزيزة.
أما الفلاح فأخذ يقلِّب كفيه ويردد دائمًا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أنت من السابقين ونحن من اللاحقين!
وبعد لحظةٍ رأى غبارًا يتعالى، فوقف على رأس الجثة ينظر هذا الغبار، ثم تبينه؛ فإذا هو جنود الاحتلال قادمين بسرعة البرق.
فارتبك المسكين في نفسه، وخاف أن يتهموه بقتله، ففر إلى مغارة أخفته عن العيون، إلا أن أحد الجنود شاهده وهو يَلِجُها فاقتفى أثره، ولما رآه ضربه بقبضة البندقية ضربةً هائلة على رأسه، ولم يكتفِ بذلك بل جرد «السنكة» وطعنه بها طعنات كثيرة، فمات الرجل شهيد مروءته وهو يصيح: مظلوم يا مسلمين والنبي مظلوم. أما باقي الجند فقد كانوا وصلوا إلى مكان الكبتن بول بقيادة الكبتن بوستك وهو بهيئته المتقدمة المضحكة، ولما رأوه ميتًا رفعوا قبعاتهم باحترام، وركعوا على ركبهم بخشوع، وصلُّوا بحرقة صلاة طويلة. ثم ترك بوستك جنديين لحراسة الجثة، وواصل السير حتى جمع الضباط وهم في أسوأ حالة وعاد بهم وبالجثة إلى المعسكر.