ممنوع التصوير … في غابة الحور!
قرأ «أحمد»: «هناك عصابة تبيع المعلومات، ففي الفترة الأخيرة ضجَّت دول كثيرة بالشكوى، فهي تُعلن أن أخبارها السرية الاقتصادية والعسكرية، تنتقل عن طريق جهةٍ غير معلومة إلى دولٍ أخرى، وتركَّزَت الشكوى في دولٍ تقترب حدودها من بعض، هذه الدول هي: النمسا، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا الشرقية، ألمانيا الغربية، بلجيكا، فرنسا، سويسرا، إيطاليا، هولندا. ورغم أن محاولاتٍ كثيرة جرت للكشف عن هذه الجهة المجهولة، إلا أن المحاولات لم تصل إلى نتيجة. لقد عقدت هذه الدول معاهدة بحث فيما بينها، لكشف هذه الجهة التي تنقل أخبارها السرية، بما فيها الشفرات، إلى دولةٍ معادية، لكنها حتى الآن لم تحقِّق شيئًا، والمعروف أن الأقمار الصناعية التي تدور في الفضاء تقوم بجزءٍ من هذه العملية، لكنها في النهاية لا ترصد كلَّ شيء، إن الأقمار الصناعية تلعب لعبة التجسُّس، لكن ذلك يتحدَّد لصالح دولتَين بالذات، هما أمريكا وروسيا؛ ذلك لأن الأقمار الصناعية تحتاج إلى ميزانياتٍ ضخمة، لا تقدر عليها سوى هاتين الدولتَين، وهما لا يمكن أن تتاجرا في المعلومات؛ لأنهما تحتفظان لنفسيهما بها، يبقى أن تكون هناك جهة أخرى غيرهما، هي التي تلعب هذه اللعبة. لقد قام جهاز البحث في المقر السري، بإجراء دراسة حول المكان الذي يصلح لقيام هذا النشاط، فتحدَّدَت مدينة «برن» بالذات؛ لأنها تكاد تتوسط هذه المجموعة من الدول، بجوار أن سويسرا بلد مفتوح لأنها دولة محايدة، ورغم أننا أرسلنا هذا البحث إلى هذه الدول، ورغم أنها قامت بعملية بحث كاملة في مدينة «برن»، إلا أنها أيضًا فشلت في النهاية في تحقيق أي شيء، أنتم تعرفون أن أسرار الدولة، تعني كيانها كله، وعندما تكون هناك دولة بلا أسرار، فهذا يعني، أنها دولة يسهل القضاء عليها في أي لحظة، ولا تنسوا أن دولًا مثل فرنسا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا لديها قوات عسكرية ضخمة، بجوار أنها دول متقدِّمة في صناعة السلاح، وأن تنتقل أسرارها خارجها، فهذا يعني أنها مُهدَّدة بالنهاية، وهذه الجهة المجهولة التي تبيع هذه الأسرار تكسب الكثير، بجوار أنها بهذه الطريقة تتحكَّم في مصير هذه الدول، الأكثر أنها يمكن أن تتسبَّب في أزماتٍ دولية، بل يمكن أن تكون سببًا في قيام حربٍ عالمية، تفني العالم كله، فأنتم تعرفون ما وصلت إليه الأسلحة النووية الآن. إن رسالة الشياطين هي محاولة إقامة سلام في العالم كله؛ ولذلك فهي تقف أمام العصابات التي تهدِّد خير البشرية، سواء كان الخير في صورة اكتشافات هامة، مثل «رجل المستقبل»، الذي نتوقَّع أن يُحدِث ثورةً في العالم، من أجل رخاء البشرية، أو في صورة الحفاظ على علاقات الدول، حتى يتحقَّق سلام الجميع، أو حتى في الحفاظ على حياة الإنسان، إذا كان هناك مَن يهدِّده، إن مغامرتكم الجديدة، تتركَّز في مدينة «برن» أو ضواحيها، وأتوقَّع أن تكون ضواحي المدينة هي مقر نشاط هذه العصابة المجهولة التي تعمل في ميادين التجسُّس، ويبدو أنها وصلت إلى أجهزةٍ شديدة الدقة، تستطيع بها، أن تحصل على المعلومات التي تريدها، ثم تقوم ببيعها. إن عملاءنا في هذه الدول على اتصالٍ بطرقهم الخاصة بمراكز المسئولية فيها، والتقارير تصل إلى المقر السري أولًا بأول، لكن، حتى الآن لم تظهر نتيجة ما، أتوقَّع أن تنتهي المغامرة بنجاح كعادة الشياطين، أتمنى لكم التوفيق! توقيع رقم «صفر».»
انتهى التقرير الذي كان يضم أكثر من خمسة آلاف رقم شفري، كان الشياطين مستغرقين في أفكارهم، وهم يستمعون إلى «أحمد»، الذي قال في النهاية: نحن أمام لغز ضخم؛ أولًا: لأن هذه الجهة غير معلومة. ثانيًا: لأن مكان البحث غير محدَّد، فمدينة «برن» ليست مدينة صغيرة، وفيها آلاف الأبنية التي يمكن أن تضم فيها هذه الأجهزة، كذلك فإن ضواحي المدينة، وهي ضواحي زراعية وغابات، تجعل البحث عملية شاقة تمامًا … سكت «أحمد» وانتظر رأي الشياطين.
قالت «زبيدة»: أنا لا أستبعد الآن أن يكون التقرير قد انتقل إلى العصابة، فما دامت الأجهزة التي لديها فائقة الدقة، فإنها تستطيع أن تسجِّل حوارنا الذي يجري هنا، وهذا يعني أننا يمكن أن ننكشف للعصابة!
قال «مصباح»: لا أظن أن المسألة يمكن أن تصل إلى هذه الدرجة؛ فمثل هذه الأجهزة لا تسجِّل إلا الإشارات السلكية واللاسلكية داخل الدولة أو الدول، أو تلك الرسائل المتبادلة بين دولةٍ وأخرى، لاسلكيًّا طبعًا ولاسلكيًّا. صمتَ لحظةً ثم أضاف: هناك احتمال أن يكون هناك مَن يتنصَّت علينا، ثم ينقل لهم ما نقوله!
قال «رشيد»: إن المهم في رأيي الآن، أن نبدأ العمل …
ردَّ «بو عمير»: إن عملنا سوف يكون بلا بداية؛ لأننا لا ننعرف من أين نبدأ!
فجأةً؛ دقَّ جرس التليفون، رفعت «زبيدة» السماعة وسمعت عدة كلمات، ثم وضعتها، وقالت: هناك رسالة في الطريق … يبدو أن معلومات جديدة قد وصلت من رقم «صفر»، تحرَّك «قيس» بسرعة وانصرف، ثم عاد بعد دقائق، كان يحمل مظروفًا كسابقه، وإن كان أصغر قليلًا. فتح «أحمد» المظروف وهو يقول: إن رقم «صفر» لا يستخدم أجهزة الإرسال، فقد يلتقطون واحدة من رسائلنا.
قال «بو عمير»: إن لغة الشياطين وشفرتهم لا يستطيع أحد أن يفهمها!
«إن تقارير عملائنا قد توصَّلَت إلى المنطقة التي يدور العمل فيها، وهي غابة الحور، التي تقع خارج مدينة «برن» مباشرة، وهي واحدة من الغابات المعروفة في المنطقة بأشجار الحور الضخمة، والتي يزورها السياح، كما يقضي فيها أهل المدينة عطلات نهاية الأسبوع، فقد استطاعت أجهزتنا أن تلتقط إشارات غريبة من الغابة …»
لمعت أعين الشياطين، وظهرت على وجوههم الفرحة، حتى إن «بو عمير» قال: الآن، يمكن أن نبدأ!
قال «أحمد»: إن الرسالة لم تنتهِ بعدُ، سكتَ لحظةً ثم بدأ يقرأ: «لقد اكتشفت أجهزة الدول التي أشرنا إليها أن رسائلها الشفرية، تُلتقَط وتُفَكُّ رموزها، فتتحول إلى معلومات، حتى إن هذه الدول قد غيَّرَت شفرتها أكثر من عشر مرات، خلال الفترة الأخيرة، ومع ذلك ظلَّت المعلومات السرية المنقولة بالشفرة متداولة بين الدول. إن أجهزة العصابة، التي يبدو أنها متقدمة جدًّا، تستطيع أن تلتقط الرسائل الشفرية، وأن تقوم بحلِّها أيضًا … وهذا نوع متقدِّم جدًّا من أساليب التجسُّس …» توقَّفَ «أحمد» وقال: إننا أمام معجزة علمية، لا تقل عن معجزة «رجل المستقبل»، التي توصَّلَ إليها دكتور «بالم» غير أن تحديد المكان يجعل مهمتنا أسهل، أو أنه يقلِّل من نسبة الصعوبة فيها، سكتَ لحظةً ثم أضاف: إننا، كما يقول «بو عمير»: يجب أن نبدأ! تحرَّكَ الشياطين، غير أن «أحمد» قال: أقترح أن تبدأ حركتنا في الصباح، فإن دخولنا ليلًا إلى غابة الحور قد يكشف مهمتنا، ولا أظن أن العصابة قد تركت كلَّ شيء بلا حراسة، فلا بد أن لها عيونًا في المكان، ليلًا أو نهارًا، إلا أن النهار سوف يجعل وجودنا عاديًّا.
وافق الشياطين على اقتراح «أحمد»، واقترح «مصباح» أن يقوموا بجولةٍ حرة في المدينة، غير أن الجولة لم تستغرق وقتًا طويلًا، فقد كانت معظم الشوارع خالية؛ ولذلك عاد الشياطين إلى فندق «جوته»، ليقضوا سهرةً عادية، أمام جهاز التليفزيون، وقبل أن ينتصف الليل، كان كلٌّ منهم قد أخذ طريقه إلى فراشه ليستعد للنوم، الوحيد الذي ظلَّ مستيقظًا كان «أحمد»، لقد أخرج جهاز الاستقبال، وبدأ يغيِّر موجاته، حسب الدراسات التي عرفها في المقر السري، كان يفكِّر: أنه إذا استطاع أن يلتقط رسالةً ما على أي موجة، فإنه قد يتمكن من تحديد نقطة الهدف بالضبط، مرَّ الوقت بطيئًا دون أن يستطيع تحقيق نجاح يُذكر. كان الجهاز يستقبل الإرسال الإذاعي للمدينة، ثم لسويسرا كلها، دون أن يلتقط رسالة غريبة، ظلَّ ينظر إلى الجهاز لحظات ثم مدَّ يده إليه ليغلقه، لكنه فجأةً توقف، لقد بدأ يستمع من خلال السماعات الموجودة على أذنيه إلى كلماتٍ غير مفهومة، حتى إنه نسي يده ممدودة كما هي، لقد استغرق تمامًا في الاستماع، وكأنه قد تحوَّل إلى آذانٍ فقط، ظلَّتْ الرسالة مستمرة، دون أن يفهم منها شيئًا، لكنها فجأة انتهت، ولم يستغرق ذلك أكثر من دقيقةٍ واحدة، نظر إلى يده الممدودة، ثم ابتسم، حدَّد الموجة التي التقطت الرسالة، وقال في نفسه: لعلها تنفعنا غدًا! أغلقَ الجهاز وخلع السماعات، ثم استلقى على سريره يفكِّر فيما التقطه الجهاز، لكن النوم غلبه، فنام.
كانت «زبيدة» هي أول مَن استيقظ، وعندما أسرعت في نشاطٍ تمر عليهم، وجدتهم جميعًا قد استيقظوا، ولم يضيِّعوا وقتًا طويلًا، حتى إنهم لم يتناولوا إفطارهم، فقد قال «بو عمير»: إن الإفطار في الغابة سوف يكون مدهشًا!
وقال «قيس»: إنه إفطارٌ وعمل في نفس الوقت! وبسرعة كانوا يأخذون طريقهم إلى خارج حجراتهم، في نفس الوقت الذي اتصل فيه «أحمد» بعميل رقم «صفر»، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة، كان العميل يرد: إنها في انتظاركم!
ابتسم «أحمد» وهو يشكره، ثم وضع السماعة، ولحق بالشياطين. أمام فندق «جوته» كانت سيارة «ستروين» خضراء اللون تقف في انتظار الشياطين، أشار إليها «أحمد»، فاتجهوا ناحيتها، أخرج «بو عمير» مفتاحًا خاصًّا، ثم وضعه في الباب فانفتح، قفز الشياطين بسرعة داخلها، وقالت «زبيدة»: لا تنسوا أن نأخذ إفطارنا، فأنا أعرف أن الشياطين ينسون كلَّ شيء أمام المغامرة.
ضحك «مصباح» وهو يقول: أليست «زبيدة» من الشياطين؟!
قالت: ولهذا تذكَّرتُ الإفطار، ليس لأنه طعام، ولكن لأنه عمل أولًا!
ضحك الشياطين، وانطلقت السيارة، أمام أحد محلات الطعام المنتشرة في المدينة، توقَّفَت السيارة، فقال «أحمد» مبتسمًا: أظن أن هذه مهمة «زبيدة»!
ضحك الشياطين، فنزلت «زبيدة» ومعها «رشيد»، واتجها إلى المحل، في نفس الوقت الذي أخرج فيه «أحمد» خريطة صغيرة للمدينة، وأخذ يحدِّد مكان غابة الحور منها، قال وهو يمرُّ بإصبعه على الخريطة: هناك ملاحظة، إن كل غابة تختلف عن الأخرى في نوعية الأشجار المزروعة … ردَّ «بو عمير»: لعله نوع من التغيير، حتى لا يفقد الناس رغبتهم في رؤيتها!
أدار «أحمد» بوصلة التوجيه في السيارة، حتى حدَّدَ مكان غابة الحور، في نفس اللحظة التي كانت «زبيدة» و«رشيد» قد عادا، وهما يحملان كمياتٍ كبيرة من الطعام والمعلَّبات، ومعهما كان يظهر مضربان للتنس، علَّق «مصباح»: فكرةٌ جيدة، سوف تُعطينا الكُرات فرصة للجري داخل الغابة إلى مسافاتٍ مختلفة!
قال «قيس» ضاحكًا: المهم، مَن الذي سوف يكسب المباراة؟!
ضحك «رشيد» وقال: الشياطين طبعًا!
تحرَّكَت السيارة في هدوء، ثم بدأت سرعتها تزيد، وخلال ربع ساعة، كانت تأخذ طريقها خارج مدينة «برن»، كانت الحقول ممتدة، بخضرتها البديعة، وعندما دخلت السيارة بين الحقول، علَّقَت «زبيدة»: أظن أن أحدًا لا يستطيع رؤيتنا الآن؛ لأن السيارة لها لون النباتات فعلًا! وقال «قيس»: لعل عميل رقم «صفر» قد قصد ذلك!
من بعيدٍ ظهرت الغابة، كما حدَّدَها اتجاه البوصلة، كانت عبارة عن كتلةٍ ضخمة من اللون الأخضر، أخذت تقترب شيئًا فشيئًا، حتى بدأت تفاصيلها تظهر. كانت أشجار الحور الضخمة تقف كالقلاع الشاهقة، وكان المنظر يبدو بديعًا تمامًا، توقَّفَت السيارة خارج الغابة، حيث كانت سيارات كثيرة، كبيرة وصغيرة تقف أيضًا، كان واضحًا أن السياح كثيرون اليوم، وقف الشياطين يرقبون المكان، ليحدِّدوا أي منطقةٍ فيها سوف يجلسون، كانت هناك جماعات تفترش الخضرة، بينما جماعات أخرى قد افترشت أقمشة ملوَّنة على الأرض، وجلست فوقها، أيضًا كان هناك عدد من الشباب الذي يمرح ويجري. في جانبٍ، كان يوجد محل لبيع الأطعمة المحفوظة والمشروبات، وبجواره محلات صغيرة، تبيع كلَّ ما يمكن أن يحتاجه الإنسان في مكانٍ كهذا: كاميرات، أفلام و«بلوك نوت»، لوحات مرسومة، ولوحات للرسم، مسليات، أدوات رياضية، ملابس خفيفة، قبعات، كل شيء كان موجودًا. علَّقَت «زبيدة»: لقد حملنا ما لا نحتاجه! رد «أحمد»: بالعكس، إن ما فعلناه إيحاء بأننا قصدنا قضاء اليوم، وليس من أجل هدفٍ آخَر. تركوا السيارة، ثم انتقوا مكانًا تحت شجرة حور ضخمة، وبدءوا يضعون أشياءهم، وقف «قيس» يمسك مضربًا ووقف أمامه «بو عمير» بمضربٍ آخَر، في نفس اللحظة التي أمسك فيها «رشيد» بالكاميرا، يريد التقاط صور لهما، فجأة كان رجلٌ ضخم يقترب منهم، وكانت ملامحه تبدو شرسة تمامًا، حتى إن ذلك لفت نظرهم، قال الرجل بصوتٍ خشن: ممنوع التصوير هنا، سأله «أحمد»: لماذا؟ رد: لأننا نستأجر المكان، وإذا أردتم التصوير نقوم بتحميض الأفلام وطبعها عندنا!
مرَّت لحظة سريعة، كان «أحمد» قد فكَّر خلالها، فابتسم قائلًا: لا بأس إذَن!
انصرف الرجل، بينما فكرة ما قد بدأت تتكوَّن في ذهن «أحمد»، لتكون بداية الخيط!