الصراع معهم … بطريقةٍ علمية!
فجأةً؛ ظهر رجل الغابة فوق رأسه تمامًا، لم يقف «أحمد»، بل ظل ينظر إليه في الظلام. ضحك الرجل ضحكةً مكتومة، ثم قال: لقد توقعتُ مجيئك إلى هنا، إنك لم تكن ذكيًّا بما يكفي! ومع انتهاء جملته، كانت قدمه تأخذ طريقها إلى وجه «أحمد»، الذي كان على استعدادٍ تمامًا؛ ولذلك فقد تلقَّى قدم الرجل بين يدَيه، ثم تعلَّق بها في نفس اللحظة التي ضرب فيها الرِّجل الأخرى، فتهاوى على الأرض، قفز فوقه بسرعة، ثم سدَّد له ضربةً قوية، ولعنفها شعر «أحمد» بالألم في يده، وعرف أنه أمام خصمٍ قوي، كان الرجل قد تلقَّى اللكمة، وسدَّد يدًا قوية إلى فكِّ «أحمد»، فلم تلمس سوى وجهه، بدرجةٍ غير مؤثرة، تبادل معه اللكمات، إلا أن «أحمد» غافله فجأةً، وضربه بقدمه ضربةً قوية، جعلت الرجل يئِنُّ ثم يصرخ، فَهِم «أحمد» أن الصرخة لم تكن سوى نداء استغاثة، وهذا يعني أنه سوف يقف وحده في معركةٍ قد لا تكون متكافئة، أسرع يضربه بكلتا يدَيه، فسقط الرجل على الأرض، أمسك بقدمَيه، ثم سحبه، غير أن الرجل كان ثقيل الوزن، ظلَّ يحاول معه حتى استطاع في النهاية، أن يبعده عن المكان، وتحت شجرةٍ بعيدة من أشجار الحور، أوثقَ يدَيه وقدمَيه ثم كمَّم فمه، أخرج جهاز الإرسال وأرسل رسالة إلى الشياطين، يطلب منهم الانضمام إليه.
وما إن انتهى من الرسالة حتى عاد مرةً أخرى إلى حيث توجد الشجرة الغريبة، وضع أذنه عليها، ثم أخذ يستمع إلى أصواتٍ غريبة تصدر منها، قال في نفسه: إنها تبدو كمركزٍ مُجهَّز … وإن الرسالة التي أرسلتها إلى الشياطين، قد سُجِّلت بالتأكيد، وسوف يحلون شفرة الشياطين، كما قال رقم «صفر»، فالأجهزة التي لديهم تستطيع ذلك … إن المغامرة لا بد أن تنتهي الليلة، فالشياطين أنفسهم قد أصبحوا في خطر … سار عدة خطوات بعيدًا عن الشجرة، ثم توقَّفَ؛ فقد سمع أصواتًا تقترب، استطاع أن يتبيَّنها جيدًا، كان أحد الأصوات يقول: لقد نزل من السيارة، وأخذ طريقه إلى الغابة، فقد شك أنه سوف يذهب إلى هناك، أما أنا فقد تبعت السيارة «الستروين» الخضراء، لكنها استطاعت أن تفلت مني … صمت الصوت، فسأل صوتٌ آخَر: وأين هو إذَن؟
ردَّ الصوت الأول: لقد اتفقنا على أنه إذا لم يعُد في خلال ساعة، فسيكون شيءٌ ما قد حدث؛ ولذلك فقد أسرعت إليكم؛ لأنه لم يعُد خلال الساعة … كانت الأصوات تقترب أكثر، فقال «أحمد» في نفسه: لو كان الشياطين هنا لكنا قد انتهينا من المغامرة الآن … ظلَّ في مكانه لا يتحرك، بعد أن عرف كل شيء، كانت مهمته الآن ألا يشتبك مع أحد أفراد العصابة، وألا يقع في أيديهم، اختبأ خلف الشجرة، يتسمَّع إلى الأصوات التي تقترب، فجأةً برزت وجوه في الظلام، قال في نفسه: إنهما ليسا اثنَين إذَن، فهذه مجموعة من الرجال، فكَّر قليلًا: هل يخرج لهم، أم أن هذه سوف تكون معركة من طرفٍ واحد؟ … ظلَّ في مكانه وسمع أحدهم يقول: يجب أن نستخدم أجهزة الكشف، فالغابة واسعة، ومجال الاختفاء فيها ممكن … كانت هذه الجملة كفيلة بأن تجعل تفكير «أحمد» يتغيَّر، فأجهزة الكشف التي يتحدثون عنها سوف تكشف مكانه أو مكان الشياطين، إذا كانوا قد أخذوا طريقهم إلى الغابة؛ ولذلك فعليه أن يتصرف بسرعة قبل أن تصل هذه الأجهزة، فكَّر في أن يستخدم الإبر المخدرة، لكنه تردَّد، فسقوط أحدهم بين أيديهم دون سبب سوف يكشف قوة الشياطين، التي يمكن أن يقابلوها بقوةٍ أكبر؛ ولذلك فإن الاشتباك المباشر معهم، وفورًا، هو الطريق الوحيد، لكن كيف يمكن أن يشتبك معهم وهو وحده، ولم يصل الشياطين بعدُ.
فجأةً شعر بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالة في الطريق، وضع يده عليه، ولم تكن الرسالة سوى كلمتَين أرسلهما الشياطين: «نحن بجوارك.» نظر حوله يحاول أن يرى شيئًا وسط الظلام، ثم أرهف أذنَيه لعلَّه يسمع أيَّ صوت، لكنه لم يكن يسمع سوى كلمات رجال العصابة. فجأةً؛ كانت دقة خفيفة تصل إلى أذنَيه، فعرف أنهم الشياطين، ركَّز نظره في الظلام فرأى «قيس» و«زبيدة» و«رشيد» بجواره تمامًا، همس: أين «مصباح» و«بو عمير»؟
ردَّ «رشيد»: إنهما في معركةٍ سريعة، لا تحتاج سواهما فقط.
مرَّت لحظة صمت، ثم قال «أحمد»: إن علينا أن نبدأ المعركة فورًا، فنحن مُعرَّضون للحصار … ثم نقل إليهم كلَّ ما سمعه من رجال العصابة، وفي النهاية أضاف: إن اشتباكنا في معركةٍ مباشرة بلا أصوات يمكن أن يعطينا فرصة السيطرة على الموقف.
ردَّ «قيس»: إذَن، فلنبدأ. تنفَّسَ «أحمد» في عمق، ثم قال: إنهم يقفون الآن في مكانهم منذ ربع ساعة، وهم لم يصلوا إلى نتيجةٍ بعدُ، سوف نقترب في هدوء، وفي شكل نصف دائرة، وعندما تبدأ حركتهم سوف نكون فوق رءوسهم! تقدَّمَ الشياطين في حذر، كان رجال العصابة قد بدءوا يتحرَّكون فعلًا، أعطى «أحمد» إشارة، فاستعدَّ الشياطين، ومع الإشارة الثانية كانوا يطيرون في الهواء، وكأنهم مجموعة من الأسهم انطلقت من نباتها، ودون أن يتوقَّع رجال العصابة، كان الشياطين ينزلون كالصاعقة فوق رءوسهم، كانوا ستة؛ ولذلك انفرد «أحمد» باثنين معًا، فضرب الاثنين في لحظةٍ واحدة، في نفس الوقت الذي فعل فيه «قيس» نفس الشيء، بينما انفردت «زبيدة» بواحد، وانفرد «رشيد» بالآخَر. في لحظةٍ واحدة، كان الرجال الستة قد سقطوا على الأرض، لكن سقوطهم لم يكن نهاية المعركة، فقد كان بدايتها، ففي لمح البصر، كانوا قد استعادوا أنفسهم، وبدأ اشتباك عنيف بينهم وبين الشياطين، كان واضحًا منذ البداية أن الشياطين قد سيطروا على الموقف، لكن أحد رجال العصابة، قد استطاع أن يخدع الشياطين، فاستلقى على الأرض إثر ضربةٍ من «رشيد»، وعندما استدار «رشيد» ليشتبك مع آخَر، كان الرجل قد سحب مسدسًا سريع الطلقات.
غير أن الشياطين لا تضيع منهم فرصة، ففي نفس اللحظة التي كانت إصبعه تضغط على الزناد، كانت طلقة سريعة بلا صوت، قد خرجت من أحد المسدسات، لتصيب يده فيطير منها المسدس، كان «مصباح» و«بو عمير» قد وصلا في اللحظة المناسبة، بعد أن انتهيا من معركتهما السريعة كما قال الشياطين.
وبعينٍ ذكية، استطاع «مصباح» أن يلمح حركة الرجل الملقى على الأرض وهو يتحرَّك، فأسرع بإخراج مسدسه، وأطلق الطلقة القاتلة. كان الشياطين لا يعرفون ما حدث، فقد كانوا لا يزالون في معركتهم، وعندما انضم «مصباح» و«بو عمير» إليهم، أصبح الموقف كله في أيديهم، فلم تنقضِ ربع ساعة، حتى كان الرجال قد استسلموا، فقد عرفوا أنهم أمام خصمٍ قوي، وقف الشياطين أمامهم في حالة تحفُّز، بينما كان الرجال بعضهم جالسًا على الأرض، والآخَر يستند إلى شجرة. وفي هدوءٍ تقدَّمَ «مصباح» و«قيس»، وربطوهم في حبلٍ طويل، وكأنهم عقد من البشر، فهم بهذا الشكل لا يستطيعون أن يتحركوا إلا معًا، فإذا اختلفت حركة واحدة منهم أوقع بالآخَرين، وبعيدًا عن المكان ساقوهم حتى شجرة حور ضخمة فربطوهم حولها، كانت وجوه الرجال تلامس جذع الشجرة، في نفس الوقت الذي كانت ظهورهم إلى الشياطين، دار «مصباح» و«قيس» و«بو عمير» يكمِّمونهم، حتى لا يستطيعوا النطق، همس «أحمد» بلغة الشياطين: إن علينا أن نصل إلى مقرهم!
قال «بو عمير»: لا أظن أن مقرهم سوف يكون في الغابة، فالمؤكَّد أنه في أي مكانٍ خارجها، وربما يكون في دولةٍ أخرى غير سويسرا!
قالت «زبيدة»: هذا جائزٌ فعلًا، لكن أقترح أن نقوم بحركةٍ تكشفُ مقرَّ قيادة الحراسة في الغابة أو مركزهم داخل سويسرا! كانت فكرة «زبيدة» جيدة؛ ولذلك فقد وافق الشياطين عليها … أكملت «زبيدة»: أقترح أن نرسل رسالةً إلى عميل رقم «صفر» في ألمانيا مثلًا، نقول فيها: إن تجمع الرجال سوف يكون عند حافة الغابة مثلًا، ونحدِّد أحد الاتجاهات. إن الرسالة مبهمة، فلا أحدٌ يعرف مَن هم هؤلاء الرجال … سكت لحظة، بينما كان الشياطين ينصتون إليها باهتمام، أكملت: سوف نكون نحن في نقطةٍ قريبة من المكان، تسمح لنا بمراقبتهم في هذه الحالة … ولم تكمل زبيدة كلامها، فقد غمر المكان ضوء قوي، جعله كالنهار. توقف الشياطين في أماكنهم لحظةً، فقد فاجأهم الضوء، لكن اللحظة لم تطُل، فقد أخرج «مصباح» مسدسه في سرعةٍ، وسدَّد طلقةً سريعة إلى مصدر الضوء، الذي انطفأ قبل أن تصل إليه، شمل المكان صمت موحش، ولفَّ الظلام كل شيء من جديد، مرَّت لحظات بلا حركة ولا صوت … كان الشياطين خلالها يفكِّرون: إن العصابة تستخدم معهم العامل النفسي، حتى ينهاروا أو يستسلموا؛ ولذلك يجعلون هذه اللحظة تطول … لكنها كانت فرصة، حتى يجدوا مخرجًا من موقفهم، همس «أحمد»: فلنتحرك إلى النقطة «ك»، كلٌّ بطريقته … تحركوا بسرعةٍ مبتعدين عن المكان، كان كل اثنين معًا، مرة أخرى لمع الضوء فغطى المكان، جمد الشياطين في أماكنهم، كانوا لا يزالون قريبين من بعضهم، همس «أحمد»: لا تتفرَّقوا، إنهم يعدُّون لنا معركة … ولو تفرَّقْنا فسوف نخسر المعركة كلها.
تجمَّع الشياطين مرةً أخرى بسرعة، ظلَّ الضوء مستمرًّا يغمر المكان، دون أن يصدر صوتًا، كانت لحظات حادة تمامًا، ولم تكن حركة الشياطين تعني شيئًا؛ لأنها حركة مكشوفة، كذلك فإن أي محاولة لإسكات الضوء سوف تكون بلا نتيجة، فيبدو أن مصدر الضوء ليس مجرد كشاف قوي، فيبدو أنه يصدر عن أجهزة متقدِّمة للغاية. ظلَّ الشياطين في أماكنهم، ونظر «أحمد» حوله في المكان فجأة، صرخ صرخة مكتومة، لا يسمعها أحد سوى الشياطين: «احذروا» … تلفَّت الشياطين حولهم، إلا أن «أحمد» أضاف: أعلى!
تعلَّقَت أعينهم بالمكان الذي أشار إليه، وظهر على وجوههم نوع من الحذر والتفكير العميق … كانت أسلاك خضراء اللون لا تكاد تظهر، فهي تبدو كأغصان الأشجار، كانت تنزل في هدوء، في اتجاه الشياطين.
همس «أحمد»: إنها مصائد لاصطيادنا.
ظلَّت الأسلاك تقترب من الشياطين، فتحركوا من أماكنهم مبتعدين عنها، كانت الأضواء تمشي وراءهم وكأنها مصائد أخرى، أيقن الشياطين أنهم أمام صِدام علمي أكثر منه صِدامًا بشريًّا يعتمد على العضلات؛ ولذلك فقد كان تفكيرهم يتغيَّر بالتالي، إنهم يحملون أحدث الأجهزة وأدقها، ولا يمكن أن تكون لدى العصابة أجهزة بهذه الدقة، همس «أحمد»: إن علينا أن نستخدم عقولنا الآن، وليس سواعدنا.
فكَّر لحظة، ونظر حوله نظرة سريعة، كانت بجواره شجرة ضخمة، فكَّر أن يقترب منها، لكنه خشي أن تكون مجهزة تجهيزًا خاصًّا يمكن أن يقع فيه، همس: قنابل الدخان الأسود … في حذرٍ كانت أيدي الشياطين تمتد إلى حقائبهم السرية، وفي لمح البصر، كانت قنابل الدخان الأسود، التي لا تزيد الواحدة على حجم البلية الصغيرة تخرج من الحقائب، ثم تنساب إلى حيث يقف الشياطين، في شبه كتلة، مرَّت لحظات ثم بدأ الدخان يظهر، غطَّى أرض المكان الذي يقفون فيه، ثم أخذ يتصاعد في بطء، ليغطِّي أقدامهم، ثم تزداد سرعته ليصنع دائرة واسعة من الظلام، كان الشياطين يقفون داخل الدخان، وقد وضعوا على أنوفهم وأفواههم أجهزة خاصة، حتى لا يصابوا بالاختناق، تحركوا في هدوء داخل دائرة الدخان، التي أخذت تصنع جدارًا من الظلمة بين الشياطين ورجال العصابة، ولم تكن دائرة الدخان محدَّدة المساحة، فقد ظلَّت تتسع شيئًا فشيئًا، في نفس الوقت كانوا يغذونها بمزيدٍ من القنابل، حتى يستمر انتشارها، وحتى يظلوا داخل الظلام، فلا يرى حركتهم أحد.
همس «أحمد»: إننا نقترب من حافة الغابة، وينبغي أن نخرج منها … قال «بو عمير»: إننا بهذا نعطيهم فرصة السيطرة علينا … أضاف «مصباح»: هذا صحيح … فالمؤكَّد أنهم يحاصرون الغابة تمامًا، بعد أن اكتشفنا سرهم، ولن يتركونا نمضي في سلام … مرَّت لحظة صمت، قال «رشيد» بعدها: إنني أتصوَّر أن نصطدم بهم فذلك هو الحل الأمثل … سكتوا مرة أخرى، فقال «أحمد»: إذَن سوف نصارعهم، حتى نتبين إلى أي مدى سوف يكون الصراع.
قالت «زبيدة»: هل نرسل إلى رقم «صفر»؟ أسرع «أحمد» يقول: إن هذا شيء آخَر يمكن أن نلجأ إليه … وما إن انتهى من جملته حتى علَت الدهشة وجوه الجميع: لقد كان الدخان ينقشع، ويقف الشياطين مرةً أخرى وسط الأضواء الساطعة.