أريد هذا الرجل
(مكتب «الأستاذ عبد اللطيف المحامي»، حجرة مكتبه وهي تنم عن ذوق بغير بذخ … تدخل آنستان رشيقتان على عجَل وفي أثرهما وكيل المكتب يقول):
وكيل المكتب
:
الأستاذ قد يتأخر في محكمة النقض.
نايلة
:
سننتظره هنا حتى يعود.
وكيل المكتب
:
هل أدلكما على حجرة الانتظار؟
نايلة
:
إنها مزدحمة، سننتظره هنا. نحن من أعز معارفه … بل نكاد نكون من أسرة واحدة …
أتسمح لي بكوبة من الماء البارد؟
وكيل المكتب
:
هل أطلب لحضرتك ليمونًا بالثلج؟
نايلة
:
أكون متشكرة، وأنت يا «درية» … ماذا نطلب لك؟
درية
:
لا شيء … أشكرك.
وكيل المكتب
:
لحظة واحدة (يخرج مسرعًا).
نايلة
(ترتمي في مقعد مريح)
:
أف! … رأسي يكاد ينفجر. إني أمقت الذهاب إلى الحلاق؛ من أجل ذلك الجهاز الكهربائي
الذي يجفِّف الشعر، دويُّه ظل يطن في أذني طول النهار (تُخرج مرآتها من حقيبة يدها
وتتأمَّل شعرها) ما رأيك في هذه «التسريحة» الجديدة يا «درية»؟
درية
:
اسمحي لي أسألك يا «نايلة»: لأي مناسبة تتجملين اليوم؟
نايلة
:
لمناسبة هذه الزيارة، ألَا ترينها تستحق ذلك؟
درية
:
إن لم أكن فهمت خطأً، فأنت قد جئت بي هنا، كما قلت لي، لاستشارة محامي أشغالك في
قضية عائلية. أهكذا إذن تفعلين كلما تقابلين محامي أشغالك؟
نايلة
:
هذه أول مرة أُقابله!
درية
:
عجبًا، وأشغالك كيف كانت تُقضى؟
نايلة
:
ليس لي أشغال.
درية
:
لماذا جئت إذن إلى «فؤاد عبد اللطيف المحامي»؟
نايلة
:
لأتزوجه!
درية
:
إنه يعرفك طبعًا من قبل.
نايلة
:
ولم يسمع باسمي.
درية
:
وهل رآك؟
نايلة
:
ولا يشعر بوجودي في هذا الكون!
درية
:
وتأتين هكذا إلى محل عمل هذا الرجل بغير سابق معرفة؟!
نايلة
:
لأطلب يده.
درية
:
إنك جننت (تنهض لتنصرف).
نايلة
:
«درية»؟ … إلى أين؟ … أتتركيني هنا وحدي؟
درية
:
أنت جننت … هذا أقل ما توصَفين به، ومع ذلك أنت حرة في تصرفاتك. أمَّا أنا يا
عزيزتي فما الذي يُرغمني على مجاراتك في هذه الحماقة؟ … أورفوار!
نايلة
:
انتظري يا «درية» حتى أفسِّر لك وجهة نظري.
درية
:
لا أستطيع … إني أذوب خجلًا لو قابلت هذا الرجل الآن، بعد أن عرفت الغرض من
مجيئك، وتبيَّن لي أنه لا يعرفك ولا تعرفينه.
نايلة
:
إني أعرفه … لقد سمعته يترافع في قضية الاغتيال السياسي الشهيرة، فاستطعت أن
أستشف من كلامه نُبل شخصيته، وكان صوته وتفكيره ومشاعره، وكل ما يصدر عنه من كلمات
وإشارات يستلب كل انتباهي، ثم تبعته بعد ذلك في حياته العامة، في محاضراته
ومقالاته، وآرائه السياسية … بل تبعته حتى في اتجاهاته الحزبية؛ فأنا أعتنق، منذ
اهتممت به، رأي الحزب الذي ينتمي إليه. لقد خُيِّل إليَّ أني أعرف «فؤاد» معرفةً
وثيقة، وأنه يجب أن يعرفني … ثم تطوَّر الأمر في نفسي حتى أيقنت أنه الرجل الوحيد
الذي يصلح لي، وأني المرأة الوحيدة التي تصلح له، ولقد علمت أنه لم يتزوَّج بعد،
وإني واثقة أنه ما من امرأة غيري تستطيع أن تفهمه وأن تُسعده.
درية
:
كل هذا لا يبرِّر الْتجاءك إلى هذه الطريقة.
نايلة
:
لا توجد طريقة غيرها عندي. أُريد هذا الرجل … ولا بد أن أناله!
درية
:
تذكَّري أنك امرأة.
نايلة
:
لم أنسَ أني امرأة؛ أي ذلك المخلوق العاجز البليد، الذي لا يُسمح له بإرادة، بل
عليه أن ينتظر إرادة الرجل، ولا يُؤذَن له في إبداء حركة، بل عليه أن يجلس نافد
الصبر، يترقَّب الحركة التي يُبديها الرجل … لم أنسَ أني امرأة … أي ذلك الطائر
الذي لا عمل له إلا انتظار الصياد؛ فهو يمكث في أحضان الشجر يفلي ريشه ويسرِّحه
بمنقاره، ويغرِّد في منافذ الأغصان، أو يخطر على أعشاب المروج، في انتظار يد القانص
الذي قد يأتي وقد لا يأتي … تلك هي المرأة للأسف! … لا يا عزيزتي … يجب أن تكون
للمرأة اليوم إرادة … نحن نطالب بحقوق مساوية لحقوق الرجل في المجتمع والسياسة،
فكيف نطمع في ذلك ونحن لا نملك بعدُ الحقَّ في أن نريد، ونعلنَ إرادتنا، ونواجهَ
الرجل، ونقول له: «أريدك شريكًا لحياتي»، كما يستطيع هو أن يقول للمرأة: «أريدك
شريكةً لي»؟
درية
:
ليس إلى هذا الحد يا نايلة، ليس إلى هذا الحد.
نايلة
:
وما الذي يمنعنا؟
درية
:
الحياء يمنعنا!
نايلة
:
الحياء؟
(تضحك.)
درية
:
عجبًا لك! … هل تستطيع امرأة أن تتقدم إلى رجل وتتعرض لرفضه، وتحتمل ذلك؟
نايلة
:
وكيف يحتمل الرجل ذلك؟
درية
:
لأنه … لأنه رجل.
نايلة
:
نعم … لأنه رجل … أي ذلك الكائن الذي تعوَّد الشجاعة والقدرة على تحمل تبعات
تصرفاته ونتائج رغباته. ثقي يا «درية» أني لا أجد غضاضةً مطلقًا في أن أسمع كلمة
«لا» ما دمت أنا صاحبة الإرادة الأولى … ولكن الغضاضة عندي هي أن أشعر بأني حبيسة
ذلك الوهم الذي نسجَته الأجيال، عن ضعفنا وحيائنا وعجزنا عن مجابهة الحقائق وتحمُّل
النتائج، وأني سجينة ذلك البهتان والكذب والسخف الذي ألبسنا إياه خيال الرجال، فجعل
منا مخلوقات أشبه بعرائس الموالد، أجسامها من حلوى، وأثوابها الشفافة من ورق مفضَّض
مذهَّب، لا تتحرك إلا بيد الرجل، ولا تتحمَّل أكثر من لمس أصابعه … لا يا «درية» …
آن الأوان أن تكون لنا إرادة نصدم بها إرادة الرجل … وأن نجرؤ على أن نتقدَّم إليه
ونعرض عليه، ونُرغمه على أن يجيبنا بكلمة «نعم» أو «لا» كأنه عذراء، وأن نمتِّع
عيوننا بمنظره، وقد علَت وجهه حمرة الحياء!
درية
:
كفى يا «نايلة».
نايلة
:
تضحكين؟ … آه إننا لا نعرف مقدار قوتنا.
درية
:
لست أدري كيف يخطر لك مثل هذه الأفكار!
نايلة
:
يدهشك ذلك لأنك لا تفكرين، وأنك مكتفية بأن تعيشي في تلك الأفكار المتداوَلة، بين
أمثالك من أُلوف العاجزات … ومع ذلك لماذا لا تُدهشك ستنا «خديجة» وهي التي عرضت
نفسها على «سيدنا محمد»؟ … ولم يكن بعدُ نبيًّا ولا شهيرًا ولا كبيرًا، بل كان
شابًّا مغمورًا فقيرًا، ولكنها أُعجِبت بخُلقه وأمانته واستقامته، فسعت هي إليه،
وسألته هل يقبلها زوجة؟
درية
:
عجبًا! … أفعلت ذلك؟
نايلة
:
ألَا تقرئين التاريخ؟ … هذا مكتوب في كل السِّيَر!
(يدخل عندئذٍ وكيل المكتب، وخلفه خادم يحمل شراب الليمون.)
وكيل المكتب
:
معذرة! … لقد تأخرنا قليلًا … الأستاذ حضر … لقد لمحته يخرج من المصعد … سأُخبره
بتشريفكما (يخرج مسرعًا).
درية
:
نايلة … نايلة … إني ذاهبة … لا أستطيع المكْث هنا.
نايلة
(تهمس وهي ترشف الليمونادة)
:
ما كل هذا الخوف؟ … أأنت التي ستطلبين يده أم أنا؟
درية
(هامسة وهي تنظر بعين خاطفة إلى الخادم المنتظر الكوبة)
:
هس! … يا للخجل!
نايلة
(تضحك وتعطي الكوبة للخادم فينصرف بها)
:
منظرك مضحك للغاية!
درية
:
إني مندهشة كيف تلفظين هذه الكلمات بكل بساطة … ومع ذلك … هل أنت واثقة من
النتيجة السارَّة؟
نايلة
:
عندي أمل نحو … ستين في الماية!
درية
:
فقط؟
نايلة
:
إذا كان عندي أقل من ثلاثين في الماية كنت أيضًا أقدمت.
درية
:
يا للجرأة! … هس … أسمع خطوات … إنه قادم … نايلة! … نايلة! … إني منصرفة …
أورفوار!
نايلة
(تمسكها بقوة)
:
تشجَّعي!
(يدخل الأستاذ «فؤاد عبداللطيف»، وينظر إليهما مأخوذًا.)
فؤاد
:
أهلًا وسهلًا!
نايلة
:
اسمح لي أقدِّمك إلى صديقتي الآنسة درية.
فؤاد
:
لي الشرف.
نايلة
:
نرجو ألَّا نكون أزعجناك بحضورنا.
فؤاد
:
على العكس … ماذا تأمران أطلب لكما؟
نايلة
:
طلبنا «ليمونادة» في غيبتك؛ كما لو كنا في بيتنا.
فؤاد
:
حسنًا فعلتما.
نايلة
:
تريد أن تعرف بالطبع لماذا نحن هنا؟ … المسألة في غاية البساطة.
درية
(مرتاعة تنهض)
:
إني منصرفة … أستأذن … اسمح لي … اسمحي لي يا نايلة … أريد أن أشتري شيئًا قبل أن
تقفل الدكاكين … نهاركما سعيد … أورفوار (تسلِّم وتخرج مسرعةً كالخجلة).
نايلة
(تضحك ضحكةً خفيفة)
:
كنت أتوقَّع هروبها!
فؤاد
:
ولماذا تهرب؟
نايلة
:
لسبب قد أُطلعك عليه فيما بعد، والآن.
فؤاد
:
قبل كل شيء اسمحي لي أقدِّم لك نفسي.
نايلة
:
لا حاجة إلى ذلك … إني أعرفك أتم معرفة … قل إنها طريقة لبقة منك لأعرِّفك أنا
بنفسي، أليس هذا ما قصدت؟ … الحق معك … لو كنت في مكانك لعجبت لتلك المخلوقة التي
تأتي إلى مكتبك بدون كُلفة لتقدِّمك إلى صديقتها، وهي ذاتها مجهولة عندك!
فؤاد
:
لست مجهولةً لي … اسمك نايلة … الآنسة نايلة فيما أعتقد.
نايلة
:
نعم … أُذُنك التقطت الاسم بسرعة من فم صديقتي! … إنك على عهدي بك حاضر الذهن
دائمًا.
فؤاد
:
عهدك بي؟ … صلتنا وثيقة من قديم؟
نايلة
:
من طرف واحد فقط.
فؤاد
:
أهو تواضع منك؟
نايلة
:
بل حقيقة … إنك لم ترَني من قبلُ ولم تعرفني … ولكني أنا رأيتك وعرفتك في
مرافعاتك ومحاضراتك … لهذا جئت إليك كما يجيء الإنسان إلى صديق يعرفه.
فؤاد
:
هذه أول مرة أسمع فيها من زائر لمكتبي هذه الكلمات الكريمة المشجِّعة! … لو أن كل
موكِّل يحدِّثني هكذا.
نايلة
:
أوَلا يحدِّثك موكلوك هكذا؟
فؤاد
:
مع الأسف لا … إنهم ليسوا مثلك.
نايلة
:
وقضاياهم ولا شك ليست مثل قضيتي!
فؤاد
:
طبعًا … لا شك في ذلك … ثقي أن قضيتك سأوليها من العناية فوق ما أستطيع … هي قضية
مدنية؟
نايلة
:
أظنها مدنيةً حتى الآن … وقد تنقلب جنائيةً فيما بعد!
فؤاد
:
أنت فيها بالطبع المجني عليك!
نايلة
:
أشكرك على حسن ظنك بي.
فؤاد
:
عجبًا! … هذا المُحيَّا النبيل المشرق.
نايلة
:
مهلًا … إني لم أرتكب بعدُ جريمة!
فؤاد
:
الحمد لله … اشرحي لي القضية حتى أطمئن.
نايلة
:
نعم … إذا تم الاتفاق وديًّا وبالحسنى فيها … وإلا فإني سأُنشب أظافري في عنق
المُدَّعى عليه … انظر إلى أظافري … ألَا تراها مدبَّبةً مرهفة؟
فؤاد
(ضاحكًا)
:
وأراها مصبوغةً مقدَّمًا بدماء المُدَّعى عليه!
نايلة
(تمد أصابعها)
:
أترى ذلك حقًّا؟ … أنت على كل حال خير من يعرف هذا.
فؤاد
:
لا … إني أخطأت. أنت لا تطلين أظافرك بصبغة رخيصة من دم ذلك الشخص.
نايلة
:
من فضلك … أرجوك ألَّا تهين ذلك الشخص … إن قطرةً من دمه لَأغلى عندي من أنفس
الجواهر .
فؤاد
:
يا للعجب! … لأول مرة أرى هذا العطف الرقيق من «مدعٍ» على «مدَّعًى عليه» في
قضية!
نايلة
:
أكثر من العطف … إني أحمل له كل التقدير وكل المحبة والإعجاب!
فؤاد
:
والعلاقة بينكما؟
نايلة
:
لا توجد علاقة على الإطلاق.
فؤاد
:
والنزاع؟
نايلة
:
لا يوجد نزاع.
فؤاد
:
شيء عجيب! … ما هذه القضية التي لا نزاع فيها بين الخصمين ولا علاقة بين الطرفين،
وأحدهما يَوسَع الآخر مودةً وعطفًا وإعجابًا؟!
نايلة
:
لا تُتعب نفسك بحثًا … هذا نوع جديد في القضايا.
فؤاد
:
بالتأكيد.
نايلة
:
لأزيدك إيضاحًا لا بأس من أن أقول لك إن المسألة تتلخَّص في أن الطرف الأول يريد
أن يبيع للطرف الثاني.
فؤاد
:
هو إذن عقد بيع.
نايلة
:
تقريبًا.
فؤاد
:
عقار أو منقول؟
نايلة
:
لا عقار ولا منقول.
فؤاد
:
ما هو الشيء المعروض للبيع إذن؟ … حقوق؟
نايلة
:
ربما … ولكنها مع ذلك ليست مجرد حقوق … إنها شيء أكثر من ذلك.
فؤاد
:
ماذا؟ … هذا كل ما يمكن أن يُباع ويُشترى فيما أذكر!
نايلة
:
هنالك شيء نسيته؛ حياة الإنسان. إن الطرف الأول يريد أن يبيع حياته بثمن بخس
جدًّا للطرف الثاني.
فؤاد
(مندهشًا)
:
ماذا تقولين؟
نايلة
:
أقول شيئًا طبيعيًّا جدًّا. أليست حياتي مملوكةً لي؟
فؤاد
:
طبعًا!
نايلة
:
إذن ككل شيء مملوك، يمكن التصرف فيها بالبيع أو بالرهن أو بالإعارة أو بالإجارة.
فؤاد
:
اسمعي يا آنسة …
نايلة
:
نايلة.
فؤاد
:
يا آنسة نايلة. إني أرى لك عقلًا يستطيع أن يحرجني في دائرة اختصاصي فأرجو منك أن
تترفَّقي بي، وأن تبعديني عن منطقة التشريع والقانون في هذه الشئون؛ فهي مسألة
ترتفع فيما أرى وتعلو عن أجواء الفقه والعلم والقضاء … إنك تريدين أن تبيعي حياتك
لشخص … وتلك ذروة الكرم، وكل ما يهمني أن أعرفه في هذه الحالة هو رأي ذلك
الشخص.
نايلة
:
وهذا ما يهمني أنا أيضًا أن أعرفه.
فؤاد
:
ألم تعرضي عليه الأمر؟
نايلة
:
أريد رأيك في ذلك.
فؤاد
:
صفي لي هذا الشخص.
نايلة
:
هو رجل على غاية من النبل والرجولة واتساع الأفق، هو بالاختصار رجل يعجبني في كل
شيء، حتى في آرائه السياسية، التي أعتنقها لا لأنها صائبة في ذاتها … بل لأني أثق
به وبما يعتقد … إنه الصورة المُثلى للزوج الذي أريده!
فؤاد
:
وما رأيه في موقفك هذا منه؟
نايلة
:
قلت لك إنه لا يعرف شيئًا عني ولا عن شعوري نحوه.
فؤاد
:
إنك ستوغرين صدري وتملئينني غيظًا من ذلك الغافل المحظوظ! … ما أكثر النائمين
الذين تسقط على رءوسهم النعمة وهم لا يشعرون.
(نايلة تضحك.)
فؤاد
:
تضحكين؟
نايلة
:
إذا قُدِّر لك أن تقابل هذا الرجل فماذا أنت قائل له؟
فؤاد
:
الأجدر أن تقولي: ماذا أنت صانع له؟ … إن الكلمات لا توقظ مثل هذا الرجل.
نايلة
(ضاحكة)
:
لا تنقم عليه كل هذه النقمة … إنه معذور.
فؤاد
:
معذور؟ … يُدهشني أنك تدافعين عنه دائمًا، وتُحيطينه بسياج من عطفك ورقتك!
نايلة
:
هذا واجبي. إني أريد أن أعطيه حياتي لتكون له سياجًا يحمي حياته، كذلك السياج من
الغاب الذي تحاط به الزهرة النادرة لتقيها غوائل الشتاء.
فؤاد
:
لعنة الله عليه!
نايلة
:
لا تسبَّه من فضلك.
فؤاد
:
سامحيني يا آنستي … ليس من عادتي السباب … ولكن لساني زل على الرغم مني!
نايلة
:
وأنت ألم يقع لك مثل هذا؟
فؤاد
:
مثل هذا الحظ؟ … ومَن قال لك إني من أصحاب الحظوظ … أو من أهل الحظوة لدى النساء؟
… أنا رجل لا أعرف غير عملي، ولا ألتفت إلى غير هدفي الذي أرمي إليه.
نايلة
:
هذا صحيح … صائد المجد لا يلتفت إلى صيد النساء!
فؤاد
:
إني أسير في طريقي معصوب العينين؛ كحصان مشدود إلى مركبة مصيره، لا وقت عندي
للنظر في أمري، ولا حق لي في الوقوف للبحث عن هنائي أو تعاستي.
نايلة
:
لا بد من امرأة تهبط عليك وتمسك بزمامك؛ لتريحك لحظة، وتمسح عنك العرق، وتقدِّم
إليك قليلًا من الماء وحفنةً من السكر!
فؤاد
:
ثم تركبني بعد ذلك؟
نايلة
:
إذا كانت امرأةً فاضلة فهي تعرف أنك جواد ليس لركوبها، بل لحمل أثقال وأعباء
وتبعات أهم منها وأنفع وأعظم.
فؤاد
:
هذه المرأة الفاضلة لا تهبط على مثلي، بل تهبط على مثل ذلك الرجل الغافل النائم
الذي لا يدري ولا يشعر!
(نايلة تضحك.)
فؤاد
:
لست أدري ما الذي يُضحككِ هكذا؟
نايلة
:
أضحك لأني أتخيَّل اللحظة التي ستعرف فيها هذا الرجل.
فؤاد
:
لا أريد أن أتشرَّف بمعرفة حضرته.
نايلة
:
ثق أنه لا ذنب له، ولماذا لا تقول إنه مثلك يسير معصوب العينين، غارقًا في
أشغاله، هائمًا في آفاقه … مَن كان في مثل حاله علينا نحن أن نرى له، وأن نخطو نحوه
ونذهب إليه.
فؤاد
:
تذهبين إليه؟
نايلة
:
لا يوجد حل آخر … بغير هذا سيبقى أبدَ الدهر مشدودًا إلى مصيره، كما قلتَ أنت
الآن، لا أمل في أن يبحث عن هنائه أو راحته.
فؤاد
:
لا … لا أوافق على ذهابك إليه!
نايلة
:
لمَ لا؟
فؤاد
:
أخاف عليك … أخاف عليك منه … قد يُسيء استقبالك أو يصدم إحساسك.
نايلة
:
قلت لك إنه في غاية الرجولة والشهامة … إنه لن يفعل ذلك.
فؤاد
:
وماذا ستقولين له؟ … أريني كيف ستعرضين الأمر عليه؟
نايلة
:
سأذهب إليه في … محل عمله.
فؤاد
:
ماذا يعمل هذا الرجل؟
نايلة
:
إنه … إنه … طبيب.
فؤاد
:
ستذهبين إليه إذن في عيادته.
نايلة
:
نعم، وسأدخل عليه، سأجده جالسًا هكذا مثلك، فأقول له: نهارك سعيد يا «دكتور»! …
فيحييني … قم أنت بتمثيل دوره.
فؤاد
(يتخذ هيئة التمثيل)
:
نهارك سعيد يا آنسة «نايلة».
نايلة
:
قلت لك إنه لا يعرف بعدُ أنَّ اسمي «نايلة».
فؤاد
:
حتى هذا لا يعرفه.
نايلة
:
طبعًا … إني سأذهب باعتباري … زبونة … أعني مريضةً جديدة. فلنمثل من الأول:
«نهارك سعيد يا دكتور!»
فؤاد
:
نهارك سعيد يا آنسة!
نايلة
:
نايلة!
فؤاد
(ممثلًا)
:
تشرَّفنا … نطلب لحضرتك قهوة … ليمون.
نايلة
:
الطبيب لا يطلب لمريضه قهوةً ولا ليمونًا … إنه يسأله ممَّ يشكو.
فؤاد
(ضاحكًا)
:
صدقت … أنا فيما يظهر لا أصلح للتمثيل!
نايلة
:
كن على سجيتك … فلنمثِّل من الأول.
فؤاد
:
لا داعي للتقديم والتعريف والليمون … ادخلي مباشرةً في الموضوع.
نايلة
(تمثِّل)
:
إني جئت إليك.
فؤاد
(ممثِّلًا)
:
إني مصغٍ إليك.
نايلة
:
جئت إليك.
فؤاد
:
نعم … كما يجيء ماء السماء للزرع الذابل العطشان، أو كما جاء المن والسلوى لشعب
موسى الجوعان … إنها نعمة كبرى يا آنسة. إنه لشرف لي … وإنها لسعادة لم أحلم بها …
إنه الهناء الذي طالما انتظرته من أعوام ولم أدرِ السبيل إليه … كيف أشكرك وأشكر
المقادير التي جاءت بك. إني أهنِّئ نفسي … إني … إني أحسد نفسي.
نايلة
(باسمة)
:
مهلًا … إنه لا يمكن أن يقول ذلك.
فؤاد
:
لأنه مغفل.
نايلة
:
بل لأنه فقط لم يعرف بعدُ أصل الموضوع!
فؤاد
:
إنه لا يعرف شيئًا هذا الحيوان … فلنمثِّل من الأول … وسأتكلم هذه المرة بلسانه
وعقليته وعلى مسئوليته (يستعد للتمثيل).
نايلة
:
إني جئت إليك … في مسألة غاية في البساطة.
فؤاد
(ممثِّلًا)
:
تكلمي!
نايلة
:
جئت إليك … لأطلب يدك.
فؤاد
:
يدي؟!
نايلة
:
أجب من فضلك بكلمة واحدة: لا، أو نعم!
فؤاد
:
إني فوجئت بالموضوع، ولم يئن الأوان عندي للزواج.
نايلة
:
ألم تبلغ سن الرشد؟
فؤاد
:
أعطيني وقتًا للتفكير.
نايلة
:
أعطيك خمس دقائق (تنظر في ساعة معصمها).
فؤاد
:
فقط! … ما هذا الاستبداد؟
نايلة
:
هذا منتهى التسامح … اذكر أيها الرجل يوم كنت تطلب يدنا … هل كنت تعطينا وقتًا
نفكر فيه؟ … وهل كان لنا فكر أو إرادة؟ … كان الاتفاق يُبرَم مع الوالدين … وكان كل
ما يُطلب إلينا أن نُطرِق ونصمت ونحمر حياءً … الآن هذا يومنا … ولقد جاءت نوبتنا
في أن نفعل بكم بعض ما كنتم تفعلون بنا، ولكننا مع ذلك أكثر تقديرًا للحرية البشرية
منكم … فلن نجاريكم في الظلم … بل سنعاملكم كآدميين لهم حق التفكير والاختيار.
فؤاد
(يصفِّق استحسانًا)
:
برافو!
نايلة
:
لا أظن هذا الكلام يعجبه!
فؤاد
:
لا شأن لي به، إني أصفِّق لحسابي الخاص!
نايلة
:
إذن أنت من رأيي!
فؤاد
:
في كل شيء … وبلا تحفظ!
نايلة
:
ألَا تظن أني تجاوزت الحد قليلًا؟ … هنالك عامل مهم جدًّا في هذا الموقف قد
أغفلته هو «الميل الشخصي».
فؤاد
:
ثقي أن الميل قد غُرس في قلبي منذ اللحظة الأولى.
نايلة
:
هنالك أيضًا الظروف العائلية أو الخصوصية التي قد تمنع.
فؤاد
:
لا توجد قوة على الأرض تمنع أو تحول دون زواجي منك.
نايلة
:
أشكرك … لقد أجدت التمثيل.
فؤاد
:
أي تمثيل؟! … إني لا أمثِّل إلا نفسي يا نايلة!
نايلة
(في دهشة وسرور)
:
تناديني باسمي المجرد!
فؤاد
:
أتقبلينني زوجًا يا نايلة؟
نايلة
:
لا.
فؤاد
:
نايلة!
نايلة
:
لا … لا تقلب الوضع من فضلك … لقد سبقتك أنا وقلت لك إني أطلب يدك، وأعطيتك خمس
دقائق لتفكِّر وتجيب، وأظن الدقائق الخمس قد مرت.
فؤاد
(يضغط على زر الجرس الكهربائي وينظر في ساعته)
:
لا تزال لي دقيقة واحدة.
وكيل المكتب
(يدخل حاملًا بعض الملفات)
:
الأستاذ ضرب لي الجرس!
فؤاد
:
نعم … أرجوك … اطلب لنا حالًا واحدًا.
وكيل المكتب
:
واحد ليمون؟
فؤاد
:
واحد مأذون!
(سقط الملفات من يد وكيل المكتب وهو يحملق فيهما دهشة … وينزل الستار.)