مقدمة لمؤلف الاعتراف

لقد مضت سنوات لم أسمع في خلالها شيئًا عن صديقي م. ن. صاحب الاعتراف، فجعلت أسأل عنه حتى علمت أنه صار يهيم في فيافي السودان، حتى وصل إلى بلاد نيام فأكله أهلها رحمة الله عليه. لقد كان يحتقر الإنسانية؛ فانتقمتْ منه بأن أكله أبناؤها، ولكنه انتقام يثبت أنه كان مصيبًا في احتقاره إياها. وقد زعم أناس أنه لم يمت، وأنه توغل في أواسط أفريقيا إلى مواطن الزنوج، فأسرته قبيلة منهم تدعى قبيلة الشنانجة، ولكنهم أعجبوا بسكوته وعبوسه وكسله وقلة مبالاته ما يقع حوله من أمور الحياة؛ فاتخذوه إلهًا، حاسبين هذه الصفات من صفات الله! فإذا صح ذلك كان صديقي إلهًا لا يزال حيًّا يرزق، يعبده زنوج قبيلة الشنانجة في أواسط أفريقيا. وليت شعري ما حاله؟ وما خواطره؟ وهل هو سعيد بمنزلته بين أولئك الوحشيين الجهلاء؟

وقد رأيت أن أجمع هذه المذكرات وأن أنشرها؛ لأن في نشرها عبرة كبيرة لمن يعتبر. وسيرى كثير من القُرَّاء نفوسهم مكبرة مرسومة في هذه الصحائف؛ لأننا في حياتنا الاجتماعية سواسية مثل أسنان الحمار — هذا إذا صح أن أسنان الحمار سواسية، ولا أظن ذلك — أو مثل أسنان المشط. وسبب ذلك أن العوامل الاجتماعية التي تعمل في نفس الفرد منا، تعمل أيضًا في نفوس سائر الأفراد. فصفات الشاب المصري هي صفات م. ن. صاحب الاعتراف.

فالشاب المصري في حالة أمتنا الاجتماعية الحاضرة عظيم الأمل، ولكنه عظيم اليأس، وكل منهما في نفسه عميق مثل الأبد؛ والسبب في ذلك أن حالتنا الاجتماعية تستدعي شدة الأمل وشدة اليأس. وما زلت أجد بين حالة الأمة الاجتماعية وبين نفوس أفرادها رابطة متينة. والشاب المصري يكثر من إساءة الظن، وهي صفة اشتهر بها المصريون. والسبب في سوء ظنه عصور الاستبداد الطويلة التي مرت على مصر، فإنها أبقت هذا الإرث في نفوس الأفراد؛ لأن الاستبداد يبعث سوء الظن. والشاب المصري ضعيف العزيمة، كثير الأحلام والأطماع والأماني، يمضي أيامه في الأحلام بدل أن يمضيها في مزاولة الأعمال. وكذلك الخوف فيه، فإن شجاعة الشاب المصري شجاعة متقطعة مبتورة، شجاعة تستحي من نفسها، وأما خوفه فهو مبدأ عام.

والشاب المصري عنده ميل شديد إلى مزاولة الأعمال العظيمة المجيدة، ولكن يعجز عنها! والشاب المصري مهيج العواطف، ولكنه غير عظيمها. وهو كثير الغرور؛ لأنه كثير الأحلام والأماني، وهو ليس عنده شيء من الاعتماد على النفس. وهو شديد الإحساس، ولكنه يبكي في ضحكه، ويضحك في بكائه. وهو كثير الشكوى والتضجر، قليل الصبر مثل صاحب الاعتراف، تحز في نفسه قيود القدر المحتوم، فيجتهد أن يصدعها عنه فلا يقدر؛ فيزداد حُزنًا ويأسًا … ويفكر، ولكن تفكيره غير منتظم! وهو كثير الحيرة والشك، بالرغم من غروره يترك ما يعنيه لما لا يعنيه، لا يعرف أي أفكاره وعاداته القديمة خرافات مضرة، ولا أي أفكاره وعاداته الجديدة حقائق نافعة؛ من أجل ذلك يضره القديم كما يضره الجديد، فهو من قديمه وجديده غريق بين لجتين، أو مثل كرة في أرجل المقادير، فإلى أين تقذف به تلك المقادير؟

أما م. ن. فإنه — رحمه الله — كان شابًّا يحب القراءة والتفكير، وكانت تلوح في عينيه علامات السأم والحزن والتفكير، وقد تقلصت شفته السفلى تقلص السخر. ولكن كان يلوح على وجهه، بالرغم من ذلك، أنه كثير الحنان رقيق القلب، وأحيانًا كنت لا ترى في وجهه شيئًا من الحزن أو الألم، وفي بعض الأحايين كان وجهه مثل السماء التي تراكمت سحائبها وتلبدت غيومها. وكان كثير من الناس يسيئون فهمه؛ فأساء فهمهم، كما هي الحال بين الناس قاطبة.

وكان أحيانًا شديد التواضع، وأحيانًا شديد التكبر. كان لا يعرف كيف يعاشر الناس ويداريهم، ويأخذ ما صفا ويتغاضى عما كدر، ويحتال للحياة ولاستجلاب السعادة؛ فضاقت بنفسه الصحراء، بعد أن ضاقت بها المدن كما يقول في رسالته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤