الإحساس والحياة
ليس الشاعر من يملأ أذهان قومه بالمعاني الجديدة والآراء الجليلة، وإنما الشاعر الذي يملأ قلوبهم بالرغائب الجديدة، والذي يقوي عواطفهم؛ لأن العواطف هي القوة المحركة في الحياة. والأديب العظيم هو من كانت كلماته كهرباء النفوس، هو الذي يُحرِّك النفس كما يحرك العوَّاد عُودَه، فيوقِّع عليها من الألحان ما تهتاج له قوى النفس في أعماقها. هو الذي يجعل لكل عاطفة من عواطف النفس روحًا وحياة وشخصية؛ لأن النفوس يعلوها صدأ مثل صدأ المادة، ولا يجلو عنها هذا الصدأ إلا ما يحرك أعماقها في النفس، كالماء الراكد الذي تعلوه المواد العطنة. وكما أن هذا الماء الراكد لا يجدده غير تيار جديد، كذلك الروح ينبغي أن تكون معرضة للتيارات الروحية، وليست حياة الأديب إلا تيارًا من تلك التيارات التي تحرك النفس.
لقد كنت في أول الأمر أحسب أن الأديب حِلْيَةٌ لقومه، وأن الأدب زينة؛ فكنت أقضي الأيام في تَصيُّد الألفاظ، واختلاس الأساليب اللفظية. ولكني ضجرت من هذه المنزلة الحقيرة، وقلت: إن كان الأدب في تصيد الألفاظ، فلا خير في الأدب! ثم فطنت بعد ذلك إلى الحياة وأساليبها، وإلى الروح وعواطفها، وعلمت أن الشاعر هو الذي يعبر عن أساليب الحياة وعواطف النفس، ولا يستقيم له ذلك إلا إذا تقلَّب في أساليب الحياة، وكانت عواطفه مثلَ البحر الزاخر، بل كانت كل عاطفة فيه عاصفةً تبعث الخوف والجلال. ومن أجل ذلك صرت أجد لذة وألمًا في هياج العواطف، وكنت أبحث في عواطفي وهي هائجة، كأني أنظر إلى الرياح الهوج العمر، أو الحريق المتلف، وأجد في تلك العواطف ما أجده في قوى الطبيعة. وكنت أبحث في قلبي بعد سكون هذه العواطف، فكأني أنظر إلى مكان خراب دمرته العواصف، أو إلى ميدان الحرب بعد الحرب، كله أشلاء وأطلال. ولكن الضرر الذي يحدثه هياج عواطفي أقل من الضرر الذي يحدثه خمودها وسكونها؛ لأن روحي لا حياة لها إلا إذا اشتعلت، فهي تحيا بأن تحترق وتفني نفسها.
فإذا خمدت عواطفي أحسست كأن هذا الوجود كله يضغط على قلبي، فأحس كأني أكاد أختنق. وفي مثل هذه الحال يخيل لي أن لو وضع هذا الوجود كله في كفة ميزان، ووضع ضجري ومَلَلي من الحياة في كفة، لرجح مَلَلي وضجري؛ ومن أجل ذلك أجتهد دائمًا أن أهيج عواطفي فرارًا من ذلك اليأس الذي يأتي به جمودها. ولقد بلغت بي تلك الحاجة إلى تهييج العواطف أني أحيانًا أطل على الأماكن المنخفضة من الصخور أو البيوت العالية، فأحس دوارًا غريبًا وكأن نفسي أعمق من الأبد، وكأن فكري يهوي في عمقها الذي لا نهاية له، ثم أرمي بنفسي إلى الوراء؛ لأني أحس اندفاعًا إلى ذلك المكان المنخفض. وأحيانًا أقف على شاطئ البحر، وكأن عيني زجاج آلة التصوير؛ فينطبع هياج الأمواج في نفسي وفي عواطفي. وأحيانًا أحس كأني سهم قذف به في الفضاء، فهو إلى الأبد يخترق ذلك الفضاء الذي لا نهاية له.
أذكر أني رأيت مرة حريقًا هائلًا في جنح من الليل، فهيج في قلبي عواطفه، ولم يهيج سطح العاطفة، بل هيج أعماقها. وجعلت أشعر بالجلال؛ جلال ذلك المنظر الهائل، وبرقت عيناي حتى كدت أرى بريقها. وصارت النار تأكل المنازل؛ فتتهدم وتنهال وتتصاعد ألسنة النار، والدخان يعلوها، والظلام حولنا، وعلى أوجهنا نور يزيدها شحوبًا، فكأنما نحن في الأحلام، وكأننا لا نرى حريقًا، بل قطعة من الجحيم. وكنت أحس لفح تلك النار في خيالي وذهني. وأذكر أني رأيت هياج الأمواج في المحيط؛ فأحسست ضعف الإنسان وقوته: ضعفه أمام قوى الطبيعة، وقوته التي في خياله وقلبه، والتي تمكنه من أن يجد لذة حتى في مظاهر الطبيعة التي تهيج خوفه، وتبعث في قلبه الإحساس بالجلال.
هذه هي المناظر التي ألتذها، ومن الغريب أني يخيل لي أن هذه المناظر وما تبعثه من الإحساس تعين المرء على تفهم معاني الحياة ومعرفة سرها، ولكن كيف؟! هذا لغز أشد غموضًا من لغز الحياة نفسها. أستغفر الله! أنا لا أعتقد أن للحياة لغزًا؛ لأن هذا الاعتقاد يكون إحسان ظن بالحياة، وهل من العقل أن نحسن الظن بالحياة إلى هذا الحد؟! ليست الحياة لغزًا، بل هي نكتة باردة لا معنى لها. أستغفر الله! لقد حرت في أمري، فلا أعرف هل الحياة لغز عجيب جليل، أم هي نكتة باردة؟!
أكبر ظني أن الخيال هو الذي يجعل الحياة لغزًا؛ لأنه يعطيها قيمة أكبر من قيمتها، وهو الذي يجعلها نكتة باردة؛ لأن المغالاة بقيمتها تؤدي إلى اليأس منها.