الخوف والعي
إن الرجل الذي يخشى إيلام الناس إياه مثل النبات الذي لا يعيش إلا في بيوت الزجاج. فإن خوف المرء أن يؤلمه مؤلمٌ، يضعف عزيمته، ويمنعه من العمل والسعي إلى ما فيه منفعته، ويعوِّده البأس من الناس، ويورثه العِيَّ، ويغطي على فصاحته، ويلبسه ثوب الغباوة، فيخفي ذكاءه؛ خشية أن يكون في كل قول يقوله، أو عمل يعمله ما يبعث إهانة الناس إياه، أو سخرهم به. ومن أجل ذلك تقف الكلمة في حلقه؛ خشية أن يصيبه من جراها ما يؤلمه، فيتردد في إخراجها، فيكون كالأخرس إذا حاول الكلام، فتسقط الفرص من يديه كما يسقط الماء من ثقوب الغربال.
ومن أجل هذه الصفة التي أعالجها وأعانيها، صار من لا يعرفني إذا سألني سؤالًا وترددت في إجابته ولم أحسن الكلام، يحكم عليَّ بالعِيِّ والغباء. ولو تفرس في وجهي في تلك الساعة، وكان أكثر الناس معرفة بالفراسة؛ لقال: هذا ملك الأغبياء؛ والسبب في ذلك أن كل عصبي المزاج مهيج العواطف تختلف هيئات وجهه حسب ما في نفسه وذهنه. وقد لاحظت ذلك بالنظر إلى أوجه الناس، فإن الوجه يختلف حسب أطوار النفس وأحوالها، حتى كأن للمرء أوجهًا كثيرة، ومن أجل ذلك تختلف صور الرجل العصبي الفوتوغرافية، حسبما يجيش في صدره من العواطف.
إني في خلوتي بنفسي أُعِدُّ الكلام البليغ والحجج الراجحة، والكلمات البليغة، وأتخيل محادثات تجري بيني وبين الناس، تكون كل كلمة من كلماتي فيها آية من آيات البلاغة. ولكني إذا لقيت هؤلاء وحادثتهم لم أجد في كلامي هذه الآيات البينات، ثم إذا خلوت بنفسي بعد ذلك أقول: كان ينبغي أن أقول لهم كذا وكذا، فينطلق لساني بالكلام الفصيح البليغ. ولكن أي مزية في أن يكون المرء عييًّا في المجالس، فصيحًا في الخلوات؟! وهذا سبب من أسباب انفرادي ووحدتي، ويرى الناس سكوتي ووحدتي فيحسبون حياتي هادئة مطمئنة، وتغرهم مظاهر سكوتي كما يغرُّ مُجاورَ البركان الذي لا يعرف متى يثور مظاهرُ سكوته وخموده. فإن سكون المرء يخفي عواطف نفسه، إلا ما بدا للناس منها في عينه وأسرَّة وجهه، ويحسب الناس أني سعيد وما أنا بسعيد.
إن العواطف سبب شقاء الناس وعظمتهم، وسبب سعادتهم وتعاستهم، وسبب مصائبهم ومحامدهم، وهي سبب لذاتهم وآلامهم. إنها تملأ الحياة نارًا، ولكنها أيضًا تملأ الحياة نورًا، فما أقبح الحياة، والحياة وابزدها وأغثها لولا جمال العواطف! وما أجمل العواطف لولا مصائبها وآلامها! آهٍ يا صديقي، أبَعدَ تمرُّسي بالحياة والنظر فيها، تطلب مني أن أؤمن بها وبما للناس فيها؟! ولو كان ذلك موكولًا إليَّ لآمنت بها، ولكنَّ للنفس أطوارًا وأحوالًا يستحيل فيها الإيمان بالحياة.