ضعف العزيمة
إن ضعف العزيمة له مظاهر كثيرة، من مظاهرها عند المفكر أنه يفكر في ألغاز الحياة التي يود أن يوفق إلى حلها، وهي ليست لها حل. وإني أحيانًا أسلِّي نفسي بالتفكير فيها، وأتتبع ما يصدر عن الناس من أقوال وأعمال، وأجتهد أن أجد فيها حلًّا لهذه الألغاز، وأحيانًا أتعب نفسي وأجلب لها الهم بهذا التتبع والاجتهاد في حل ما ليس له حل. والسبب في ذلك ضعف عزيمة المفكر، فلولا ضعف عزيمته لما خطر بباله أن يجتهد في حل ما ليس له حل من ألغاز الحياة، ولوجد في الحياة والعمل من اللذات ما يلهيه عن هذا التفكير ويغنيه عنه. وضعف العزيمة صفة فينا تلحقنا من طريق الوراثة، كما تلحقنا من التربية المدرسية والمنزلية، فينبغي أن تعوِّد التربيةُ المرءَ الاعتمادَ على نفسه؛ ذلك الاعتماد الذي يبعث في المرء نشاطًا وثقة بنفسه.
والتفكير إذا تملك المرء، وكان الصفة الغالبة عليه، يفقده الإقدام والنشاط وغير ذلك من مميزات الرجل الذي طبعه يميل إلى العمل، وكل شيء عملي من أمور الحياة. وليس معنى هذا القول أن التفكير ينفي قوة العزم، ولكن الصفتين لا تجتمعان إلا في القليل النادر من الفحول. وفي بعض الأحايين أقول: لو كان لي عقل أفلاطون لبعته بذهن من الأذهان التي يعيش بها الجماهير من الناس وعزيمة كبيرة؛ فإن التفكير يغري بالتفكير، وهذا التفكير يغري بغيره، فتضيع الفرص قبل انتهاء المفكر من تفكيره وابتدائه في عمله.
ومثل هذا التفكير المطرد المتسع مثل الدائرة التي يصنعها الصخر إذا قذف به في الماء، فإنها ما تزال تكبر وتتسع حتى تفنى. ولكني لا أجهل لَذَّاتِ التفكير، وإن كنت لا أحمد آلامه؛ فإنه المعين على الحياة، يكبح من جماح الخيال والعواطف، وما تغري به العواطف من الأعمال. نعم، إن صاحب الخيال والعواطف يحس لذَّاتِ الحياة أكثر مما يحسها غيره، ولكنه يحس متاعبها أكثر مما يحسها غيره من البشر؛ ومن أجل ذلك كان في كل يوم من أيام حياته، من الحزن والسرور، ومن النعيم والشقاء، ما ليس في السنة من سِنِي غيره. وماذا تفيده عِظم لذاته إذا كانت شقاوته عظيمة، بقدر عِظم لذاته؟ وماذا تفيده تلك العواطف التي تتضارب في صدره؟
ولقد يخيَّل لي أحيانًا أن تلك العواطف شياطين تجذب أعصابي، وتجري مع الدم في العروق، وتريق فيه السم. وماذا يفيدني أن في تلك العواطف شيئًا من اتساع الأبد؟ فهي لا حد لها ولا نهاية. هذا هو الشقاء الذي ليس بعده شقاء، فإن المرء مقيد بقيود الضرورة، ومحدود بحدود القدر. حولي أسنة المقادير وسيوفها تشير إليَّ، فإذا سعيت إلى يساري وخزت جانبي الأيسر، وإذا سعيت إلى يميني وخزت جانبي الأيمن، وإذا سعيت إلى أمامي أو إلى ورائي أحسست وخزها، وإذا هممت أن أطير وجدت سيوف المقادير معلقة فوق رأسي. وقد تمر بي ساعات تهبط فيها السماء وتضيق فيها الأرض، حتى أحسب الحياة أضيق من تَنُّور عبد الملك بن الزيات. وفي تلك الحال أحس كما يحس المجنون المقيد الذي يريد أن يفك عنه سلاسله، وأن يهيم على وجهه لا يقر في مكان.
ولكن إلى أين يفر أسير الحياة؟ إلى أين يفر من عواطفه وآماله وأفكاره وذكره، ومن الزمن الذي يعيش فيه؟ فالإنسان لا يقدر أن يفر من كل ذلك إلا إلى الموت. فلو كان للإنسان أن يهيم في فيافي الأزمان، كما يهيم في فيافي الأرض فيفر إلى الزمن الماضي، أو إلى الزمن الآتي! آهٍ لو أمكن ذلك! كأني بك أيها القارئ تعجب من هذا التمني، وتراه ضربًا من الجنون! هبه كذلك، فما ألذ الجنون! ألم تجن قط؟ ألم يخطر ببالك أن هذه الأرض إنما هي مارستان كبير، وأن هذه الأعمال التي تعملها والمساعي التي تسعى إليها إنما هي جزء من الدواء، جزء من طريقة العلاج، وأن هذه النجوم والأفلاك التي في السماء إنما هي لعب معلقة فوق رءوس المجانين، وأنها أيضًا جزء من العلاج، وأن هذه العلوم والفضائل التي نفاخر فيها هي الأكاذيب والقصص والخرافات التي يقصها الممرض أو الطبيب على المجانين، وأنها أيضًا جزء من العلاج؟
إني لا أريد منك أن يكون هذا رأيك في الحياة، وإنما أريد أن أبسط لك أسباب الشقاء، فَأُلِيح لك أحيانًا بالجحيم الذي يخلقه الخيال، والذي تؤججه العواطف. فإذا كان هذا الجحيم الذي يخيفك ويفزعك، فاطوِ هذا الاعتراف واقرأ قصة من القصص التي أعمق عاطفة يشرحها الكاتب فيها، لا يبلغ عمقها سنتيمترًا واحدًا، فأنت من الناس الذين يريدون أن يكون الشعر والأدب بمنزلة التثاؤب والتمطي.