خواطر الانتحار
يرى المرء ما فيه خيره فلا يقدر أن يدركه، ويرى ما فيه ضره فلا يقدر أن يتجنبه. ويريد أن يكسر قيود القضاء، وأن يكون مخيرًا فلا يقدر، ويوجعه عض تلك القيود التي هي كالذئاب المفترسة، ويؤلمه نهشها حتى يصرخ صرخات تجرح الحلق وتخرج بالدم. وكأني به قد جرى مع الصِّبا سلس العِنان، فأحيا الليل وأمات النهار، وفعل ما يفعل المرء في شبابه من تصيد اللذات، يفعل ذلك في أول الأمر خلسة حتى يصير عادة محبوبة، ويبلغ من حب الخمر واللذات الجنون، فيصدق فيه قول حسان بن ثابت:
فما يزال يزاول هذا الجنون حتى يتقصاه ناحيةً ناحيةً ومعنًى معنًى وعاطفةً عاطفةً. يرجع إلى بيته في أواخر الليل وقد قضى منه ما قضى، فيرتمي على فراشه حتى يقوم في الظهيرة منتفخ العينين، موجع الأعصاب، يمسي كأنه قد أنفق في تلك الليلة خمسين سنة من سِنِي عمره، وهو يحسب أن الشباب كنز لا يفنى، فيعذل نفسه ويسمعها تقريعًا مُرًّا ويلطم وجهه ويضرب ناحية قلبه بيده، ويبكي بكاءً شديدًا.
ثم يعزم كل العزم على هجر ما فيه ضره، فما هو إلا أن يجيء الليل وينسى آلام الصباح، ويرتدي ثيابه ثم يحس كأن شيطانًا قد أفاق في نفسه وتمطى فيها، فيعيد في الليلة ما فعله في ليلة أمس.
ثم يقوم بين الصبيحة والظهيرة مرَّ الحلق، مرَّ الفم موجع القلب والعظم، فيقول: أين عزم الصباح؟ أين ما أردته؟ وأين ما يزعمون من التخيير؟ أين مُعين على ما لا أقدر عليه من نفسي؟ كم عزمت وكم أردت وكم خادعت نفسي وزعمت أني قادر، وكم حاولت أن أكون قادرًا! ولكن القدرة ليست في يدي، أصرفها كيف أشاء. أصحيح ما يزعم اللائم من تقصيري في إرادة ما فيه خيري، واجتناب ما فيه ضري؟ كلا، فقد أردت كل الإرادة وعزمت كل العزم، حتى صرت أود لو يظهر لي ذلك الشيء الذي يمنعني من اجتناب ذلك الضر، أو بلوغ ذلك الخير فأقتله حتى ولو كان في قتله العقاب. وعندئذٍ يحس المرء ضعفه أمام القضاء، حتى يخيَّل له كأن القضاء يبرز له وجهه في الفضاء، ويسخر منه ويهزأ به ضاحكًا؛ فيكاد المرء من غيظه يلقمه الحجر. ثم يعاود نفسه فيقول: ينبغي لي أن أتشجع وأن لا أيأس، وأن أعزم عزمًا أعظم من العزم الأول. فيعزم ويريد، ولكن شيطانًا يفيق في نفسه ويتثاءب ويتمطى فيها، ثم يرقص فيه رقص المجنون أو رقص الزنوج، فيرى المرء نفسه غريقًا في تيار المقادير، الذي يقذف به إلى الشقاء. ثم يخطر له خاطر الانتحار، فيقول: الانتحار سلاح أحارب به القضاء، وأمنعه به من أن ينال مأربه عندي! ولكن قدرة المرء على التخلص من الحياة تسليه عن كثير من همومها، وتساعده على تحملها، فإنه يقول لنفسه: تشجعي يا نفس، فإذا اشتدت بك الهموم أطلقتك من إسارك! فإذا اشتدت به الهموم ناجى نفسه قائلًا: قد اشتدت بك الهموم، ولكن بعد العسر يسرًا، والحياة حلوة والموت مر مجهول، فلا بأس من تحمل الهموم، ما دامت للحياة حلاوة، ولكن إذا اشتدت بك الهموم بعد اليوم، أطلقتك من إسارك!
هكذا يخادع المرء نفسه، ويعللها طول حياته؛ كي لا تتأذى بمرارتها. فإن المرء لا يقدر على الانتحار متى شاء، فإنه قد يريد الانتحار ولكنه يعجز عنه، بالرغم من شدة همومه وآلامه.
ثم إنك تجد أُناسًا ينتحرون لأسباب تافهة، مثل وجع الضرس أو فشل في أمر يحاوله، أو موت قريب، أو ضياع شيء عزيز … ولكنك إذا تأملت علمت أن هذه الأسباب ليست أساس انتحارهم، وإنما هي حوادث يقع فيها الانتحار. أما سبب انتحارهم فهو تغلب رغبتهم في الموت على رغبتهم في الحياة. وكره الحياة الذي يدعو إلى الانتحار ليس مما يتهيأ لكل إنسان، ولا يكون نصيب المرء منه على قدر مصائبه، بل هو دافع لا يملك المرء له دافعًا حتى ولو كانت تظلله غصون النعيم وثماره وأزهاره. وليس من سبب لبغض المنتحرين وانتقاصهم إلا حب الأحياء أنفسهم، وخوفهم من الموت.
لقد حاولت مرات أن أنتحر فرارًا من سلطان القضاء، فأخذت سكينًا وأدنيتها من صدري، ثم قدرت مكان القلب وقلت: هنا ينبغي أن أضرب نفسي الضربة القاضية، فلم تهن عليَّ نفسي، فقلت: الليلة الآتية أفعل ذلك، ولما أتت تلك الليلة أرجأت الانتحار إلى ليلة أخرى، حتى أفكر في طرق الانتحار، وأختار منها واحدة. وكلما حزَّت بنفسي قيود الأقدار وحاولت أمرًا فيه خيري تمنعني عنه الأقدار وتدفعني عنه إلى ما فيه ضري، عاودني خاطر الانتحار، ثم أتناساه بالملاهي والغفلة والتغابي والتبلد. ويل للإنسان يخضع لسلطان القضاء حتى في رغبته في التخلص من الحياة!
إن الحياة حلوة بالرغم من مرارتها. نعم إن حلاوتها لا تنسي المرء مرارتها، ولكن مرارتها أيضًا لا تنسيه حلاوتها، على أن المرارة تغطي على الحلاوة وتفسدها وتُمِرُّ طعمها، ولكن الحلاوة لا تُصلح طعم المرارة، وإن كانت تكسر من غضاضتها.