سوء الظن
إني أسيء الظن بكل شيء، سواء الحميد والذميم. فلا غرو إذا رأيتُ في الضياء ظلامًا ورأيت في سواده ما يخلقه سوء الظن من الأوهام التي هي كخيالات الشياطين في ظلام الليل. ومن بلغ به سوء الظن هذا المبلغ يسمع همس شياطينه في أذنه، فإذا تلفت إلى يمينه وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليمنى، وإذا تلفت إلى يساره وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليسرى. ومن العجيب أن هذه الشياطين التي يخلقها سوء الظن لا تخفي قبحها لتخدعنا، بل تظهر قبحها في حركات وجهها وجسمها. هذه الشياطين هي الخواطر التي يهيجها سوء الظن، تمرح في ظلامه كما يمرح الوطواط في الظلام، وتؤدي بالمرء إلى الجنون. نعم، فإني قد عانيت من أجلها الجنون، وجرعت كأسه المرة وبلغت أعماقه. ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه، ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه، ذلك الجنون الذي لا يُنسي المرء الذكر والأماني.
على أني لا أقول إن سوء الظن كاذب أبدًا، إذا كان في الكون حق، فالحق ما يسيء ظنك بالناس؛ فإنهم خليقون بأن تسيء بهم الظن. ولكن ينبغي أن تسيء ظنك بنفسك، كما تسيء الظن بالناس، أليست نفسك من نفوس الناس؟ ومن أجل ذلك كنت أحيانًا أسيء ظني ببعض الناس، ثم أسيء ظني بنفسي، وأتهمها في ظنها، ثم أسيء ظني بالشيء الذي جعلني أتهمها بسوء الظن … وهكذا، لا حد ولا نهاية لسوء الظن.
إني أسيء الظن بالناس؛ لأن في كل عمل يعملونه من الأعمال — حتى الحميد منها — شيئًا من اللؤم والدناءة. وقد بلغ بي سوء ظني أني ما رأيت اثنين يتسارَّان إلا ظننت أنهما يذكراني بسوء، فأنا من الذين يصدق فيهم قول بشار بن برد:
وكذلك ما رأيت أحدًا ينظر إليَّ إلا حسبت أنه يحدث نفسه عني بسوء. وإني لأسيء ظني الآن بمن سيقرأ هذا الكتاب، وأزعم أنه سيحدث نفسه قائلًا: لو لم يكن مظنة السوء لما خيل له أن الناس تسيء به الظن. ولكن هذا القول ليس من المنطق في شيء، وإن كان معقولًا جائزًا، ولكن يصح أيضًا أن يكون باعث المرء إلى سوء الظن لؤم الناس قاطبة، وليس لؤم نفسه إلا جزءًا صغيرًا من لؤم الناس. وما رأيت أحدًا ينظر في ثيابي إلا حسبته رأى فيها شيئًا خفي عني. وما رأيت أحدًا ينظر في وجهي إلا حسبته رأى فيه شيئًا قذرًا. وما رأيت أحدًا عابسًا إلا حسبته يعبس من أجلي بُغضًا أو حقدًا. وما رأيت أحدًا باسمًا إلا حسبته يسخر مني ويهزأ بي. وما سمعت ضحكًا لم أعرف سببه إلا خجلت خجلًا شديدًا، وحسبتني غرضًا لذلك الضحك أرمى به. ومن أجل ذلك صرت أعبس في وجه كل من يبسم في وجهي من الناس، إلا من عرفت سبب ابتسامه. وأحيانًا أعرف سبب ابتسامه فلا يمنعني ذلك من إساءة الظن به، فأحسب أنه يظهر غير ما يخفي من سبب ضحكه، وأنه إنما يفعل ذلك مكرًا وسخرًا. وإني أعتمد كثيرًا على حُسن رأي الناس فيَّ بالرغم من سوء ظني. وأنا أعرف أن سوء ظن الناس بي مثل سوء ظني بهم، ولكن معرفتي ذلك لا تمنعني من الاعتماد على حُسن رأيهم، فلا أبرر أعمالي لديهم اعتمادًا على حُسن ظنهم ورغبتهم في تبرير أعمال الناس.
وإذا أتيت زلة لم أعتذر؛ اعتمادًا على كرم الناس وميلهم إلى غفران الزلات، وأنا أعرف أنهم ليس عندهم شيء من كرم النفس. والناس تَعُدُّ هذا الاعتماد على حُسن ظنهم وكرم نفسهم وقاحةً وكبرًا، كأن صاحب الزلة لا يعبأ بهم، وهذا يزيد نفورهم منه، ولست ألومهم في ذلك، فإني مثلهم، فويل لمن يعتمد على حُسن ظني به!
على أني في بعض الأحايين أكره من الصديق أن لا يعتمد على حُسن ظني به، ولا ريب في أن هذه مناقضة لتلك، ولكن النفس كلها تناقض.